علـى الحـافـة
«العودة إلى الأصول»: بين الدين والإيكولوجيا

 

حبيب معلوف

 

قد تشترك الإيكولوجيا مع علم الأديان في همِّ البحث عن الأصل، إلا أنها قطعًا ليست «دينًا جديدًا»، كما يذهب بعضُ نقادها. ولعل البحث عن «الأصل» كان هاجسًا في معظم العلوم الوضعية، كما كان في الأديان والفلسفات القديمة على حدٍّ سواء.

في هذا الصدد، يؤكد عالم الأديان الروماني الشهير ميرتشيا إلياده، في كتابه البحثُ عن التاريخ والمعنى في الدين[1]، أن البحث في الأصول كان يشكل «سرابًا» وهاجسًا عند العلماء الغربيين منذ القديم: فعالِم الطبيعيات كان همُّه البحث عن «أصل» الأنواع، والبيولوجي كان يهجس بالبحث عن «أصل» الحياة، والجيولوجي والفلكي يبحثان عن «أصل» الأرض والشمس والمجرات والكون، إلخ؛ أما علماء الدين ومؤرِّخوه فكان هاجسهم البحث عن «أصول» الفكر الديني وبداياته.

كذلك الأمر فيما يخص علم النفس الحديث، وخصوصًا التحليل النفسي، الذي سُمِّي بـ«علم نفس الأعماق» Depth Psychology، وبالأخص مع فرويد الذي وصف تقنيات التحليل النفسي بأنها ضرب من «النزول إلى الأعماق» أو «النزول إلى تحت». ويبدو أن هذه الاستعارة الپسيكولوجية مستوحاة من علم دراسة المغاور والكهوف ومن الغوص في أعماق البحار لاكتشاف الكائنات العضوية المنقرضة منذ زمن بعيد إلخ. وهكذا كان على علم النفس، عمومًا، وعلى التحليل النفسي، خصوصًا، أن يذهبا عميقًا في البحث عن الحياة النفسية الدفينة، منقبَين عن دوافع الحياة النفسية «المدفونة حية» في غياهب ما يسمِّيه فرويد بـ«اللاوعي» unconscious. وهكذا يشترك محلِّل نفسي مثل فرويد، ويونغ من بعده، في اعتمادهما تقنية التحليل النفسي، مع سائر نظرائهما من العلماء في الوقوع في هاجس البحث عن «الأصل» نفسه وفي استكشاف المرحلة «الأولانية» من الحضارة والدين.

تشترك الإيكولوجيا مع العلوم التي تبحث في الأصل والأصول والأشكال الأولانية للوجود والحياة، لا بل تشترك في هذا المسعى مع العلوم والفلسفات الدينية، لكن ليس على طريقة فويرباخ وماركس اللذين كانا يعتقدان، كما هو معروف، بأن الدين «أفيون الشعوب»، بحسب عبارة ماركس الشهيرة، كون الدين، في نظره، يساهم في «تغريب» الإنسان عن قضايا الأرض والواقع الواجب تغييره، ويحول بذلك دون اكتمال إنسانية الإنسان. فهذا النقد للدين لا يصح، ربما، إلا على أنواع معينة من الديانات التي عرفها أو درسها كلٌّ من ماركس وفويرباخ، وهي أشكال خاصة وليست عامة من التدين (كالتي عرفتها الهند ما بعد الڤيدوية post-vedic أو تلك الأشكال التي ظهرت مع اليهودية–المسيحية)، وهي الأديان التي ترتكز على فكرة وجود «عالم آخر» يمكن للحالم به أن يشعر بالاغتراب عن العالم الواقعي. لكن موضوع «الاغتراب» alienation – مطلقًا – لا معنى له، ولا يمكن تصوره في الأديان ذات الطابع «الكوني» cosmic التي تقول بـ«وحدة الوجود» unity of being أو وحدة الماهية بين الإنسان والطبيعة والحياة والكون.

انطلاقًا من ذلك، تصعب المقارنة اليوم بين الدين والإيكولوجيا، وإنْ تقاربا واشتركا في همِّ البحث عن الأصل والغوص في الأعماق. من هنا لا نعلم مدى مصداقية الفرضيات أو الاتهامات التي تنعت بعض المدارس البيئية في العالم بـ«الأصولية» fundamentalism أو بالتبشير بـ«دين جديد» يقوم على تأليه الطبيعة وتقديسها ويدعو الإنسان إلى عدم تدنيسها. فالمشكلة في هذه المقاربة ليست في سوء فهم طبيعة الفلسفة الايكولوجية Eco-philosophy نفسها فحسب، بل في سوء فهم طبيعة الأديان أيضًا. فليست هناك صفات كثيرة تشترك فيها الأديان كافة؛ لا بل إن هناك تعدديةً وتنوعًا وتباينًا بين المعتقدات الدينية، بحيث يصعب إيجاد تعريف جامع مانع للدين نفسه. ففي حين تغلب اليوم، من الناحية العددية، الأديانُ التوحيديةُ (المؤمنة بإله واحد)، إلا أن هناك الكثير من المذاهب الدينية الحية التي تعتقد بوجود أكثر من إله واحد؛ كما أن هناك ديانات لا تقر أصلاً بمفهوم «الألوهية» theism نفسه!

ويلاحظ مُراجِع تاريخ الأديان أيضًا أن الأديان لا تشترك كلها في همِّ البحث عن «الخالق»، ولا تحكمها كلها بالضرورة هواجسُ البحث عن الطرق التي خلق بها هذا العالم cosmogenesis، فلا تتتبع أصوله الأولى وتطور الكائن البشري فيه anthropogenesis. كما أن «المسألة الأخلاقية» ليست ركنًا جوهريًّا في كلِّ دين إطلاقًا، بدليل عدم اعتبار السلوك الأخلاقي من المكونات الجوهرية لبعض الأديان في اليونان القديمة أو في بعض الحضارات الآسيوية الراهنة. فبعض الديانات، كالكونفوشية، لا يهتم بالمماحكة في هذه القضايا، بل يركز اهتمامه، على سبيل المثال، على ما يسمَّى بـ«الانسجام الطبيعي» أو «التوازن» في هذا العالم – وهو تعبير قريب جدًّا من التعبيرات المستخدَمة في الفلسفة الإيكولوجية الحديثة – كقيمة عليا، من دون تحميله معنى «الحرمة» the Sacred الديني التقليدي[2].

ولعل المشترَك بين الأديان كافة اعتمادُها الرمزية سبيلاً إلى الخطاب والفهم وفرض الاحترام والرهبة، كما وارتباطها بمجموعة من المقدسات والطقوس والممارسات الشعائرية التي يؤديها الأتباع، بالإضافة إلى خاصية العمل الجمعي الديني، كون الدين، كخاصية أساسية مشتركة بين الأديان، هو «دين الجماعة». وهذه الخاصية قريبة، وإنْ بطريقة غير مباشرة، من الفلسفة الإيكولوجية التي تأخذ في الاعتبار بشكل رئيسي حياة «جماعة النوع الإنساني» نفسها ووجودها وبقاءها، لكنْ بوصفها جزءًا من منظومة أكبر تضم جماعات أخرى[3].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ميرتشيا إلياده، البحثُ عن التاريخ والمعنى في الدين، بترجمة وتقديم د. سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2007، 410 ص.

[2] «المشترك» بين الأديان جميعًا لا يقع على صعيد المظهر «التاريخي» النسبي الذي يتخذه الدينُ ليتكيف مع خصوصيات الشعوب والثقافات واللغات، بل على صعيد «الوحدة المستعلية» the transcendent unity للأديان (بتعبير عالِم الأديان فريتيوف شووُن)، بما هي وحدة «المبدأ» المطلق الذي يفيض عنه التجلِّي الكوني بأسره، ذلك «المبدأ» الكامن بالقوة في الإنسان الذي «يتحقق» من خلاله بالفعل؛ وما الدين – أي دين – إلا وسيلة من وسائل هذا «التحقق»، التي قد يكون الوعي الإيكولوجي المعاصر إحداها. من هنا فإن أيَّ جدال حول «الفوارق» القائمة بين الأديان يظل عقيمًا ولا يكشف عن «معنى» الدين وجوهره مادام لا يأخذ في الحسبان وحدتها «المبدئية» الأصلية. (المحرِّر)

[3] للمزيد من التوسع في المسائل التي يتطرق إليها هذا المقال، راجع: الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية، بتحرير مايكل زيمرمان وترجمة معين رومية، جزآن، سلسلة "عالم المعرفة" 332-333، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2006. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود