الكاتب يعيش بقدم في الواقع وبالثانية في اللاَّواقع
أكون أكثر حريَّة في الكتابة عن الجانب النفسي للأبطال منِّي في الوصف الخارجي والتفاصيل الواقعيَّة

 

حـوار مع لنـا عبد الرحمـن

 

لنا عبد الرحمن كاتبة لبنانية تعيش في مصر. يميِّز كتاباتِها ذلك القلقُ العميق، الوجودي أساسًا، الذي نراه في نصوصها وقصصها القصيرة، كما في الرواية التي اتجهت إليها مؤخرًا. وقد استوى نضجُها وبانت حرفتُها أكثر في جديدها تلامُس، الصادرة حديثًا[1]، وفيها ترسم لنا عبد الرحمن اضطراب شخصية بطلة روايتها كانعكاس لجنون كامل ألمَّ بمدينتها بيروت، بوطنها وبناسه.

للكاتبة: شاطئ آخر[2]، مقالات نقدية، أوهام شرقية[3] والموتى لا يكذبون[4]، مجموعتان قصصيتان، وحدائق السراب[5]، رواية.

عناية جابر

* * *

 

عناية جابر: تستهلِّين الرواية بمونولوج داخلي للبطلة يدور حول خوفها من جنون متوارَث في العائلة، وتدور الرواية من خلال رؤية البطلة ندى للأحداث كلِّها. فإلى أيِّ مدى يوجد اتصال بينك وبين البطلة؟ وماذا أردتِ قوله من خلالها؟

لنا عبد الرحمن: صوت ندى كان واضحًا عندي منذ بداية الرواية. قلقها، اضطرابها الداخلي، خوفها المبثوث عبر الصفحات، – كل ذلك كان كما لو أنني أراه كمراقب خارجي للحدث. لكن ثمة لحظات أوقعتْني فيها تلك الشخصية في حالة من الشدِّ والجذب. كنت أنتظر منها فعلاً أكثر إيجابيةً لم تتمكن من القيام به، وكان من العبث دفعُها إليه دفعًا. لذا جاءت الأحداث على هذا الشكل، فيها كثير من الإخفاقات التي تبدو كما لو أنها تُحاك حياكةً قَدَريةً مرسومةً مسبقًا. هناك كمٌّ من التخبط والاهتزاز يرسم ملامح ندى النفسية. لم أحب ذلك، كنت أريد بطلة أكثر إيجابيةً وقوة. لكن، في النتيجة، كنت مدفوعة دفعًا للكتابة عنها كما هي، لا كما أريد أنا.

عبر شخصية ندى، ومن خلال عمرها ومرحلتها الزمنية، أردت الحديث عن جيل شاب لم يعشْ الحرب من قبل، لكنه يعيش اضطرابًا داخليًّا وعدم ثبات وعدم إيمان بأيِّ شيء، جيل تكوَّن وعيُه على تحوُّل مفاهيم كبرى، واضطراب إيديولوجيات، وتحوُّل رؤى اجتماعية ودينية، وأيضًا سمع حكايات الحروب وويلاتها، ووسط ذلك كلِّه يخلق دوائره الخاصة وعوالمه المحكومة بتقنيات عصرية صار لا غنى عنها.

ندى، مثلاً، تمضي شطرًا كبيرًا من يومها على الإنترنت من دون هدف محدَّد، تقوم بأشياء كثيرة، لكنها في النتيجة تظل أشياء غير موجَّهة تراكميًّا نحو مسعى محدَّد. وهذا لا يتعلق بها فقط، بل بسائر الأبطال. هناك أيضًا هند التي تسعى في معرفة ذاتها عبر خوضها في عالم الماورائيات، وهاديا التي تتخبط بين الفقر والرغبة في الفرار عبر الحلم بالزواج من رجل ثري. ما أردت قوله إن هناك نوعًا من التشتت اللاواعي في ذهن الجيل الشاب يجعله يبعثر طاقاته في اتجاهات مختلفة تتلاشى قبل أن تكوِّن خطًّا واضحًا.

ع.ج.: لكن هناك «تلامُسًا» أو تماسًّا ما بين الكاتب وأبطاله. فما هي نقاط التماس مع بطلتك؟

ل.ع.: تفصلني أشياء كثيرة عن ندى؛ لكن، بصراحة، يجمعني بها أمران: حب السينما، والخوف من الجنون! بالنسبة لي، أتخيل أن الكاتب يعيش بقدم في الواقع وبالثانية في اللاواقع، حيث العوالم الغرائبية الأخرى كلها، وينبغي عليه المحافظة على رسوخ كلتا القدمين في عالميهما، فلا تجرف إحداهما الأخرى. فحينئذٍ ستكون الخسارة، سواء كانت خسارة الواقع على حساب المتخيَّل أو خسارة المتخيَّل لصالح الواقع. لكن أحيانًا يكون من الصعب القيام بالتوازن للحفاظ على العالمين، فيحدث انزلاقٌ ما نحو أحدهما. بالنسبة لي، أخاف دائمًا أن تزلَّ قدمي الراسخة في الواقع في انحياز نحو الضفة الأخرى – الجنون!

ع.ج.: لكن الكتابة عن جنون العمَّة، ثم وجود نبوءات أخرى لجنون متوقَّع، كل ذلك على خلفية تذكُّر حروب بيروت والاجتياح الإسرائيلي، كما لو أن المقصود في الرواية أن بيروت ساحة كبرى للجنون. ما رأيك؟

ل.ع.: أظن أن هذا حقيقي إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أني لم أقصده قصدًا مباشرًا. لقد تنبهت له خلال إجابتي عن سؤالك. لكن فيما يخص علاقة ندى مع مدينة بيروت، فهي علاقة مبتسرة، محصورة ضمن منطقة سكنها والمناطق القريبة فقط؛ هي لم تعرف وجوهًا أخرى للمدينة سوى عند عتبات المراهقة. قبل ذلك، كانت بيروت في نظرها محصورة بـ«الضاحية الجنوبية» حيث تسكن. وهذا موجود أيضًا عند كثير من الناس: إذ على الرغم من صغر مساحة مدينة بيروت، إلا أن الناس فيها يعيشون في جُزُر، معزولين بعضهم عن بعض، كلٌّ منهم يتحرك على أرض «جزيرته». حدث هذا طبعًا نتيجة الحروب وأشياء أخرى، لكنه مازال مستمرًّا؛ ومع الأسف الشديد، تتكرر الأحداث السلبية لتكرِّس لهذا الأمر.

ع.ج.: إذًا إلى أيِّ مدى جاءت سائر الشخصيات مرتبطة بالواقع؟

ل.ع.: أعتمد أحيانًا في الوصف الخارجي للشخصية على الواقع، فآخذ الإطار العام فقط، ثم أقوم بوضع مخطَّط نفسيٍّ يتناسب مع الشخصية الموجودة في داخلي. ما أعنيه بـ«الإطار العام» هو الحياة التي تمارسها الشخصية على مستوى اختياراتها البسيطة، مثل: الأماكن، الملبس، الألوان، نوع السجائر، الطعام؛ لكن هذا لا ينطبق على ردود الفعل، السلوك، الحوار. ما أعنيه هو أنني أكون أكثر حرية في الكتابة عن الجانب النفسي للأبطال مني في الوصف الخارجي والتفاصيل الواقعية تمامًا. كما أن الرواية الحديثة تمنح مساحة أوسع للتجريب والاختيار بين عدة أساليب في الكتابة خلال النص الواحد؛ إذ ليس هناك ما يقيدك، سواء في الشكل أو في المضمون.

ع.ج.: ألهذا السبب بات أكثر الكتَّاب يميلون إلى كتابة الرواية، أم لأنها نوع أدبي رائج هذه الأيام مقارنةً بالشعر وبالقصة القصيرة؟

ل.ع.: لا أرى تراجُعًا للشعر؛ ربما للقصة القصيرة، نعم، لكن في خصوص الشعر، لا. هناك أسماء شعرية متميزة ذات حضور مستمر في ذهن القارئ، وهناك أسماء جديدة تظهر في الشعر باستمرار. لكن كتَّاب القصة يبدءون غالبًا بالقصة كبدايات، وقلما يستمرون في كتابة القصة.

أما في خصوص ميل الكتَّاب إلى الرواية، فلا أستطيع الإجابة في شكل عام؛ لكن ظهور هذا الكم من الروايات، من وجهة نظري، خاصة في الأعوام الأخيرة، أمر إيجابي يُثري الأدب العربي من حيث التنوع. ومع مرور الزمن، من المؤكد أن الكتابات الجيدة هي التي ستبقى؛ إذ ليس شرطًا أن الروايات التي تحقق الآن أعلى مبيعات ستكون كذلك بعد أعوام. جودة النص لا تثبت إلا من خلال اختبار الزمن.

العـاميَّة اللبنـانيَّة

ع.ج.: بمناسبة ذكر الرواية، لاحظتُ أنك كتبتِ الحوار بالعامية اللبنانية، بخلاف روايتك الأولى حدائق السراب وقصصك. لِمَ؟

ل.ع.: فعلاً، إنها المرة الأولى التي أستعمل العامية اللبنانية في الحوار بهذا القدر. لم أكن أجرؤ على ذلك من قبل. بعض الأصدقاء الذين قرأوا الرواية قبل نشرها نبَّهوني إلى هذا الأمر. لكن كان من الصعب علي أن أجعلهم ينطقون بغير ذلك؛ فهذا ما أحسست أنه متوافق مع إحساسي بهذه الشخصيات وتعاطفي معها. كانت الشخصيات ستفقد قدرًا كبيرًا من حضورها وصدقها لو نطقت بالفصحى.

ع.ج.: لكن ألا تخشين أن يُعتبَر هذا الأمرُ نقطةَ ضعف في الرواية؟

ل.ع.: لا، أبدًا، لأن هذا الأمر تحتِّمه الضرورةُ ويتطلَّبه التوافقُ مع النفس والأمانةُ تجاه شخصياتي، فجاء الحوار متماشيًا مع جوهر النص. لكني في روايتي الأولى لم أستخدم اللغة العامية لأن الضرورة لم تكن ملحَّة، كما أنها لم تكن تناسب طبيعة الشخصيات التي جاءت من بلدان مختلفة، علاوة على اختلاف مستواها الثقافي، فلم تكن العامية تناسب طريقة السرد.

ع.ج.: بين صدور الرواية الأولى، حدائق السراب، وصدور تلامُس الآن، مرَّ عامان كما أظن. من وجهة نظرك، ما هي التحولات التي طرأت على أسلوبك في الكتابة؟

ل.ع.: حدائق السراب لم تمنحني فرحة الرواية الأولى، كما كان ينبغي أن يحدث! لقد صدرت قبل حرب تموز بوقت قليل، وتزامَن وقوعُ الحرب مع وجودي في بيروت أيضًا. لقد مرَّ وقت عصيب جعلني أنفصل عنها، واقعيًّا ونفسيًّا؛ ثم بعد انتهاء الأزمة، وجدت أنني تعاملت مع الرواية بقسوة غير مقصودة.

ظل الأمر على هذا الشكل حتى التقيت في باريس بالكاتب الجزائري واسيني الأعرج. أهديته الرواية، وبعد وقت، كتب لي عن إعجابه بالنص. أذكر عبارته حين وصف النصَّ الأدبي بأنه عمل نطلقه ليأخذ مساره في فضاء هذا الكون، ومنذ ذاك الحين يصير متحررًا منَّا ومن إرادتنا نحوه.

في تلامُس كنت أكثر وعيًا بمفهوم الكتابة ككل، وربما أكثر تمكنًا من استعمال أدوات السرد. أكثر ما يخيفني هو أن يحسَّ القارئ بملل من النص؛ لذا حرصت أن يكون النص مكثفًا وقصيرًا.

ع.ج.: هل تخافين من قارئك، بمعنى: إلى أيِّ حدٍّ تفكرين فيه خلال لحظات الكتابة؟

ل.ع.: ربما أفكر فيه أكثر لحظةَ قراءتي النصَّ بعد الانتهاء منه. غالبًا لا أكون راضية عن نصوصي؛ ولو أنني لم أكن أُبعدها عن يدي لكنت ترددت ومزقتها! أحس بإعجاب شديد نحو الكتَّاب الذين يتحدثون عن نصوصهم بفخر واعتزاز، حتى لو كان النص عاديًّا، أشاهد فيهم «أمومة» [حيال نصوصهم]، حتى لو كان المتحدث رجلاً. أنا لست كذلك، لذا غالبًا ما أمر بمراحل طويلة من القلق والخوف من أن كلَّ ما أفعله ليست له قيمة.

السـينما

ع.ج.: لاحظت في تلامُس وجود ميل إلى الجُمَل القصيرة المكثفة؛ وهناك أيضًا رصد متعمَّد لعالم الأحلام والكوابيس وأثرها على الواقع. لِمَ؟

ل.ع.: في شكل عام، أميل إلى الجُمَل القصيرة. لكني سابقًا كنت أمارس ذلك من دون تنبُّه. خلال كتابة تلامُس حاولت أن أكون أكثر تنبهًا في صياغة جمل سلسة واختيار مفردات بسيطة. أما في خصوص الحديث عن عالم الأحلام والكوابيس، فهذا يرجع أيضًا لإحساسي بأننا نعيش في الحلم أيضًا، وأن حلمًا ما أو كابوسًا من الممكن أن يؤثر، سلبًا أو إيجابًا، على أحداث يومنا الواقعية. أستغرب جدًّا من الأشخاص الذين لا يحلمون، أحس أن شطرًا من حياتهم معطَّل!

ع.ج.: تحدثتِ عن حبِّك للسينما، وقد لاحظتُ في تلامُس وجود مشاهد بصرية كثيرة، كما لو أنها ستتحول إلى فيلم. يتضافر مع ذلك حجمُ الرواية الأقرب إلى «النوڤيلا». هل كان ذلك مقصودًا؟

ل.ع.: جزء كبير من المشاهد البصرية جاء نتيجة اهتمام ندى بالسينما، من علاقتها بالأفلام التي تحكي عنها، ومن أثرها لدى تلقِّيها، وأيضًا من وجود التلفزيون وشاشة الكمپيوتر التي تعرض الأفلام. هناك حضور قوي للفن البصري [للصورة] في حياتنا لا يمكن تجاهُله؛ من الطبيعي أن ينعكس هذا على الكتابة، بشكل أو بآخر.

منذ مدة، كنت أقرأ رواية سپوتنيك الحبيبة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي: الرواية في نظري، حتى الثلث الأخير، بدت متحركة أمامي كما لو أنني أبصر مشاهدها، أبطالها، أماكنها؛ ثم في ما بعد ينقلب كل شيء ويتحول الحدث إلى جانب نفسي لاهث من الصعب رصده. أحب هذا النوع من الكتابة المتراوحة بين عوالم عدة، حين يُخيَّل إليك أن كلَّ شيء واقعي ينقلب تمامًا في اتجاه آخر غير متوقَّع.

في خصوص رواية تلامُس لم أتعمَّد أن تكون مشاهدها «بصرية» إلى هذا الحد؛ لكن إنْ حصل وتحولت إلى فيلم يومًا ما، سيسعدني هذا الأمر حتمًا.

*** *** ***

عن السفير
حاورتْها: عناية جابر


 

horizontal rule

[1] لنا عبد الرحمن، تلامُس، رواية، الدار العربية للعلوم ناشرون/منشورات الاختلاف، بيروت، 2008.

[2] شاطئ آخر، مقالات في القصة العربية، وكالة الصحافية العربية، القاهرة، 2002.

[3] أوهام شرقية، قصص، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2004.

[4] الموتى لا يكذبون، قصص، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2006.

[5] حدائق السراب، رواية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2006.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود