ليـس عندنـا مـا نسـوِّقـه

 

عدنـان الصبـاح[*]

 

تمامًا مثلما أن الإعلان وسيلة تسويق سلعي من الدرجة الأولى فإن الإعلام وسيلة تسويق فكري من الطراز الأول أيضًا، على الرغم من أن هناك ترفعًا من جانب الباحثين والمعنيين عن النزول بالصورة "السامية" للإعلام إلى هذا المستوى من المقارنة بين الأفكار والمبادئ السامية والأهداف العظيمة للشعوب أو للطبقات الحاكمة أو المحكومة. إلا أن الحقيقة التي لا يمكن لغربال أن يخفيها هي هذا التشابه الكبير بين الدور المباشر والحقيقي للإعلام وبين الدور الذي يقوم به الإعلان؛ وتبديل الحرف الأخير لا يمكن له أن يلغي تطابُق الدورين أبدًا، وإن اختلفت الأهداف المرجوة من الإعلام عن الأهداف المرجوة من الإعلان. وقد اعتاد منتجو السلع التعويل على الإعلان للترويج لأيِّ شيء من مكونات السوق لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى تقديمه على المنتج نفسه. وحين يُسأل اقتصادي ناجح عن سبب "نجاحه"، الذي يعني في واقع الحال نجاح سلعته، عادةً ما يجيب بأن مردَّ ذلك إلى سياسة الإعلان والدعاية الناجحة التي ينتهجها. ويرصد الاقتصاديون "الناجحون" ميزانياتٍ ضخمةً للإعلان لكي يتواصلوا مع جمهور مستهلكيهم؛ ومهما بلغت مستويات نجاحهم فهم يحرصون على مواصلة ذلك، خشية أن تتمكن سلعة جديدة أخرى من الحلول مكان سلعتهم وإخراجهم من السوق.

سُقنا هذه المقدمة للقول إن الإعلان الناجح، الذي يعطي نتائج ناجحة وجيدة، لا بدَّ له كذلك من سلعة حتى يتمكن من تقديمها. فلا إعلان من دون سلعة أو منتَج، ولا نجاح لإعلان وترويج من دون سلعة جديرة بتقديم نفسها للمستهلك عند وصولها إليه. فما يقوم به الإعلان هو دفع المستهلك للوصول إلى تلك السلعة بعينها؛ وعند ذلك، تصبح السلعة ومواصفاتها هي الأساس، ويصبح المستهلِك أو المستعمِل للسلعة سيد الموقف: فإما أن يقرر مواصلة العلاقة مع هذه السلعة ويحترم الإعلان الذي أوصله إليها، وإما أن يتوقف عن ذلك كليًّا ويتخذ موقفًا سلبيًّا من السلعة ومنتجها والمروِّج لها.

الأمر نفسه ينطبق على قضايا الشعوب، دون تسخيف للأمر، كما قد يعتقد دهاقنة السياسة الذين يرون في السياسة "مبادئ" و"مثاليات" لا يجوز تشبيهها بالسلع الاستهلاكية أو ما شابه. والحقيقة أن ما يقوم به الإعلام اليوم هو هذا الدور بالضبط: فالإعلام الغربي يسعى، بكلِّ طاقاته، للترويج للسياسة الغربية لدى الشعوب الأخرى. ومَن يتابع تطورات السياسة الأمريكية في قضية العراق، منذ احتلال الكويت حتى اليوم، يَرَ في وضوح كيف حرصت الإدارة الأمريكية على الترويج لفكرتها عن العراق وقيادته آنذاك: فالإدارة الأمريكية، من جانبها، قدَّمت كلَّ التبريرات لاحتلال العراق، لكونه يشكل خطرًا على السلام العالمي وعلى أمن الأسرة الدولية، ولكونه يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار في المنطقة والعالم لما يملكه من أسلحة دمار شامل، فاستعملت ماكينة كذبها استعمالاً محترفًا، وتمكنت من تغطية حقيقة الأهداف القذرة التي تسعى إليها ضد العراق والمنطقة بأسرها. في المقابل، لم يتمكن الحلف المواجه للإمپريالية الأمريكية من الاتحاد في مواجهتها، ليس على الأرض فقط، ولكن على صعيد اللغة والإعلام حتى: فبدلاً من أن نتمكن من فضح زيف إعلامهم ونستعمل الإعلام استعمالاً محترفًا في سبيل ذلك، راح النظام العراقي يدفع الملايين لصحفيين، مأجورين في معظمهم، لا همَّ لهم سوى ما يقبضون، على الرغم من أن ما دُفِعَ لهؤلاء (الذين تبخروا، كمطر الصيف تمامًا، بحثًا عن دافع آخر فور سقوط بغداد) كان في الإمكان رصدُه لاستعمال وسائل الإعلام الغربية نفسها تجاريًّا لفضح الأكاذيب الأمريكية.

اللغة التي استعملتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة تركزت على كلمات وعبارات مثل: "الاستقرار"، "الديموقراطية"، "الحريات"، "حق الدول والشعوب في الأمن داخل حدودها"، إلخ؛ وهذه المفردات تستهوي البشر أينما كانوا وتجد آذانًا مصغية لها. في المقابل، استعمل نظام صدام حسين آنذاك شعارات مثل: "حق العراق في الكويت"، وراح يجد للاحتلال تسميات وتسميات لا يمكن لها أن تغطي حقيقة أن هناك بلدًا عربيًّا يسعى بلدٌ عربي آخر لشطبه من الخارطة! فبدت الأمور مقلوبة رأسًا على عقب: العراق، كبلد عربي قومي مناهض للإمپريالية والصهيونية والاحتلال، يحتل بلدًا عربيًّا جارًا له ويستعمل الهجوم على إسرائيل مبرِّرًا للاحتفاظ بالكويت. هكذا هو الأمر: إذا لم تتركوني في الكويت فسأقصف تل أبيب! وتأويله: إذا تركتموني وشأني سأترك تل أبيب وحاله! فهل يمكن القول إن هذه هي "قومية المعركة"، إن هذه هي "أم المعارك"؟!

كذا فإن العراق التزم الصمت حيال الاتهامات الموجهة إليه بامتلاكه أسلحة للدمار الشامل، بل سرَّب تلميحات إلى أنه يمتلك مثل هذه الأسلحة فعلاً! وهذا ما جعل الأجواء الدولية، في شكل شبه تام، مهيأة للانقضاض عليه. وهكذا حصل. فقد كانت خزائن صدام السرية فارغة من كلِّ محتوى، ليس من أسلحة الدمار الشامل فقط، بل وحتى من السلاح العادي، على ما يبدو. وفي بساطة مستهجَنة، سقط النظام أمام أول دبابة أمريكية دخلت بغداد، وسقطت الشعارات نفسها التي تشدَّق بها وزير إعلامه سعيد الصحاف دون مضمون. وتذكر العرب حكايات أحمد سعيد قبيل هزيمة العام 1967. واليوم، هناك مَن يقول عكس ذلك، وإن السلاح موجود، وإن ما يثبت ذلك هو هذه "المعركة العظيمة" التي تخوضها "المقاومة العراقية" والتي يُقال إن الجيش العراقي عاملها الأساسي. والسؤال هو: إذا كان الأمر كذلك، لماذا لم نحمِ العراق من الاحتلال بدلاً من أن نقضي الأعوام في "مقاومته"؟!

قد يقبل المتلقي روايتك عن السلعة التي تبيعه إياها، لكنه سيضرب بك وبها عرض الحائط فور اكتشافه كذبك إنْ كنت تقدِّمها له بما ليس فيها. لذا حين جاء سقوط النظام العراقي سهلاً، جاء الانهيار في تركيبة كلِّ مَن وقف إلى جانب النظام، وبدأ الجميع يترنح من هول الصدمة، وسقطت لغة بكاملها لأنها كانت من دون أساس. فأنت، حين تسوِّق، تجمِّل ما هو موجود أو تضخِّم من أهميته، لكنك لا تختلق كذبة من الهواء وتسعى لتحويلها إلى حقيقة. فلا يمكن لك استعمال الكذب في دعايتك إلا في حال واحدة: إذا كان مَن يقف أمامك غائبًا، كما هي الحال في الكذب الذي تمارسه أمريكا وإسرائيل ضد قضايا العرب كلِّها، وفي مقدمتها فلسطين والعراق ولبنان والسودان، وضد قضايا المسلمين كلِّها، ومنها إيران وماليزيا والصومال وأفغانستان، وضد القضايا التقدمية في العالم كلِّها، وفي مقدمتها ڤنزويلا وكوبا وتشيلي، وغيرها كثير.

وأنت، حين تسوِّق، لا تتوجه قطعًا إلى جمهور العاملين في إنتاج سلعتك، ولا إلى أفراد أسرتك، – وإلا فلا داعي أصلاً لكلِّ عملية الترويج. فالمطلوب منك أن تتوجه إلى جمهور السلع المنافسة لكي تستميله وتقنعه بأحقية منتجك في السوق أكثر من أيِّ منتج آخر. كذا الأمر في عالم السياسة والصراعات الدولية وقضايا الشعوب. وحال الأمة العربية هي الحال الأسوأ بين أمم الأرض في هذا الأمر.

والسؤال هو: ماذا نسوِّق نحن للعالم؟ ومئات الفضائيات العربية التي تملأ فضاء العالم العربي والعالم، ماذا تنقل للبشرية ولنا؟ هي أصلاً لا تنقل للبشرية شيئًا، فهي مُعَدَّة لنا وحدنا؛ أي أننا نسوِّق ذواتنا لذواتنا، كما قد نعتقد، في حين أن الأمر عكس ذلك كليًّا: نحن بأيدينا نسوِّق الآخر عندنا! هذه هي الحقيقة. فحين يكون لديك كل هذه الوسائل الإعلامية المتاحة، وكل هذا الوقت الذي يحتاج لمادة تملؤه، ولا يكون لديك شيء حقيقي تقدِّمه، فأنت قطعًا ستجد نفسك فريسة لما ينتجه الآخر، لتملأ وقتك شكلاً ولتقدم غيرك مضمونًا.

بلدية أبو ظبي وحدها تمكَّنت من استعمال سيارات التاكسي في نيويورك لنشر رسوم تشجع على السياحة هناك؛ وهذه خطوة رائدة في استعمال وسيلة إعلانية لدى الآخر للتأثير فيه بغية تحقيق هدف معين، وهو جذب السائحين إلى مدينة أبو ظبي. والسؤال هو: أين يغيب هذا التفكير "الخلاق" في قضايانا القومية؟ ولماذا لا نبدع ذلك لنشر الحقيقة المغيَّبة أمام الرأي العام الغربي بكلِّ الوسائل الممكنة؟

محطات عديدة تقدِّم السينما الأمريكية على مدار الساعة؛ وكذا المسلسلات التلفزيونية والأفلام الوثائقية والتاريخية، بل وحتى البرامج الحوارية. لكنْ حتى الآن لم يرقَ برنامج عربي حواري واحد إلى مستوى العالمية أو القومية التي يحظى بها برنامج مثل "دكتور فيل"، مثلاً، أو برنامج المقابلات الشهير "أوپراه". فعلى الرغم من أن هذين البرنامجين لا يقدمان لمجتمعاتنا ما هو مفيد أبدًا، إلا أن لهما جمهورًا عربيًّا واسعًا جدًّا، وخاصة في أوساط الشباب. وقد تكون نجمة التلفزيون باربرا أشهر من أيِّ "مقاوم" عربي في أوساط الشباب العربي اليوم. وكل مَن يتابع تلك المحطات ويقوم بعملية إحصائية، سيجد برامجها على نوعين:

·        الأول ذاتي محدود، يتم انتقاؤه على قاعدة مواكبة موقف المموِّلين للمحطة أو أصحابها أو البلد الذي يستضيفها، وفي غالب الأحيان لا يسمح للرأي الآخر عربيًّا أن يظهر على محطته إلا من باب التسخيف وإذكاء نار الفتنة؛

·        والجزء الثاني من البرامج – وهو الأكبر – يتراوح بين برامج وأفلام ومسلسلات مترجَمة، لكنها، في مجملها، تسوِّق للفكر الغربي؛ وحتى تعريب بعض البرامج، كبرامج المواهب الفنية، يدخل في هذا الباب، في حين يغيب كليًّا برنامج إبداعي حقيقي يعطي الفرصة لتطوير ما هو عربي حقيقي (يمكن اعتبار برنامج "أمير الشعراء" نموذجًا يُحتذى، على الرغم من العديد من الملاحظات عليه).

كذا فنحن في حاجة إلى برامج عالمية وسينما عالمية وإعلام عالمي، بلغة العالم ومن خلال قضاياه، إعلام ينتمي لمن يوجِّه له من حيث المضمون، ولا يعتمد التلقين أو الفرض، إعلام يتقن قراءة الآخر في سبيل تقديم الذات، ولا يلغي الآخر مدعيًا أنه مجبر على قبول ذاته لكونه مقتنعًا أنه الأفضل وأن الآخر هو الأسوأ. والسؤال هو: كيف يمكن لمن أخاطبه بالهجوم عليه أن يقبلني ويقبل روايتي بأنني الأفضل؟! لذا فإن هذه المماحكة بيننا وبين الآخر عادة ما تأتي بنتائج عكسية، بحيث تُكتسَح جدرانُ بيوتنا كلها أمام ريحهم وترتفع جدرانُهم أمام ريحنا (غير الموجودة أصلاً). وعلى المراقب أن يلحظ الفرق بين لغتين، لغة تقول: يجب قتل النصارى والصليبيين واليهود، وفي المقابل، لغة تقول: يجب محاربة الإرهاب أينما وُجِدَ، وتوحِّد، بسبب خطابنا السابق، بين الإرهاب والعروبة والإسلام. في حين أن في الإمكان قلب الصورة – وهو المفترض – لتصبح كالآتي: لغتنا تقول إننا، نحن العرب والمسلمين، ورثة الأديان السماوية جميعًا، وإننا لذلك الأحق بمقاومة كلِّ مَن يسيء إلى الأديان السماوية جميعًا من دعاة الاحتلال والعنصرية وممارسي الإرهاب الرسمي في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب. ولو أننا استعملنا هذه اللغة فعلاً في خطابنا، وتمكنَّا من إيصالها، فأية لغة سيجد السيد جورج بوش ليخاطب جمهوره بها، وأية لغة ستجد الحركة الصهيونية والمسيحيون الجُدُد بزعامة بوش لمقاومة لغة تقول بأن المسلمين والعرب هم حماة التراث العظيم للأنبياء العظام جميعًا، وأن بوش وحلفاءه هم الأعداء الحقيقيون لموسى وعيسى عليهما السلام؟!

نحن أمة أفراد ننغلق على ذواتنا في سبيل فرديتنا المطلقة، في ادِّعاء أجوف لـ"جماعية" غير قائمة إلا في الألفاظ فقط. في المقابل، نحن أمام عالم آخر يعلن فرديته ويفتحها على الدنيا في سبيل الكل الأوسع، الأبعد من الذات المنغلقة، لأنه على قناعة أن نجاح العام وتطوره هو في واقع الحال نجاح للخاص ولتطوره. فكلما تمكَّن الفرد من تحقيق النجاح لذاته الجماعية تمكَّن من إنجاز تطور الطرفين تلقائيًّا.

نحن نعلن في لغتنا عن أهمية الجماعة والتفاني في سبيلها، ونكرر ذلك في خطابنا، شعرًا ونثرًا وموسيقى، حتى الاجترار؛ لكننا، حين نصل إلى المحك، تنقلب الأمور رأسًا على عقب، وتظهر الأنا الفردية المنغلقة على حقيقتها "المطلقة"، لتلغي أيَّ وجود للجماعة! والسؤال هو: كيف يمكن لنا بهذه الذهنية أن نذهب إلى "الآخر" إذا كنَّا غير مستعدين بعدُ لوجود الآخر الأقرب المشارك الذي نحتاجه لأية مواجهة، أيًّا كان نوعها. ومَن يسمع منَّا خطاب العشيرة الفلانية ضد العشيرة الأخرى يصاب بالغثيان. و"العشيرة" هنا هي الحزب والطائفة والعائلة، وحتى الدولة–القطر أو الدول–الإقليم، إنْ جاز التعبير. فـ"عروبتي" مجيَّرة لـ"شاميتي"، التي بدورها تتقلص أمام "فلسطينيتي"، ثم عشيرتي، وحتى ذاتي الفردية، وليس العكس.

من مصلحة الفرد أن يفتح البوابات لفرديته ليجد لها مرادفات ومكونات أبعد وأوسع بالمفهومين المادي والمعنوي. لكننا في حالتنا نحن نتصاغر، فنعلن، مثلاً، أننا "أمة الإسلام"؛ ثم سرعان ما نكتشف أنها كبيرة علينا وقد يسرقها منَّا أحد ما، فنتراجع إلى "أهل السنَّة"؛ فلا نلبث أن نتذكر أن من بين أهل السنَّة مَن بات يقطع أشواطًا أبعد على طريق التقدم، فيعجبنا من القرآن الكريم لغته العربية، ونبدأ بانتقاء ما يبرر انعزاليتنا، لنصبح "قوميين عربًا"؛ وحين نجد بين ظهرانينا عربًا أقحاحًا ليسوا مسلمين، نعود لتقليص "أهل السنَّة" إلى مَن هم عرب منهم وحسب؛ ثم نصر على التصاغر أكثر إلى "أهل الشام" أو "أهل الخليج" أو "وادي النيل" أو "شمال إفريقيا" إلخ؛ ثم، كفلسطينيين، نستصرخ الآخرين حين نحتاجهم: "أين أنتم؟!" وحين يصير العكس، ينعكس الصراخ نفسه، ونكتشف أننا أنفسنا لا نسمع، فنتصاغر إلى القرية أو المدينة أو الحي أو البيت، حتى الفرد الصغير التافه المنعزل كليًّا عن الدنيا!

هذه هي عُدَّتنا التي من المفترَض أن نفتح بواباتها على أكثر من ستمائة محطة فضائية، ومثلها من الإذاعات والصحف وآلاف مواقع الإنترنت، – وجميعها يقدم هذه البضاعة الفاسدة نفسها، – دون أن نحاول، على سبيل المثال، إيجاد محطة واحدة بلغة الآخر كي نتوجه بها إليه لنقدم ذواتنا (على افتراض أن لدينا ما نقدمه). وإذا حصل وفعلنا، فنحن نصدر صحيفة إنكليزية في حاراتنا ليقرأها مَن يعتقد منَّا أنه يتقن لغة الآخر لفظًا لا أكثر! إسرائيل وحده – وهو "الدولة المزعومة"، على حدِّ تعبير الفن اللفظي العربي، – يملك محطات تلفزة وراديو وصحف ومواقع إنترنت عربية وموجهة للعرب؛ والفلسطينيون وحدهم يعرفون مدى تأثير الإعلام الصهيوني على الذهن العربي، الفلسطيني خصوصًا. وسأضرب أمثلة حية على ذلك لتقريب الأمر من الأذهان:

·        إسرائيل يستخدم في إعلامه كلمة "سكان" للإشارة إلى المواطنين الفلسطينيين على أرضهم، فيقول مثلاً: "سكان الضفة الغربية". وهناك اليوم الكثيرون منا يردِّدون هذه الكلمة دون أن يدركوا مدلولاتها ولماذا تستعملها وسائل الإعلام الصهيونية.

·        إسرائيل يصنف الأسرى الفلسطينيين إلى أصناف، فيصف بعضهم بـ"الملطخة أيديهم بالدماء". وقد حدث أن أخطأ العديد من الفلسطينيين في هذا التعبير، حتى في وسائل الإعلام.

·        في خطابنا الإعلامي، نجد الكثيرين في أوساطنا، إنْ لم تكن غالبيتنا السائدة، يقدموننا على أننا "أمة تعشق الموت" في عالم أكثر ما يمقت مثل هذه اللغة، مقابل عدو يعلن عن تمسُّكه بالحياة في كلِّ مناسبة. وعادة ما يشاهد المواطن الغربي على شاشات التلفزة مشهدين باتا أليفين، وهما أم شهيد فلسطيني تزغرد وأم يهودية تبكي فقيدها، ثم نتساءل: لم لا يؤيدنا العالم؟!

·        العالم يجد نفسه مضطرًّا للمقارنة بين خطابين: الأول عربي، عالي الصوت، تهديدي، عنيف، بلا مضمون؛ والثاني صهيوني يقدِّم نفسه على أنه الذبيح المظلوم، تساعده على ذلك اللغة التي نستعملها نحن ضده وعن ذواتنا. وإيراد الأمثلة يطول.

نحن هنا، إذن، أمام نموذجين: الأول مَن نمثله نحن، وهو نموذج يشبه الطبل أو البالون المنفوخ، منغلق، ذاتي، يخشى الآخر، فلا يسعى للانفتاح عليه، وفي الوقت نفسه، غير متقن أبدًا، ولا يستطيع إغلاق شبابيكه أمام الريح العاتية التي يطلقها الآخر المنفتح الذي لا يخشى شيئًا، بل هو مستعد لأن يأتي إليك ليسرق ما لديك، ليس ماديًّا وحسب، بل وفكريًّا، وليدَّعيه لنفسه علنًا، مقتنعًا أنه الأجدر بوراثة الفكر الإنساني لأنه الأقدر على تطويره وتفعيله.

وحدها الأمم الفاعلة والمنتجة للثروة المادية يمكن لها صياغة ثروة البشر الفكرية. وهي حين تملك ما تسوِّقه ماديًّا تجد نفسها تلقائيًّا مالكةً لأدوات الإنتاج الفكرية للمساهمة في سيادته. وعادة فإن أولئك الذين يتقنون الاستهلاك فقط يجدون أنفسهم مجبرين على استهلاك الفكر، تمامًا كما يستهلكون المنتَج المادي. فحتى تتمكن من صياغة منظومة فكرية متماسكة وقادرة على الحياة فأنت في حاجة إلى ما يلي:

·        أن تكون مشاركًا فاعلاً في إنتاج الثروة المادية للبشرية حتى تملك الحقَّ في المشاركة في صياغة الثقافة والفكر والإبداع الإنساني وإنتاجها والقدرةَ على ذلك.

·        أن تكون مستعدًّا لتقبل الآخر، معتقدًا بأن الفكر الإنساني لا قومية له وبأن إبداع البشر ملك للبشر جميعًا. فوحده الفاعل والمنتج مَن لا يخشى إنجازًا إنسانيًّا بعيدًا عنه مادام قادرًا على الاستفادة منه وعلى تطويره بما يخدم رؤيته وقضاياه. على سبيل المثال، فإن تكنولوجيا الإعلام لدى الغرب قدمت لهم فائدة عظيمة في تسويق حضارتهم. ونحن نملك القدرة على الاستفادة من ذلك، في نفس الوقت الذي يأتي فيه مَن يقرِّر – اعتباطًا – أن التلفاز، مثلاً، حرام و"بدعة من عمل الشيطان"!

·        أن تحمل رسالة إنسانية واضحة ومحددة، قادرة على الحياة، وأن تدافع عنها وتصوغ رؤاها بما يكفي لحشد أكثر ما يمكن من البشر من حولها، بغضِّ النظر عن لغتهم وجنسهم وقوميتهم.

·        أن تدرك أن لا وجود لمسألة إنسانية مكونة من طرف واحد، وأن أطراف القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، هم الفلسطينيون والحركة الصهيونية والولايات المتحدة والعرب، وأنك إذا لم تتوجه إلى هذه الأطراف جميعًا، بمن فيهم جنود الاحتلال، فأنت تغلق الدنيا على نفسك. فما هي المشكلة، مثلاً، في أن تقوم الحركة الوطنية الفلسطينية بتوزيع منشورات وإصدار نداءات باللغة العبرية لجنود جيش الاحتلال أو حتى لجمهوره المدني وذوي الجنود الذين ينكِّلون بالفلسطينيين؟!

·        أن تملك لغة العصر القادرة على الحياة: فالعالم اليوم مقتنع أشد الاقتناع بحقوق الطفل، في حين يأتي بعضهم لدينا ليزجَّ بالأطفال في المعركة وليقدمهم إعلاميًّا على أنهم جنود ببزات عسكرية وأسلحة! وكثيرًا ما نتحدث عن ضحايا الاحتلال من أطفالنا بألقاب مثل "الشهداء الأبطال" وننسب إليهم أعمالاً عسكرية لا وجود لها في الواقع!

·        أن نرقى في علاقاتنا الداخلية إلى نظام المواطَنة الذي يوحِّد الحقوق والواجبات للجميع، ويفتح الأبواب على مصاريعها لصالح الحق في الاختلاف ولممارسته، فكرًا وعملاً، في سبيل تطوير الأداء الجماعي. فالمواطَنة نظام العصر القادر على إلغاء الفوارق التي تعطي الحقَّ لمن يصر على وجود هذه الفوارق، مفكرًا في إلغاء الآخر، ومن ثم تحويل هذه الفكرة إلى سلوك على الأرض، منفذًا فكرةَ إلغاء الآخر فعليًّا، فكريًّا وماديًّا.

أطراف العملية الإعلامية ثلاثة: منتج ومتلقٍّ وواسطة. والمكونات الثلاثة متداخلة، يكمِّل بعضها بعضًا: فالمنتج في الأصل هو المتلقِّي فيما بعد؛ والواسطة عادة ما يكون منحازًا، بهذا الشكل أو ذاك، لأحد أطراف الحدث؛ والمنتج في واقع الأمر هم أطراف الحدث، ويملك كل منهم القدرة على نقل الحدث برؤيا مختلفة عن الآخر؛ والنقل يجب أن يملك القدرة على إفشال المكوِّن الآخر للحدث، وإلا يصير الناقل خادمًا لضده دون أن يدري. والإعلام في عصر الثورة الرقمية جعل من العالم قرية صغيرة. فلا يجوز لك التحدث بلغتين في الإعلام، لغة للداخل ولغة للخارج؛ فلا "داخل" أصلاً، إذ النوافذ كلها مشرعة اليوم أمام الجميع، وما تقوله في حارتك الصغيرة يصل إلى العالم قبل بيوت الحارة، وقد يُستعمَل للرد عليك، ويصير هذا الرد هو الأكثر انتشارًا وتأثيرًا وأنت مازلت في سباتك البيتي الهانئ!

الإعلام الناجح في حاجة لأن يملك القائمون عليه القدرة على الإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة، وهي:

1.     من أنت؟ – والسؤال موجَّه قطعًا لمن يرغب في القيام بعمل إعلامي محدَّد لتقديم نفسه.

2.     ماذا لديك؟ – وهذا يعني، في اختصار، أنه ينبغي أن يكون لديك ما تقول بالمعنى الفكري والبرامجي وكل المبررات الضرورية للقيام بالعمل الإعلامي.

3.     لمن تتوجه؟ – أي أن الرسالة التي ترغب في توجيهها يجب أن تستهدف جهة أو فئة أو مجموعة بشرية ما.

فإذا لم تكن تملك القدرة على الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا تملك مبرراتها والمادة الضرورية لتقديمها، فأنت قطعًا ستجني العكس، وستقع فريسة الآخر الذي يملك الإجابات الواضحة عن تلك الأسئلة، القادر على التوجه إليك والمعني بذلك.

الأمة العربية – والفلسطينيون في المقدمة – لم يتمكنوا بعد من الإجابة عن السؤال الأخطر من ذلك كلِّه وهو: ماذا تريدون؟ بل إن في الإمكان القول إن العقود السابقة كانت تحمل إجابات ما، وإنْ جنينية، عن هذا السؤال. أما الآن فإن هناك تراجعًا خطيرًا في القدرة على إدراك الذات وأهدافها؛ وبالتالي، فإن هناك استحالة أن تملك القدرة على التوجه إلى الآخر المعادي والأقدر، مادمت لست قادرًا على معرفة ذاتك ومضامينها وأهدافها، بل وحتى على تحديد المعنى المادي للذات تلك وأبعادها.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] مدير مركز جنين الإعلامي، فلسطين.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود