تولستوي نبي الكائنات المدهشة

 

حربي محسن عبدالله

 

إذا كانت إقامة العدل بين البشر ممكنة عن طريق العنف، فهذا لا يعني على الإطلاق أنّ اخضاع البشر عن طريق العنف عادل.
باسكال

 

حدث ذات مرة أن تأمل المفكر والروائي الروسي ليف تولستوي طويلاً في موضوع العنف الذي رافق البشرية في تاريخها المديد، وتساءل بحرقة عنه، وهل هو وسيلة لا مندوحة عنها، وسبيلاً لا مفر من المضي فيه، أم أن هناك خيارات أخرى ودعوات للحياة من شأنها أن تحاصره ولا تدع له مجالاً للانتشار تمهيدًا للقضاء عليه نهائيًا، بل لحذفه من قاموس الحياة الإنسانية؟ وتساءل عن أسباب الاستسلام التام لدى البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية، وفي شتى أنحاء العالم، للعنف، وبحث عن أسبابه التي انغرست عميقًا في وجدان العالم وكأنه قدره ومصيره. يطرح تولستوي أسئلته وينثر رؤاه في كتاب ليف تولستوي- مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية[1]، ترجمة هفال يوسف، وقد صدر مؤخرًا عن دار معابر للنشر والتوزيع في دمشق، وهو مجموعة من مقالات فكرية وفلسفية تسلّط الضوء على جانب هام من فكر فيلسوف اعتبره لينين الأب الروحي للثورة الروسية. كما أن غاندي قد قال إن تولستوي قد ألهمه الطريق نحو تحرير الهند من التبعية البريطانية. وهو الذي يرى أن الدعوة اللاعنفية ليست دعوة طوباوية بل حاجة ماسة في زمن تتصاعد فيه الحلول الجذرية عن طريق العنف، وهو ما يشكل دوائر تتوسع رويدًا رويدًا حتى تسد الأفق بأجنحة الشياطين بأسلحتها التدميرية، تقليدية وغير تقليدية، في أكبر حلقاتها؛ وبعنف يومي يمارس ضد الأقرب فالأقرب، في أصغرها.

تولستوي، هذا المفكر الجريء المناهض للكنيسة ورجالاتها، كان يعتبر أن:

الباطل كله مبني على فكرة "الكنيسة" الفنطازية التي لا تستند إلى شيء، والمثيرة للدهشة بخرافاتها غير المتوقعة، وغير النافعة، منذ بداية تعليم المسيحية. فمن بين كل الأفكار والأقوال البذيئة ما من فكرة أو كلمة أكثر بذاءة من فكرة "الكنيسة" وما من فكرة ولّدت شرًّا أكبر، وما من فكرة أشدّ عداءً لدين المسيح، كما فعلت فكرة "الكنيسة".

في جوهرها كلمة Ecclesia's تعني الاجتماع ليس إلا، وهكذا استخدمت في الأناجيل. وبلغات كافة الشعوب، كلمةEcclesia's  تشير إلى بيت العبادة. فيما بعد، لم تتسرّب معاني هذه الكلمة إلى أي لغة رغم مرور 1500 سنة على وجود كذبة " الكنيسة".

أي أنه يعود إلى روما عندما كانت

وكر قطّاع طرق، نما عن طريق السلب والنهب والعنف والقتل، والتسلّط على الشعوب. قطاع الطرق وأخلافهم، يقودهم رؤساء عصابات كانوا يسمّون قيصر تارةً، وأغسطس تارةً أخرى، نهبوا الشعوب وأنهكوها لإشباع رغباتهم. أحد ورثة عصابة قطاع الطرق هؤلاء، قسطنطين، قارئ الكتب المتخم بحياةٍ شهوانية، فضّّل بعضًا من دوغمات المسيحية على العقائد السابقة. فضّل الفقر على الأضحيات البشرية، وفضّل تبجيل الإله الواحد، وابنه المسيح، على تبجيل أبوللو وفينوس وزيوس، وأمر بنشر هذه العقيدة بين الذين كانوا يخضعون لسلطانه.

وقد تدبّروا له مسيحية مريحة جدًا. بمعنى أن يبقى رئيس عصابة قطاع طرق ويواصل القتل والحرق والحرب، ومع ذلك يدعى مسيحيًا!!

كان تولستوي يرى أن مصطلح دولة مسيحية يشبه تعبير جليد ساخن جدًا. نذهب مع تولستوي في رحلة بحثه عن الكائنات المدهشة التي هي نتاج لتاريخ طويل حافل بالأحداث الدموية والعنف، حيث يقول:

توجد في الدنيا كائنات تعتاش على نتاج الأرض لكنها، لكي تعتاش بأصعب السبل الممكنة، قامت بتقسيم الأرض بطريقة بحيث تستطيع الانتفاع منها فقط الكائنات التي لا تعمل فيها، أما التي تعمل فلا يمكنها الانتفاع منها، وتعاني وتموت، جيلاً بعد جيل، بسبب عدم قدرتها على الاعتياش من الأرض. وعدا عن ذلك، تنتخب هذه الكائنات أشخاصًا من عائلة واحدة، أو من بضع عائلات، وتتخلى عن إرادتها وعقلها مقابل خضوع عبودي لكل ما يرغب هؤلاء المنتخبين ممارسته عليها. أما المنتخبون فيكونون الأشرّ والأغبى بين الجميع، لكن الكائنات، المنتخِبة والخانعة، تثني عليهم بشتى الطرق.

هذه الكائنات تتكلم لغات مختلفة، غير مفهومة لبعضها البعض، لكنها، بدلاً من محاولة التخلص من سبب الخلافات والخصومات هذا، تضاعف تقسيم نفسها، بغضّ النظر عن اختلاف ألسنتها، إلى اتحادات مختلفة تسمى دولاً، وبسبب هذه الاتحادات تقتل آلافاً مؤلفةً من مثيلاتها، وتغزو بعضها بعضًا. ولكي تستطيع أن تغزو وتقتل بعضها بعضا أكثر، ترتدي هذه الكائنات ملابس موحّدة خاصة، موشّاة غالبًا، وتبتكر وسائل لقتل بعضها بعضًا، وتدرّب الكثير من الكائنات المجنّدة على أفضل طرق القتل.

يسلط تولستوي الضوء، في رحلة البحث هذه، على جوانب عديدة لقضايا أصبحت وكأنها من المسلّمات التي لا تحتاج إلى مزيد من البحث، بل وقد يثير البحث فيها وإعادة استقرائها الدهشةَ لدى من أيقن بها ولم يكلف نفسه عناء السؤال عن إمكانية الإيمان بنقيضها والسعي لتجربته على الأقل، وذلك كله جاء نتيجة إيمان قطيعي دوغمائي يسعى لتصديق الأهون حتى وإن كان كذبة يشارك فيها الجميع، كما في حكاية أندرسون عن الملك الذي سار، في موكب مهيب، في شوارع المدينة، وكان الشعب كله يثني على ثوبه الجديد الرائع. لكن كلمة واحدة من طفل قال ما كان يعلمه الجميع لكنهم لم يفصحوا عنه، غيّرت كل شيء؛ إذ قال: "لكنه عارٍ"، فاختفى الوهم، وشعر الملك بالخجل.

تولستوي لا يخشى من البوح عما يجول في خاطره نحو الكثير مما يراه ويسمعه، ويعلن عن وجهات نظره حتى وإن بدت للوهلة الأولى مستحيلة التحقيق، كما أنه يتلمس بمجس الخبير مكامن الضعف الذي يبنى على الجهل. بتعبير آخر إنه يدرك تمامًا بأن الناس أعداء ما جهلوا وأن العلم هو المفتاح الأساسي لمغاليق الجهل والتخلف والعنف والعدوانية. فقد جاء في ندائه إلى القيصر دعوته إلى عدم التمييز بين الأفراد من مختلف الطبقات في تحصيل العلم، وبالتالي إزالة كل العوائق والموانع الاستثنائية التي كانت حائلاً بين الشعب وقراءة الكتب التي كانت تُعتبر - لسبب ما - ضارّة له. بل وطالب بتحرير التعليم والتربية والتدريس من القيود التي تعاني منها، فقال:

إن التخلص من تدخّل الحكومة في شؤون تعليم الشعب الكادح سيقدّم للشعب إمكانية استيعاب، بسرعة وشمولية لا تقارنان، المعارف التي يحتاجها، وليست تلك التي تُفرض عليه. أما السماح للأفراد بفتح وإدارة المدارس الخاصة فسيقضي على الاضطرابات التي تنشأ باستمرار في أوساط الطلاب الشباب الساخطين على نظام المؤسسات التعليمية الذي يعيشونه.

وكذلك ينتقل بنا تولستوي، عبر نداءاته ورسائله وقراءاته المتعددة، إلى فلسفة وحكمة البوذا وكونفوشيوس ولاوتسه، ويروي كيف أن كونفوشيوس أجاب أحد الملوك عندما سأله: كم يجب أن يكون عدد القوات التي ينبغي جمعها للانتصار على أحد شعوب الجنوب الذي لا يخضع له، وكيف؟ فقال له كونفوشيوس: تخلّص من قواتك كلها، واستخدم ما تهدره الآن على القوات في تنوير شعبك وتحسين الزراعة، ولسوف يطرد شعب الجنوب ملكه ويخضع لسلطانك دون حرب.

ختامًا يبقى تولستوي ذاك النبي الذي بشّر بقرب اليوم الذي يرتقي به وعي البشر إلى الدرجة التي تؤهله لرفض الحروب والتصدي لها. وبالدرجة نفسها يدعو لنشر العلم ومحاربة الإيمان الدوغمائي الذي يحوّل الإنسان إلى كائن مسلوب الإرادة مشلول الحركة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ليف تولستوي – مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود