آفاق الحضارة

 

محمد سليمان حسن٭

 

صدر حديثًا، عن وزارة الثقافة السورية، كتاب تحت عنوان آفاق الحضارة ضمن سلسلة "دراسات فكرية". الكتاب من تأليف المفكر وأستاذ الفلسفة الدكتور عادل العوا. يقع الكتاب في 235 صفحة من القطع الكبير. ضمَّ بين دفتيه: مقدمة وخاتمة و10 فصول بحثية. نقدم عرضًا لها، بما يتسق والمعطيات المعرفية للكتاب.

مدخل: الإنسانيات والنزعة الإنسانية

يواكب معنى الإنسان عددًا من الدلالات، تغدو صوى "اصطلاحية"، تتفرد بألفاظ من طراز قولنا: الإنسانيات، الإنسانوية، الإنسانية أو النزعة الإنسانية.

الإنسانيات Humanities، أو النهضة الإنسانية، تدل على التراث القديم في الثقافة الأوروبية خاصة. وقد يعبر عنها باصطلاح "النزعة الإنسانية الأدبية". وهي تشير إلى مَثَل أعلى ثقافي، وإلى منهج أو طريقة تكوين عقلي تربوي وتعليمي يحكي تقاليد العصر القديم الإغريقي-اللاتيني. وذلك كله يتجلى في الفنون والآداب القديمة وفي ما ينسج على منوالها كما في مسرحيات راسين، ورسائل بوالو، ومواعظ بوسويه.

ثم إن الإنسانيات هي حركة الفكر التي يمثلها "إنسانيو" عصر الانبعاث من طبقة بترارك وراسم وبوده.

ولا يتردد بول ريكور في حكمه بأن

الدفاع عن الإنسانيات القديمة يفقد كل معناه إذا اقتصر على تكرار النتاج الأدبي تكرارًا عقيمًا من حيث أنه أشكال جمالية محضة، سُلخت عن تلك الآثار الشهادة الإنسانية التي تحملها. إن تقليد القدامى هو محاكاة صنعهم، أي خلق حضارة.

أما الإنسانوية Humanitarism فإنها، في نظر لالاند:

شعور ومذهب ينزعان إلى العمل على ترجيح ما هو كلي في الطبيعة البشرية على جانب ما هو خاص بزمان أو مكان أو طبقة أو قومية.

يقول لايبننتز:

إنني أتمنى الخير للنوع البشري.

وكتب كورنو:

عندما تبلغ المجتمعات هذه المرحلة يترتب على الناس أن يعلو شأو فكرة الإنسانية ويرقوا بها فوق أية قومية أو فرقة دينية.

وقد آل الأمر بهذه الكلمة إلى أن غدا استعمالها يدل، أكثر ما يدل، على الإحسان إلى الناس بوسائل ذات صبغة عامة، ولاسيما بطريق المؤسسات الخيرية، بأكثر منه رفدًا لأفراد معوزين.

أما مفهوم الإنسانية أو النزعة الإنسانية Humanisme، فإن تاريخ الفكر يبين بجلاء أن الفلاسفة في جميع العصور يتفقون في عنايتهم بقاع مشترك هو فهم الإنسان. فمنذ "إعرف نفسك" يحمل الناس فضولاً مشتركًا يدول حول "الإنسان ذلك المجهول".

إن هذه الكلمة، ظهرت أول ما ظهرت في كتابات المربي البافيري نيتامير سنة 1808. ويُحسب بيير دونولا أنه أول من أدخلها إلى التعابير الجامعية سنة 1886 في محاضراته عن "النزعة الإنسانية الإيطالية". وثمة من يرى أن أول من استعمل كلمة الإنسانية في الفكر الغربي هو ف. شيلّر من إكسفورد للإشارة إلى كل معرفة تخضع آخر الأمر للطبيعة البشرية ولحاجاتها الأساسية. ومهما يكن في الأمر فنحن نجد الكلمة ودلالتها القيمية منذ زمن جد بعيد في التراث العربي ومثلاً لدى مسكويه.

إن النزعة الإنسانية موقف فلسفي وأخلاقي وجمالي يهدف إلى اعتبار الإنسان القيمة القصوى التي يمتح منه التاريخ والمجتمع معناهما. فالنزعة الإنسانية تعني ازدهار الإنسان. يقول جان  ريشار بلوخ:

حيثما نلقى الإنسان، هذا الحيوان الغريب، ومهما كان لون بشرته، واختلاف صقعه وإقليمه، نجده مشغولاً، على الرغم من الظواهر المباينة، بفكرة واحدة، ووسواس واحد، وهوى وحيد: إنه يطرح السؤال الأساسي عن مصيره عبر ظروف حياته وملابساتها: أي كائن أنا؟ ماذا أفعل على وجه الأرض؟ ما سبب وجودي؟.. إلخ.

ولكن نظرية آنشتين عن النسبية الموسَّعة أعلمتنا أن الإنسان ليس بمراقب غريب عن الكون، فهو بالضرورة مغمور في مكان وتابع لجريان الزمان، وهو يتكافل مع الطبيعة ويترك طابعه الإنساني في تصوره الأشياء.

ومثل هذا التأنس تجده على الصعيد السياسي، فالمواثيق القومية والدولية تصدع بإعلان حقوق الإنسان.

ولاريب في أن أكثر الوقائع أهمية هو الوجدان الإنساني المشترك الذي ينشأ ويكبر باطراد من جراء الاكتشافات العلمية وتقديم التقنية وسرعة المواصلات وسهولة المبادلات. ويواكب هذا التكافل الروحي بين الشعوب تبعية اقتصادية متبادلة.

إن النزعة الإنسانية تثق ثقة مطلقة بمناهل الإنسان ومصيره، فالإنسانية، نزعتها، تشير إلى موقف فلسفي يوجب على الإنسان أن يتعلق بما هو حصرًا إنساني. والإنسانية، كما يقول معجم لالاند، تدل على تصور عام يشمل الحياة (السياسية والاقتصادية والأخلاقية) ويشيدها على أساس الاعتقاد بأن خلاص الإنسان يعتمد قواه الإنسانية وحدها. ومن دلالاتها أيضًا أنها تعارض الطبيعة البهيمية بغايات الطبيعة الإنسانية الخاصة متمثلة في الفنون والعلوم والأخلاق.

الفصل الأول: المطامح الحيوية

في هذا الفصل إلماعة وجيزة إلى المطمح البيولوجي البشري في ضوء معطيات لازبة في العقد الأخير من القرن العشرين، ولابد من أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار في التطلع الواقعي إلى ما يفسح المجال أمام استمرار وجود البشر أحياء في أرضهم، أحياء وأصحاء، وجودًا أفضل جهد المستطاع.

وقد أبان باحثون، ومنهم بيير لوبين، أن الإنسان ما فتئ يسعى إلى تحسين حياته منذ أقدم العصور في سبيل البقاء. وعلى هذا النحو نشأت بالتدريج الحضارات التي تفيد من تقنيات آخذة بالنضج والارتقاء. وقد هدفت هذه الحضارات إلى أن تستخرج من الأرض والبحيرات والبحار مصادر الغذاء اللازمة وإلى أن تنمي ثروتها. وهذه الشواحذ ظلت هي هي من العصر الحجري إلى دوافع الحروب الحديثة.

بيد أن المعطيات الأساسية للمشكلة قد تغيرت. وهذا التطور ينتج مباشرة عن إنجازين رئيسين ظهرا عبر العصور، وهما: غزو الصحة، وغزو الطاقة.

ترى ما مدى هذا التأثير على الإنسان، وإلى أي فترة سيمتد خلال مائتي عام؟

النمو السكاني:

لقد ظل النمو السكاني حتى أوائل القرن العشرين نموًا بطيئًا جدًا على الرغم من ضروب التقدم التي حققتها تقنيات الحياة. كانت الوفيات مرتفعة، وكانت الأمراض الإنتانية، وهي وبائية، منتشرة، وكانت التغذية قاصرة، فيتضاءل العمر الوسطي للحياة ويلجم زيادة الأحياء.

وفي القرن التاسع عشر أفاد الأوروبيون من التفكير الفلسفي الذي ساد القرن الثامن عشر، فأقبلوا بروح جديدة على دراسة الفيزيولوجيا، وعنوا بدراسة وظائف الأعضاء، وبدراسة علم الأمراض. وظهرت كشوف باستور. نجم عن هذا كله ازدياد عدد سكان الأرض.

ومما يلاحظ أن البلدان النامية تحتفظ اليوم بمعدل ولادات مرتفع، وبتضاؤل تدريجي في معدل الوفيات الطفولية، بالرغم من أن هذا المعدل أعلى لديها منه في البلدان المتقدمة، حيث نجد معدل وفيات الأطفال أدنى ولكننا نجد كذلك أن معدل الولادات أقل.

فإذا نظرنا إلى العالم كله وجدنا أن اللائحة تتغير كل التغير. فهو يتضاعف في خمس وثلاثين سنة بحيث يبلغ سنة 2008 سبعة مليارات.

بيد أن منظور تباطؤ النمو السكاني، ثم توقفه، وهو محتوم من الناحية البيولوجية، ما يزال بعيدًا. ولذا يصح توقع أن يبلغ سكان الأرض عام 2000، زهاء 7 مليارات نسمة متجاوزًا التصور السابق وسيكون 58% منهم في عمر أقل من عشرين سنة.

وإذا استندنا إلى النزعة المزدوجة الماثلة في تضاؤل الولادات وازدياد فرص الحياة واتجاه هذه النزعة إلى الازدياد ألفينا أن من المتوقع حدوث زيادة مطردة في شيخوخة سكان العالم، أي في زيادة عدد المسنين غير المنتجين.

التحضر:

كان جلُّ سكان بلدان العالم كله يعيشون في الريف قبل الثورة الصناعية وذلك بسبب الحاجة إلى إنتاج قدر كاف من الغذاء.

لم يعترف ستاندال إلا بمدن كبرى ثلاث هي: لندن، باريس، نابولي. وفي سنة 1960 بلغ عددها 110 مدينة، 148 مدينة سنة 1970.

ولا مناص من الانتباه إلى أن تعريف المدينة تعريف متحول تبع نظرتنا إلى اعتبار حدودها الإدارية أو إلى جملة تجمعاتها. وغير خاف أن أكبر تجمع حضري هو تجمع شنغهاي وطوكيو وكلاهما يبلغ 20 مليونًا.

يتضح إذن أن التحضر ظاهرة مكتسبة لا يمكن الرجوع عنها، وأن سكان الريف آيلون إلى مزيد من التناقص، وينتج عن ذلك زيادة الكثافة البشرية في جميع الدول على الرقعة الواحدة من الأرض.

إن التطور التدريجي نحو التحضر يبدو أمرًا لازبًا. وسيتركز سكان الريف بحسب طبيعة الأرض وتضاريسها في المناطق التي يمكن استغلالها في الصناعة أو الزراعة استغلالاً مكثفًا. ولكن بنية العمران الحضري ذاتها ستكون محل إعادة نظر.

إن الكتلة البشرية، وهي حضرية ومصنعة، تتجه ببطء، ولكن بوثوق، شطر حضارة خلايا النحل. وستنزع المنافسة التقانية إلى تركيز الأموال في مجال بعض محاور البحث. ومنها ما يتصل بالصحة، وغير خاف أن التأمينات الاجتماعية تزداد باطراد في بلدان العالم كلها، ويزداد ثمن الصحة بأسرع من ازدياد الإنتاج القومي.

ومن الجلي أن حدة هذه المشكلات بالذات لايمكن إلا أن تقود إلى مزيد من إخضاع الاقتصاد كله إلى إرادة الدولة.

الإنسان وعلم البيئة:

من المعلوم أن صيانة مجموع بيئي تستند إلى توازن شتى الأنواع الحيوانية أو النباتية التي تعيش فيه، وتسهم في تكوين البيئة. ولا يشذ النوع البشري من هذا الاعتبار عن القاعدة. بل إن ازدياد الناس قد أحدث بالفعل تغيرات يمتنع الرجوع عنها في بيئة الأرض بمجملها.

وأول هذه التغيرات المرئية القضاء على الأرض الخصبة وعلى الغطاء النباتي من جرَّاء استغلال الأرض استغلالاً مكثفًا ولاعقليًا. وينشأ عن هذا التطور خسارة لا تعوض، كما يؤدي إلى تغير الطقس، وبذا يحدث نقص الأوكسجين. ولكنه بوجه خاص يفرض على السكان أن يهاجروا لعجزهم عن الحفاظ على حياتهم في أرض جدباء. ومن الجائز تمامًا بعد مئتي عام أن تزول الأنواع الحيوانية كافة إلا من بعض الأراضي السبخة أو ما سيبقى من حوض الأمازون. ولكوارث مماثلة يعرضنا الاستغلال الشديد للبحار. أضف إلى هذه الأسباب الخسارة التي تعزى إلى اطراد تلوث الشواطئ البحرية.

المصادر الطبيعية:

إن مجتمعنا الاستهلاكي يدفع إلى تبذير المصادر الأرضية وهو ينفي عن الدارة الطبيعية جزءًا من الثروات المستغَلَّة بإسراف. وسيمسي التخطيط العقلاني للثروات الطبيعية، ولاسيما الثروات المعدنية، أمرًا لازبًا بعد لأي قصير، يتممه مسعى إعادة جمع المعادن الأنفع والأكثر ندرة.

ولكن: ثمن ثروات الطبيعة هي الماء والأوكسجين ومن ودونهما تتعذر الحياة، وهذا ما يدعونا إلى القلق.

بيد أن حاجة العالم المتمدن إلى الماء تزداد زيادة هائلة. وعلى هذا النحو ينتهي بنا المطاف إلى تمييز الماء بوصفه غذاءً عن الماء بوصفه مادة أولية. إن استهلاك الأوكسجين يواكب التصنيع. ومن البين أن سطح الماء هو الذي يقدم أربعة أخماس أوكسجين الجو، فإذا زاد الاستهلاك عن إيقاعه الحالي فإنه سيبلغ النقطة الحرجة خلال قرنين.

الغذاء والطاقة:

إن طراز الإنتاج الكتلي وتحديد المواصفات يؤديان إلى توحيد السلع وتضاؤل فرص الاختيار المتاحة للمستهلكين. فقد أصبحت تغذية الإنسان الراشد محددة كمًا وكيفًا.

ونحن نشاهد منذ الآن أن إمكانات اختيار المستهلكين آخذة بالتضاؤل المطرد بإزاء ضرورات الإنتاج. وكلما كثرت الأفواه التي تتطلب الغذاء ونقصت الأراضي الزراعية اضطر الناس لقبول اقتصاد منتوجات غذائية شبيه بالاقتصاد المتَّبع لدى الدول المتحاربة.

وليس بخافٍ أن الحضارة الصناعية تستند كلها إلى إنتاج الطاقة واستغلالها. ولكن السؤال المطروح: هل تستطيع هذه المصادر الطاقية تلبية الحاجات المتزايدة بحسب إيقاع زيادتها الحالية على الأقل.

إن مصادر الطاقة ليست في الحق ما يمكن استغلاله استغلالاً لامحدودًا. ولا ريب في أن الحل القادم، حل المستقبل، إنما يمثل في الطاقة الذرية.

التلوث:

إن الإنسان يحيا في وسط يزداد تلوثه باطراد. فمن المتعذر العمل بآن واحد على رفع مستوى الحياة والسماح بتلوث البيئة. ولا بد من القيام بتفاهم دولي. وإذا لم يتحقق ذلك فإن الصحة الإنسانية ستدفع ضريبة التلوث على نحو باهظ. وسيغدو الإنسان في حدود إيقاعنا الحضاري من جملة الأنواع الحيوانية الأكثر عرضة للخطر.

الفصل الثاني: طماح التقدم

مطلب التقدم:

من خاصة إنسانية الإنسان أن يطمح إلى تجاوز الحياة بالمعنى البيولوجي والتطلع إلى الأفضل والأنفع والأجمل، وهذا التطلع الجوهري يتجلى في مفهوم التقدم.

جاء في معجم علم الأخلاق أن التقدم الأخلاقي هو تطور الأخلاق من حالات أطوار تاريخية أقل كمالاً إلى أخرى أكثر كمالاً.

ويردف صاحب هذا المعجم قائلاً: إن تطور الأخلاق، الذي يتحدد بالعملية الاجتماعية-التاريخية الصاعدة، له استقلاليته النسبية فتساهم في تسريع وتأثر هذه العملية أو تباطئها.

وبعبارة ثانية، إن التطلع إلى إنسانية الإنسان هو، في آخر المطاف، مطلب التقدم الحضاري ماثلاً في دلالة المدنية الإنسانية، وهي الحضارة أخلاقيًا، مطمح المطامح الإنسانية الممكنة، على خلاف الطوباوية التي تنمُّ عن مطامح إنسانية إضفائية محال.

مفهوم التقدم:

التقدم حركة إلى الأمام في اتجاه محدد. وقد أشار لالاند في معجمه إلى تعريف التقدم الحقيقي في نظر أوغست كونت قائلاً:

إنه تقدم موصول نحو غاية محددة. فالتقدم تحول تدريجي من الأقل حسنًا إلى الأفضل. وهو بهذا المعنى أمر نسبي ما دام يتبع رأي المتكلم باعتماد سلم القيم التي يعتنقها. وثمة استعمال شائع جدًا لكلمة تقدم بمعنى مطلق. وهذا الاستعمال يعتبر التقدم ضرورة تاريخية أو كونية. وربما نظر الناظرون إلى التقدم بوصفه قوة حقيقية تؤثر في الأفراد، أو باعتباره غائية جمعية تتجلى في ما يطرأ من تغير على حياة المجتمع.

ويعلن لالاند، من ثم، أن الصعوبة تمثل في إعطاء مضمون دقيق لهذه الصيغة، أي في تحديد اتجاه هذه الحركة ومنحاها. ولذا ينبغي أن نتحاشى البحث عن تعريف تفسيري يلخص السمات المشتركة لكل ما يُعتبر بوجه عام أن تحقيقه هو تقدم. واضح إذن أن مفهوم التقدم ينطوي على تقدير قيمي.

ويرى أنصار البحث الأيديولوجي أن القرن الثامن عشر الأوروبي قد تميز بأيديولوجية هي أيديولوجية التقدم المتمثلة في فلسفة الأنوار. وألحف أوغست كونت على الاعتقاد بأن مجتمع الغد سيحمل شعار (النظام والتقدم) مؤكدًا أن الحاضر يكمل الماضي، ولا يغادره، فلا طفرة ولا انقطاع.

ويبرز آندره كورز تقدم عنصر التقدم على وسائل تنفيذه وتحقيقه. ويرى أن التقدم اختراع أو تجديد أو تغيير يعتبره المرء تحسينًا فيسعى إلى الكشف عن الوسائل والأدوات والسبل الموصلة إليه. فالتقدم، بذلك، هو فكر أو تنبؤ يسبق الفعل.

معايير التقدم:

إن تعقد مفهوم التقدم عامة، يجعل من الممكن تفسيره على أنحاء شتى يثير كل منها الجدال والمناقشة. من ذلك مثلاً أننا إذا قلنا إن التقدم الاجتماعي يعني تحسين شروط حياة البشر المتعايشين في جماعة، وجدنا أنفسنا نستعيض عن حد غامض بعض الغموض بحدود أخرى ليست بأقل غموضًا. فنحن نتساءل بصدد التقدم الاجتماعي: ما هي المعايير التي نستشف عبرها صفة الأفضل وما هي عناصر هذا الأفضل؟

يرى الاقتصاديون أن قيمة التقدم تمنح من دراسة إنتاج الخيرات وتوزيعها، وأن في وسع المتخصصين من العلماء قياس التقدم الاجتماعي بتسجيل الوقائع الاقتصادية والتعبير عنها في جداول من الأرقام والخطوط البيانية.

وفي القرن العشرين ذاعت فكرة توسيع الأسواق بنتيجة زيادة القوة الشرائية لدى الأجراء. وينجم عن هذه النظرة المعمقة إلى أثر الاقتصاد في التقدم الاجتماعي أن على تفاعل الأسباب والنتائج أن ينطلق من ضروب الاشتداد أو التوتر بين الرغبات وإرضائها، وأن يبرز نزوعها نحو توازن المنظومة في آخر المطاف، وتكون الحركة التقدمية إذ ذاك في تحسين البنية الاجتماعية التي تحدِّد علاقات ما بين الأفراد داخل الجماعة.

بذا نعلم أن الأحكام التي تتناول الحركة الاجتماعية تتغير بحسب الأهداف المبتغاة أو القيم التي ينشدها المعنيون من البشر. فإذا نظرنا إلى تفاعل القيمة والجماعة الاجتماعية أدركنا تجاوب مضمون القيمة وبنية المجتمع.

ويزداد لا يقين العنصر القيمي الفردي بالفوارق الناجمة عن تباين وجهتي نظر الناس والمسؤولين إحداهما عن الأخرى.

ونخلص من ذلك كله إلى أن التقدم الاجتماعي لا يقتصر حصرًا على تحسين الشروط المادية للحياة بالرغم مما يحسب سواد الناس. إن ملتقى التقدم القيمي في شتى المجالات يؤلف حافز التقدم الاجتماعي والحضاري والسبيل المؤدية إليه. وهذا اللقاء بوتقة تُصهر فيها جوانب الفاعلية الإنسانية الفردية المتفرقة فتعمل على تحديد غايات إنسانية يعتنقها الإنسان ويقيس بالإضافة إليها مدى تقدمه أو تقهقره تبع دنوه منها أو بعده عنها.

والثابت في الأمر أن المجتمعات الإنسانية بينها قد أغنت تراثها بتضافر جهود موصولة تسعى إلى تحقيق قيم ذات سمة دائمة مقرَّرة هي قيم الحضارة والمدنية.

إشكالية التقدم:

الإنسانية تتطلع إلى تحسين المصير، مصيرها. وهي تتخذ هذا التحسين غاية وهدفًا وتسعى إلى تحقيقه بكل ما صنعت من وسائل وإمكانات، ولاسيما وسيلتي العلم والتقانة. ولكن ثمة أخطارًا طريفة تتميز بإسهام البشر في الإساءة إلى أنفسهم بأنفسهم. ووعي ذلك كله يطرح مسؤولية سكان الأرض كافة حيال ما يريدون، وما يفعلون.

إن عزوف الإنسانية عن اعتناق سلَّم قيمي وحيد في تحديد مفهوم التقدم يثير بين البشر خلافات ومنازعات. لقد استخدمت البشرية في نضالها الحيوي الأداة الوحيدة التي تمتلكها: وهي الذكاء. فقد صار في وسعها، وهي جزء من الطبيعة، السيطرة عليها. وبقول آخر، بدا أن نمو العلم والتقنية نمو يسوِّغ ذاته بذاته. بيد أن الوقائع لم تؤيد، مع الأسف، هذا التفاؤل الجامح، فليس كل تقدم في مضمار العلم والتقانة تقدمًا بالمقياس الإنساني الصحيح.

لقد وصف جوليان هكسلي الوضع بقوله:

إننا نحيا عهد أزمة. فإذا تركنا الأمور تسير كما تسير الآن فإن النكبة ستحل بالبشرية عام 1999.

وقال بيير بيكانول:

إننا نشعر اليوم بخطر الحضارة العلمية التي لا نسيطر عليها وهو يعرضنا إلى الاغتراب حدًا أدنى، وإلى الإبادة حدًا أعلى.

وكتب العالم الفيزيائي دنيس كابور:

إذا أردنا الاستمرار في الوجود وجب علينا ألا ندع التقانة دون مراقبة.

ويبقى من الثابت أن الإنسان هو المسؤول عن ذلك. وقد وصف آندره مالرو حضارة عصرنا بأنها "أول حضارة لم تبق متسقة مع نفسها".

الأزمة إذن هي أزمة تغير.

الفصل الثالث: التقدم والحضارة

تعريفات الحضارة:

إن نظرة فاحصة إلى الثقافة الغربية تبين لنا أن هذه الكلمة لم تظهر في المعجمات الفرنسية مثلاً إلا في وقت متأخر نسبيًا. ففي معجم الأكاديمية 1878 جاء تعريف الحضارة على النحو التالي: هي فعل التحضير أو صفة المتحضر. وأما في الاستعمال الذائع فيبدو أن لكلمة حضارة دلالة متفائلة محدَّدة. فهي لا تنطبق إلا على بعض طرز الحياة وعاداتها المعترف بأنها أفضل من سواها. ويمكننا القول إن الحضارة بهذا المعنى تدل على مفهوم يتصف بالتركيز الذاتي. إنها الحالة التي نعيشها والتي أبدعناها وصنفناها. وقد أعلن مونتسكيو: "أن المثلثات لو صنعت آلهتها لمنحتها أضلعًا ثلاثة".

وأما في الثقافة العربية فإن الحضارة إقامة في الحضر. ويرى ابن خلدون أن البدو والحضر معًا مما يعرض في طبيعة العمران في الخليقة.

ولكن هذه الدلالات ليست بأيسر تحديدًا مما تود إيضاحه. ولعل من النافع أن نبدأ بتمييز الحضارة بطريق تضادها ومعاني الوحشية أو الهمجية التي تقابلها. ذلك أن للهمجية أو التوحش دلالات متعددة يعسر تحديدها بدقة. فهناك نوع من التوحش النفسي، والاجتماعي. ويبدو أن التوحش في جميع دلالاته ومقاصده ينطوي على عنصر مشترك هو تقديم إنسان أو جماعة أو أنه ما هو غيرها من حطة وتخلف.

والحضارة قد تدل على جملة صفات تبين جوانب الحياة الجمعية: حياة مادية، وحياة عقلية أو روحية، وحياة أخلاقية. كما أن علم الأنثروبولوجيا يتحدث عن حضارة الحجر، والبرونز وحضارة البدائيين. والعلوم الاقتصادية تتكلم على حضارة زراعية، صناعية. ومن هنا نخلص إلى أن الحضارة مفهوم نسبي، وأن لكل جماعة إنسانية، في وقت ما، حضارتها.

إن كلمة الحضارة قد تتناول عصورًا متفاوتة. مثلاً الحضارة القديمة، الوسيطة، المعاصرة. أو إلى بقاع في مناطق متجاورة أو غير متجاورة. وربما عنيت الحضارة بالدلالة على طبقات اجتماعية. ويجري القول في بعض الأحيان تبع سمات بيولوجية، وإذ ذاك تكون للحضارات ألوانها العرقية.

كواشف الحضارة:

إن الدراستين السكونية والحركية لحضارة من الحضارات لا تنشدان إطلاق حكم قيمة. ولكننا نستطيع مقارنة حضارتين، فنتوقف أمام مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. وعندئذٍ تجدنا أمام نمطي حضارة. وإذ ذاك نقدر على إطلاق حكم قيمة على هاتين الحضارتين.

فإذا حكمنا على حضارة بأنها أرقى من الأخرى وجب حل مشكلة عسيرة هي مشكلة معيار التقدم أو التخلف. وذاك أمر عسير. ولعل الكاشف الأول الذي يخطر في الذهن هو الآتي: علينا البحث عن درجة النمو المتحققة في كل جانب من جوانب الحياة المادية والعقلية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية، واعتماد قرائن واضحة تكون موضوعية قدر المستطاع.

ولكننا، حتى في هذه الحال، نجدنا مرة أخرى أمام مشكلة أولية وهي سؤال: ماذا نعني بقولنا درجة نمو أعلى؟ فقد أكد باحثون، مثلاً، أن النمو الاجتماعي لجماعة، في مختلف جوانبها المادية والعقلية، يجري في منحى تنوع آخذ بالازدياد المطرد في تقسيم العمل. وينزع الباحثون، جلَّهم، إلى قول: إن النمو الأعظم للتنظيم السياسي والاجتماعي يتجسد أكثر ما يتجسد في المنزلة الأكبر التي يتمتع بها الفرد.

وأما نمو الحياة الأخلاقية فيتجلى في تعاقب أشكال كثيرة من اطراد نمو الحياة الانفعالية والعقلية معًا. أما المجتمع الأقل تطورًا فإنه يتصف بعزوف الأفراد عن الحيطة للمستقبل.

ومن الجلي أننا إذ نقارن درجات نمو وتقدم في مجتمع معين بما يماثلها في مجتمع آخر لا نستطيع بلوغ نتيجة مفيدة إلا إذا كان بين هذين المجتمعين بعد أكبر في سلَّم الرقي. إن حضارة تسمو على أخرى إذا كانت الحياة المادية والعقلية والأخلاقية تبدو لمن يعيشون في كنفها في شروط أفضل.

وهنا يظهر التساؤل عن وجود كواشف تتيح استجلاء تحسن الحياة الفردية والجمعية بآن واحد ضمن النسيج الاجتماعي الشامل والمعقد؟

أحلام الحضارة:

لا ينكر على أفلاطون قوله الآتي:

إن عالمنا ناقص ولذا فإننا نحلم على الدوام بحالة لا توجد في أي مكان على الأرض. ولعلها توجد في السماء وحسب.

إن هذه الأحلام الطماح ظهرت منذ أقدم العصور، فنحن نقرأ مثلاً قول هزيود في الأعمال والأيام: "كان الناس في العصر الذهبي متحررين من القلق والعمل والألم.."، ومثل هذه التصورات تطالعنا في رامدايانا عند وصف النصر الحاسم الذي أحرزه البطل، وهي ترسم سعادة مملكة راما المنتصرة. وفي كتاب الملوك يحدثنا الفردوسي عن عهد دام ستمئة سنة تجلت فيها فنون الكمال أحسن ما تتجلى. وقد تحدث أفلاطون عن صفات مماثلة في مملكة كرونوس. وأظهر أرسطو في الأخلاق صعوبة تعريف الحياة الكاملة وحياة الغبطة العظمى لأن سواد الشعب والحكماء لا يتكلمون لغة واحدة. ولم ينس القديس أوغسطين أن يذكر شتى أنواع التحسين التي حققها الإنسان المتحضر، وعُدَّ مما يدل على التقدم زيادة السكان والعمل على إنفاذ شروط أفضل للسكن واللباس والغذاء والإسعاف وأدوية حفظ الحياة واسترجاع الصحة وكذلك ثقافة العقل والفنون الجميلة.

وفي أوائل القرن السادس عشر نشر توماس مور كتابًا عن أجمل الجمهوريات سنة 1516 وجعل عنوانه يوتوبيا وما لبث هذا اللفظ أن أصبح سمة مميزة لنوع من الأدب الاجتماعي بوجه خاص.

لقد جعل هوميروس البطل أوليس يلج حدائق اكنيتوس حيث تتناوب الأشجار بعطاء أطيب الثمار طوال العام. وقد تخيل أريستوفان، فيمن تخيل، جمعية النساء، وتحدث عن مجتمع تحلُّ حكومة نساء فيه محل حكومة الذكور. ودعا فيلياس الكالحذوني إلى مجتمع تماثل ومساواة. وتصور غيره، وهو هيبو داموس الميلي، مدينة التغاير والتنوع. أما إيامبولوس فقد ذكر أنه عرف في أسفاره سكان جزيرة الشمس: مقدسة في بحر الهند، غنية بثمار الأرض كلها. وقال بلو تارك: هناك جزر السعداء في بحر أفريقية وجزيرة أوجيفي التي تبعد خمسة أيام عن طريق بريتانيا.

وفي الثقافة اللاتينية نجد أوفيد يتحدث عن مجتمع بلا إكراه ولا سلاح يحيا في ربيع دائم وفي ظل اقتصاد القطاف.

وعندما ساد الفكر الديني المسيحي أوروبة كثر الكلام عن أقوام خياليين في كتاب هونوريوس دي أتون مثلاً وعنوانه عالم خيالي وعلى أعياد المجانين وهي طوباويات ممارسات في عالم مقلوب. واشتهر رابله في فرنسا بما يسمى تيليم. ووضع فرانسوا بيكون أتلانتيد الجديدة عام 1627 وازدهر في انكلترا وفرنسا في القرن الثامن عشر. ورجع من ثم إلى انكلترا بزعامة روبرت أوين، وفي فرنسا مثل شارل فوريه وكلود هنري دي سان سيمون وأيتين كابه.

الطوباويات المضادة:

في أواخر القرن المنصرم بدأت بالظهور إرهاصات ما يسمى الطوباويات المضادة من جهة، كما انتقلت الطوباوية إلى مجال العلم-الخيالي من جهة أخرى. ولكن السمة الرئيسة تظل في رأينا أنها تتصف كلها بارتكاس على واقع إنساني مرفوض يتجلى في أحلام. قال سان سيمون: "إن أصحاب التخيل هم الروَّاد الذين يبدأون المسيرة". ويقول جيد: "إنما من باب الطوباوية الضيق ندخل إلى الواقع الجيد".

إن مختلف اللوحات الطوباوية تنشد في بعض ملامحها ما أمكن تحققه إلى حد كبير أو صغير. وليس من الغلو قولنا إن من أدق علامات الحضارة وتقدمها التقدم الأخلاقي. وهذا التقدم يتجلى في طراز الشعور بالشخصية الإنسانية، حريتها وكرامتها من جهة، وعلاقات المساواة بين أعضاء المجتمع من جهة أخرى. وكان هزيود يصف أناسي العصر الذهبي بأنهم أحرار مسالمين فضلاء. وقد ألحف أرسطو على الأمانة والشرف والفضيلة بوصفها من شروط السعادة.

إن الحضارة في رأينا هي ما يضيفه البشر إلى الطبيعة في مسيرتهم التاريخية. وبعبارة ثانية: إن التقدم الحضاري هو ما ينتج الإنسان في مجالات التحول والابتكار العلمي والتقني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

المدنية والهمجية:

كتب جورج باستيد:

إننا ندعو مدنية، أو بالأحرى فاعلية تمدين، توجيه الفاعلية الإنسانية الاجتماعية في منحى زيادة الأخلاق، أي في منحى زيادة تفهم الإنسان نفسه. ونحن ندعو وحشية، أو فاعلية توحش، هذا الوجه من الفاعلية الإنسانية التي بها يحدث الإنسان، على العكس، في الواقع المعطى تبدلاً ينجم عنه استغلال الثقافة في منحى نفي وحذف اتصال الضمائر بعضها ببعض، أي في منحى إقلال إمكان التخلق في العالم.

الفصل الرابع: الإنسانية الماركسية

الإنسان النسبي:

الإنسان صانع الحضارة، تراه الماركسية نتاج تطور طبيعي هو بآن واحد تطور مادي واجتماعي. وقد تطورت التقنيات الإنسانية عبر العصور، وأحدثت أشكالاً اجتماعية جديدة غدت شرط ظهور المؤسسات. وعلى الرغم من هذا التطور فإن الإنسان لا يستطيع أن يحقق توازنه ووحدته ما دام ثمة طبقتان تختصمان. وسيحل هذا التناقض عندما سينجح الإنسان في رفع النير عن كاهله، وعندما ستتمخض الشيوعية عن ولادة إنسانية جديدة، الإنسانية الحضارية.

إن للإنسان في نظر الماركسية مفهومًا نسبيًا. وقد يتبدل مفهوم الإنسان ويتغير، فلا يتمتع بخلود أبدي وإنما يظل مرحلة انتقالية. ويترتب على ذلك أن يكون من الممتنع إيمان أي باحث بما يسمى طبيعة إنسانية خالدة.

الطبيعة الإنسانية:

إن تعمق مفهوم الطبيعة الإنسانية عامة قد يتيح لنا استخلاص معنى الإنسان. والماركسيين يفيدون من الاعتبارات الجدلية "الديالكتيكية" ويرون أن كل نشاط إنساني يتصف بأنه بآن واحد طبيعي وصنعي، وأن الإنسان يظهر دومًا أمام نفسه وأمام الآخرين بصور مختلفة باختلاف الزمكان.

وأظهر الماركسيون أن ذات الإنسان تتجلى في عمله اليومي وتاريخ سلوكه الراهن. فكل ذات لا تستطيع إثبات وجودها إلا في إطار صيرورة فينومنيولوجية ظاهرة للعيان. وما مفهوم "الطبيعة الخالدة" الذي يقابل مفهوم الصيرورة إلا ضرب من ضروب الفكر المجرد، ونتاج خيالي من نتاجه. إنه تبسيط الواقع الذي يستبدل بالكائن المشخص ذي العلاقات المحددة والمتناقضة بتحليل يحتفظ من عناصره الكثيرة بعنصر يعدُّه عنصرًا أساسيًا، أي ذاتًا.

وينجم عن ذلك أن مقابلة حكم أول يقول: "الإنسان صالح" بحكم آخر هو "الإنسان طالح" لا توصل إلى اكتشاف حقيقة.

وجملة القول: إن كل حكم تجريد، وكل عزل لصفة خاصة تعدُّ صفة أساسية ذاتية، سواء أكانت صفة خير أم شر، صلاح أم طلاح، إنما تضمر تناقضًا عميقًا كامنًا في علاقة الإنسان بنفسه، وفي علاقة الناس بالمجتمع الذي يعيشون فيه.

والحق أن ما أسميناه ذاتًا أو طبيعة ينحلُّ إلى طائفة من العلاقات أهمها علاقة الإنسان بالكون. ومن أسس الماركسية أن من شأن الإنسان أن يحيا على حساب الأرض، وأن يمنح غذاءه من هذا الكوكب الذي يعيش فوقه، وهذه هي نقطة الانطلاق في تلك العلاقة الأساسية، وهي علاقة عمل تتجلى في الفاعلية المادية الراهنة.

العلاقات الاجتماعية:

ثم أن هذه العلاقة تتسم بأنها ليست فردية بل جمعية. ولذا يمثل الإنتاج الجمعي أنموذج الإنتاج الإنساني. وقد ارتدى عبر العصور حللاً كثيرة، وظهر بأشكال شتى.

إن المثل الأعلى في المجتمع الاشتراكي يتجلى في مطلب مصالحة جملة هذه القوى التي ينال منها الاغتراب، القوى الاقتصادية والاجتماعية، وهي تعمل عمل قوى غريبة عن الإنسان، تتهدده وتضطهده.

فالحاجات والآمال تنشأ عن المجتمع ذاته. والماركسيون يؤمنون بنشوء التناقض داخل نفس الإنسان من التناقض الكامن في المجتمع الراهن. ولذا نجدهم يرون طريق الخلاص ماثلاً في الفاعلية الجمعية العملية.

كان ماركس يقول: "لا يكفي أن ننتقد أوهامًا، بل ينبغي أن نوسع نقدنا حتى يشمل المجتمع الذي ولدت عنه هذه الأوهام". فهذا الكفاح الإنساني يستهدف، إقامة الانسجام الداخلي وتوفيق الإنسان مع نفسه، واتساق كيانه وشروط حياته مع الظروف التي خلقها هو فسيطرت عليه وهي ما برحت تعمل الآن على تمزيقه.

المناضل الشيوعي:

الشيوعيون لا يتصورون في الواقع نمطًا واحدًا من النضال، بل أنماطًا كثيرة، ونماذج مختلفة. فنضال ماركس وأنجلز يختلف حتمًا عن نضال لينين وستالين. ذلك أن ماركس وأنجلز عاشا في المدة الأولى من الحركة العمالية وعاصرا التقاءها بالمادية الجدلية، ولذا تميز نضالهما بتفاصيل خاصة، ويختلف عن نضال لينين مثلاً وعن نضال البلشفيك في روسيا.

للمناضل الشيوعي إذن في نظر الشيوعيين صور تتفاوت تبع الزمكان. وليس من شأن الاشتراك في فلسفة واحدة أن يقضي على الميزات القومية الخاصة. إن أنماط النضال الشيوعي تختلف باختلاف السلطة أو البقاء في صفوف المعارضة. الشيوعية تطلب من أتباعها أن يتصفوا بالمشاركة الاجتماعية الإنسانية بالدرجة الأولى. وعلى الشيوعي أن يشعر، ويفكر، كما يشعر الناس من حوله ويفكرون.

والشيوعي، من ناحية أخرى، يتحلى بالاتصال الوثيق ببلده وبقطره وبإقليمه بل وبمدينته وقريته. وما يتميز به الشيوعي فوق ذلك إقباله على البحث والعلم. ويتسق مع حرصه على نجوع جهوده ونجاح أعماله.

نخلص من ذلك إلى أن المناضل الشيوعي إنسان عادي، شأنه شأن سائر الناس.

إن النزعة الإنسانية، المفهومة بشكل صحيح، لا تنفصل عن النضال المستمر، الذي لا هوادة فيه، ضد كل ما يعيق المجتمع الاشتراكي في حركته التقدمية، وضد كل ما يسيء إلى المجتمع والدولة.

المستقبل الشيوعي:

لنلق الآن نظرة إلى مستقبل البشر في المجتمع الشيوعي المرموق. إن الماركسية تسعى إلى نوع من تساوي الفرص، ولاسيما التساوي في المنطلق الاجتماعي.

والحق أن الماركسية تستهدف خلق مجتمع يمتاز بأن وسائل الإنتاج فيه تكون خاضعة لملكية مشتركة، لا ملكية موزعة.

والجدير بالذكر أن الشيوعية لا تتصور المجتمع الشيوعي المقبل مجتمع بحبوحة وترف وعطالة. فهم لا ينفون اتصاف مجتمع الغد باستمرار صفة النضال والكفاح. ذلك أن مسائل جديدة ستطرح فيه.

بيد أن مجتمع الشيوعيين القادم لن يتصف في رأيهم بصفة النفعية التقنية. ولذا يرى الشيوعيون أن سبيل الخلاص هو نقل الاقتصاد من اقتصاد يسيِّره مبدأ المنفعة إلى اقتصاد يخضع لمبدأ الحاجة. وبهذا الانتقال يتم التحول من نظام الضرورة والحتمية إلى نظام الحرية الواعية.

إن المجتمع الشيوعي، الذي يؤمن الماركسيون بتحققه في المستقبل ويتخذونه مثلاً أعلى، لن يكون شيئًا مطلقًا، بل يلحفون على تكاتف النتائج والوسائل ويرون أن الأساليب التي ستوطد دعائم الاشتراكية في شتى الأقطار والأصقاع ستسهم إسهامًا كبيرًا في تحديد أشكال المجتمع القادم. ولكن زوال الصراع الطبقي في المجتمع الشيوعي يطرح السؤال الآتي: هل ستزول جميع أنواع التناقض في المجتمع الإنساني؟

إن الإجابة بالنفي، فثمة تناقض سيبقى، وهو التناقض الرئيس بين الإنسان والكون. وسيتجلى هذا التناقض في المعرفة وفي العمل.

الفصل الخامس: إنسانية نيتشه

الفيلسوف الفاجعي:

يؤكد نيتشه أن فلسفته امتزجت بحياته، وأنه يتفلسف. فقد كان نيتشه شخصًا متواضعًا أطلق على نفسه لقب الفيلسوف الفاجعي الأول.

ولقد تراءى العالم والتاريخ أمام ناظريه من الزاوية الجمالية. وقد رأى أن التجربة الجمالية في عصر من العصور تكشف النقاب عن معنى هذا العصر.

مهديتا الشعر والعلم:

ولد القرن التاسع عشر في ظل نوعين من المهدية اعتبرهما الفيلسوف دليلي عجز وضعف: مهدية الحركة الإبداعية، ومهدية العلم.

ففي سنة 1848 أخذ الناس يجهرون بإيمانهم بعالم خيالي. وصاروا يستبدلون بالواقع الأسطورة. وقد أطلق نيتشه على أتباع هذه الحركة "جيل قاتلي الغول". وقد كتب سنة 1886:

ستنتهون إلى هذه النهاية ذاتها، إلى العزاء والسلوى برغم جميع جهودكم في سبب العزم والذعر، إنكم صائرون إلى العزاء على الطريقة الميتافيزيائية، أي على طريقة المسيحيين.

وهذا يعني أن النفوس التي أولعت بالخيال، وفقدت بها ميراثها في الإيمان بالأنا الراهنة المحددة، تغفل شرها الداخلي وتخترع ما تسميه "ألم العصر". هذا من حيث المهدية الشعرية. بيد أن للعصر وجهًا آخر ومهدية ثانية هو وجه العلم والعمل، ومهدية العقل والمعرفة. وقد وجد نيتشه أيضًا أن وجدان العصر مفهوم في هذا الحقل شأنه شأن الحقل السابق. فقد أخذت ظواهر المدنية تخضع لعامل الحياة الاقتصادية وتأثر إيقاع التاريخ بازدهار الاكتشافات العلمية والتقنية، وصارت نزعة التفاؤل التي كانت تسود القرن الثامن عشر، تتميز بسعيها للاستناد إلى دعائم جديدة مستمدة من ازدهار العلم ورقيه في القرن التاسع عشر. ولكن إنسان العلم قضى بنقائه وصفاته على أسطورة الإبداعية. وقد شاء نيتشه تجاوز هاتين المهديتين، ووجد أن روح العصر تكمن وراءهما، وقد حكم عليها حكمًا مبرمًا بقوله: "إنها مهزلة". فصفاء العلميين رياء، أي مهزلة شبيهة بمهزلة الصفاء الاقتصادي. ذلك أن العلم يختلس وظيفة الميتافيزياء عندما يتصدى لتحديد أسلوب الحياة ورسم الأهداف أو المثل الأعلى.

العزلة المبدعة:

صحيح أن نيتشه كان ابن العصر، ولكن يحتج على هذا العصر "لوعيه نفسه واختياره لها". يقول:

إنني وحيد منذ الآن. وأنا حذر من نفسي أشد الحذر. وعلى هذا النحو وجدتُ طريقي إلى التشاؤم، وهو في الوقت ذاته الطريق إلى نفسي، إلى رسالتي...

ولعل من الممكن تحديد محورين رئيسيين دارت حولهما تجربته في تصور الإنسانية، وهما: محور الإنسان الأعلى، ومحور الحس الفاجعي بالواقع.

اكتشف نيتشه الإنسان الأعلى عندما عاش في الذروة، وتأصل شعوره بالواقع شعورًا فاجعيًا بتأثير الجبل. فقد راق له أن تسحق الطبيعة الإنسان وعدَّ هذه الغلبة جوهر الحياة، ورأى أن ذات الحياة هي في اللاعقل، ثم انقلب بعدئذ ليتساءل عن الحياة وسبل الخلاص والنجاة. على هذا يجد نيتشه أن فكرة الألوهية "عقبة تحول دون تأكيد الإنسان ذاته. وطالما أن فوق البشر آلهة يؤمنون بها"، فلا بد من إزاحة هذه العقبة لرفع شأن الإنسان حتى يصبح هذا الإنسان ذاته أسمى الكائنات جميعًا.

نقد المسيحية:

يقول نيتشه:

إن العالم اليوناني-الروماني كان أقر لائحة قيم تساير الطبيعة وتيسِّر نماء الإنسان ورقيه. ولكن المسيحية أبدلت هذه اللائحة بلائحة جديدة تعاكس النزعات الطبيعية.

وتحكم على الإنسان بالتدهور والانحطاط. ولذا يجب نسف القيم المسيحية وإعادة القيم الطبيعية، وبهذه الثورة يفسح المجال لمجيء الإنسان الأعلى.

ولكن الحياة عنده ليست غريزة بل إرادة:

إن إرادة الحياة، أسمى إرادة وأقواها، لا تعبر عن نفسها في التنازع التعس من أجل البقاء، بل في إرادة القتال، إرادة القوة، إرادة السيطرة.

وهذه الإرادة ينبوع كل قيمة.

ينبغي لك أن تدرك ما يجري في كل حال من أحوال التقدير والتقويم. فالظلم لا ينفصل عن الحياة. وبهذا الظلم يتحور الإنسان من القيم التقليدية والقيم التي خلقها الرياء.

إن لائحة القيم تختلف من إنسان لآخر:

الإنسان هو الذي وضع قيم الأشياء ليحتفظ بذاته، وهو الذي أبدع المعاني وأسبغها على الأشياء.

الإنسان الأعلى:

إن الإنسان الأعلى، السيد المتفوق، لا يؤمن بما يفرض عليه، لأنه هو الذي يمنح العالم، ويمنح الحياة، في كل عصر، قيمتها الخاصة. الإنسان الأعلى مبدع القيم. ولا يبدع القيم غيره. الأخلاق من صنعه ونتاجه. وإن معادل الواجب هو "حق الأقوياء الأصحاء".

إن سبيل نيتشه هي سبيل العنف. والعنف عنده تمرد. إنه وثنية جديدة، وثنية الإنسان المحارب، الإنسان المتفوق الأعلى: "إن الإنسان الحر محارب".

إن الفكر الحر عنف. والعنف أداة تجاوز. وكل شخص إنساني ابتكار. وما الحقيقة نفسها إلا مشروع دائم لوجود يرصد ذاته. إنه بطل إرادته. وإرادته إرادة القوة والابتكار.

العود الأبدي:

إن زمان الوجود دورات، لا اختلاف بينها، تتكرر في الزمن اللانهائي. ومن شأن هذه الفرضية أنها تفسح المجال لفاعلية الإنسان الأعلى، وتفتح أمام إرادته المتسلطة آفاقًا واسعة لا يحصرها حد. "وعلى البشر أن يستعجلوا الغد، ويجتازوا إلى المستقبل ألف جسر وألف طريق".

الفصل السادس: إنسانية سارتر

تجربة التمقس:

اعترف سارتر بأنه استقى من معين هيديجر شيئًا كثيرًا. ولكن أصالته ما لبثت أن تدفقت بدقة وغزارة منذ كتابه التمقس، وهو قصة بعيدة البعد كله عن عالم الوهم والخيال. وتتجلى أصالة هذه القصة العميقة في أنها تظهر لنا ولادة تجربة يشعر بها صاحبها شعورًا بسيطًا في بادئ الأمر، ثم يزداد وعيه بها حتى يعترف بها اعترافًا تامًا قويًا، وينتهي الأمر بأن تكتسب التجربة سلطانًا قاهرًا يسيطر على وجدان صاحبها الذي عاشها فيتكون بذلك منها شيء حقيقي على نحو ما.

إن تجربة التمقس تتصل بتجربة المائع ولا نقول السائل، لأن المائع قد يتحول إلى عجين لزج فيكتسب بذلك نوعًا من تجمد لين. وفي ثنايا هذا القصور ما يثير القرف، الذي يتحدث عنه سارتر، الذي يشعر به بعض الناس. من الصعب أن نعرب عن تجربة كهذه التجربة بلغة الأفكار. ولا ريب في أن مبدأ التمقس يصدر من فقد الإطار وانعدامه.

معنى الوجود:

ترى هل يصح تلخيص ما تقدم بقولنا إن الإنسان يدرك وجوده على أساس أنه فريسة للوجود؟ يقول سارتر:

الأفكار، ما أتفه طعمها. إنها باهتة إلى أبعد حد. ومن ثم توجد الكلمات ضمن الأفكار. إن الأفكار أسوأ من سائر الأشياء لأنني أشعر بأنني مسؤول عنها، وبأنني شريك في إثمها.

ليس الوجود إذن بوجود تام صميمي بل هو جواز عابث، وإمكان جذري لا جدوى له. يقول سارتر:

لقد كنا كتلة من الكائنات نبرم بوجودنا، ونضيق ذرعًا بنفوسنا، لم يكن ثمة سبب لوجودنا، ولا وجود الآخرين.

العبث الوجودي:

يقول غابرييل مارسيل:

ذاكم هو الإشراق السلبي، وإن كلمتي الإشراق السلبي تسيطران في فلسفة سارتر وتستوليان على فكره. وإذا كان الإشراق سلبيًا فلا مناص من أن تنتهي الفلسفة إلى العدمية.

وقد انطلق سارتر من الكوجيتو الديكارتي، ورأى أن الشعور لا يدل على الموجود وحسب، بل إنه دائمًا شعور بشيء. وإنما يدرك الإنسان نفسه على أنه "موجود في العالم"، وما هو العالم ذاته إلا كما يبين للوجود الواعي المدرك. وقد ميز سارتر الموجود "في ذاته" وهو الموجود الواقعي، عن الموجود "لذاته" وهو الشعور.

الحرية المبدعة:

لقد حُكم على الإنسان بأن يكون حرًا. حُكم عليه بإبداع وجوده إبداعًا متجددًا أصيلاً دائمًا. ألا أن الإنسان يبدع القيم. ولولا حرية الإبداع لبطل العمل، وفقد الاعتبار الخلقي.

يقول سارتر:

نحن نريد الحرية للحرية ذاتها، وخلال كل ظرف خاص. ونحن إذ نريد الحرية نكتشف أنها تتوقف بكاملها على حرية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقف على حريتنا.

وينتج عن ذلك أني حينما أعترف بأن الإنسان كائن يسبق وجوده ذاته، وأنه كائن حر لا يستطيع في مختلف الظروف إلا أن يريد حريته، فإنني أكون قد اعترفت في الوقت نفسه بأنه ليس بإمكاني إلا أن أريد حرية الآخرين.

الوجودية إنسانية:

ويذكر سارتر في الوجودية هي إنسانية:

إن لكلمة إنسانية معنيين مختلفين كل الاختلاف. فقد تقصد بكلمة إنسانية نظرية تتخذ الإنسان غاية، وتجعل منه قيمة سامية. وقد نقصد أن الإنسان موجود أبدًا خارج نفسه، وأنه يحقق وجوده بارتمائه هذا وضياعه خارج نفسه. ومن ناحية أخرى، فهو يتمكن من الوجود بنزوعه إلى غايات متعالية سامية. فلا يوجد عالم غير العالم الإنساني، عالم الذاتية الإنسانية.

هذا إذن درب الوجودية من ذاتية الإنسان الفرد إلى إنسانية التحرر والتحقق الشخصي الخاص.

الفصل السابع: الإنسانية والعلم المعاصر

الثورة العلمية:

آمن الباحثون إيمانًا مغرقًا بالعلم، وبحث الناس معهم "إنسانية العلم". والحق أن من النافع أن يعيد الباحثون النظر في مفهوم الإنسان بين الفينة والفينة ويأخذوا باعتبارهم الوقائع الراهنة، والمتغيرات الطارئة. ونحن سنقتصر على بعضها ونبحث خاصة في تقدم العلوم الطبيعية بل الفيزيائية.

لقد أصابت الفيزياء تقدمًا عظيمًا، وصارت إلى تجدد واسع وعميق يتناول أسسها ومبادئها وأصولها وأطرها الفلسفية. وقد استطاع العلماء غزو العالمين: اللانهائي الكبر واللانهائي الصغر.

كتب غاستون باشلار: على الفكر العلمي برمته أن يتبدل حيال تجربة جديدة. وكل مقالة في الطريقة العلمية ستكون دائمًا مقالة ظرف ولن تصف بنية نهائية للفكر العلمي. ولم يتردد أندره جورج في أن يصف تقدم المعرفة العلمية بأنه ثورة جامحة أظهرت ضيق سبل المعرفة القديمة. واختتم العالم الفيزيائي سميث تقريرًا شهريًا وضعه في برنستون بقوله إن الحضارة ستحصل في يوم قريب على وسيلة تمكِّنها من الانتحار إذا شاءت. وصرح آينشتين بأن ثلثي النوع البشري صائر إلى الهلاك في المرة القادمة.

بيد أن اشتداد الأزمة إنما يشكل حافزًا أقوى يدفع البشرية إلى تحديد موقف جديد. لقد ألف مؤرخو الفلسفة البحث في تطور الفكر البشري، ولكنهم لم يألفوا البتة بحث طفرات مباغتة عميقة كالتي عرفتها البشرية في تطورها الحاضر.

العلم والأخلاق:

تساءل لوي دوبروي عن مزج العلم بالأخلاق وعما يخرج عن طبيعة العلم. وقد يقال إن العالم الحقيقي يثق بنفسه ويعلم أنه لا يشرف بسمة العلم إلا إذا كان شخصًا مسالمًا، وعمل في سبيل السلم. بيد أن هذا التصور ليس بمتحقق على الإطلاق. فعلم العالم لا يسلخ عنه اتصافه بأنه بشر مثل سائر الناس. وماذا يضمن امتناع العالم عن العمل لغير صالح السلم؟

وقد سبق أن انتقد باستور مفهوم العلم التطبيقي بقوله: "لا يوجد علم صرف، ولا علم تطبيقي. بل يوجد العلم وتطبيقات العلم". ولكننا لا نقرُّ اليوم هذا الرأي، فهما يمتزجان ويختلطان ويتحدان. ولعل قصة القنبلة الذرية أكثر غرابة وأشد إعرابًا عن هذا الواقع الذي يدني النظر من العمل.

يتضح إذن أن العلم النظري صار قادرًا على التأثير المباشر في الواقع الراهن، فليس لنا بعد اليوم أن نفصل فتحًا علميًا عن فتح تطبيقي في ميادين النظر والعمل. وعلى هذا النحو قولنا إن تقدم العلم قد يقدم للبشرية شيئًا آخر غير وسيلة انتحارها. فالعلم أرقى إنتاج الفكر البشري.

انتحار الحضارة:

إن المشكلة الرئيسة التي تواجه البشر منذ الآن هي مشكلة الاختيار: فإما حسن وفضل، أو قبح وسوء وشر. وما أشبه الإنسانية اليوم بمثل هذا الإنسان. إن العلماء يقدمون للبشرية هدية ذات وجهين: السلم أو الحرب. وذلك رهن باختيار الإنسانية مصيرها.

كتب جورج باستيد:

إن للعلم وظيفة قديمة تمثل في زيادة وضوح الضمير عن طريق معرفة موضوعية قوامها النية السليمة. وبهذا المعنى، يتمتع العلم بوظيفة تمدينية رئيسة. والطريق إلى الإنسانية والتمدين هي طريق زيادة التفاهم بين الناس، أي طريق تقدم الضمير وسيادة الوجدان. إن العلم بلا وجدان يهدم الروح.

الفصل الثامن: الإنسانية والمجتمع الدولي

مراتب الإنسانية:

آمن باحثون كثر بأن الإنسان أشرف الموجودات في العالم الكوني. هو مقياس الأشياء جميعًا، لأن الأشياء كلها إنما تستمد من الإنسان-القيمة-الغاية القصوى منزلتها ومنحى نشاطها ومغزاه.

بيد أن فيلسوفًا من طراز مسكويه يرى أن للبشر مراتب ثلاثًا: أولها مرتبة الإنسان عامة، ثم مرتبة كل فرد من الناس وأخيرًا مرتبة خاص الخاص. وهذا التمييز يرجع إلى أن الناس يتفاوتون في اتصافهم بالإنسانية، وأن بعضهم أكثر إنسانية من بعض.

وقد حسب بعض أعلام الفكر الغربي أن النزعة الإنسانية نزعة مستهدفة، وهي عندنا مطمح إنساني موصول، وادعى هيدجر أنها نظرة جمالية-أخلاقية ظهرت بدءًا من ديكارت، وأنها تفسر قيمة كل كائن انطلاقًا من الإنسان، وبالاتجاه نحوه.

التفاوت والتماثل:

وقد درج الباحثون على تمييز واجبات أخلاقية – ثم حقوقية – تترتب على الإنسان من حيث صلاته بالآخرين. والحق أن الناس يتفاوتون من مناح شتى على الصعيدين الفيزيائي والمعنوي. ولا يستطيع أنصار مساواة الناس بعضهم بعضًا سوى الاعتراف بهذا التفاوت.

بيد أن تفاوت أفراد العرق الواحد، والتفاوت الجسدي وحسب بين مختلف العروق الإنسانية، لا يسوِّغ التمييز العرقي أو التمييز العنصري، بل هو حافز قوي يشحذ المطلب الأخلاقي الأمثل الذي يدعو إلى عدِّ المساواة الإنسانية مبدءًا لا يطاله الدحض، وبناء علاقات البشر أفرادًا وشعوبًا وأممًا ودولاً على أساسه.

وينجم عما سبق أن الإنسان، كل إنسان، جدير بالاحترام، وأن مبدأ كرامته الإنسانية يوجب الاعتراف بأن له حقًا بكل ما هو ضروري لبلوغ غايته بوصفه كائنًا عاقلاً حرًا.

الجماعات الحضارية:

فإذا نظرنا إلى العلاقات الإنسانية من الزاوية المجتمعية ألفينا أن خير وسيلة إحسان إلى الناس هي تحسين جماعاتهم، على اختلافها، بجماعات أوسع هي جماعات حضارية يضمها مفهوم المجتمع الإنساني الذي ينجب معنى الحياة الدولية والمجتمع الراشد.

ويرى باحثون أن الرواقيين قد عُنوا بإبراز قرابة البشر كافة من قبل أن تدعو المسيحية إلى عدِّ الناس أبناء الله، وأن يدعو الإسلام إلى عدِّ الناس كافة أخوة في الإيمان.

كتب سينيكا في رسالة بعثها إلى لوسيلوس حول تعليم الأخلاق إلى الآخرين، وسعى فيها إلى صرف انتباهه عن مسعى تعداد الواجبات جميعًا، فقال:

من الأسرع أن نحمل إليه الأخلاق كل الأخلاق في الصيغة التالية: كل ما تراه منطويًا على الإنساني والإلهي فهو واحد.

المجتمع الشامل:

دعا وودروويلسون إلى إقامة مؤسسة راهنة حملت اسم عصبة الأمم ولم يكن لها سوى كيان حقوقي فلم يكتب لها الاستمرار لقصورها في آخر الأمر عن تلبية مطلب الوجدان الإنساني العالمي.

إننا نعلم أن مجتمعًا لا يوجد إلا بوجود علاقات، ونمو هذه العلاقات، كمًا وتنوعًا وسرعة، مضى بالمجتمع الإنساني نحو مرحلة تنظيم دولي.

لقد تضاءلت المسافات التي تفصل مختلف البلدان والأقاليم، وكذلك تضاءلت الفوارق المعنوية والأخلاقية بين البشر وما تزال. وعلى هذا النحو تألف من علاقات البشر بعضهم ببعض مجتمع ندعوه المجتمع الإنساني أو المجتمع الكلي.

الكرامة الإنسانية:

وبديهي أن مثل هذا الواقع الحقيقي الجديد يوجب وعيًا متجددًا بالكرامة الإنسانية الجمعية. إن الواجبات نحو المجتمع الإنساني هي واجبات الكرامة المنطلقة من أن للناس قاطبة غاية أخلاقية ينبغي تحقيقها، وأن للإنسانية بأسرها كذلك غاية تستقي منها حقوقًا، والحقوق تفرض الواجبات.

غير أن فارقًا أساسيًا يميز الواجبات المترتبة تجاه المجتمع الإنساني وهي أنها واجبات تقع على عاتق الأمم والدول بأكثر منها على الأفراد. وهذه الفكرة كانت طماح عصبة الأمم، وغرضها الذي سعت إليه ولم يكتب لمحاولاتها النجاح كله.

التعاون الدولي:

أشرنا إلى أن مفهوم الكرامة الإنسانية ينبوع النزعة الإنسانية بل والإنسانوية. وهذه الكرامة إنما تتحقق بأنماط السلوك الراهن. وهذا السلوك المتجه إلى المجتمع وإلى الآخرين يتفاعل والشعور بالعدالة ويستلزم إبداع قواعد اجتماعية، ومؤيدة بالجزاء. كذلك نجد أن أمة من الأمم تتبع أممًا أخرى، فثمة علاقة وثيقة تربط كل أمة بسواها.

هناك نقطة أساسية تلتقي فيها القواعد الأخلاقية بالقواعد الحقوقية، ألا وهي اشتراكهما في التطلع الأمثل إلى ما ينبغي أن يكون. إن الدولة لا تتميز من حيث هي دولة إلا بالإضافة إلى مجتمعات دولية تقيم بينها علاقات حقوقية تتطلع كلها إلى بلوغ المجتمع الإنساني الموحَّد، مجتمع المدنية الشاملة التي تضم جوقة الحضارات وتنسق أنغامها المتلاقية.

الفصل التاسع: مثالب الحضارة

التقويم الحضاري:

إن لمصطلح الحضارة دلالات شتى يمكن إدراجها كلها تحت إحدى المقولتين الآتيتين: الأولى تقول بوجود ثقافات قومية متعددة وحضارة إنسانية واحدة، والثانية تقول بوجود حضارات إنسانية، فقد عدد توينبي ما يقرب من عشرين حضارة إنسانية، ويحرص المفكر معن زيادة على دقة رأيه إذ يقول:

أن كلمة حضارة Civilization التي ظهرت في القرن التاسع عشر تستخدم بمعنى أوسع من كلمة عمران civility، والتي تعود إلى ابن خلدون، وكلمة تمدن Urbanity التي فضلها جرجي زيدان، بينما ظاهرة الحضارة أوسع من أن تقتصر على هذه المرحلة المتأخرة من تاريخ الإنسان الحضاري.

وصفوة ما انتهى إليه البحث هو أن تفرقة المادي والعقلي تزول لمصلحة هذا المفهوم الأوسع للحضارة. لقد ميز المفكرون الألمان الحضارة عن الثقافة ورأوا أن الحضارة تقتصر على الإنجازات التقنية والمعرفة العلمية الموضوعية التي يمكن قياسها قياسًا كميًا والتي تنتقل من جيل إلى جيل، في حين أنهم جعلوا الثقافة تشتمل على المعرفة الذاتية غير الوضعية كالديانات والفلسفة والفنون. أما الأنثروبولوجيون الأمريكيون فإنهم يرون أن الثقافة أوسع من الحضارة، لأن الثقافة هي نمط أو طريقة الحياة في المجتمع. يتضح إذن أن هذا المفهوم الأنثروبولوجي الأمريكي للحضارات وللحضارة لا ينفي الدور القومي في الحضارة، وأن خصوصية الحضارة لا تتعارض مع شموليتها.

الشمولية والخصوصية:

ألحف الأنثروبولوجيون الأمريكيون إصرارًا على نظرتهم إلى مفهومهم عن الحضارة والثقافة. وجميعهم يرون أن الثقافة جماع شامل المواقف والأفكار وطراز السلوك المشتركة بين أفراد المجتمع.

بيد أن القول الفصل لم يك قول هؤلاء العلماء والباحثين. ونحن سنعرض الآن بعض آراء مخالفة في مجال الحضارة والمدنية مرورًا بمفهوم الثقافة.

يرى رشيد مسعود أن المدنية اسم يطلق على نمط الحياة في المدينة، مع كل ما يستلزمه هذا النمط من الإنشاءات المادية والفكرية والتنظيمية وكل ما ينجم عنه من علاقات وتراكيب لا تعرفها حياة الترحل أو حياة الريف. يقول: الحضارة تعريفًا، هي مجمل الظواهر الاجتماعية الموعاة، سواء المكتسبة بالثورات والتواصل التلقائيين أو بالابتكار الهادف.

إن خاصية المدنية الرئيسة أنها تمثل المجموعة الفعالة من عناصر الحضارة. وتتميز بطابع عقلاني وآخر حركي بإزاء اتصاف الحضارة بأنها مظهر سكوني. وتتجاوز الحضارة من جراء اقتصار الحضارة على أمة واحدة. وينتج عن ذلك أن المدنية في بيئة مجتمعات ذات حضارة معينة إنما تكون أحد قطاعات هذه الحضارة. وبتعبير أدق: المدنية هي عنصر التوافق بين الحضارات المختلفة.

جدل الحضارة:

إن فاعلية التحضر أو التمدن فاعلية واحدة نجدها حيثما تتوافر أمور كسبية صنعها البشر، وأمكن عزوها إلى الإنسان. فكل حادث، وكل موضوع، من حوادث الحضارة والمدنية يحمل طابع الإنسان ويعكس صدى تدخله الجاهز والغابر مع تطلعه إلى مستقبل الإنسان ولو لم يتميز هذا التطلع بالجلاء.

أما المدنية فإنها ذلك الجهد الإنساني المشترك الذي يبدع الحضارات ويحقق الحضارة العامة. المدنية في لغة القيم، جهد عالمي يتوخى تحقيق مصير الإنسان. وهي التي تجعل الطبيعة، بوساطة الثقافة، أخلاقًا. وليس بخاف أن للمدنية بوصفها قيمة عليا ضدًا متميزًا بالسوء الأقصى وهو الوحشية أو الهمجية. والوحشية هي هذا الوجه من الفاعلية الإنسانية التي بها ينفي الإنسان مطلب التمدن فيستغل الثقافة في منحى نفي الضمائر.

الفصل العاشر: الثقافة والثقافة المضادة

ثقافة الفرد وثقافة الأمة:

إن الثقافة في أعم تعريفاتها إعراب عن الحياة، وصلة الوصل بين الطبيعة والأخلاق. إذ هناك رأيان أحدهما يرى أن الثقافة هي كل ما يميز الإنسان عن غيره ويجعله إنسانًا، والآخر يرى أن الثقافة هي كل ما يميز شعبًا عن سواه. الثقافة إذن طريقة الشعب في الحياة بما تشتمل عليه حتى مما يتصل بالطعام والشراب والسكن والأثاث والفراش والأقاصيص والأمثال والحكم وتنظيم الأسرة وعلاقة أفرادها بعضهم ببعض أو علاقتهم بالمجموع، أسرة واحدة لها كيانها، وعلاقة المجموع بها متمثلاً في جماعة ذات نظام اجتماعي وتكوين فكري خاص بها. وهذه الثقافة تتكون للشعب على مرِّ الأجيال. فالشعب لا يصنع ثقافته واعيًا، وإنما هي تصنع وتتكون من تلقاء نفسها أثناء تجارب الشعب الطويلة في الحياة.

التغير الثقافي:

كاد معنى الثقافة أن يعمَّ كل المسالك في كل الممالك. وافترقت ثقافة نخبة عن ثقافة عامة، أو عامية، وربما وصفت بأنها شعبية، وهي ثقافة موجهة بوسائل شتى أنجعها وسائل الإعلام. المثقف الفرد هو العاقل المثقف، وهو خادم المجتمع القادر على تجاوز ذاته والعمل على تغيير المجتمع وتطويره وتقدمه. أما ثقافة الفرد، بل ثقافة نخبة الأفراد، فهي موئل جميع أشكال التغير. هم الذين يحققون لأممهم تقدمًا، ولشعوبهم تحسنًا.

العقائدية:

العقائدية جملة القناعات والتعابير الرمزية التي تتيح عرض فكرة عن الوجود وتقويمه وتأويله بحسب أنموذج معين. وهي تصلح لتوجيه بعض الأفعال بالحض عليها والامتناع عن سواها مثلما تصلح تسويفًا.

وفي أيامنا هي من أكثر المقولات ذيوعًا، وأشدها غموضًا. وتحت لوائها تلتقي مناقشات جمة تتفاعل فيها إمكانات الخطأ والصواب، إن لم تكن هذه الإمكانات في آخر المطاف حصيلة اختيار، مجرد اختيار. وقد كره ماركس هذا المفهوم ووجبت الدعوة، من ثم، إلى الاستبصار الثقافي في مجاله شأن الحال في سائر المجالات.

المستقبلية:

أما المستقبلية فإنها نزعة شغف إنساني قديم موصول. فما برح الإنسان ينظر في غده ويسعى إلى تدبر شؤون مصيره. وقد وعى هذا النشاط بصيغة علمية أو شبه علمية باسم الفكر المستقبلي أو العلوم المستقبلية. وانصرفت إليه مؤسسات وأجهزة ومراكز بحث من جهات متنوعة ولأغراض اجتماعية وسياسية واقتصادية إن لم نقل علمية بالمعنى الدقيق.

ثقافة أوقات الفراغ:

هو مفهوم الوقت الحر أو وقت اللاعمل الذي اصطلح على تسميته بلفظ وقت الفراغ. وهو يعرب عما واكب الثورة الصناعية المعاصرة من تنظيم اجتماعي يصطرع فيه مع مطلب الاستجمام المرموق في غير ساعات الالتزام بالعمل والإنتاج. ذلك أن حرية الأفراد باتت محل عناية المجتمع، وشاع التساؤل عن أفضل السبل للإفادة من أوقات الفراغ. وقد وجد إدغار موران "أن قيمة العطلة بعطلة القيم" وارتبط تقويمه جدليًا بتبادل واقعي العمل والفراغ من العمل.

الثقافة المضادة:

لقد اصطلحت عبارة الثقافة المضادة للدلالة على جملة التيارات الفكرية والحركات أو التنظيمات المعاصرة التي ظهرت في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وهي تضم صنوف المعارضين الرافضين للحضارة الراهنة بما تنطوي عليه من قيم ومعايير تؤدي إلى قمع وقسر يرفضهما الهامشيون والمنبوذون أو المحتجون.

والثابت في الأمر أن الثقافة المضادة ترعرعت في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي لا تتخذ عدوًا محددًا لها، لأن الرفض يستفز الطوباويات. وهي ثقافة موازية حين تعارض قيمًا بقيم. وتتوجه بالنقد إلى مقولات الممارسة الاجتماعية والحدود التي تفصل السوي عن المرضي، والشرعي عن المحظور.

الخاتمة:

على الرغم من اتساع هذا العرض والتلخيص الذي قدمناه للكتاب، إلا أنني أشعر بأن الكتاب لم يأخذ حقه. فحجم الكتاب وتعدد فصوله وفقراته حال بيني وبين أفكاره. وقد حاولت جاهدًا الإحاطة. على أن يكون هذا التقديم حافزًا لقراءة الكتاب بكليته. وبخاصة أنه يقدم مفاتيح مفهومية واصطلاحية طالما استخدمناها في أبحاثنا دون تحديدات دقيقة، والوقوف عليها يتيح لنا إنجاز مفاهيمنا المعرفية بشكل أفضل.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ محمد سليمان حسن: باحث من سورية، عضو اتحاد الكتاب العرب. عضو جمعية البحوث والدراسات. من مؤلفاته: دراسات في الفلسفة الأوروبية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود