الخبرة مع الله٭
رسالة إلى جو بوسكيه[1]

 

سيمون ﭭـايل

 

صديقي العزيز،

بادئَ ذي بدْء، شكرًا أيضًا على ما فعلْتَه من أجلي منذ وقت قريب. إذا كان ذلك ناجعًا، كما أتمنى، فسيكون قد حصلَ ليس من أجلي ولكنْ من أجل آخرين من خلالي، من أجل إخْوةٍ لكَ شبابٍ لا بدَّ أنهم عزيزون جدًا عليكَ، يجمعهم مصيرٌ واحد. سيكون بعضهم مَدِينين لكَ ربما، وهم على أعتاب اللحظة الأخيرة، بعذوبةِ تبادُلِ النظرات.

لديكَ من بين الجميع هذا الامتياز بأنَّ الحالةَ الراهنة للعالَم هي واقع حقيقي في نظركَ. كذلك الأمر أيضًا ربما في نظر من يَقتُلون في هذه اللحظة ويموتون، يَجرحون ويُجرحون، ولا يعرفون، أمام دهشتهم، أين هم ولا ماذا يحلُّ بهم، الذين ليس لديهم، كما كان حالُكَ بالأمسِ، أفكارٌ عن هذا الواقع. وفي نظر الآخرين جميعًا، أُناسِ هذا البلد مثلاً، فإنَّ ما يجري هو كابوسٌ مشوَّشٌ عند البعض القليل جدًا، وهو عند الغالبية قماشُ خلفيةٍ غيرِ واضحٍ، ديكورُ مسْرح، وفي الحالتَين لاواقع.

أنتَ، منذ عشرين عامًا أعدْتَ صياغةَ هذا القدَرِ عن طريق الفكر، هذا القدَرِ الذي استولى على كثير من الناس وتركَ كثيرًا منهم، والذي استولى عليكَ إلى الأبد، والذي يعود الآن يستولي من جديد على ملايين البشر. أنتَ الآنَ، أنتَ، مستعد للتفكير به. أو إنْ لم تكنْ مستعدًا بَعْدُ تمامًا – وأعتقد أنكَ غير مستعد – فلن يبقى لديكَ على أي حال سوى قشرةِ بيضةٍ ينبغي كسرُها للخروج من ظلمات البيضة إلى نور الحقيقة، وينبغي عليكَ أصلاً الضربُ على القشرة. إنها هذه صورةٌ قديمة جدًا. البيضةُ هي هذا العالَمُ المرئي. والفَرْخُ هو المحبة، المحبة التي هي الله نفسُه والتي تسكن في عمق كل إنسان، كبذرة في البدء غيرِ مرئية. عندما تنكسر القشرةُ ويخرج الكائنُ، يكون هذا العالَمُ نفسُه موضوعَه أيضًا. ولكنه لم يعدْ في داخله. لقد انفتح الفضاءُ وتمزَّق. وانتقلَت الروحُ تاركةً الجسدَ البائسَ مهمَلاً في مكانٍ ما، إلى نقطة خارج الفضاء ليست جهةَ نظر وليس فيها زاويةُ رؤية ولا أفق، منها يُرى هذا العالَمُ المرئيُّ رؤيةً حقيقية. أصبحَ الفضاءُ، قياسًا لما كان عليه في البيضة، لانهايةً إلى القوة الثانية أو بالأحرى إلى القوة الثالثة. اللحظة الآنية لا تزال. وكلُّ الفضاءِ مليءٌ بصمتٍ كثيفٍ وإنْ كانت هناك أصواتٌ تُسمَع، ذلك الصمتِ الذي ليس غيابًا للصوت، والذي هو موضوعٌ يقينيٌّ لِلْحِسِّ، أكثرُ يقينيةً من الصوت، والذي هو الكلام السرِّي، كلامُ المحبة التي تحتضننا بين ذراعيها منذ البدء.

أنتَ، ما إنْ تصبح خارج البيضة، ستعرفُ حقيقةَ الحرب، أثمنَ حقيقةٍ يمكن معرفتها، لأنَّ الحرب هي اللاحقيقةُ ذاتُها. ومعرفةُ حقيقةِ الحربِ هي التناغم الفيثاغوري ووحدةُ الأضداد، هي تمام معرفة الواقع. لذلك فأنتَ محظوظ جدًا، لأنَّ لديكَ الحربَ تسكن بصورة دائمة في جسدكَ، وتنتظر بإخلاص منذ سنوات حتى تنضجَ لكي تتعرَّفَ عليها. لم يكن لدى الذين سقطوا قتلى في النضال إلى جانبكَ الوقتُ لكي يَردُّوا أفكارَهم الطائشة التائهة إلى مسار قدَرهم. وجميعُ الذين رجعوا سالمين قَتلوا بالنسيان ماضيَهم، حتى وإنْ تظاهروا بالتذكُّر، لأنَّ الحربَ بلاءٌ، وسهولةُ توجيه الفكر طوعًا نحو البلاء كسهولة إقناع كلبٍ، دونما ترويضٍ سابق، بالمشي فوق حريق حتى يحترقَ ويتفحَّم. للتفكير في البلاء، لا بدَّ مِن تحمُّلِه في الجسد، وهو ينغرز بعيدًا جدًا، كمسمار، ولا بدَّ مِن تحمُّلِه وقتًا طويلاً، حتى يتسنَّى للفكر أنْ يصبحَ أقوى كي ينظرَ إليه. ينظرُ إليه من الخارج، بعد أنْ يتوصلَ إلى الخروج من الجسد، وحتى من النفْس بمعنىً ما. فلا يبقى الجسد والنفْسُ مخترَقينِ فحسبُ، بل مسمَّرانِ أيضًا في مكان ثابت. فسواء فرضَ البلاءُ الثباتَ فعلاً أم لا، هناك دائمًا ثبات إجباري بمعنى أنَّ جزءًا من النفس يلتصق بالألم دائمًا، باستمرار، بصورة لا انفصال فيها. إذْ يمكن، بفضل ذلك الثبات، لبذرة الحب الإلهي المتناهية في الصغر والملقاة في النفْس، أنْ تنموَ على مهلها وتحملَ ثمارًا بالانتظار، أُنْ إيـﭙوميني en hypnomenê [بالتجلُّد أو بالتحمُّل]، بحسب عبارة الإنجيل الجميلة جمالاً سماويًا: en hypnomenê. نترجمها بعبارة بالصبر[2] in patientia، ولكنَّ كلمة hypoménein [التحمُّل أو التجلُّد] شيء آخر مختلف تمامًا. ذلك يعني أنْ يبقى المرءُ في مكانه، ثابتًا، متربِّصًا دون أنْ تُزَحْزِحَه أو تحرِّكَه أيةُ صدمة من الخارج.

طوبى لمن يكون بالنسبة لهم البلاءُ الذي دخل جسدَهم بلاءَ العالَم نفسِه في عصرهم. فلدى هؤلاء إمكانيةُ ومهمةُ التعرُّف على بلاء العالَم في حقيقته وتأمُّـلِه في واقعه. وهنا تكمن مهمة الفداء نفسها. فمنذ عشرين قرنًا، كان بلاءُ العصر في الإمبراطورية الرومانية هو العبودية التي كان الصلبُ نهايتَها القصوى.

وتبَّـًا لمن توْكَل إليهم هذه المهمةُ فلا يؤدونها.

عندما تقول أنكَ لم تدركْ التمييزَ بين الخير والشر فهذا الكلام غير جدِّي إذا ما حمَلْناه على محْمَل حرفي. ذلك لأنكَ تتكلَّم عن إنسان آخر فيكَ، وهو الشرُّ فيكَ بالتأكيد؛ وأنتَ تعرف جيدًا – وفي حالات الارتياب يمكن لفحص دقيق، في أغلب الأوقات على الأقل، أنْ يؤدِّيَ إلى المعرفة – ما يغذِّي هذا الآخرَ على حسابكَ في أفكاركَ وأقوالكَ وأفعالكَ وما يغذِّيكَ على حسابه. ما تريد قولَه هو أنكَ لم توافقْ بعدُ على الاعتراف بهذا التمييز كتمييز بين الخير والشر.

هذه الموافقةُ ليست بالسهلة، لأنها تربط إلى الأبد. هناك نوع من عذرية النفْس إزاء الخير والتي لا تستعاد ثانيةً، ما إنْ أُعطيَت الموافقةُ، لا هي ولا عذريةُ المرأة بعد أنْ تستسلم لرجل. فهذه المرأةُ يمكن أنْ تصبحَ خائنةً أو زانيةً، ولكنها لن تصبحَ عذراءَ "حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخياط"[3]. ولذلك تخاف المرأةُ قبل أنْ تقولَ نَعَمْ. المحبةُ تنتصر على هذا الخوف.

هناك لكل كائن إنساني تاريخ لا يعرفه أحدٌ ولا حتى هو قبل كل شيء، ولكنه محدَّد بدقة، لا يمكن للنفس بَعدَه أن تحتفظَ بهذه العذرية. فإذا لم توافق قبل هذه اللحظة الدقيقة المحددة منذ الأزل على أنْ تُشغَل بالخير فستُشغَل رَغْمَ أنفِها بالشرِّ بعد هذه اللحظة مباشرةً.

يمكن للإنسان في أية لحظة من حياته أن يستسلم للشر، لأننا نستسلم له عن غير وعي منا ودون أن نعرفَ أننا نُدخِلُ في أنفسنا سلطةً خارجية؛ فالنفس تشرب مخدِّرًا قبل أنْ تتخلَّى له عن عذريتها. ليس ضروريًا أن يقول المرءُ نَعَمْ للشر حتى يتملَّكَه الشرُّ. ولكنَّ الخيرَ لا يشغل النفسَ إلاَّ إذا قالت له نَعَمْ. وتصل الخشيةُ من اتحاد الزفاف إلى درجة أنه ما من نفس تمتلك القدرةَ على قول نَعَمْ للخير طالما أنَّه لا يستعجلها بصورةٍ مُلِحَّة القربُ شِبْهُ الوشيكِ للَّحظة القصوى التي يتحدد فيها مصيرُها من الأزل. وهذه اللحظةُ القصوى قد تكون في سن الخامسة عند بعض الناس وفي سن الستين عن بعضهم الآخر. من جهة أخرى، ليس ممكنًا تحديدها لا قبل اجتيازها ولا بعده، لأنَّ هذا الخيار الفوري والأبدي لا يبدو إلاَّ منكسرًا عبْر [موشور] الدهر. لا يعود لِلَّحظةِ القصوى من وجود عند من يستسلمون للشر قبل الاقتراب منها بزمن طويل. أقصى ما يمكن أنْ يفعلَه الكائنُ الإنسانيُّ هو أنْ يحافظَ في داخله على سلامة ملَكةِ قولِ نَعَمْ للخير إلى أنْ يكونَ منها قابَ قوسينِ أو أدنى.

يبدو لي أكيدًا أنَّ اللحظة القصوى الخاصة بكَ لم تأتِ. ليس لدي سلطةُ سبْر خفايا القلوب، ولكنْ يبدو لي أنَّ هناك علاماتٍ تدل على أنها لم تعدْ بعيدة. أَجَلْ إنَّ ملَكة الرضا لديكَ سليمةً.

أعتقد أنكَ بعد أنْ تَرْضى بالخير ستكسرُ البيضةَ، بعد فترة معيَّنة ربما، ولكنها قصيرة بلا شك؛ وفي اللحظة التي ستصبح فيها في الخارج، ستكون مغفورةً هذه الرصاصةُ التي دخلَتْ مركزَ جسدِكَ يومًا ما، وسيكون مغفورًا بها كلُّ الكون الذي كان قد أطلقَها.

للعقل دَورٌ في إعداد موافقة الزفاف مع الله. ألا وهو النظر إلى الشر الذي في نفوسنا وكُرْهُه. ليس المقصود محاولةَ التخلُّص منه، [بل] تمييزُه ببساطة، والاستمرارُ، حتى قبْلَ قولِ نَعَمْ لنقيضِه، في التحديق به تحديقًا كافيًا للشعور بالنفور.

أعتقد أنَّ أصْـلَ الشرِّ، عند الجميع ربما، بل عند من أصابهم البلاءُ بصورةٍ خاصةٍ، وخاصةً إذا كان البلاءُ بيولوجيًا، إنما هو حُلُم اليقظة. إنه العَزاءُ الوحيد، غِنى المُبْتلَينَ الوحيدُ، العونُ الوحيد لحمل الثقل الرهيب للزمن؛ عونٌ بريء؛ لا غنى عنه على أي حال. فكيف يكون ممكنًا الاستغناءُ عنه؟ ليس له سوى سيئةٍ واحدة، هي أنه غير واقعي. وعزوفُ المرء عنه حبًا بالحقيقة يعني حقًا تَخلِّيَه عن جميع ممتلكاته بدافع جنون الحب واتِّباعَ من كان الحقَّ بذاته. ويعني حقًا حَمْـلَ المرءِ صليبَه. الزمن هو الصليب.

لا ينبغي القيامُ بذلك مادامت اللحظةُ القصوى لم تقتربْ، ولكنْ يجب الاعترافُ بحلُم اليقظة لِما هو بذاتِه؛ وحتى خلال مساندته لنا، يجب ألاَّ ننسى لحظةً واحدةً أنه الكذبُ في جميع أشكال هذا الحُلُم، الأكثرِ لاأذىً ظاهريًا في الصبيانية والأكثرِ احترامًا ظاهريًا في الجدِّية وفي العلاقة مع الفن أو الحب أو الصداقة (والدِّين عند الكثيرين)، في جميع أشكاله بدون استثناء. إنه يستبعد المحبةَ، والمحبةُ حقيقية.

ما كنتُ لأجرُؤَ بتاتًا على أنْ أكلِّمَكَ على هذا النحو لو أنَّ عقلي كان قد استوعبَ كلَّ هذه الأفكار. ولكنْ مع أنني ما أردتُ أنْ أقِيْمَ لمثل هذه الانطباعات وزنًا، لديَّ غصبًا عني الشعورُ بأنَّ الله، حبًا بكَ، يوجِّه كلَّ هذا إليكَ من خلالي. كذلك لا يهمُّ إنْ كان الخبزُ المكرَّسُ في القربان مصنوعًا من طحين رديء، حتى وإنْ كان ثلاثةُ أرباعه فاسدًا.

تقول إن عدمَ ثقتي بنفسي هي الضريبة التي أدفعها مقابلَ حسناتي. ولكنَّ شرح موقفي إزاء نفسي، والذي ليس هو عدم ثقة، بل مزيج من الازدراء والكُرْه والنفور، يتوضع في مستوىً أدنى، في مستوى الميكانزمات البيولوجية. إنه الألم الجسدي. فأنا منذ اثنتَي عشرةَ سنة مسكونةٌ بألم يتوضع حول النقطةِ المركزية للجهاز العصبي، نقطةِ اتصال النفْس بالجسد، ويستمر خلال النوم دون أنْ يتوقف لحظةً أبدًا. لقد بلغَ الألمُ، خلال عشر سنوات، مصحوبًا بشعورِ إعياءٍ، درجةً أصبحَتْ فيها جهودي في الانتباه والعمل الفكري في أغلب الأحيان مجرَّدةً تقريبًا من الرجاء كجهودِ محكومٍ بالإعدام لا بد أنْ ينفَّذَ فيه الحُكْمُ في اليوم التالي. وغالبًا أكثر من ذلك بكثير عندما كانت هذه الجهود تبدو عقيمةً ولا تؤتي أُكُلَها حتى في القريب العاجل. كان الإيمانُ الذي اكتسبْتُه في سن الرابعة عشرة يقويني وهو أنْ لا يضيع أيُّ جهدِ انتباهٍ حقيقيٍّ أبدًا، حتى وإنْ لم يكنْ هناك حتمًا أيةُ نتيجة ظاهرة على الإطلاق لا مباشرةً ولا غيرَ مباشرةٍ. مع ذلك، جاءت لحظةٌ ظننْتُ فيها، من الإعياء وشدة الألم، أنَّ انحطاطًا فظيعًا في كل النفس يهددني إلى درجةِ أنني تساءلتُ قلِقةً وخلال عدة أسابيعَ إنْ لم يَكُنِ الموتُ عندي واجبًا أكثرَ إلحافًا[4]، مع أنه يبدو لي فظيعًا أنْ تنتهيَ حياتي حتمًا في الرعب. وكما أخبرتُكَ، فإنَّ قرارَ موتٍ مشروط ولأجل مسمَّىً هو وحدَه الذي أعاد لي السكينة.

قبل ذلك بوقت قليل، وأنا أصلاً في هذه الحالة الجسدية منذ سنوات، كنتُ عاملةَ مصنع، لمدة عام تقريبًا، في أحد مصانع الميكانيك في منطقة باريس. إنَّ جمع الخبرة الشخصية إلى التعاطف مع السواد البائس من البشر المحيطين بي والذين كنتُ أختلط بهم فلا أتمايز عنهم حتى في نظري أنا قد أدخَلَ من قبلُ بلاءَ الانحطاط الاجتماعي إلى قلبي إلى درجة أنني منذ ذلك الحين أُحِسُّ بنفسي على الدوام أَمَةً بالمعنى الذي كانت حمله الكلمةُ عند الرومان.

خلال كل ذلك، لم يكنْ حتى لكلمة الله أيُّ مكان في أفكاري. لم يكنْ لها مكانٌ إلاَّ ابتداءً من اليوم الذي لم أتمكن فيه من حجب المكان عن كلمة الله، وذلك منذ حوالي ثلاث سنوات ونصف. وفي لحظة ألمٍ جسدي شديد، وبينما كنتُ أسعى جاهدةً إلى أنْ أُحِبَّ، ولكنْ دون أنْ أعتقدَ لنفسيَ الحقَّ في إعطاء هذا الحب اسمًا، أحسستُ، ودون أنْ أكون مستعدةً لذلك بتاتًا – لأنني لم أكنْ قد قرأتُ قَطُّ علومَ التصوف – بحضورٍ أكثرِ شخصيةً وأكثرِ تأكيدًا وأكثرِ واقعيةً من حضورِ كائنٍ إنساني، حضورٍ لا تدركه الحواسُّ ولا الخيالُ، شبيهٍ بالحب الذي يَظهر من خلال أرقِّ ابتسامةٍ من المحبوب. منذ تلك اللحظة، اختلطَ اسمُ الله واسمُ المسيح بصورة عصية أكثرَ فأكثر على أفكاري.

حتى ذلك الحين، كان إيماني الوحيد هو حُبَّ القدَر amor fati الرواقي[5] stoïcien، كما فهِمَه مرقصُ أوريليوسُ Marc Aurèle، وكنتُ قد طبَّقْتُ حبَّ القدَر هذا بإخلاص دائمًا. الحبُّ لحاضرةِ الكون la cité de l'univers، مسقطِ الرأس، الوطنِ الحبيب لكل نفْس، الغالي بجماله، في الوحدة الكلية للنظام والضرورة اللذَينِ هما جوهرُه، وبجميع الأحداث التي تحصل فيه.

كانت النتيجةُ هي أنَّ المقدارَ الذي لا يُختزَلُ من الكُرْهِ والاشمئزاز والمرتبطَ بالألم والبلاء قد ارتدَّ بالكامل علَيَّ. وإنه لَمقدارٌ كبير جدًا، نظرًا لأنه ألمٌ حاضرٌ في الأصل نفسِه لكل فكرة دون أي استثناء.

بلغَ بيَ الأمرُ أنني لا أستطيع بأي شكل من الأشكال أنْ أتصورَ إمكانيةَ وجود كائن إنساني يُحِسُّ بالصداقة تجاهي. فإذا كنتُ أؤْمن بصداقتكَ لي فذلك فقط حسب ما يقوله لي عقلي بأنْ أؤْمنَ بها لِما لديَّ من ثقة بكَ ولِما تلقَّيتُه منكَ من عربون على هذه الصداقة. ولكنها في تصوري ليست أقلَّ استحالة.

فعلُ الخيالِ هذا يجعلني أكرِّس اعترافًا بالجميل أرقَّ ما يكون لهؤلاء الذين يقومون بهذا الشيء المستحيل. لأنَّ الصداقة في نظري معروفٌ لا مثيلَ له، لا حدَّ له، نبعُ حياةٍ، ليس من باب المَجاز، بل بالمعنى الحرفي. لأنه عندما لا يمكن لفكري السُّكْنى في جسدي بل حتى في نفسي ذاتها التي يسمِّمُها العذابُ بالكامل، فلا بدَّ لفكري من الانتقال إلى مكان آخر. لا يمكنه السُّكْنى في الله إلاَّ بُرْهاتٍ قصيرةً من الزمن. فهو غالبًا ما يسكن في الأشياء. ولكنْ مما يتنافى ربما مع الطبيعة ألاَّ يسكنَ الفكرُ الإنسانيُّ أبدًا في شيء إنساني. كذلك تقدِّم الصداقةُ لفكري بالمعنى الحرفي كلَّ ما لم يأتِه من الله أو من جَمال العالَم.

يمكنكَ بذلك أنْ تتصورَ أيَّ معروف عملْتَه معي من خلال منحي صداقتَكَ.

أقول لكَ هذه الأشياءَ لأنَّ بإمكانكَ استيعابَها، ولأنَّ في كتابكَ الأخير جملةً وجدتُ نفسي فيها، وتتحدث عن الخطأ الذي يقع فيه أصدقاؤكَ عندما يعتقدون أنكَ موجود. لا يمكن لأحد فهمُ طريقة الإحساس هذه سوى الأشخاص الذين يحسون الوجودَ نفسَه باستمرار على أنه ألمٌ بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا شك أنه من السهل على هؤلاء أنْ يفعلوا ما يطلبه المسيحُ، من السهل نفيُ المرءِ نفسَه. وربما كان ذلك أسهل مما ينبغي. وربما بدون وجود جدارة. غير أنني أعتقد أن هذه السهولة فضلٌ عظيم.

إنني مقتنعة بأنَّ البلاءَ من جهةٍ والفرحَ كانضمامٍ بلا قيد ولا شرط إلى الجَمال الكامل من جهةٍ أخرى، واللَّذَينِ ينطويان معًا على فقدان الوجود الشخصي، هما المفتاحان الوحيدان اللذان ندخل بهما البلدَ النقيَّ، البلدَ الصالحَ للتنفس، بلدَ الموجودِ حقًا.

إلاَّ أنه لا بد من عدم امتزاج أحدهما بالآخر، أنْ يكون الفرحُ بدون أي طيف من عدم الرضا، وأنْ يكون البلاءُ بدون أي عَزاء.

تـفهم عليَّ تمامًا. فهذا الحب الإلهي الذي نلامسه في عمق البلاء، كقيامة المسيح عبْر الصلبِ، والذي يشكِّل الجوهرَ غيرَ المحسوس ونواةَ الفرح المركزية، ليس عزاءً. إذْ يترك الألمَ على حاله تمامًا.

سأقول لكَ شيئًا يصعب التفكيرُ به، والأصعبُ من ذلك أيضًا قوله، يكاد لا يُحتمَل قولُه للأشخاص الذين نحبهم. ربما يمكن تعريف الشر، لدى من يكون في البلاء، بأنه كلُّ ما يقدِّم عزاءً.

إنَّ المسرَّاتِ الصافيةَ التي إمَّا تحُلُّ محلَّ العذاب لفترة من الزمن وإمَّا تضاف إليه، وذلك حسب الحالة، ليست بعزاءات. على النقيض من ذلك، يمكننا غالبًا أنْ نجدَ عزاءً في نوع من التفاقم المَرَضي للعذاب. كلُّ ذلك واضح لي، ولكنني لا أدري هل عبَّرْتُ عنه بصورة صحيحة.

إنَّ الكسل أو السقوطَ في العطالة، كإغواءٍ أرزحُ تحته في أغلب الأحيان، كلَّ يوم تقريبًا، ويمكنني القول: كلَّ ساعة، إنما هو بصورة خاصة شكلٌ حقير من العزاء. فذلك يجبرني على احتقار نفسي.

ألاحظُ أنني لم أُجِبْ على رسالتكَ، ومع ذلك فعندي أشياءُ كثيرةٌ لأقولَها بشأنها. سيكون ذلك في مرة أخرى. سأكتفي اليوم بشكركَ عليها.

12 أيار/مايو 1942

المخْـلِصة جدًا
سيمون
ﭭـايل

***

أرفِقُ لكَ طيًا القصيدةَ الإنكليزيةَ التي كنتُ قد أنشدتُكَ إياها، المحبة Love؛ لقد لعبَتْ دورًا كبيرًا في حياتي، لأنني انشغلْتُ بإنشادها على نفسي، في تلك اللحظة التي جاء فيها المسيحُ، للمرة الأولى، يأخذني. كنتُ أظنُّ أنني لا أكفُّ عن تكرار قصيدة جميلة، ودون أنْ أعلمَ، كانت صلاةً.

حاشية:

لعدم تمكُّني من أنْ أجلبَ إلاَّ قليلاً جدًا من الكتب، أُرسِلُ لكَ، من بين الكتب التي أتركها، الكتبَ التي أعتقد أنها قد تهمكَ. إنَّ ت. إ. لورنس[6] T. E. Lawrence[7] الذي أصبحَ عندي، منذ أنْ فتحتُ كتابَه، صديقًا شغفَني مودةً والذي أعتقدُ أنه سيصبح صديقَكَ. الإنجيل باليونانية، الذي هو أنفسُ الجواهر، الكأس المقدسة le Graal[8]. سوينبرن Swinburne[9]. كنتُ سأرسل لكَ ج. هربرت G. Herbert[10] لو أنَّ الكتابَ لي، ولكنني استعرتُه من غْرُو Gros[11]. يمكنكَ أنْ تطلبَ منه أنْ يرسلَه لكَ.

***

Love

[George Herbert, 1593 - 1633]

Amour

 [Traduction de Jean Mambrino]

المحبة

جورج هربرت (1593 – 1633)

[الترجمة العربية عن الترجمة الفرنسية]

Love bade me welcome; yet my soul drew back,
Guiltie of dust and sin.
But quick-ey'd Love, observing me grow slack
From my first entrance in,
Drew nearer to me, sweetly questioning
If I lack'd anything.

 

A guest, I answer'd, worthy to be here.
Love said, You shall be he.
I, the unkinde, ungrateful? Ah, my deare,
I cannot look an thee.
Love took my hand and smiling did reply:
Who made the eyes but I?

 

Truth, Lord; but I have marr'd them; let my shame
Go where it doth deserve.
And know you not, says Love; who bore the blame?
My deare, then I will serve.
You must sit down, says Love, and taste my meat.
So I did sit and eat.

 

Amour m’a dit d’entrer, mon âme a reculé,
Pleine de poussière et péché.
Mais Amour aux yeux vifs, en me voyant faiblir
De plus en plus, le seuil passé,
Se rapprocha de moi et doucement s'enquit
Si quelque chose me manquait.

Un hôte, répondis-je, digne d'être ici.
Or, dit Amour, ce sera toi.
Moi, le sans-cœur, le très ingrat? Oh mon aimé,
Je ne puis pas te regarder.
Amour en souriant prit ma main et me dit:
Qui donc fit les yeux sinon moi?

Oui, mais j'ai souillé les miens, Seigneur. Que ma honte
S'en aille où elle a mérité.
Ne sais-tu pas, dit Amour, qui a porté la faute?
Lors, mon aimé, je veux servir.
Assieds-toi, dit Amour, goûte ma nourriture.
Ainsi j'ai pris place et mangé.

دعَتْني المحبةُ للدخول، فمشَتْ نفسي القهقرى،
عليها غبَرةٌ تَرْهَقُها قتَرةٌ.[12]
لكنَّ المحبةَ ذاتَ العينين اللامعتين، عندما رأت علَيَّ الوهْنَ
يزداد وأنا أجتازُ العتَبةَ،
اقتربَتْ مني وسألَتْني بلطف
إنْ كان ينقصني شيء.

فقلْتُ: الضيفُ الجدير بهذا المكان.
وإذْ بالمحبة تقول: هو أنتَ.
أنا، قاسي القلبِ، الجاحدُ؟ آهِ يا حبيبتي،
لا أستطيع أنْ أنظرَ إليكِ.
فأخذَتِ المحبةُ بيدي وأجابتْني مبتسمةً:
مَن جعلَ [لكَ هاتينِ] العينينِ إذاً إنْ لم أكنْ أنا؟

بلى، ولكنني استخدمْـتُـهما في الخطيئة، يا ربي. فليذهبْ عارُ خطيئتي
إلى حيث يستحق.
فقالت المحبةُ: ألا تعْـلمُ مَن حمَـلَ الخطيئةَ؟
إذًا، أريد أنْ أكونَ عبْدَكِ يا حبيبتي.
فقالت المحبةُ: اجلسْ وذُقْ طعامي.
كذلك جلسْتُ وأكلْتُ.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ فصل من كتاب سيمون ڤايل: مختارات، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1]  جو بوسكيه Joë Bousquet: شاعر فرنسي وُلِدَ في نَرْبونا [ناربون] Narbonne بتاريخ 19 آذار 1897 وتوفي في كَرْكَسُونا [كاركاسون] Carcassonne بتاريخ 28 أيلول 1950. من أعماله: Le Mal d'enfance، Traduit du silence،  Le Meneur de lune، La Connaissance du soir. (المترجِم)

[2] عبارة en hypnomenê مترجمَة في العربية بعبارة بصبركم وذلك في الآية: "بصبرِكم اقْـتَـنُوا أنفسَكم." (لوقا، 21، الآية 19) (المترجِم)

[3] أيْ أنَّ هذا الأمرَ غيرُ ممكن ومستحيل، مثلما أنه من غير الممكن أنْ يدخلَ الجملُ في ثقب الإبرة. وقد ورَدَ هذا التعبيرُ في الآية: "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا واسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ." سورة الأعراف، الآية 40. (المترجِم)

[4]  الإلحاف: شدة الإلحاح في السؤال. تقول الآية: "يحسبهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافًا." (القرة، 273) (المترجِم)

[5]  الرواقي: نسبة إلى الفلسفة الرواقية أو أحد أتباعها، والتي تعلِّم رباطة الجأش وقبول القدَر وتحمُّـل الألم برضا. (المترجِم)

[6]  انظرْ سوﭙرا supra، ص 424، ملاحظة 5.

[7]  توماس إدوارد لورنس Thomas Edward Lawrence هو عالِم آثار وضابط وكاتب بريطاني (1888 – 1935) عُـرِفَ باسم "لورنس العرب". (المترجِم)

[8]  La queste del Saint Graal [البحث عن الكأس المقدسةمنشورات ﭙوفيلييه Pauphilet، 1923.

[9]  ألجرنون تشارلز سوينبرن Algernon Charles Swinburne (1837 – 1909)، شاعر إنكليزي.

[10] جورج هربرت George Herbert (1593 – 1633). مجموعة قصائده، The Temple [المَعْبد]، والتي نُشِرَتْ بعد سنة من موته، هي تحفة الشعر الديني الإنكليزي.

[11]  ليون-غابرييل غْرُو Léon-Gabriel Gros، كاهن ومختص بالأدب والحضارة الإنكليزية، أحد أقدم وأهم المساهمين في [المجلة الأدبية] Cahiers du Sud [دفاتر الجنوب].

[12]  عليها غبَرة أيْ غبار. تَرْهَقُها قتَرة أي تغْشاها ظلمةٌ وسواد من أثر الخطيئة، إشارةً إلى التعبير القرآني: "وجوهٌ يومئذٍ عليها غبَرةٌ. تَرْهَقُها قتَرةٌ. أولئكَ هم الكَفَرةُ الفَجَرة." (سورة عبَسَ، الآيات 40 و41 و42) (المترجِم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود