من أجل رؤية فلسفية لعالم القيم

 

عبد الله موسى

 

تعرَّف القيم بأنها المعتقدات تجاه الوسائل والغايات وأشكال السلوك المفضلة لدى الناس، توجِّه مشاعرهم وتفكيرهم واختياراتهم، وتنظِّم علاقاتهم بالواقع والمؤسسات والآخرين، وتحدِّد هويتهم ومعنى وجودهم. بصيغة أدق تتصل القيم بنوعية السلوك المفضل وبمعنى الوجود وغاياته.

ومن ثم، الحديث اليوم عن القيم هو حديث عن المعايير الواجب تحققها في كل فكر وسلوك إنسانيين، بحيث أصبح لا ينظر إلى الإنسان إلا انطلاقًا من القيم التي تسود حياته وسلوكاته الفردية والجماعية على السواء، والمتجسدة، رغم تعاليها، في سلوكه اليومي على شكل علاقة اجتماعية ما، أو ضمن مؤسسة ما، مما يعطي لحياته معنى، والقصد هنا "معنى إنسانيًا". وفي جميع الحالات والاحتمالات تشكِّل القيم معيارًا لنا يوجه سلوكنا، فنعتمده في عمليات إصدار الأحكام والمقارنة والتقويم والتسويغ والاختيار بين بدائل مختلفة في المناهج والوسائل والغايات. الشيء الذي حمل الفلاسفة والمفكرين على التمييز بين قيم–الوسيلة وقيم–الغاية؛ فالأولى هي مجرد معتقدات تفاضل بين سلوك وآخر، في حين الثانية هي التي تحدد لنا الغايات المثلى والتي نسعى إليها ونحقق بها وجودنا من مثل قيم: السلم، العدالة، الخلاص، الحكمة، المحبة، احترام الآخرين... إلخ. وفي الحالتين هي حاضرة في صميم فكرنا وسلوكنا. فمثلاً إذا كان الإنسان يطلب من الواقع أن يلبي له حاجات "أولية وكمالية" فهذا يدل على أن القيم ليست حاضرة وحسب، بل تحدد اتجاه سلوكه وترسم مقوماته، على اعتبار أن العالم يبدو أمامه في شكل نظام مبعثر، تسوده الفوضى واللأمن، اللانظام، اللاعدل... لكن نظرته سرعان ما تضفي عليه بعدًا جديدًا، إنه البعد القيمي الذي يتجلى في لحظة معينة بمعنى خاص ومشخص. فالقيم بهذا المعنى هي شروع في وسم العالم بسمات مطالبنا الدائمة والمؤقتة، المطلقة والنسبية، إنها هدف نبتغي امتلاكه، أو توازن نسعى إلى تحقيقه.

فإن لم تكن كذلك، سيصبح طلب الإنسان لقيم جديدة كالمزيد من الديمقراطية، من التعددية، من الاختلاف والتنوع، من السلم والاستقرار... إلخ مجرد مطالب قيم–وسيلة لا مطالب قيم–غاية. مما يدل على أن القيم تتواجد في الأفق أكثر من مكوثها وتواجدها في واقعنا، إنها الأمل المتجدد "أو الغاية التي تظهر لنا كالقطب الذي تدور حوله حياتنا"[1].

من هذه الرؤية نجد الإنسان يرفض أن يقف موقف المنفعل (في مقابل الحيوان)، فهو لن يجد ارتواءه إلا في تجاوز الواقع ومعاكسته بالخيال، الذي لا يلبث أن يبني واقعًا أعلى، هو عالم القيمة.

لكن، كيف يتم التعبير عن رؤية فلسفية في ظل أزمة القيم الراهنة؟ إن القيم، في علاقتها بالغايات المتوخاة من كل فكر وسلوك إنساني، لا يمكن تصورها كقيم سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو اقتصادية دون تصور ارتباطها بغايات عامة تهم الإنسان من حيث هو إنسان. لأننا لا نجد، في الواقع أو في النظرية العلمية، ما يدل على الخير أو السلم أو العدل أو السعادة أو الجمال... إلخ وإنما يضيف الإنسان هذه القيم إلى الأشياء كحكم بحسب مستواه القيمي، هذا المستوى "ذو طابع نقدي بالأساس"[2] مصدره الاعتراض والاحتجاج على حيادية الواقع، وعدم الرضا بهذا الواقع الذي لا يأخذ بعين الاعتبار آمال الإنسان ورغباته، ومصدره أيضًا سعي الإنسان إلى جعل هذا الواقع له.

لكن، وبما أن القيم متناقضة نتيجة لصراع الأفراد والجماعات وصراع المنافع والمصالح وصراع العواطف والانفعالات فإن الاحتجاج، أي "القيم النقدية"، هي بداية عالم القيم. ومن ثم تصبح الرؤية الفلسفية لعالم القيم رؤية مستقبلية في الأساس، رؤية تجعل الإنسانية تسودها حاجات من نوع مختلف تمامًا عن الحاجات القهرية والتسلطية التي عاشتها من قبل وما يزال؛ تسودها قيم جديدة تتلخص في "الوجود السلمي"[3] الذي يراعي مطالب الإنسان الحقيقية في كل شيء، من الحرية، من التعدد، من الاختلاف، من التنوع، وخاصة من السلام الذي يعني القضاء على روح الهدم والتخريب والإقصاء السائد في عالمنا المعاصر، كما يعني تغيير قيم الحرب–الوسيلة بقيم السلم–الغاية، وبالتالي إيثار قيم الحياة على قيم الموت.

إن من مثل هذه القيم الجديدة "قيم ممكنة" في إزالة السيطرة والقمع والاستخفاف بالحياة البشرية. في قيامها "يظهر نوع جديد للإنسان ليكرر أخطاء أسلافه"[4] – على حد تعبير هـ. مركيز، لأن حاجات الإنسان الجديد ستكون مختلفة، ستكون ما يهدف إليه من الحب، والسلام، والتعايش، والتأمل الروحي، كما سيكون هذا الأخير مسلحًا بالنتائج التكنولوجية المتطورة، ويملك من القدرة ما يكفيه لحل الكثير من المشاكل الملحة في العالم.

وما يدعونا أكثر لمثل هذه القيم هي الآمال الكبرى التي راودت البشرية، الآمال التي تبددت أو تكاد، خاصة في غضون السنوات الأخيرة، فلا إمكانية قيام تضامن بين الشعوب من أجل مستقبل أكثر انسجامًا وازدهارًا، ولا حماية البيئة ووسائل العيش المشترك والتكنولوجيا الملائمة، ولا الاعتقاد بكلية العقل وشمولية التقدم، ولا انتشار الإيديولوجيات بنزعتها التفاؤلية، ولا حتى البديل التقني–التكنولوجي، أصبح يعبر عن آمالها. فلم يبق سوى "اعتبارات باردة لمصالح الدول العليا"[5] – على حد تعبير جورج قرم.

وبالتالي، لقد أضحت البشرية اليوم ضحية أزمة عامة في القيم، أزمة قوامها شمولية "النموذج التقني–الديمقراطي" كبديل مهيمن يبشرنا بقيم كلية، يستحيل من دونها قيام نظام دولي خارج عن تصوره، "لأن نهاية العالم ستكون على يديه". في حين إن ما يواجه البشرية اليوم لا يتمثل في تأمين شروط اندماج متساوق للنموذج التقني–الديمقراطي بما تبقى في العالم من حضارات غير صناعية، بل يكمن في السعي وراء تأمين فرص التحول السلمي أمام النموذج التقني–االديمقراطي، بحيث يفسح المجال أمام التنوع الإبداعي في الشمال الصناعي وفي الجنوب الغير الصناعي، دون التفريط بالمكاسب التقنية والديمقراطية الكبرى التي حققها هذا النموذج.

وإذن، نحن مدعوون إلى حوار حول القيم، بقدر ما نحن مدعوون إلى حوار حول الثقافات، حول الخصوصيات، وحول الآمال الجديدة. لأن القيم التي تُرفع هنا وهناك أحيانًا باسم الأصالة، أو الخصوصية، أو التقاليد، في مقابل القيم التي ترفع باسم الديمقراطية والحداثة والنموذج التقني... قد كشفت عن حدودها كـ"قيم–وسيلة". وبالتالي يتعين البحث عن وسائل لتخطي هذه الحدود، ولإلغاء هذا الانقسام الثنائي اللامعقول بين ما هو أصيل وما هو معاصر. فالأجدى هو إعادة اكتشاف معنى البشرية من خلال الاختلاف والتنوع الإبداعي للمجتمعات. فبدون هذه الإعادة المتعددة في المجال الاجتماعي، الفكري، الجمالي، السياسي، الحضاري... إلخ يصعب تصور بشرية تقوم بتجديد آمالها. وما النقص الموجود في الواقع تجاه هذه الآمال، إلا حافز أساسي لضرورة تجاوزه، والتجاوز لا يمكن إلا أن يكون إبداعيًا (بكل ما تحمل من معنى). "فالقيم منطلق فهم، ومبدأ إدراك ذكي".

وعليه، تكمن الرؤية الفلسفية تجاه عالم القيم في تمكين الإنسان من أن يصبح من جديد سيد مستقبله، وأن تتحول قيمه الراهنة إلى قيم–غاية، إلى قيم إنسانية بالفعل، مخلوقة من قبله كإنسان، إلى أداة إبداع تضع حدًّا لجميع أشكال الإرهاب والاستلاب.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] عادل العوا، القيمة الأخلاقية، الشركة العربية للصحافة والطباعة والنشر، 1965، ص 38.

[2] سامي خرطبيل، الوجود والقيمة، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1980، ص 107.

[3] قيس هادي أحمد، الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيز، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 1980، ص 178.

[4] مقال جورج قرم: الإبداعية وأزمة القيم، مجلة دراسات عربية، العددان 11 و12، 1983، ص 71.

[5] جرج قرم، المرجع السبق، ص 73.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود