السلوك بمقتضى العقل

 

عفيف عثمان

 

وصف الباحث الفرنسي بيار ماشيري سبينوزا (1632-1677) بأنه مفكر البدايات الجذري، والذي فيه تختصر كل فلسفات الشرق. وكما عبر ديورانت في قصة الفلسفة كان به جوع أهل الشمال في البحث عن الحقيقة أكثر من شهوة أهل الجنوب في البحث عن الجمال. وإذ جعل ديكارت الإنسان محور الكون، انتفض سبينوزا على هذه المقولة وجعل الله في قلب المركز، وجعل المسألة الأساسية عنده تغيير نمط الحياة وليس اضفاء معنى عليها. ولهذا السبب أطلق على عمله الرئيس إسم الأتيقا (وترجم تجاوزًا علم الأخلاق)، وفيه خط دربًا على الإنسان اتباعها، ومن المهم في المقام الأول عنده العدول عن وهم الاعتقاد أنه حر، إذ يعيش تحت علامة المصادفة، وعندما تؤاتيه يسميها العناية الإلهية وعندما تجافيه يسميها القدر.

والحال، وسم جيل دولوز فلسفة سبينوزا بالعملية، فالأتيقا تريد أن تأخذ مكان الأخلاق (بمعنى الأمر والنهي) التي تحيل الوجود إلى قيم متعالية. فهكذا هي أحكام الله، أي نظام الدينونة. فمقابل قيَم الخير-الشر يأتي الفارق النوعي لحالات الوجود حسن-سيئ، فوهم القيَم يتوحد مع وهم الوعي الذي يكون جاهلاً حين افتقاره المعرفة بالطبيعة. فأي شيء لا نفهمه يأتينا في هيئة أخلاقية "يجب": القانون الأخلاقي هو "واجب" ولا غاية له إلا الطاعة (بغض النظر عن الصوابية أو الحكمة من ذلك)، وبالتالي لا يقدم لنا أي معرفة جديدة.

في اختصار، الأتيقا كتاب في "حرية الإنسان"، استخدم فيه سبينوزا المنهج النازل والذي يبدأ بطرح حقائق عن الله والعالم في صورة تعريفات ثم يعمل على استخلاص مُتضمناتها المنطقية للأشياء الأكثر جزئية. فالمنطلق إذًا من الأفكار الضرورية المسلم بها (بعكس ديكارت) والفكرة عنده تتخذ في عالم الفكر نفس وضعها وارتباطاتها في عالم الواقع.

يقدم الفيلسوف الهولندي براهينه على النهج الهندسي في خمسة أبواب. الأول هو "في الله"، ولتوكيد الفكرة يعرض تعريفات وشروحًا وبديهيات توضح نظامه، والنسق الذي يبنيه لا يمكن الإخلال به، متسلسل منطقيًا. يوضح فيه ما علة ذاته والجوهر والصفة والحال، وهذه مفاهيم أساسية وضرورية في مسار الشرح. وسبينوزا يعني بالله

كائنًا لامتناهيًا إطلاقًا، أي جوهرًا يتألف من عدد لامحدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لامتناهية.

وعنده أن من طبيعة الجوهر أن يكون موجودًا وهو لامتناه بالضرورة، ويُطلق عليه واجب الوجود. وينتهي سبينوزا إلى انعدام وجود أي جوهر خارج الله، إذ

كل ما يوجد إنما يوجد في الله، ولا يمكن أن يوجد أو يتصور من دون الله.

ويلزم من الحجج أن الله هو العلة الفاعلة للأشياء، علة بذاته، لا بالعرض وعلة أولى على وجه الإطلاق. ويرى إلى خطأ البشر في الاعتقاد بالعلل الغائية، إذ ليس للطبيعة (أي الله) أي غاية محددة مسبقًا، فكل العلل الغائية لا تعدو أن تكون مجرد أوهام بشرية ومنها وهم حريتهم.

الباب الثاني "في طبيعة النفس وأصلها" وهي ترد إلى كونها "جزءًا من عقل الله اللامتناهي"، ويجعل سبينوزا الإنسان مكونًا من نفس وجسم. ويشرح كيف يتأثر الجسم بالأجسام الأخرى وما ينتج عن ذلك من تأثيرات. ومرام نزيل أمستردام بيان كيفية تحصيل إدراكاتنا ومعانينا الكلية من: الأشياء الجزئية والعلامات المنتجة لنمطين من النظر هما الظن أو التخيل، واستخدام العقل والعلم الحدسي، ومن ثم يميَز بين أنواع المعارف هذه. ويوجه العناية لضرورة التمييز بين الفكرة وهي تصور من تصورات النفس وصور الأشياء، ويدعو سبينوزا إلى العمل بتوجيه العقل وحده.

في الباب الثالث الذي يتناول "أصل الانفعالات وطبيعتها"، يرغب سبينوزا في معارضة أولئك الذين جعلوا للنفس سلطانًا على انفعالاتها (الحزن، الفرح، الرغبة)، ولم يقاربوها وفاقًا لقوانين الطبيعة الكلية، أي أن لها عللاً محددة ولها خصائص معينة تجدر معرفتها بجلاء كأي موضوع آخر. وفي المحصلة، فما يحركنا هو العلل الخارجية

تتقاذفنا مثلما تفعل الرياح المتعارضة بأمواج البحر، دون أن نعرف ما هو مآلنا ومصيرنا.

ونتيجة لذلك نجد في الباب الرابع "عبودية الإنسان أو في قوى الانفعالات"، حيث يظهر عجز الإنسان "ولا يكون وليَ نفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر". ويقدم سبينوزا بعض التعريفات مثل أن الخير "ما نعلم يقينًا أنه ينفعنا" والشر "على العكس ما نعلم علمًا يقينًا أنه يحول دون فوزنا بخير"، وأن الفضيلة من حيث علاقتها بالإنسان "هي عين ماهيته أو طبيعته"، وينتهي الفيلسوف إلى أن الناس لا يمتثلون لأوامر العقل الذي لا يطلب أمرًا مناقضًا للطبيعة، أي السلوك بحسب مبدأ الفضيلة. ومتى اهتدينا بالعقل نُحصل في رأيه:

خيرًا أعظم في المستقبل على خير أقل في الحاضر، وشرًا أقل في الحاضر على شر أعظم في المستقبل.

والمحصلة هي الباب الخامس "في قوة العقل أو في حرية الإنسان"، أي أخذ العقل منهجًا للحرية بمعنى البحث عما ينفعنا، فالإذعان للميول والإعتقاد بالتصرف بمقتضى القانون الإلهي بعيد من فكرة الحرية. إذ الجاهل لا يعيَ ذاته والإله والأشياء، وحالما يكف عن الانفعال يكف عن الوجود. أما الحكيم، إذ يعيَ ذاته والإله والأشياء لا يكف عن الوجود أبدًا وينعم بانبساط الروح الحقيقي.

الكتاب: علم الأخلاق
الكاتب: باروخ سبينوزا
المترجم: جلال الدين سعيد
الناشر: المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
2009.

*** *** ***

المستقبل، الثلاثاء 18 أيار 2010، العدد 3655، رأي وفكر، صفحة 19

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود