حوار هامّ مع الأب باولو دالوليو

على بشار الأسد التنحي ويجب ألا نخسر الأب زحلاوي

علي الأتاسي يحاور

 الأب باولو دالوليو

 

قد يكون الراهب باولو دالوليو واحدًا من أكثر السوريين انتمائًا لوطن مشتهى اسمه سورية. فهذا الراهب من أصل إيطالي، اكتسب سوريته بالجهد والعرق والحب لهذ البلد والعمل الدؤوب لخدمته. ودير مار موسى الحبشي بالقرب من مدينة النبك، والذي أصبح محجًا لكل زوار سورية في العقود الماضية، هو خير دليل على الدور الذي لعبه هذا الراهب في ترميم هذا الدير المهجور العائد للقرن السادس الميلادي، وجعله ملتقىً روحيًا وثقافيًا لكل أبناء سورية.

كان طبيعيًا أن ينحاز الأب باولو إلى الثورة السورية، وكان طبيعيًا أن يرفع الصوت عاليًا وأن يمضي أسابيعه الأخيرة مع الثوار في مدينة القصير بالقرب من حمص ليحاول أن يصون العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهذا بالضبط ما لم يغفره له النظام ولا المؤسسة الكنسية الرسمية، فسارعا إلى طرده مخافة أن تتفشى ظاهرة الأب باولو. لكنها مع ذلك ستتفشى وتعم، وسيعود الأب باولو إلى بلده سورية، أبًا لكل السوريين.

ع. أ.

***

علي الأتاسي: هل فاجأك عنف النظام في مواجهة الثورة السورية؟

الأب باولو: صدقًا لم يفاجئني هذا العنف. أتذكر أن السفير الفرنسي أتى لزيارتي في الشهر الأول من العام 2011 في بدايات الربيع العربي وسألني عن رأيي في إمكانية وصول رياح التغيير إلى سورية، كان جوابي له: في حال حدوث شيء من هذا القبيل فإنه لن يكون لا قصير ولا سهل. وأتذكر أنني أعربت له عن مخاوفي من أن يسقط عشرات ألوف الضحايا وأن تتهدد وحدة البلد.

اليوم كلي رجاء أن يتوقف هذا العنف قريبًا، فلقد دفعنا ثمنًا باهظًا وتقسيم البلد لا أحد يريده. لكن هذا الخطر قائم إذا استمر المجتمع الدولي في التنازل عن تحمل مسؤلياته. صحيح أن المجتمع السوري غني في التنوع وحسن الجوار والتعايش المشترك والاحترام المتبادل بين الناس، مع ذلك في حال دخل الناس في منطق الحرب الأهلية، فالكل يتطرف وسرعان ما يتجفف الوسط الثقافي و الروحي والأخلاقي والأدبي الحامل للتنوع، وينسحب باتجاه الأطراف.

ع. أ.: في المقابل، هل فاجأتك ثورة الشعب السوري وإنضمامه إلى موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي؟

الأب باولو: هناك عنصر وحيد فاجأني في كل الربيع العربي، ألا وهو الشباب. هؤلاء الشباب فاجأوني بنضجهم السياسي والإنساني وفي استعدادهم للتضحية بحياتهم في سبيل استردادهم لكرامتهم وحقوقهم وفي سبيل قيم الأخوة والمساواة التي يؤمنون بها. أنا في حياتي كلها لم أتعلم عن كرامة الإنسان، بمثل ما تعلمت من الشباب السوري في السنة الأخيرة.

عدا ذلك لم يفاجئني السوريون في تصميمهم على نيل حريتهم واصرارهم المقاومة، والسؤال هنا هل توقف السوريين فعلاً عن المقاومة خلال عمر الاستبداد المديد! حتى بعد الضربة القاسمة التي تلقاها المجتمع السوري بعد مجزرة حماه في العام 1982؟ لا لم تتوقف المقاومه وبقيت السجون ممتلئة بالأحرار والشرفاء، هذا ناهيك عن الأشكال المتعددة من المقاومة المدنية بما فيها الكتابة والاستقلالية ونظافة الكف والمحافظة على القيم داخل البيوت والحفاظ على الدين الخالي من الفساد في مواجهة نظام فقد كل مبررات وجوده الأيديولوجية الأخلاقية وأصبح عبارة عن هيكيلية من القمع واحتكار السلطة ونهب الأموال العامة.

ع. أ.: من أين يأتي هذا العنف وهذه الوحشية التي تنتهك كل الحرمات، بما فيها قتل الأبرياء والتمثيل بجثث الأطفال واغتصاب النساء؟ وما هي جذور هذا العنف الذي خلناه غريبًا عن المجتمع السوري؟

الأب باولو: جذور هذا العنف هي الديكتاتورية التي امتدت لأكثر من أربعين عامًا، ومنعت عنا تملك ثقافة حقوق الإنسان بمفهومها الحديث. صحيح أن أدياننا تمنعنا وتحمينا من إرتكاب مثل هكذا موبقات، لكن في أحيان كثيرة تصبح الأديان حجة لتأجيج الكراهية وتبرير العنف.

في هذا السياق، لا فرق بين البوسنة وبين الصومال أو راوندا أو السودان. عندما تدخل الناس في صراع متخيلة أنه صراع على الأرض والوجود، يصبح قتل النساء والأطفال هو بمثابة استئصال الآخر من الأرض وإبعاده وطرده النهائي، أو بعباره أخرى إبادته جماعيًا.

للآسف الشديد نحن اليوم في سورية في هذا الشيء، وللآسف الشديد لا أستغرب ذلك و للآسف الشديد كنت متوقعًا له. وهذا ليس بشيء جديد في تاريخ البشرية، وعلينا جميعًا أن نتبرأ بنعمة الله من هكذا أفعال تنبع من إنسانية قبيحة ومنحطة، هي أقرب إلى التوحش منها إلى الإنسانية. نحن تلقائيًا لسنا بأفضل من الحيوانات، لكن المطلوب من الإنسان الجهد والجهاد حتى يرتفع ويترفع، وأولى الدرجات هي احترام الجار واحترام إنسانيته وأخذ القرار أن نعيش سويًا وأن نخاف على بعض، لا أن نخاف من بعض. وهذا هو الجهد والجهاد الحقيقي، أما الغرائز والكراهية العمياء، فإنها لا تؤدي إلا إلى المجازر والقتل الجماعي.

ع. أ.: لكن هذه الغرائز وهذه الكراهية، هل يمكن لها أن تفسر كيف يمكن لهذا لقاتل أو شبيح أن ينظر في عيون ضحيته وأن يمسك بلحمها الطري بكلتا يديه قبل أن يهم بذبحها بحد السكين؟

الأب باولو: ألم تنتبه كيف أنه عندما يريد إنسان أن يضرب إنسانًا آخر، فإن أول ما يفعله هو أن يجرده من إنسانيته بإطلاق شتائم بحقه من مثل "يا حيوان" أو "يا كلب". المفجع أن الكلاب عندما تتقاتل فيما بينها، فإنها لا تصل لدرجة الوحشية التي يمكن لإنسان أن يستخدمها ضد أخيه الإنسان، كون الكلاب تعي أنها من ذات الفصيلة، أما الإنسان فإنه يخرج أخيه الإنسان من فصيلة البشرية، ويجعل منه في مخيلته حيوانًا أو حشرة، حتى يبرر لنفسه أن يدعسه أو يقتله أو يبيده!

من هنا فأنا لا أستطيع أن أتفاجئ بما يحدث الآن في سورية، ولكنني أتآسف وأحزن وأتألم. نعم لا أتفاجأ، لأنني رأيته قادمًا وحذرت وكتبت. وأنا اليوم كسوري من أصل إيطالي، أقول للسوريين أجمعين، موالين ومعارضين، لسنا بأحسن من الايطاليين أو الاسبانيين أو الألمان، كي لا نبيد بعضنا بعضًا، ومن هنا أهمية أن نشتغل على أنفسنا وأن نسترد إنسانيتنا لتجنيب سورية ويلات الحرب الأهلية التي عاشتها الكثير من بلدان العالم.

ع. أ.: قد نكون كلنا في الهم شرق، لكن ألا تعتقد معي أننا لا نستطيع أن نضع النظام ومؤيديه وشبيحته في ذات المنزلة مع الثورة ومؤيديها؟ طبعًا هذا لا يعني أن الثوار جميعهم ملائكة، لكن التفوق الأخلاقي هو بالتأكيد في صالحهم. ما رأيك؟

الأب باولو: هذا السؤال مهم وأقرُّ أن في كلامك الكثير من الصواب، لكن دعني أوضح بعض الأمور. هذا النظام الاستبدادي عاش منذ البداية على الكذب وعاش على ممارسة كافة أنماط العنف والتعذيب والتشويه والكراهية وتجريد الناس من إنسانيتهم، كجزء لا يتجزأ من منظومة السلطة وممارساتها. ونتج عن هذا تكاذب جماعي وعبادة للفرد وتقديس لرموزالسلطة. من هنا أصبح الكذب والتكاذب جزء من الممارسات الشائعة والضرورية التي يتواطؤ عليها ويرتكبها الكثير من الناس العاديين ومن المؤيدين، بمن فيهم العديد من رجال الدين من كافة الطوائف. ونتج عن هذا ولادة إنسان مزدوج، يختلف بين الصورة التي يراها في مرآته دخل بيته والصورة التي يمارسها بالخارج ويقدمها للآخرين.

في المقلب الآخر، مقلب الثورة، هناك أناس يريدون الشفافية والانعتاق من الكذب والعمل على استعادة الحقوق المشروعة. أناس يكتشفون من جديد فرح التدين الذي تطابق فيه النظرية مع الشيء المعاش على أرض الواقع.

دعني أعطيك مثالاً بسيطًا يوضح ما أقوله. دخلت بيتًا من بيوت الجيش الحر على خطوط الاشتباكات، وأثناء الزيارة طلبت أن أذهب إلى المرحاض فوجدته غاية في النظافة على غير العادة مع المراحيض التي يستخدمها العسكر، فقلت لهم هذا المثال على بساطته هو مؤشر على التبدل الذي طرأ على هؤلاء الجنود المنشقين حتى أنهم أصبحوا في أبسط الأمور يبحثون عن الشفافية والنظافة. هذا ناهيك عن أن العلاقات كانت فيما بينهم علاقات أناس أحرار، لا بل أن ملامح المواطن الحر كانت واضحة في وجوههم ومحياهم. أنت أمام أناس أحرار، أنت أمام إنسان جديد تشعر بذلك من الوهلة الأولى من ملامحهم ومن جلستهم ومن شدة الظهر ومن نظرة العين ومن غياب الازدواجية وغياب الخوف. تشعر أنه لم يعد هناك شرخ بين الصورة والحقيقة.

جاء ذات مرة لعندي شباب مسلمين يريدون أن يتطوعوا بالجيش الحر وقالوا لي: وصينا أبونا؟ وهؤلاء المسلمون ينادوني تحببًا "أبونا"، فقلت لهم: يا شباب حافظوا على كرامة عدوكم. وقلت ذات الشيء لضابط مخابرات فتح لي ذات يوم قلبه.

إذا إستطعنا المحافظة على هذا الشيء وتعميمه، فإنه يمكن له أن يحمينا من الوقوع في شرك الممارسات اللاإنسانية والتشبه بعدونا. وهناك شغل مضني في هذا المجال لصيانة كرامة وحرمة جسد الإنسان كائنًا من كان، حتى لو كان عدوك الذي ظلمك وعذبك واستباحك. فعندما تسمح لنفسك بتشويه كرامة عدوك (الذي تنازل عنها وشوهها بنفسه) فأنت تشوه كرامتك وتتنازل عنها. وسورية الجديدة يجب أن تبنى على هذا الأساس ويجب أن ترسخ فيها ثقافة حقوق الإنسان الحديثة التي لا تسمح بمس الأسير أو المعتقل وتعذيبه، مهما كانت الجرائم المتهم بها.

وكم كان مهمًا ومؤثرًا ما قاله لي أطباء المشفى الميداني في مدينة القصير، من أنهم لا يخونون قسمهم الطبي ولا يفرقون بين الجرحى، بل يقدمون لهم كل الإسعافات الضرورية، سواء كانوا من الجيش الحر أو الجيش النظامي أو كانوا أسرى لدى الثوار. هذا هو الموقف الأخلاقي والإنساني الصحيح، أما الموقف المدان فهو ذاك الذي يقصف المستشفيات الميدانية ولا يتوانى عن قتل الأطباء والممرضات والجرحى أو جرهم إلى غرف التعذيب. هنا الفرق وهنا تفوق الثورة الأخلاقي، فلننتبه لنحافظ على هذا الفرق ونصونه. وكرامة الوطن في النهاية تأتي من قدرة الذي ينتصر بالقيم أن يتقاسمها ويعممها على جميع أبناء الوطن، بمن فيهم من كان مغرر به من قبل النظام.

وحتى تكتمل الصورة، أحب أن أشير إلى أنه في داخل الثورة مجموعات تسيء إليها وتستفيد منها، أكثر بكثير مما تفيدها. هناك مجموعات سرية متطرفة دينيًا، ومع كل احترامي لمعتقداتهم ولدوافعهم، لكن المجموعات السرية المتطرفة والمنغلقة على نفسها هي سرطان للثورة، سرطان للقضية، وعلينا جميعًا أن نجفف مستنقعات السرية والتطرف التي يقتاتون منها وأن نستردهم إلى الحراك الثوري الحقيقي. فهذه الفئات هي المبرر الأعظم للأقليات حتى يصطفوا مع النظام، وهي المبرر الأكبر للعالم الغربي حتى يتركنا سنة أخرى نواجه مخاطر الحرب الأهلية. وفي النهاية الثورة التي لا تضبط نفسها، هي ثورة خاسرة اليوم وغدًا.

ع. أ.: اسمح لي أن لا أتفق معك في استخدامك لمصطلح الحرب الأهلية في الحاله السورية، كون أحد الأطراف يملك جيش جرار وأسلحة ثقيلة وأجهزة أمن، والطرف الآخر لا يزال يغلب عليه الطابع الأهلي؟ صحيح أن هناك نظام يتعامل مع شعبه بمنطق الحرب الأهلية، لكن في المقلب الآخر هناك مقاومة بطولية لمنطق الإنجرار إلى الحرب الأهلية، ما رأيك؟

الأب باولو: في سورية هناك ثورة. والجديد فيها، كما هو الحال في كل ثورات الربيع العربي، هو ثورة الشباب وهذا هو الشيء الذي لم يفهمه لا الدكتور بشار الأسد ولا بوتين ولا أحمدي نجاد، الذين لا هم لهم سوى الاحتفاظ بالسلطة مستخدمين مبررات من مثل الممانعة أو المقاومة أو أهل البيت أو حتى المصالح القومية لروسيا الاتحادية.

نعم في سورية هناك ثورة وأنا أقرُّ بهذا ومن حق الشعب السوري أن يقوم بهذه الثورة، لكن هناك بالتوازي مع هذا، حرب أهلية كون النظام إستطاع على مدى سنيين طويلة أن يجمع من حوله فئات من المجتمع. وبغض النظر كيف نجح في جمع هذه الفئات، بالمخاوف أو بالأوهام أو بالمصالح أو بالتهديد، فإن هذا الجزء من المجتمع متخثر من حول السلطة ومن حول آل الأسد وهو مستعد أن يحارب من أجلهم. وللآسف حتى جغرافيًا، فإن جزءًا مهمًا من هذه الفئات متجمع في مناطق بعينها، حيث بوادر الحرب الأهلية وقسوة القمع ماثلة للجميع في مناطق الاحتكاك التي اسميها المناطق الشهيدة وهي الواقعة على أضلع المربع الممتد بين نهر العاصي ومدن الساحل السوري، وهذا هو نطاق الحرب الأهلية.

ع. أ.: أريد أن أسألك رأيك بفئة أخرى من المجتمع، لم تقتل يومًا حشرة في حياتها وهي غير مستعدة أبدًا أن تقتل أو تغتصب أو تعذب أو تمارس العنف المباشر، لكنها في ذات الوقت تستمر في تأييد النظام وتتعامى عن عنفه وترفض بشكل عصابي أن تصدق أو تقر بانتهاكات النظام؟

الأب باولو: هذه للآسف آلية قديمة ومعروفة. أنا سمعت شخصيًا بإذني هاتين، سيدات من المجتمع المخملي، وهنَّ من أنظف الناس وأكثرهم أناقة وثقافة، يقولون بكل راحة ضمير: "معليش سوريا من دون مليون أو مليونيين زيادة، خلينا نخفف شوي من هذه الزبالة. شو المشكلة".

إنه البغض الذي يجد سبيله إلى القلب والخوف الذي يعمي البصيرة. هؤلاء الناس هم من طينة السكان البولونين والألمان الذين عاشوا حياة طبيعية من حول معسكرات الإبادة النازية، يمارسون حياتهم الاعتيادية ويزرعون أراضيهم ويرسلون أولادهم للمدارس ويتظاهرون أنهم لا يعرفون وهم في العمق يعرفون ماذا يجري في جوارهم من جرائم ضد الإنسانية.

هناك أناس تعرف في العمق أن هذا النظام قائم على القمع والقتل والخوف، لكنها تتعامى عن كل هذا ولا تنفك تردد أن هذا النظام يحمينا وأنه في حال سقوط النظام ستنفلت الوحشية وستفقد الإنسانية، مع أنها تعلم علم اليقين أن الوحشية هي تلك التي تمارس في زنازين النظام وأن الإنسانية هي التي تستباح في معتقلاته.

ع. أ.: رغم الدور المهم الذي تلعبه العديد من الناشطات والناشطين السوريين من أبناء الطائفة المسيحية في صفوف الثورة، فإن هناك حالة جفاء طبعت علاقة الكثير من أبناء الطائفة المسيحية بالثورة، ماذا تقول للخائفين أو المترددين منهم؟

الأب باولو: دعنا نقول أولاً إن السجون جمعت كل أطياف وألوان الشعب السوري، وهذا الشعب يعرف بالعمق أن جميع مكوناته دفعت ثمنًا باهظًا في سبيل نيل حريتها.

مع ذلك كل ما أريد أن أقوله للمترددين: هو أن المتأخر أحسن من الغائب، فهلم نلحق بالصحيح. وهلم بالاهتمام بالضحايا وهلم باستقبال النازحين وهلم برعاية المحتاجين وهلم بالرحمة على اليتامى. أقول لمن يشعر منهم أن هذه الثورة ليست ثورته، لا بأس ولكن لتكن حياديًا إيجابيًا ولتمارس ما يقوله دينك: طوبى للفقير وطوبى للذي يبحث عن السلام وطوبى للذي يُضطهد في سبيل البر.

ع. أ.: ماذا تقول للخائفين والساكتين من أبناء الشعب السوري كافة؟

الأب بولو: أقول إن الخوف يمكن أن يجعلك متأمرًا مع النظام ويمكن أن يجعلك جزءًا لا يتجزأ من النظام ويمكن أن يجعلك مجرم حرب. وبالتالي فلا يتخيل أحد أن خوفه، يمكن أن يجعل منه بريئًا.

في ذات الوقت أقول للمعارضة كلها وللثورة، ماذا قدمنا من ضمانات سياسية؟ ماذا قدمنا من ضمانات قانونية؟ ماذا قدمنا من ضمانات لحماية الخصوصيات الدينية والمحلية والقومية؟

نحن لا نريد أن نصعد إلى القرداحة بصيحة "الله أكبر" ونشيل 10 آلاف قتيل. هذه ليست ثورتنا وهذا ما لا نريده. المجرم سيوقفه العلويون أنفسهم وسيقدمونه للمحاكم الدولية. هذا ما نريد وهذا ما نسعى له، وبمثل هذا ستنتصر الثورة.

السؤال هو هل نحن نريد أن ننتصر أم نريد أن نخسر أنفسنا؟ إذا لم تعطي لعدوك مخارج مقنعه وإذا فرضت عليه المعركة كمعركة حياة أو موت، فإنه سيقاتل حتى النهاية ومن دون ضوابط.

في كل الأديان، بما فيها الإسلام، ليس هناك أقوى من الإنتقام، سوى المصالحة. وليس هناك أقوى من الثائر، سوى الغفران. نحن نريد هذا الوطن بكل مكوناته وبكل قراه وبكل مدنه وبكل شعبه. بالنسبة لي الإنسان العلوي المتماهي مع السلطة مظلوم أكثر من غيره لأنه منخور في كرامته وقيمه وقلبه، ولأنه مسخر ومستعمل لهذا الاستبداد المشين. في النهاية هذا الإنسان العلوي أو الإنسان المسيحي هو مواطن نريد أن نطمئنه ونقنعه أننا نريده ونشتهيه بيننا مواطنًا حرًا في وطن واحد.

ع. أ.: ماذا يمكن أن تقدم الثورة من ضمانات إضافية؟ لقد خرجت الناس منذ اليوم الأول من الجوامع تنادي "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"، كما رفع الهلال والصليب من تحت قبة النسر في الجامع الأموي، واجمعت جميع قوى المعارضة على مدنية وديمقراطية الدولة بعد سقوط نظام الأسد؟

الأب باولو: دعني أقولها بصراحة، نحن المسيحيون لا نخاف منكم. نحن المسيحيون، حتى لو لم يعجب هذا الكلام البعض، أمانة في أعناقكم، وإذا المسلم لم يحترم الأمانة التي سلمه إياه الرسول محمد، وقام بظلمنا وطردنا، فأنتم يا أيها المجتمع المسلم ستذبحون بعضكم بعضًا في حروب أهلية ستمتد إلى يوم الدين. المشكلة اليوم ليست بين المسلمين والمسيحيين. المشكلة اليوم هي بين المسلمين أنفسهم، وهي تتجاوز سورية نفسها، التي أصبحت فصلاً من كتاب يخص الصراع السني-الشيعي في المنطقة كلها.

نحن في سورية خلقنا لنعيش مع بعض. التاريخ يطلب هذا. الجغرافيا تطلب هذا. اللغة تطلب هذا. ومن أجل أن نعيش سويًا علينا بالمصالحة. لكن المصالحة لها شروط، أساسها أن تعود الحقوق لأصحابها. هناك مجرمين يجب أن يحاكموا. هناك يتامى يحتاجون إلى تعويض، هناك بيوت دمرت ويجب إعادة بنائها، هناك أثاث سرق من بيوت وحارات مدينة حمص وبيع بأبخس الأثمان، يجب أن يعاد لأصحابه.

ع. أ.: هناك شخصية محورية في الكنيسية الكاثوليكية في دمشق، لها مصداقية وتأثير ونفوذ كبير في أوساط المسيحيين الدمشقيين هي الأب الياس زحلاوي. وهذه الشخصية الدينية هي اليوم من أكبر المشككين بالثورة والمدافعين عن النظام، كيف تفسر ذلك؟

الأب باولو: الأب زحلاوي هو مربي حقيقي للأجيال ومرشد للقيم الروحية الصحيحة، لكن حبه القومي لوطنه أعماه ولم يعد يستطيع أن يفهم على الشبيبة التي رباها بنفسه. وأنا متأكد أن هذا الجيل سيغفر له، اصطفافه مع النظام الذي ظلمه وظلمنا، وهو يعرف هذا. وهذا الاصطفاف يأتي في رأي من خوف عميق من الإسلام السياسي. فالأب زحلاوي المعروف بانفتاحه وروحانيته ومعاداته للظلم ولقوى الطغيان العالمي، جعله خوفه هذا، لا يرى أو لا يريد أن يرى! أصدقاؤه في السجن وهو لا يريد أن يرى! طلابه وشبيبته في معتقلات الأسد وهو لا يريد أن يرى! أنا أكيد أنه يساعد ويحاول أن يخرج الشباب من السجون، لكنه مع ذلك لا يريد أن يرى!

مع ذلك أنا لازلت مؤمنًا أن الاب زحلاوي هو الإنسان الذي يجب أن لا تخسره الثورة. فنحن نحتاج إليه بعد الثورة، كما كنا نحتاج إليه قبل الثورة في سبيل تنشئة الجيل الجديد على قيم الانفتاح والتسامح والأخوة. لقد ربى هذه الشبيبة التي قامت بالثورة التي لم يستطع أن يراها، فالتغفر له خطيئته. وآخر أيامه في سورية الحرة سيشكر هو في كلامه السوريين الذين حرروه وحرروا كلمته وحرروا موقفه.

ع. أ.: معنى هذا أن الثورة إذا نجحت ستحرره من خوفه من الإسلام؟

الأب باولو: لا تستخدم "إذا" الشرطية. مافي "إذا"! لتقل عندما تنجح الثورة ستحرر الكثير من المواطنيين من خوفهم من الإسلام لأنها ستريهم وجهًا آخر للإسلام متنور ومتسامح بعيد عن التعصب والفئوية وعن تسخير الدين لغايات سياسيات ضيقة أو فئوية.

ع. أ.: ماذا يمكن أن تقول لبشار الأسد شخصيًا؟

الأب باولو: يا ليته يسمع ما قاله له الرئيس التونسي بأن يتنحى ويرحل وليرحم نفسه ويرحمنا. العدل يمكن له أن ينتظر قليلاً، ولكن ليرحل وليوفر على هذا البلد وهذا الشعب المزيد من العذاب. أقول له: إنني متأسف جدًا على كل الفرص التي وضعها السوريون بين يديك ولم تحسن استغلالها. أنا شخصيًا بعثت لك أكثر من عشر رسائل في السنيين الماضية، لكنني لم أنجح في فتح ثلمة في جدار الانغلاق والتحصن والتشبث بالسلطة. أكيد هناك مسؤلية شخصية ولكن أنت برأيي ضحية قدرك التعيس وضحية هذا النظام الذي أورثه لك والدك. أنا جد متآسف وأتمنى أن أستطيع مساعدتك، وواجبي الإنساني أن أمد يد المساعدة، إذا كان هناك من سبيل.

ع. أ.: ما هي أصعب الأوقات التي عشتها داخل سورية خلال الثورة؟

الأب باولو: أصعب لحظات كانت لحظات الانفجارات الكبيرة في دمشق، أحسست أن قوى الشر شنت الحرب على الشعب السوري وأن الكذب وصل إلى النخاع الشوكي، وأن التآمر في مستنقع المافيات والمخابرات يقدم لنا أبشع ثمراته. صحيح أن هناك فئات دينية متطرفة، لكنها مسخَّرة. كانت مسخَّرة على يد السي أي إيه في أفغانستان ومن ثم سخرت على يد غيرهم في العراق، واستخدمت بالروموت كونترول في لبنان، فلا جديد على الشاشة.

أنا كتبت رسالة مفتوحة إلى كوفي أنان، أقول له فيها: إذ كان سكرتير الأمم المتحدة بان كي مون يتكلم بأنه صار واضحًا أن هناك "القاعدة"، فهل أنتم بالأمم المتحدة إلى هذه الدرجة أغبياء وجهال! ألا تعرفون في الأمم المتحدة أن هذه الفئات المتطرفة تستخدم وتسخَّر، ليس فقط من قبل المستنقع المخابراتي السوري، ولكن أيضًا من قبل المستنقع المخابراتي الدولي.

ع. أ.: كيف تفسر غياب التضامن الفعال مع الثورة السورية من قبل منظمات المجتمع المدني في الغرب ومن قبل الكنائس والنقابات وأهل الثقافة والفن؟

الأب باولو: السبب الأول هو التخويف من الفزاعة الإسلامية. فقد نجح هذا التخويف في تثبيط مشاعر التضامن في صفوف شرائح المجتمعات الغربية. هذا ناهيك عن الإشباع الإعلامي الذي يبطل أهمية وأولوية المآساة السورية وجعلها خبرًا من بين بقية الأخبار في نشرات الأخبار.

ع. أ.: دير مار موسى، هذا المكان الرائع المتربع في جبال القلمون على بوابة الصحراء، بقدر ارتباطه بالأرض والتاريخ، صار منذ أن سكنته ورممته وأحييته، شديد الارتباط بشخصك واسمك. كيف هو شعورك وأنت مبعد اليوم قسرًا عن هذا المكان، وهل سيكون هذا الدير يومًا هو منتهاك؟

الأب باولو: شعور بألم الشديد، لا يمكن وصفه. لقد قلت سابقًا: ما أحلى الموت في سورية، من الخروج إلى المنفى. أنا خرجت اليوم إلى المنفى لأذوق ما تذوقه آلاف وآلاف من السوريين منذ عشرات السنين، وطعم المنفى حقيقة مرٌّ. عندما وضعوا ما سموه دستورهم الجديد، كتبوا فيه أن رئيس الجمهورية يجب أن لا يكون مقيمًا خارج سورية. قلت في نفسي عن ماذا يتكلمون! فكل الذين هجروا ورميوا في المنافى وظلموا، لا قيمة لآلامهم وعذاباتهم، ومشكك في الدستورالجديد بصدق انتمائهم للوطن.

أما أين هو منتهاي؟ فأنني أذكر في ذكرى الجمعة العظيمة العام الماضي خرجنا من الدير إلى الوادي باتجاه مقبرة الرهبان بالقرب من صخرة ضخمة. هناك لاحظت مكانًا ضيقًا، بطولي تقريبًا، يمتد بين شق صخري وبين شجرة زينون زرعها أحد الرهبان ونمت بين الصخور، فقلت للجماعة: إذا أراد الله وترحم عليَّ، فهنا مثواي. إن شاء الله أن يستجيب لهذه الأمنية.

ع. أ.: أبونا باولو، برأيك هل مصير هذه الثورة النجاح في النهاية؟

الأب باولو: هذا ليس رأي، هذا رأي الحق. هذه الثورة، الله قدرها للنجاح، لأن ما دفع لها من ثمن مقدر عند الله، وما ذهب من ضحايا أبرياء هو فوق كل ما يمكن أن يبذل. والله لا يمكن له أن يضيع عذابات اليتامى والأرامل ولا أن يفرط بتضحيات الأهالي.

أجرى الحوار: علي الأتاسي

*** *** ***

الحياة

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود