إن أردتَ السلام، فالسلام رهن يديكَ*

 

تيك نات هانه

 

منذ عشرين سنة، كتبتُ أربعة أحرف صينية على مظلة مصباح "إن أردتَ السلام، فالسلام رهن يديك". وبعد بضع سنين، في سنغافورا، سنحت لي الفرصة لكي أطبِّق عمليًا ما كتبت.

كان العام 1976، وكان العديد منا ينظمون عملية إنقاذ لـ"أناس القوارب" في خليج السيام. كان المشروع يُدعى "عندما يُراق الدم، نعاني جميعنا". في ذلك الوقت، لم يكن الكثير من الناس يعلمون بوجود أناس القوارب، ولم تكن حكومات تايلاند وماليزيا وسنغافورا تسمح لهم بالرسو على شواطئها. كان العرف المتَّبع هو إعادة هؤلاء الناس إلى عرض البحر، ما يعني أنهم قد يلاقون حتفهم، وأنه لن يكون بوسع أولئك الذين على اليابسة التعامل معهم.

قُمنا باستئجار سفينتين كبيرتين – ليبدال ورولاند – لالتقاط اللاجئين من البحر، وسفينتين صغيرتين – سايغون 200 وبلامكارك – للتواصل بين السفينتين الكبيرتين ونقل المياه والطعام والدواء والمؤن. وكانت خطتنا هي ملء السفينتين الكبيرتين باللاجئين وأخذهم إلى أستراليا وغوام، حيث نُبلِّغ الصحافة لدى وصولهم، وبالتالي سيُولي العالم انتباهًا إلى أزمتهم، بحيث لا يُجبَرون على العودة. ففي ماليزيا وأندونيسيا وبلدان أخرى، أُعيد الآلاف من أناس القوارب، ولقي الكثيرون منهم حتفهم في البحر. كان علينا القيام بعملنا سرًّا، نظرًا لأن حكومات العالم لم تشأ الإقرار بأزمة أناس القوارب، وكنا نعرف أننا سنُرحَّل بالقوة من سنغافورا إذا انكشف أمرنا.

تدبَّرنا الأمر لإنقاذ ما يقارب الـ 800 شخص من أناس القوارب من خليج سيام. وفي عشية رأس السنة الجديدة، أبحرتُ على متن سايغون 200 الصغيرة لأتحدَّث مع اللاجئين على السفن الأكبر. وباستخدام الهاتف اللاسلكي، تمنيتُ لهم عامًا جديدًا وسعيدًا. وبعد الوداع، اتجهتُ عائدًا إلى الشاطئ، لكن في الظلام داهمتنا موجة هائلة فأغرقتني. وتملكني انطباع بأن قوة العتمة كانت تنذرني: "قدر هؤلاء الناس هو الموت. فلماذا تتدخل؟".

في بعض الأحيان، كنا نطلب من صيادي السمك التقاط أناس القوارب أثناء الليل، ومن ثم نُقلِّهم بالسيارات إلى السفارة الفرنسية. وفي الصباح، يُكشف الأمر عن طريق السفير الفرنسي، وهو رجل دمثٌ للغاية. كان يتصل بالشرطة، مُعْلِمًا إياهم أنه وقد اطلع على وجود هؤلاء الناس، فلا بد من أن يحصلوا على وضع "لاجئين غير شرعيين". ورغم أنهم كانوا يُحتَجَزون في السجون، إلا أن ذلك كان أفضل بما لا يُقاس من إعادتهم إلى عرض البحر. ومن ثم كنا نعمل على مساعدة هؤلاء الناس في الحصول على موافقة للسفر إلى فرنسا. كما كنا نحاول فعل الكثير من الأمور لقلب الموقف.

من حين إلى آخر، كنا نرى أمورًا لا يمكنكم تصديقها. لقد التقينا بمجموعة مؤلفة من 60 شخصًا في ثكنة. وكانوا قد حطموا قاربهم، لذا ما كان بوسع الشرطة الماليزية إعادتهم إلى البحر، لكن الشرطة كانت تحاول إصلاح القارب لكي تبعدهم. عندما شاهدنا هؤلاء الناس، كان الرجال يحدِّقون في الفضاء الخالي، والنساء والأطفال لا يتمكنون من التوقُّف عن البكاء. وأخبرنا أحدهم أنهم قدِموا على متن قاربين. وقد قدمت لهم الشرطة الماليزية بعض الماء وطلبت منهم التوجُّه إلى سنغافورا، حيث سيلاقون الترحيب هناك. لكن الحقيقة كانت غير ذلك – كان السنغافوريون يقطرون القوارب لإعادتها إلى المحيط، دون أدنى اهتمام بمدى الخطر الذي يتعرَّض له أناس القوارب.

عندما حاول القاربان الإبحار بعيدًا عن شواطئ ماليزيا انقلب أحد القوارب. وقد شَهِد الستون شخصًا الذين في القارب الأول موت كل الذين كانوا على ظهر القارب الآخر، مباشرة وبأمِّ أعينهم، ولم يكن بوسعهم إنقاذهم. لذلك قرروا العودة إلى شواطئ ماليزيا، وفي اللحظة التي بلغوا فيها الشاطئ حطَّموا قاربهم وأغرقوه، لأنهم لم يريدوا الابتعاد إلى عرض البحر مجددًا. فذهبنا على الفور إلى أقرب مدينة، واتصلنا هاتفيًا بوكالة رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية AFP وبرجال إعلام آخرين للحضور والتقاط الصور الفوتوغرافية. ولهذا السبب، لم تُرجعهم الشرطة إلى البحر، لكن بدلاً من ذلك أدخلتهم إلى السجن، وفيما بعد إلى معسكر للاجئين.

كانت المعاناة التي لمسناها أثناء القيام بمثل هذا النوع من العمل عميقة إلى درجة أننا لو لم نكن نمتلك ذخيرة من القوة الروحية، لما كان بوسعنا الاستمرار. خلال تلك الأيام، مارسنا التأمل جلوسًا ومشيًا، وتناولنا وجباتنا بصمت وبطريقة مكثَّفة جدًا. كنا نعرف أننا بدون هذا النوع من ضبط النفس سنخفق في عملنا؛ فحياة الكثير من البشر تعتمد على انتباهنا.

بعد أن أنقذنا ما يقارب الـ 800 شخص من القوارب الصغيرة في البحر، كشفت الحكومة السنغافورية أمرنا. كنا على وشك النجاح في إرسال الرولاند والليبدال إلى أستراليا. لكن بسبب تسرُّب الخبر إلى الصحافة، تتبَّع أثرنا عدد من المراسلين ونشروا قصة حول مشروعنا. في بعض الأحيان، تكون الصحافة عبثية، ترغب في نشر قصة فحسب، وإن كانت تعرِّض أرواحًا بشرية للخطر.

ولأن أمرنا قد فُضِح، فقد أصدرت السلطات السنغافورية أمرًا للشرطة بتطويق شقتنا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. ووضعت اثنان من رجال الشرطة أمام الباب، واثنان في الخلف، ودخل اثنان لاقتيادي. فصادروا وثائق سفري، وأمروني بمغادرة البلد في غضون أربعة وعشرين ساعة. كنت أعرف أن حمولة القاربين الكبيرين من الناس كانت بانتظاري لمساعدتهم في الوصول إلى الشاطئ. قال لي رجال الشرطة: "سنعيد لك وثائق سفرك غدًا في المطار". لم يكن رجال الشرطة أولئك يشبهون الكائنات البشرية. لم يكونوا قادرين على فهم معاناة أناس القوارب، أو كيف كنا نحاول مساعدتهم.

ماذا بوسعنا أن نفعل في موقف كهذا؟ كان علينا التنفس بعمق وعلى نحو واعٍ. ومن نواحٍ أخرى، كان علينا ألاَّ نضطرب أو نتشاجر مع الشرطة، أو نفعل أي شيء للتعبير عن غضبنا لضعف إنسانيتهم. وكنا نعرف أنه في غضون أربعة وعشرين ساعة سيكون الـ 800 شخص على متن قاربين دون طعام وماء، لكن ماذا كان بإمكاننا عمله؟ لم نكن نستطيع العودة لننام.

في مثل هذا الوقت من الليل، لا أحد سيردُّ على الهاتف، حتى أبواب السفارة الفرنسية كانت مغلقة. لذا، أمضينا بقية الليل نمارس جميعًا التأمل مشيًا داخل شقتنا الصغيرة. إن مارست التنفس الواعي قبل بروز المشكلة فستكون مستعدًّا.

كان علينا إيجاد وسيلة لترحيل الـ 800 شخص بأمان إلى أستراليا أو إلى غوام. لم يكن مسموحًا للسايغون 200 ولا البلاك مارك مغادرة المرفأ لنقل الطعام والماء إلى اللاجئين على متن الليبدال والرولاند. وكانت الرولاند مُزوَّدة بما يكفي من الوقود للوصول إلى أستراليا، لكننا كنا مضطرِّين إلى إيصال الطعام لها. ثم تعطَّل محركها. كان اليوم عاصفًا جدًا وكان البحر هائجًا، فانتابنا القلق على سلامتهم، إن انجرف مركبهم بعيدًا عن الشاطئ فحسب. لكن الحكومة الماليزية لم تسمح للسفينة بدخول مياهها الإقليمية. حاولتُ الحصول على إذن للدخول إلى بلد مجاور لمواصلة عملية الإنقاذ، لكن حكومات تايلند وماليزيا وأندونيسيا لم تمنحني تأشيرة دخول. ورغم أنني كنتُ على اليابسة، كنتُ أنجرف أيضًا في عرض البحر، وكانت حياتي واحدة مع الـ 800 لاجئ الذين على ظهر السفن. كانت هناك مشاكل أكثر من أن تبدو ممكنة للحل في غضون أربعٍ وعشرين ساعة فقط.

ثم قررتُ أن أطبِّق عمليًا موضوع التأمل "إن أردتَ السلام، فالسلام رهن يديك"، وأصابتني الدهشة أن أجد نفسي هادئًا تمامًا، وغير خائفٍ أو قلقٍ من أي شيء. لم أكن لامباليًا. إنما كنت في حالة سلام ذهني حقيقية، وفي تلك الحالة، كنت قادرًا على التغلب على ذلك الموقف الصعب. فأتتني فكرة أن أطلب من السفارة الفرنسية التدخُّل لصالحي من أجل تمديد تأشيرتي لبضعة أيام إضافية، وهي مهلة كافية لكي أربط كل هذه الأعمال المعلَّقة. وقبل خمس دقائق من منتصف النهار، وكانت شعبة الهجرة على وشك الإغلاق لعطلة نهاية الأسبوع، وسيكون عليَّ مغادرة البلد، مُنحت التمديد. لذلك طالما أنا على قيد الحياة، فإني لن أنسى أبدًا تلك الثواني من التأمل جلوسًا، وذلك التنفُّس، وتلك الخطوات المنتبهة خلال ذلك الليل وذلك الصباح. لقد جاء النجاح عندما واجهت المشكلة مباشرة. وكنت قد أخذت عهدًا على نفسي أنني إذا لم أستطع بلوغ السلام في تلك اللحظة، فإنه لن يكون بسعي مطلقًا الوصول إلى السلام. إذا لم أستطع أن أكون مسالمًا وسط الخطر، فإن أي سلام بوسعي إدراكه في أزمنة أسهل لن يعني الكثير. فبتطبيق موضوع "إن أردتَ السلام، فالسلام رهن يديك"، كنتُ قادرًا على حلِّ الكثير من المشاكل الواحدة أثر الأخرى.

كان علينا أن نمدَّ يد العون للاجئين عبر المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة التي احتفظت بهم لشهور وسنوات في معسكرات في ماليزيا. إنه أمر مؤلم. ومع ذلك أدرْنا عمليتنا من خلال الصلاة والتأمل، لأننا كنا نعرف أن كل شيء يعتمد على انتباهنا. كنا نتأمل كل ليلة ساهرين حتى وقت متأخر من الليل، ثم نتلو "قلب الحكمة"، كما لو أننا كنا في دير.

لفت عملنا انتباه العالم إلى صرخات أناس القوارب. ففي العام 1977، زادت حكومة الولايات المتحدة حصة Quota اللجوء للفيتناميين إلى 7000 سنويًا، ثم إلى 15000، ثم إلى 100000. وحذت أستراليا وبلدان أخرى حذوها. لأننا حين نقوم بما في وسعنا، بوعي كامل وقلب خالٍ من الغضب، فلن نقلق للنتائج.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل التاسع من كتاب المحبة في العمل: كتابات حول التغيير الاجتماعي اللاعنفي، تايك نات هانه، ترجمة: غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2008.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود