نبوءة اليقظة
قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية الحرف والغراب للشاعر اديب كمال الدين

 

رياض عبد الواحد

وأما الغراب الكاهن، المنبىء الأنباء فهو ذاك الشخص اللابس السواد، المتوقي الحذر، المذكر بالأسماء، الطواف في الديار، المتتبع الآثار، الشديد الطيران، الكثير الأشعار، الذاهب في الأقطار، المخبر بالكائنات، المحذر وهو القائل في نعيقه وانذاره: أين المفر والخلاص.
اخوان الصفا، رسالة الحيوان والإنسان

يعتمد ثراء النص الشعري على وفرة المحمولات الدلالية والعلاماتية التي تؤثر بنحو، أو بآخر على العملية التأويلية اللاحقة والمؤثرة في الكشف عن مجموعة العلامات التي يتبناها النص عبر فعل التنقيب، الكشف والاكتشاف الذي يفرزه المعنى الظاهر، أو الباطن. والشعرية الحديثة تحاول جاهدة المكوث لفترة طويلة في مثابة التخفي، والانتهاك، انتهاك المتداول، وأنسنة الأشياء، وقلب علاقات الظاهر وجعل ما يستحيل واقعيًا لا يستحيل شعريًا، بمعنى جعل ما هو غير منطقي منطقيًا، بواسطة إشاعة فعل النشاز العلاماتي الذي يربط بين ما تخفيه الدلالات من بعد غير مرئي وما ينبغي معالجته من فائض الرؤية. ولعل مجموعة الشاعر أديب كمال الدين آنفًا تمنحنا لذة في كشف المستور بواسطة مجموعة من الإجراءات السيميائية التي تركز على بنية السؤال والاحتمالات المتوقعة لما ينتجه النص من معان ودلالات متنوعة.

إن البنية العلاماتية – في الدراسات الحديثة – تذهب إلى أن العلامة اللغوية ما هي إلا كلمة يبتدعها ويبتكرها صاحبها، لهذا ذهب كوين إلى أن الشاعر "مبدع كلمات لا مبدع أفكار". إذن عملية ابتداع، أو ابتكار الكلمة ووضعها في سياقات جديدة تكسر تابوات قديمة، وتقيم علاقات نسقية جديدة داخل السياق العام، والخاص، هو ما ترمي إليه الحداثة الشعرية بواسطة توجيه المسارات الدلالية بنحو لولبي، مبتعدة عن المسار الخطي المعتاد من أجل إحداث خلخلة مشروعة في تلقي الخطاب الشعري، والتي تقود – حتمًا – إلى مجموعة من التصورات المتساوقة وبنية القول الشعري الجديد.

في العنونة التي اعتمدتها المجموعة، ثمة مقصدية مسبقة تنشد تفعيل مجموعة من الوظائف غير النسقية التي منها – على سبيل المثال لا الحصر – الإغراء، الإيحاء، الوصف، التعين والمفارقة. فـ الحرف والغراب بنية ذات مرجعية ترتكز على حقلين دلاليين متناقضين في الظاهر، إذ إن حقل الغراب ليس مما هو موجود من مواصفات في حقل الحرف إلا في المشترك اللفظي المتمثل في الجامع الحرفي المتمثل في حرف الراء. إذن التأويل ينبغي أن يتخذ مسارًا موازيًا للسعة التي تحققها الكلمة في تعاضدها مع الكلمة الأخرى حتى يستقيم التأويل منطقيًا. لهذا علينا أن نبحث عن القاسم المشترك الأعظم بين هذين الحقلين بواسطة الكشف عن مكنونات الكلمة، وإلا ما الذي يربط الحرف بالغراب؟! إن من معاني الحرف الكشف والاضطراب، وهذا المعنى هو الذي نبحث عنه لامتلاكه ما هو مشترك مع الغراب لأن الغراب يلعب دور الكاشف لمكنون العلم والمعرفة اللدنية عند الإنسان، إذ إنه مرتبط بالماء السفلي، لهذا نرى أن الإله (أنكي) السومري، إله الماء السفلي، يصطحب دائمًا طائرًا يبدو أنه الغراب لأن المُصور أن الغراب قادر على رؤية الماء تحت الأرض لهذا عندما أراد عبد المطلب حفر بئر زمزم لم يستدل على مكانها إلا عن طريق نقرة الغراب. لهذا نجح الشاعر أيما نجاح في عملية التداخل الحقلي الحاصل بين الحرف والغراب في بنية دقيقة ورصينة تتمظهر وتتجلى في أكثر من دلالة موحية وتنجح في إسباغ روح البحث والكشف والمشاركة في النص فيما يخص المتلقي، إذ استطاعت العنونة سحب المتلقي بقوتها الذاتية من رواق النص-العنوان إلى المتن على نحو غير تقليدي. وإذا ما تركنا العنونة واتجهنا إلى ما يمهد الطريق إلى المتن فسنكون في مواجهة سيطرة أخرى وهي آية من القرآن. و نرى فيما ذهبت إليه الآية الكثير من التصورات التي يبتعها النص، إذ إن الآية تعتمد ثلاثة أشياء: مرسل وهو الخضر ومرسل إليه وهو نبي الله موسى ورسالة تبين العلم اللدني لدى الخضر، ولعل المرسل والمرسل إليه والرسالة متحققة فعلاً إلا أن مجيئها هنا يتحدد بالطلب المتيقن منه بداءة وهو أن المتلقي سيلقى عناء من الذي بين يديه "الرسالة – المتن" مما يستدعي التبصر والصبر على ما سيواجهه من باطنية جوانية بها حاجة إلى المعرفة الدقيقة والصبر الطويل. وبهذا تحصل المطابقة بين الآية وما يريد الشاعر ابلاغه إلى المتلقي أنى كانت خانته الفكرية والمعرفية. فالآية

نفي مؤكد لصبر موسى على شيء مما يشاهده منه في طريق التعلم والدليل عليه توكيد الكلام بـ "أن". وإن ايراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، ونفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو أكثر تأكيدًا من أن يقال: لن تصبر. وإيراد النفي بـ لن ولم يقل: لا تصبر وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب القدرة عليه وهو إحاطة الخبر والعلم بحقيقة الواقعة وتأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجري على ما جرت عليه، وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث إذ قال "لن تستطيع معي" ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما اعلمه ولن تتحمله ولم يتغير عليه موسى حينما أخبره بتأويل ما رأى منه وإنما تغير عليه عند مشاهدة الفعاله نفسها التي أراه إياها في طريق التعلُّم[1].

في قصيدة الغراب والحمامة يؤكد النص على مفردتين متباينتين في أصل الحكاية القرآنية "الغراب والحمامة"، الآيتان تقعان في حقلي دلالة مختلفين، فالغراب يشير إلى الشؤم والخراب والدمار، والحمامة تشير إلى السلام والوداعة والنقاء. انبنى النص على مثلث علاماتي قاعدته الأساس الغراب والحمامة وساقاه السفينة، ونوح، ونقطة تلاقي الساقين (رأس المثلث) الخلاص، أما العلامات الفرعية فتأثيرها ثانوي لأنها خارج مدار البؤرة الرئيسة. إذًا "الغراب + الحمامة" هما المرجع الذي استندت عليه الرؤية البصرية في معرفة النتائج النهاية، لهذا نرى عمق التوكيد على بنية "السواد" التي هي اللب الذي يهز مضجع الرائي بدليل القرينة النصية:

لماذا كنت وحدي الذي رأى
سواد الغراب

لاحظ أن النص يحاول زيادة الضغط النفسي علينا بواسطة البنية الدلالية اللونية لكلمة "السواد" بغض النظر عن التصاقها بالغراب من أجل أن تصبح هي العلامة المميزة التي تمتد على مساحة واسعة من حياة الرائي المليئة بالغموض والأسرار والتي يريد منها أن تتحول إلى حقيقة يتقبلها المتلقي بسبب من عرفيتها ومرجعيتها المجتمعية والتي يشدد عليها بقوله:

اقتربت الحمامة مني
ووضعت على رأسي حفنة رماد:
حفنة صغيرة
مليئة بالغموض والأسرار

هنا يستلهم الشاعر من العهد القديم وضع الرماد على الرأس، إذ يستمد الرماد رمزيته من رواسب ما تخلفه النار أو ما يتبقى من الإنسان بعد الموت. إذًا الرماد هو الهشاشة الروحية، وهو كذلك بنية التحول من مسرى إلى آخر، لهذا قرنه الشاعر بالغموض والأسرار لأن فعل التحول فعل لا يمكن قراءته بنحو آني، إذ يكتنفه الغموض، غموض المسرى وآفاقه غير المعلومة في أقل تقدير. وعلى الرغم مما للحمامة من تجليات سعيدة ومفرحة على كل المستويات إلا أننا نرى أن "الغراب" مستمر في عملية النقر على جمجمة الرائي من أجل الوصول إلى لب الحقيقة غير العيانية، فهو أي الغراب والرائي متمازجان في نفس واحدة، كلاهما يبحث عن حقيقة لم يبينها النص، فحيثما يغيب الرائي عن المشهد المسرحي، يظهر الغراب بسمة الباحث عن الحقيقة، وحيثما يغيب الغراب، يظهر الرائي باحثًا عنها في جوانب كثيرة أولها نفسه التواقة للوصول إلى مقتربات تلك الحقيقة التي هزت مضجعه منذ الصيرورة الأولى كونه جنسًا بشريًا باحثًا عن حقيقة الأشياء وصولاً إلى المبتغى الذي ينشده:

منذ ألف عام
الغراب ينقر جمجمتي
فينبثق الدم عنيفًا كشلال. والحمامة تضع فوق جمجمتي،
دون جدوى،
حفنة رماد!

لاحظ الاستعمال الدقيق للفعل "ينبثق" ولم يقل "يسيل" لأن الانبثاق يحمل اندفاعًا بسبب استمرار عملية النقر. الغراب هنا هو الزمن المر، الأسود، الباحث عن مخلفات عفنة من التصرف الإنساني، إنها سرمدية الأزمنة اللعينة المغلفة بسلطان الوحشية والطغيان واستلاب إرادة الإنسان، والحمامة هي المقابل الموضوعي لهذا الطغيان الجارف الذي لا يبقي ولا يذر، فماذا تنفع حفنة من الأفعال الحسنة حيال سيل عرم من النفاق والطغيان واللافضيلة. إذًا هذا المنهج الاستبدالي قد نجح أيما نجاح في خلق عملية تفخيخ دلالي من أجل توسيع الفضاء الإيحائي الذي يزيد من درامية النص.

وتتشظى مجموعة من الدوال الثانوية من البؤرة الرئيسة بواسطة حزمة من الثيمات التي لا تخرج عن دلالة العنونة والمتمثلة بالأرق مما سيحدث نتيجة بزوغ هاجس يسيطر على الذاكراتي بنحو مهيمن حتى تصبح تلك الدوال قناعات راسخة:

سيقتلك فرانكو
أو أتباع فرانكو
أو رصاص فرانكو
وستموت
بل ستشبع موتًا
أنت الذي لم تشبع من الحياة
مثلما الحياة
لم تشبع منك.

في نصوص هذه المجموعة ثمة غائب يهيمن على كل المشاهد، إنه الإنسان المثقف، الواعي، المستقيم، النقي، الطاهر، نعم إنه الاوتوبي المطلوب، لهذا كان اختيار فرانكو دقيقًا لسببين أولهما أن فرانكو اعتمد في تثبيت حكمه بداية على الفلاحين المغاربة بقيادة (محمد أمزيان) الذي بقى صديقًا وحاميًا لفرانكو، والسبب الثاني يكمن في أن فرانكو كان من ألد أعداء الثقافة والمثقفين حتى أنه قتل المبدع الكبير لوركا. إذًا فرانكو قناع للكثير ممن يمتلكون السلطة ويدمرون الحرث والنسل، ولوركا قناع للمثقف العربي الذي لم يستطع أن يرى الحياة وزينتها على نحو جيد، أو لم يسمح القدر له أن يضفي على الحياة لمساته النوعية وبذلك خسر الطرفان كل ما من شأنه إدامة النقاء والجمال، إلا أن هذا كله لم يثن الرائي في السير حثيثًا نحو مرافىء القيم النبيلة:

لكن لا يهم أيها الغرناطي الجميل
لا يهم يا من يسير الدم العربي
في عروقه المضيئة بالشوق
لا يهم أيها القتيل دون قبر أو شاهدة.

إن لوركا بقى راسخ المبادىء، جرىء الكلمة وهو يسير إلى الموت متوافقًا مع نفسه التي استنبطت إبداعها من عوالم الإنسان الخفية وبقيت علامة مضيئة في صدر التاريخ. إن المبدع لا يحتاج إلى شاهدة، أو قبر. وصدق أبو تمام حين قال:

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة                 غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ

إن هذه المجموعة، بل إن شعر أديب كمال الدين، به حاجة إلى تأمل طويل ووقفات نقدية مستفيضة واشتغال نقدي متفحص في كل صغيرة وكبيرة، إذ إن شعره يحمل محمولات تتقلب على أكثر من وجه وتستبطن أمورًا لا حصر لها، وهو بعد هذا كله يبحث في المنجيات مما علق بالذات الإنسانية  من أدران فانية.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ج16، ص 338.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني