رواية نوكيا لباسم سليمان: هموم جيل

محمد معتصم*

 

نوكيا** رواية جيل وجد نفسهُ بين فَكَّي كماشة الزمن والتحولات الثقافية والسياسية والحضارية، يحمل قيمًا وأفكارًا منقولة عن المرحلة التي سبقت العولمة والثورة التكنولوجية واقتصاديات السوق وانهيار جدار برلين، وتلاشي الإيديولوجيات الكبرى والمنظومات السياسية والتكتلات الدولية والحرب الباردة. إنها المرحلة التي فاجأت الجميع حيث الفرد ليس مواطنًا تام المواطنة؛ حقوقًا وواجبات، والدولة حلقة في دوامة التبعية الاقتصادية والمالية، وليست غير افتراضٍ واحتمال "رقمي" مركب لكنه سهل الاختراق.

كانوا ثلاثة أصدقاء: باسم ومحمود ثم داني، طلاب أدب، درسوا التاريخ والفلسفة؛ تاريخ الفلسفة أو فلسفة التاريخ سواءٌ، إيمانًا منهم بأن التاريخ المعلم الأكبر والفلسفة لغة العقل وكل العصور، لكنهم سيفاجؤون بالتغيير وتبدل موازين القوى، باسم معطَّلٌ عن العمل، ومحمود بائع ملابس وشاعر موقوف التنفيذ وروائي مغمور، ثم هارب من حكم بالسجن، وداني المسيحي الدهَّان ثم المهاجر المغترب في كندا. هكذا تحدث عنهم السارد/الشخصية:

داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمَّا اسمي فيبدو غريبًا ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ؟!

إنها وضعية الجيل الجديد الذي تشبع بأفكار التحرر والوحدة والنهضة والحداثة، لكنه جيل لم يضع في الحسبان انهيار عالم من الأفكار والقيم والإيديولوجيات الكبرى والشمولية.

تتساءل الرواية عن مصير الجيل الخارج من رحم ما قبل الثورة المعلوماتية، وهو ما جعل الفضاء الروائي مشحونًا بالتراجيديا، لكنه في الوقت ذاته ضوء كاشف عن التغييرات الجذرية التي تعصف بالثوابت، والجدير بالاهتمام هنا، في رواية نوكيا أن الشخصيات الروائية واعية بمصيرها، واعية بالتحولات الحاصلة في الواقع والفكر والإنسان، وما يدل على وعيهم الآتي:

إنَّه اليوم الثاني بعد امتحانات البكالوريا، ثلاثتنا في الفرع الأدبي، فرع الفاشلين، فلا حاجة للفلسفة أو التاريخ أو الأدب، فقد شبعنا منهم في ماضينا، نحن في زمن الاختصاص الذي ينتج نقودًا كأنَّه مشروع رأسمالي لا اشتراكي، ولسنا في زمن العمال والفلاحين الذين تقودهم طليعة ثورية قد ولَّتْ.

إنَّنا من الفئة التي لا تجيد لغة العصر المتمثلة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم، إنها لغة بنتْ عليها أوربا حضارتها طبعًا، لكنهم تناسوا أنَّ فرعنا الأدبي هو من أعطى للفرع العلمي تلك السيادة.

محمود: أين سرحت؟

-        البكالوريا يا رجل، أمامنا حلان ليسا متوافرَين، الوظيفة أو السفر، يقولون الفلسفة أم العلوم، لكن أمَّنا تزوجتْ البراغماتية، ومن يتزوج أمنا يصبح عمنا، والآداب أخلاق الشعوب لا الدول، ونحن نعيش في زمن الدول، لقد درسنا كتبًا لا جدوى منها، قفا نبكِ من مستقبل....

في عصرنا الحالي تخلت أو كادت الدول عن مهامها تجاه شعوبها وأصبح مفهوم "المواطن" أو "المواطنة" مختلفًا ومفرغًا من المعنى القيمي والأخلاقي "الالتزامي"، فالدولة غير مسؤولة عن مصير الأفراد الذين يعيشون فيها، ولا عن ضمان كرامتهم بتوفير العمل اللائق لهم ولأسرهم، بل المواطن اليوم فردٌ بلا خصوصية مميزة أخلاقيًا وفكريًا، إذًا هو لم يكن قادرًا على خلق مواطنته بذاته، أي استقراره وتحديد مصيره باختيار الحماية العرقية أو الحزبية أو العقائدية والعشائرية، هنا يمكن الحديث فعلاً اليوم عن استقالة الدولة و"حكوماتها"، وهي طبعًا خلاصة تركيبة سياسية أفرزتها الاقتراعات الحزبية، أي أن المواطن الحق من استطاع أن يجد لنفسه مكانًا ضمن مجموعة سياسية تحميه وتضمن له الترقي الاجتماعي، بالقدر الذي يكون هو ذاته "مواطنًا صالحًا" أو بالأحرى "عضوًا مسالمًا ومؤمنًا إيمانًا أعمى" بفكر وفكرة المجموعة السياسية التي ينتمي إليها. لقد تخلت الدولة كضامن للحريات والحقوق بين مختلف الفئات الاجتماعية والعرقية المتعايشة والمتسامحة لفائدة المجموعات السياسية والثقافية والعقدية نتيجة التحولات الكبرى في العالم، أي نتيجة انهيار المنظومات الكبرى الفكرية والسياسية وانهيار التكتلات السياسية الكبرى كالكتلة الشرقية ونهوض الفكر النووي القائم على التجمعات العرقية والطائفية واللغوية أو ما يعرف بالأقليات. إن فكر الأقليات لا يؤمن بفكرة "المواطنة" بل يؤمن أكثر بفكرة "الانتماء والانتساب العرقي والعقدي": الدم والنسب أو المال أو الإيديولوجيا، فعصر الإيديولوجيات الكبرى قد أفل، لكن الإيديولوجيات الصغرى ينبعث من رماده، وصورة عود أبدي، ودائرية الزمان وانغلاقه.

رواية نوكيا للكاتب المبدع والمتعدد باسم سليمان، ندرج ضمن الروايات القصيرة بخصوصياتها المميزة، الكثافة والإيحاء والاختزال والتركيز، وبالرغم من ذلك فهي تختلف عن الروايات القصيرة كونها لم تستسلم لتيار الوعي، والمونولوج الداخلي، وللخطابات المباشرة وغير المباشرة الحرة، بل قام السارد بتبئير الشخصيات الثلاث، ومنح كل شخصية فرصة التعبير عن نفسها وهمومها، إنها رواية صغيرة في الحجم لكنها كبيرة وواسعة في طرحها الفكري:

-       ماذا بعد العولمة والثورة التكنولوجيا؟

-       أين تنتهي حدود الدولة ومن أين يبدأ فعل الشعب؟

-       ما الفرق بين المواطن والفرد؟

-       كيفَ تحولت العلاقات الدافئة والحميمة إلى مجرد علاقات افتراضية زرقاء؟

-       ما معنى الصداقة في عصر المعلوميات؟

-       ماذا فعلت الشبكة العنكبوتية وباقي الحوامل التابعة لها بمفهوم الجنس والعلاقات الإنسانية؟

-       ماذا حل بالأدب والفلسفة والتاريخ والإنسان؟

كثيرة هي الأسئلة العميقة والإشكالية التي تحيل عليها رواية نوكيا لباسم سليمان، وقد تمت ترجمتها على مستوى تخييل في بناء مصير الشخصية الروائية؛ ثلاث شخصيات روائية واحدة منها تحمل الاسم ذاته للكاتب الموضوعي، وهي إيهام أولاً بواقعية الأحدث، وثانيًا، هي تقنية في الكتابة السردية تقارب بين السارد والشخصية للتأثير في المتلقي ولإشباع رغبته الفضولية، فالقارئ غالبًا ما يبحث عن "السر" في الكتابة، ويمكنه "الفهم" ثم "الإدراك" عندما يسقط المتخيل الأدبي والإبداعي على الشخص الواقعي، وهنا أيضًا يمكن الحديث عن الرواية السيرة أو السيرة الروائية، لكنني شخصيًا أفضل عنهما "التخييل الذاتي"، ورواية نوكيا وإن اهتمت بالواقع الحالي ومتغيرته الجوهرية وآثارها على الإنسان الأعزل، فهي بعيدة عن التخييل الذاتي، ولا يعدو "باسم" في الرواية غير شخصية روائية متخيلة قد تتفق وتلتقي مع الشخص الواقعي في جوانب وتختلف عنه في أخرى.

"باسم" شخصية محورية في الرواية، لكنها غير مستبدة بالسرد، تنقل الوقائع وتربط بين محكي "محمود" ومحكي "داني"، فهو، باسم، القناة التي تمر عبرها المحكيات، ويقوم محكي باسم مقام "الحبكة" في الرواية التقليدية. يغادر محمود البلد هربًا من عقوبة الحبس، لأنه اعتدى بالضرب على رجل سلطة ممن نفدوا عملية تدمير المحال التجارية العشوائية التي كان محمود واحدًا ممن يستغلونها لكسب الرزق، عندما وجد وأصدقاءه الأبواب موصدة أمام أحلامهم وطموحاتهم، ولم يترك له (ولهم) سوى خيارات ضئيلة: الهجرة والأعمال غير القارة؛ داني يتحول إلى "دهَّان" في معمل سركيس، ومحمود يترك بذرته في رحم "عليا" ويهاجر خارج البلد، وباسم يتحمل تبعات كل ذلك.

يسترجع باسم من خلال شخصية محمود مأساة قوارب الموت والهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية - خاصة في دول شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء - التي أودت بحياة العديد من الشباب والكهول من مختلف الأعمار نحو الدول المتقدمة، لمزيد من الكشف والفضح لاستقالة الدول وحكوماتها والسياسات غير المواطِنة التي سادت نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، ومع أفول الثورة الصناعية وبزوغ "شمس" الثورة الرقمية والعوالم الزرقاء الافتراضية.

ومن خلال "داني" يطرح مجددًا قضية التسامح والتعايش، ويبرز أن العصف الفكري والسياسي والثقافي الجديد لم يميز بين المسلم والمسيحي، لأن هناك "دينًا" جديدًا يتمثل في العصبيات والعرقيات الجديدة، أي العصبيات التي انتقلت من الروابط الدموية والأنساب والعقائد الدينية إلى روابط ضمن "مجموعات" موحدة المصالح السلطوية. أي المهيمنة على موارد المال عامة والمال العام خاصة، ومواقع التأثير والقرار.

يئس "داني" من صديقته "ماريا" التي انتهت بها الطريق إلى عتبة دير الكنيسة، والرهبنة، وقادته أقداره نحو الهجرة إلى كندا، لمكابدة الغربة ومعاناتها، بعدما يئس أيضًا من الاستجابة لطلبه الذي وضعه في السفارة الكندية لأكثر من سنة، لكن أخيرًا، ستتم الموافقة على الطلب وسيترك تاريخه وأحلامه وأصدقاءه وماريا وأمه والدهان وسركيس ورائحة الخشب ويرحل، يقول باسم في مقتطف يختزل أحلام داني وتجذر محمود و"اقتلاعه" الوجودي المقلق والمؤلم:

داني، يحلم بالهجرة، أوراق الهجرة أودعها في السفارة الكندية، مضى عليها سنة كاملة أمَّا أنا فلا أعرف هجرة، ولا تجذرًا كمحمود!

هكذا يتميز باسم عن صديقَيْهِ، صورة الكائن الحائر الذي لا يجد في ذاته رغبة التحقق، صورة الكائن "الوجودي" المكوي بنار الحقيقة والوجود وآلام المصير، حتى عندما يتزوج "عليا" ويتيقن من وفاة صديقه محمود غرقًا في التقرير التلفزيوني، وشعوره بالاستقرار والاطمئنان في شقة محمود كذلك، تأتيه رسالة إلكترونية قصيرة من محمود بالإنجليزية تقول:" كيف حالك باسم، أنا محمود". هنا بالذات تبرز قيمة جمالية في كتابة باسم سليمان، عندما يتداخل الواقع (واقع الحكاية) مع (الحلم/الكابوس) ويضع السارد المتلقي في حال من الالتباس، كأن لا شيء حقيقي، فما نعتبره حقيقة الآن ليس كذلك بعد حين، وهذه حقيقة أخرى أورثتها المتغيرات الخارجية في وعي الإنسان المعاصر، فعندما تتزلزل منظومة القيم والمعايير الناظمة للعلاقات بين الناس في المجتمع، والمعايير التي تحمي المعنى من التلاشي والضياع، يصبح كل شيء؛ الذات والوجود والحقيقة والاطمئنان مجرد ضرب من الوهم. يقول السارد/باسم:

كالملدوغ استيقظتُ من هذا الكابوس، كنتُ قد غفوتُ على الكرسي، وأنا أنتظر أن تنتهي العملية القيصرية لعليا.

تسرب إلى سمعي صوت طفل يصرخ في الساعة الرابعة صباحًا، وفي ذاكرتي صورة سقوط موبايلي القديم من يد عليا في الماء عند مكسر الموج قبل زواجي بها بيوم واحد.

الصباح كان منعشًا، تركتُ عليا تستريح، خرجتُ للكورنيش، طلبتُ فنجان قهوة كبير، وجلستُ على حجارة الشاطئ، كنتُ قد اشتريتُ جريدة الثورة، بدأتُ بتصفُّحها والريح تلعب بوريقاتها، في ملحقها الثقافي يقع نظري على قصة بعنوان عائلة سعيدة جدًا لباسم سليمان.

مرة أخرى يزج السارد باسم الكاتب الموضوعي، وهذا ما يعرف بالشخصية المضاعفة التي تلعب أكثر من دور وتقوم بأكثر من وظيفة في العمل الأدبي، كما أنها طريقة في السرد توهم بالواقعية.

إن الحكاية في رواية نوكيا مأساة جيل واقع في لحظة التحول، لا هو متجذر في الماضي ولا ينتسب للحاضر، فهو لا يعيش الماضي إلا كصورة منقولة، كنسخة غير حقيقية، ولا يتلاءم مع الحاضر لأنه لا يدرك منطقه وخطة تحركه ولم يشارك في تَشَكُّلِهِ كتجربة وكوعي. لقد اصطلح على هذا الجيل بالرمادي وبجيل القنطرة الذي يصل بين ضفتين مختلفتين إلا أنه هو يقف على الهاوية.

جيل لم تنفعه شهادته العلمية ولم يعثر على وظيفة قارة تحفظه من الضياع والهجرة، ولم تساعده في بناء وجود كامل ومستقر وهانئ، جيل يحمل داخله شعورًا بالتخلي وبالعزلة والإقصاء، حتى الجنس كتجربة حميمة تحولت في عصره إلى مجرد وهم ويمر باردًا عبر الحزم الضوئية والموصلات الإلكترونية.

رواية نوكيا لباسم سليمان ليست مأساة حقيقية، فحسب، بل هي حقيقة المأساة الواقعية وجوهرها.

*** *** ***

قاب قوسين


 

horizontal rule

*  ناقد من المغرب.

**  باسم سليمان، نوكيا، منشورات دار ليليت، مصر، الطبعة 1، 2014م

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني