|
أجزاء لعب خارج سحر الحواس الحسِّيُّ انعكاسٌ للوحدة الأحديَّة وتجلٍّ لها في المرآة
حياة أبو فاضل شاعرة جاءت من سحر "خارج سحر الحواس". اخترقتْ عالم الحواس من عالم هو مِن مملكةٍ ليست مِن مملكة الدنيا، من عالم ثَقَبَ بنوره مملكة الدنيا ليهبط إلينا؛ أو قُلْ ليُظهِر لنا سرًّا من أسرار مملكة السماء. أجل، ذلك ما فعلتْه حياة أبو فاضل في مجموعتها أجزاء: لعب خارج سحر الحواس*.
أجزاء؟! هكذا قالت هذه الشاعرة. أجل، إنها "أجزاء"، لكنها ليست أجزاء من كلٍّ. فهذا "الكل" لا ينقسم إلى أجزاء، لأنه واحد أحد. قالت الشاعرة عن مجموعتها إنها "أجزاء" كي يفهم مَن هو مسحور بسحر الحواس ما تريد أن تقول. ولكن أنَّى له أن يفهم؟! تجاوزت الشاعرة بعبارتها الحسية الحواس. أقول "بعبارتها الحسية"، ذلك لأنها استقتْ هذه العبارة من الحسِّ لتعلو بها – وبنا – إلى العالم المعنوي؛ فإذا بالعالم الحسي انعكاس للوحدة الأحدية، تجلٍّ لها، مثل الصورة في المرآة. تلاشت في عالم الحسِّ الجزئي لينتشر الحق في كون من سحر المعاني. تقول الشاعرة في إحدى قصائدها: قبل أن تنفض عنك غبار/ النوم،/ غبار ما لملمتَه من صفحة السماء،/ التقطْ ما سيأخذه منك الباطن،/ التقطْ ولو بعضه،/ ففيه نافذة تخبرك عنك. فأنت، ولو كنت في عالم الحسِّ جزءًا، فإنك في عالم الحق عبارة. وتُواصِل الشاعرة قصيدتها: وإذا صباحًا تذكرتَ/ فاعلم أنها رسالة لك،/ فُكَّ رموزها/ وستعرف كم أنك في شبكة/ الكل:/ الفضاء والكواكب،/ والناس، والعناصر، والحب/ والنماء. فأنت لست فردًا مفروقًا: أنت في شبكة الكلِّ، مجموعًا مع الفضاء والكواكب والناس والعناصر. أما هيولاك فهو الحب. وأما قيامك وحياتك ووجودك فالنماء. أي شعر هذا، وأية موسيقى، وأي حب، بل أي وجود حقٍّ عبَّر عنه هذا الشعر: الوجود هو حب الله منعكسًا على مرآته؛ الشعر هو الكلمات الملهمة منه سبحانه؛ الموسيقى هي اتساق مستمَد من حركته التي ليست في مكان ولا زمان؛ هي خارج الأبعاد: لا ظاهر لها ولا باطن، ولا أول لها ولا آخِر، ولا عمق لها ولا سطح. عندما يكون الإنسان جنينيَّ المعرفة، يظن أن نَظْمَ الكلمات في قوالب موسيقية هو الشعر، وأنه، إلى ذلك، ذكرى وعاطفة، وأن نثر الكلمات نثرًا ليس بالشعر. ولذلك سَمَّى ما ليس بنَظْم نثرًا، كمن ينثر الحبَّ على غير نسق. وهكذا حَصَرَ الشعر بالنَّظْم، ووضع ما سماه نثرًا في مرتبة دون مرتبة الشعر. بيد أن ما سُمِّيَ بالنثر خطأ هو غير ذلك؛ إذ ليس الشعر محصورًا في النَّظْم الموزون المقفَّى. الشعر الشعر يتعدى هذه السطحية. فإذا كان النَّظْم هو وضع الكلمات في قوالب من الموسيقى، فالكلام الفني غير الموزون وغير المقفَّى هو وضع الموسيقى في الكلمات. إذا كان ما كتبتْه حياة أبو فاضل ليس بنَظْم فإنه أيضًا ليس بنثر. لم تنثر حياة أبو فاضل عباراتها نثرًا، بل وضعت الموسيقى في العبارة، فكانت عبارتها شعرًا وأيَّ شعر! صحيح أنها لم تنظم عباراتها في قوالب موسيقية جاهزة، لكنها حرصت على وضعِ لطيفِ موسيقاها في الكلمات. ثم نظمت الموسيقى مثلما نظمت الكلمات في عوالم (ولا أقول في "قوالب") من المعاني الإلهية المتأنِّسة، فكان "ناسوت" شعرها "سرَّ ذلك المعنى اللاهوتي"، على حدِّ تعبير الحلاج. وإذا بشعرها الشعر يعبِّر عن حقيقة الحياة، متعديًا سطحها، متجاوزًا الزخرف والبهرج؛ فإذا هي تعبر عن الفرح الحق وقد هرب من الحياة الحزنُ الأناني والأسى، ليتلاشيا في فسيح الوحدة الأحدية حيث الفرح ولا حيث. ألم تقل في قصيدة من قصائد مجموعتها: كالأريج تفوح الكآبة رغم الشمس./ تدخل في النوافذ والأبواب./ من الشرق/ تأتي، تقتحم وتستقر على الأريكة/ الكبيرة، تتكاثر وتملأ المكان. تتركك/ مكبلاً، تسجنك داخلها وتضحك/ عليك. هي تضحك وأنت على/ ضفة الدمع، ولا يبقى إلا الهرب.../ الهرب منها أم الهرب منك، من داخلك، من أريج قاتم بثَّه خيالك/ لتدرك أن وجه الكآبة الآخر يفوح/ فرحًا متى تشاء أنت. ومتى تشاء أنت أن تفوح فرحًا؟ تشاء أن تفوح فرحًا عندما تتحقق بالفرح الأكبر! إذ ذاك تصبح مشيئتك مشيئته سبحانه! عندما كنت "على ضفة الدمع"، كما تقول الشاعرة، كانت ضفة الدمع هذه ضفة لهذا البحر الإلهي الذي لا شاطئ له ولا قرار. أي ضفة هي إذن هذه الضفة، والبحر لا ضفة له! إنها ضفة خادعة، رمالها وصخورها من الوهم. ذلك هو الشعر الشعر، لأنه يصوِّر الحق؛ لأنه خاض في البحر الذي لا شاطئ له ولا قعر، ولم يبقَ على ضفة الوهم الخادع "داخل" سحر الحواس. تخلَّى هذا الشعر عن سحر الحواس، وأخذ يلعب "خارج" هذا السحر الحسِّي. وما اللعب؟ إنه حركة بلا غاية. ومتى تتحرك بلا غاية تتحرك إليها؟ إنك تتحرك بلا غاية تتحرك إليها عندما تكون في حركتك تتحرك في الغاية ذاتها ولست خارجها. تتحرك إليها عندما تكون "كالطفل في حِجْر الحق"، على حدِّ تعبير الشيخ الجنيد. أما إذا كنت لا تزال مسحورًا في الحواس، وأردتَ أن تتحرك، تظن خطأً أنك تتحرك إليه سبحانه، لا فيه. لكن أنَّى لك الحركة وقد كبَّلك هذا الزمن الحسِّي؟! وتهتف حياة أبو فاضل في قصيدة تنشرك في طيات الوجود: كي لا تقف مكتوف اليدين على امتداد/ الزمن، كل ما يجري، يجري لقتل/ الوقت./ خيالك قال إن هناك زمنًا يدعى/ الوقت: الأمس واليوم والغد،/ فكان التاريخ،/ سجل ما نسج خيالك/ لقتل الوقت. أنت تحب، لقتل/ الوقت./ تُنجب، لقتل الوقت، تخترع/ تكتشف/ وتعمل، لقتل الوقت، تبني أوطانًا/ وحضارات، ثم تحارب وتخرب وتقتل،/ لقتل الوقت. ومتى حقًّا تمد يدك/ للمسه يفلت منك. فالأمس طار،/ واليوم، ثانية بعد ثانية، تطير منه/ لتلتحق بالأمس، والغد سيغدو/ الآن، ولحظة بعد لحظة سيذوب. الوجود لدى حياة أبو فاضل هو وحده أحدية؛ ولو بدا أضدادًا متكثِّرة فإن هذه الأضداد تؤلِّف وحدة متكاملة. والوحدة هي الحياة لأنها في حركة دائمة هي حركة الكمال. الحياة ليست سكونًا. السكون موت. هذه الكثرة، إذن، هي واجبة الوجود. هي كثرة في مظهرها، وحدة في حقيقتها. تقول الشاعرة: وحدة الأضداد حياة، لو فتحت/ لها بريئًا لملأتْ فراغك/ بكلِّ أسرارها./ كفاكِ مثالية، قلت، ولم أفهم،/ إلى أن أشرقت الحكمة في الوادي/ تحت/ بيتي. هبَّتِ الروح من حيث تلتقي/ جذور الجبال وصعدتْ ولامستْ/ وجهي: أنتِ أيضًا لكِ جذور في/ الأرض وأزهار في السماء. اجمعي/ بينهما، هما الحياة. المثالية موت/ لأنها تنكر "ضدَّها" فتسقط الحياة/ التي تنبت من لقاء الأضداد. هذه هي الحياة الحق، يا حياة. لا أحدية خارج الكثرة – أو تتلاشى الأحدية. ولا كثرة إلا انعكاس للأحدية – أو تتلاشى الكثرة وتضمحل وتصبح هباء. صدقتِ يا حياة عندما قلتِ: والسماء أيضًا تلعب،/ تبدِّل عباءتها:/ زرقاء، بيضاء، رمادية/ وسوداء مرصَّعة للسهر./ ومتى يحين زمن البدء/ من جديد/ تفتح الأسوَدَ/ وتسمح للقمر بشرفةٍ/ صغيرة،/ فيخرج رائعًا كحرف الراء.../ ويناديني.../ وأسأله هديةً منكَ./ يضحك ويعدني،/ ثم أسمعك خائفًا/ وأدرك كم اطمئناني عظيم. من يقل إنك، يا حياة، لم تمسكي بناصية الشعر يكن داخل سحر الحواس، مكبَّلاً بها، لا يفقه معنى للجمال! *** *** *** * صدر في منشورات "مختارات"، 2004. |
|
|