كُتُبٌ إلى النَّار

 

أدونيس

 

1

كُتبٌ تحترق: هو عنوان الكتاب الذي صَدَرَ في باريس عن دار "دونويل" للكاتب الفرنسي المستشرق لوسيان بولاسترون.* وهو معروفٌ بكونه خبيرًا في تاريخ الفن، وبخاصة فن الخط، وله في هذا المجال كتبٌ عدة.

يقول في حديث أخير له (مجلة Le Point، 19 شباط 2004) إن تدمير المكتبات العامة بدأ في مصر، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، مع أخِناتون. فعندما تسلَّم العرشَ دمَّر في طيبة النصوص السابقة القديمة. وكان دافعُه إلى ذلك سياسيًّا، من أجل أن ينشر فكرة الوحدانية، أو فكرة الإله الواحد. وهكذا دمَّر النصوص التي تشكِّل مرجعًا للمنظومات الفكرية غير الوحدانية. ثم أقام في تل العمارنة، وأنشأ مكتبته الخاصة. لكنْ عندما مات أحرق الكهنةُ كتبَه، ثأرًا منه وردًّا عليه.

ويشير المؤرخ إلى تدمير آخر قديم، كان من نصيب المكتبة الآشورية، مكتبة الملك آشور بنيبعل الذي مات سنة 625 قبل الميلاد. وبعد خمسة وعشرين قرنًا، سنة 1860، اكتشف البريطانيون بقايا هذه المكتبة. وقد رأى المكتشفون رقائمَ طينية حسبوها دُمى وأدوات تزيينية، فباعوا قسمًا منها، وأرسلوا إلى المتحف البريطاني في لندن الأقسامَ الباقية. ودهش القيِّمون على المتحف عندما رأوا أن هذه الرقائم نصوص بالغةُ الأهمية، بينها: ملحمة جلجامش، وقصة الخليقة، وأسطورة أدابَّا، الإنسان الأول. وتبيَّن لهم أن آشور بنيبعل هو الذي كان يجمع بنفسه هذه الرقائم وينظِّمها، ويعيد كتابتها.

ثم يشير إلى تدمير مكتبة الإسكندرية، وإلى الروايات المتباينة حول ذلك، وإلى تدمير المكتبة الفاطمية الضخمة، الذي قام به صلاح الدين في القاهرة، وأمر بأن تُحرَق الكتبُ في الحمامات والمدافئ!

وفي كلامه على الصين، لمناسبة الاحتفاء بها هذه السنة [2004] في "صالون الكتاب" في فرنسا، يشير إلى أن تدمير الكتب فيها بدأ في السنة 213، وكان عملاً سياسيًّا محضًا قام به الإمبراطور كِنْ، باسم "توحيد" الصين، بناءً على نصيحة مستشاره لي سي الذي قال له: "العودة إلى الماضي ضعف"، فأجابه: "إذًا، علينا أن نمحو الماضي."

وهكذا محا هذا الإمبراطور تاريخ الصين، أي العصر الذهبي للفلسفة الصينية، من كونفوشيوس حتى لاوتسُه. وعندما احتجَّ بعض المثقفين على ذلك – وكان عددهم أربعمئة – أمر هذا الإمبراطور بأن يُدفَنوا أحياء!

وقال إن ماو هو كذلك "وحَّد الصين"، لكنه كان أكثر فطنة في ما يتعلق بالتخلص من ثقافة الماضي. فقد "عمَّم قمعًا أخلاقيًّا أدَّى بالأشخاص أنفسهم إلى أن يحرقوا كتبهم أمام جيرانهم."

وتحدث عن تدمير مكتبة المنصور في قرطبة، نحو سنة 1000، وكيف أن علماء الدين ضغطوا عليه حتى تركهم يدمِّرون ثروة معرفية هائلة. تحدث كذلك عن هولاكو في بغداد، وكيف أمر بطرح الكتب في دجلة حتى أصبح ماؤه أسود كالحبر. وعن الصليبيين، الذين يصفهم بأنهم "متوحشون" و"معظمهم لا يعرف أن يقرأ"، وكيف كانوا يقومون في القسطنطينية، سنة 1204، باستعراضاتهم، والكتب مشكوكة في رؤوس حرابهم. وهي كتب كانوا يأخذونها من "أكبر مكتبة في العالم" آنذاك، كانت تتضمن الأدب اليوناني كلَّه، في القسطنطينية نفسها.

ويتحدث كذلك عن عهد "محاكم التفتيش" في إسبانيا، وكيف كانت تحرق الكتب العربية والعبرية. وكيف أن إسبانيا، بعد أن طردت العرب واليهود، صدَّرت "التعصب" إلى "العالم الجديد"، وكيف أن هذا العالم دمَّر كليًّا كتب الآزتيك والمايا. ويفتخر لاس كازاس بهذا التدمير قائلاً: "إنني فخور بتدمير كتبهم كلِّها."

ويقول إن ملايين الكتب تعفنت إبان الثورة الفرنسية. وكان الثوار يستخدمون ورقها خرطوشًا للمدافع. وفي عهد "الكومونة" أُحرِقَت المكتبات الكبرى كلُّها، وبينها مكتبة اللوفر، باستثناء المكتبة الوطنية.

2

"للكتاب مجرى حياة يشبه مجرى الحياة عند البشر"، يقول مؤلِّف هذا الكتاب في حديثه، ويستشهد بكلمة للشاعر الألماني هاينريش هاينه يقول فيها: "حيث تُحرَق الكتب، يُحرَق البشر." يستشهد كذلك بالعالم الاجتماعي ليو لوفنتال الذي حلَّل الإنسانية، انطلاقًا من إحراق الكتب، تحليلاً نفسيًّا، فقال: "يُقتَل، فيما وراء الجثث، ما يتبقى" – أي الكتب.

ويتحدث المؤلِّف كذلك عن العصر الحديث – عن هتلر، وستالين، وبول بوت – وعن الجرائم الضخمة التي ارتكبوها في هذا المجال. يتحدث أيضًا عن هذا التدمير في الحرب العالمية الثانية، وكيف أن ألمانيا وحدها فقدت نحو 12 مليون كتاب.

3

في هذا الكتاب كذلك فصولٌ عن الأخطار التي تحيط بالكتاب في قرننا هذا، القرن الحادي والعشرين، من حيث إنها تحيط بالمكتبات، وفنِّ إدارتها الرقمي والمعلوماتي، لا أجد هنا إمكانًا للخوض فيها.

ما أريد في النهاية أن أقوله عن هذا الكتاب يتلخص في أربعة أمور:

-       الأول، هو الإشادة بهذا الجهد التاريخي العلمي الذي يتميز به هذا الكتاب، بحثًا واستقصاءً، دقةً وإحاطة.

-       والثاني، هو ضرورة ترجمة هذا الكتاب إلى العربية ونشره، لكي يمكن أن يقرأه العرب الذين لا يقدرون أن يقرأوه بلغته الأصلية.

-       والثالث هو أن هذا الكتاب تاريخٌ مروِّع للقتل المزدوج الذي يقوم به الإنسان: تدمير الكتاب، وتدمير نفسه عبر تدمير الكتاب.

-       والرابع الأخير هو أن الوحدانية، بدءًا من أخِناتون، – وحدانية الدين والفكر والسياسة – كانت الباعث الأساسي في إحراق الكتب، أي إحراق الإنسان.

***

 

"الأكثر خطرًا"

 

1

يخطئ المثقفون العرب كثيرًا إذا لم يلاحظوا أن الثقافة، بصفتها فاعليةً إنسانيةً خلاَّقة، تضمحل في المجتمع العربي، لا بفعل الرقابة السياسية وحدها – رقابة السلطة ومؤسَّساتها، أو رقابة المؤسَّسة الدينية، – وإنما تضمحل كذلك – وهذا هو الأكثر خطورة – بفعل نوع من الانصياع الذاتي الإرادي عند المفكرين أنفسهم وعند المثقفين، بشكل عام. ولا أستثني أحدًا، وأضع نفسي في طليعتهم جميعًا.

وهي تضمحل، عمليًّا، بطريقتين: إما نبذًا وتهميشًا، وإما بوضعها تحت راية التبسيط والابتذال، ودمْجها في الغبار الذي يتطاير من الآلة الضخمة الطاحنة: وسائل الإعلام. فهذه الوسائل آلة غنية، غير أنها قلَّما تُنتِج، ثقافيًّا، غير البؤس.

2

اللغة، كما يقول هولدِرلِن، هي "الأكثر خطرًا"، بين الأشياء التي يملكها الإنسان: كل ما هو مهم لدى الإنسان، كل ما يصعد إلى الأعلى، أو ينحدر إلى الأسفل، يتم بوساطة اللغة. اللغة تحرِّر، غير أنها تستعبد كذلك.

3

لا ثقافة خلاَّقة حيث لا تُعاش وتُكتَب لحظةُ الزلزلة، اللحظة التي تُرَجُّ فيها السلطاتُ من كلِّ نوع، بفعل اللحظة الثائرة الخلاقة داخل اللغة ذاتها.

اللغة طاقةٌ، والكتابة استقصاءٌ لهذه الطاقة: اكتشافٌ دائمٌ لما يُصدِّع العالمَ السائد.

وكما يستطيع الإنسان أن يحيي اللغة، فإنه يستطيع كذلك أن يقتلها – محولاً إياها إلى حصًى أو رمادٍ، أو إلى مجرَّد ابتذالٍ تواصُلي.

وفي هذا القتل ما يؤسِّس للحيلولة دون أن يُطابِق المبدعُ بين لغته وتجربته، وما يمنعه من أن يعيش الحالة التي تربطه بمصيره، أو على الأقل، بحياته، وما يفرض عليه أخيرًا أن يحيا ويكتب كما يشاء هذا الكائن، الشبحُ، الغُفْلُ، الكلِّي الحضور: الـ"هُمْ" أو الـ"هُوَ".

4

يقول هَيْدِغِّر: "ما من شاعر يتكلَّم إلا مسبوقًا بلغته." كأن الشاعر لا يتكلم إلا انطلاقًا من ذاكرة لغوية. لكن للذاكرة هنا، في إطار ما يقوله هيدغِّر، مستويان: الجَمْعي، والمشترك العام؛ والذاتي، أو الشخصي الخاص. وعمل الشاعر، بالضبط، هو خلق هذه الذاكرة الخاصة به؛ إذ تتحول اللغة إلى جسد آخر لجسده – انطلاقًا من المشترك العام، لكن في ما يتخطَّاه، وفي ما وراءه: في المتميِّز، المُفْرَد.

الآن: أي شرق؟

مرةً، قال فريدرِك شليغل:

الآن، لا أتكلَّم

إلاَّ مع هؤلاء الذين

يتوجَّهون بأنظارهم

إلى الشرق.

***

 

شذرات

 

1

ما لا يمكن قوله في المجتمع العربي هو بالضبط ما ينبغي على المبدع، في مختلف الميادين، أن يقوله.

دون ذلك، ستظل الكتابة في هذا المجتمع (وتبعًا لذلك، ستظل الثقافة) ناقصة، وجزئية، وسطحية، ومستعبَدةً، بشكل أو بآخر، قليلاً أو كثيرًا.

2

الدخول في ما لا يمكن قوله هو الذي يعطي للكتابة حضورَها المتوتر، المُضادَّ؛ وهو الذي يعلو بها لكي تكون في مستوى الكائن الإنساني، وفي مستوى الوجود.

3

الكتابة الخلاَّقة هي، إذًا، خروجٌ من الزمن الخطِّي المنسجم والمتآلف. وهي، تاليًا، ليست نتيجة منطقية لما سبقها. إنها، على العكس، انشقاق وزلزلة.

ولا يعني ذلك أن هذه الكتابة خارجة على التاريخ، أو خارجه، وإنما تعني أنها خارج التمحور حول الماضي.

4

كلُّ سائد سُبات.

لا يقظةَ إلاَّ في تصْديع السائد، وفي الخروج منه.

5

السائد العربي، اليوم، يتَّجه بروحه إلى الماضي؛ ويتجه بجسده إلى الغرب.

كأنه دبابةٌ تلتصق عليها أجنحة الملائكة.

6

كل شيء في الثقافة الغربية الراهنة يُردِّد مقولة نيتشه الشهيرة في هكذا تكلم زرادشت أو يجسِّده.

لكن ثمة مُفارقةٌ، قد يتعذَّر تفسيرُها، تكشف عنها التجربةُ اليومية في الغرب، الأمريكي بخاصة، – تجربة السياسة والتقنية – هي أن الله الذي تؤمن به هذه الثقافة لم يمت، كما يقول نيتشه، وكما قال اليونانيون قبله، وإنما هو مريضٌ، لا يَشفى ولا يموت. وتلك هي المشكلة.

ماضيًا، كانت "الأفكار"، "الكتب"، "اللغات"، هي التي تنتشر.

حاضرًا، تنتشر أفكار السوق والمال والهيمنة.

ولقد اكتملَتْ نواةُ النموذج الأول للقاء الثقافات في الأندلس، في غرناطة وقرطبة. وفي هذا اللقاء كان ينمو الجوهري الإنساني، إبداعًا وحضارة.

ربما، كانت في ذلك بدايةُ العولمة بمعناها الإنساني الكوني، الواحد المتعدد في آن.

لا عولمة حقيقية إلا بدءًا من إعادة اكتشاف الكونية الإنسانية، في هذا الضوء: ضوء الواحد المتعدد، الحرِّ، والسيد على وجوده ومصيره.

بدلاً من تحويل العالم إلى سوقٍ كونية، يجب تحويله إلى جامعة كونيَّة.

إنه مشروعٌ يتجاوز مجرَّد الحوار بين الغرب والشرق، ومجرد الحوار بين الأديان والثقافات.

*** *** ***


 

horizontal rule

* Lucien X. Polastron, Livres en feu : Histoire de la destruction sans fin des bibliothèques, Denoël, 2004.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود