|
الأصول الفلسفية للذكاء الاصطناعي
رئيس الجمعية الكونية السورية
يحثُّ الاستهلاكيون خُطاهم في محاولاتهم الدائبة لطَمْسِ الهوية الإنسانية وتغييب ظاهرة الوعي. وكما هو الأمر في حالة الإعلانات التجارية، نسمع، بين الفينة والأخرى، أن العلماء باتوا قاب قوسين أو أدنى من إنجاز آلةٍ تفكِّر. فما معنى قولنا: "آلة تفكِّر"؟ ماذا يترتَّب على وجود مثل هذه الآلة؟ لعلَّ الكومبيوتر هو الآلة التي ستُناط بها مهمةُ التفكير. والكومبيوتر هو نتاج علمي صرف، بَرَزَ بروزًا خاصًّا في ظلِّ إنجازات علمية كبيرة، تجسَّدتْ في ظهور الميكانيكا الكوانتية Quantum Mechanics والجبر المنطقي Logical Algebra وسواهما (شكل 1).
الشكل 1: برز الكومبيوتر كنتيجة لتطور الميكانيكا الكوانتية والجبر المنطقي وسواهما من العلوم. نميِّز، في بحثنا هذا، بين العلم كـنهج معرفي، وبين العلم كـأداة تطبيقية. ففي إطار السياق الثاني، تفجرتْ الثورةُ الصناعية الأولى التي خلَّفتْ آثارًا سلبية عميقة، ليس أقلها تلويث البيئة واستلاب الإنسان لحساب الأنماط الاستهلاكية المتجددة عديمة الجدوى. وفي الإطار نفسه، ولدت الثورة الصناعية الثانية التي غذَّاها وجودُ الكومبيوتر، وأضحت تُعرَفُ اليوم بـ"الثورة المعلوماتية". لكن الثورة الجديدة لم تنفِ الثورة الأولى، بل على العكس: تحوَّل النشاط المعلوماتي المعاصر إلى نشاط مروِّج للاستهلاك بالدرجة الأولى! استقطاع أول: إذا كان العلم نهجًا معرفيًّا حقًّا، فلا شكَّ أن له صلةً وثيقة بالفنون؛ ولا نبالغ إذا قلنا إن العلم فنٌّ صريح، وإن الفنون علوم مستترة. هل تستطيع الآلة أن تفكر حقًّا؟ هل نستطيع، في الحدود الدنيا، جَعْلَ الآلة تفكر؟ تتوقف الإجابة على التعريف المُتَبَنَّى: فلو قبلنا بأن الآلة هي كل ما يعجز عن التفكير، لكانت الإجابة نفيًا قاطعًا؛ على العكس، إذا عرَّفنا بالإنسان بكونه آلة، لصُنِّفَتْ كلُّ آلةٍ، بالتالي، في عداد الكيانات المفكِّرة. إذا اختزلنا قصدَنا بدفع الآلة إلى تصرُّف تبدو معه وكأنها تفكر، بصرف النظر عن كونها تفكر أم لا، فلا شكَّ أننا ننحدر صوب السلوكية behaviorism. فوفق السلوكية، لا أستطيع القَطْع بأن الآخرين يفكرون: كل ما أعرفه أنهم يتصرفون وكأنهم يفكرون! أما الاستشفاف الفعلي لفكر الآخرين فهو ممكن في أحوال غير مألوفة، كالتناغم التخاطري telepathy العميق والمشاركة الوجدانية الطنينية resonance. يفرض علينا الإخلاصُ للحقيقة أن نبدأ بحثَنا برفض أيِّ سبب مسبَّق يحول بين الآلة وبين إمكانية التفكير. نتطرق لذلك إلى تجربة العالم تورِنْغ. وتتلخَّص التجربة في محاولة اكتشاف الباحث لهوية الموضوع باستخدام الحوار فقط. هكذا يعزل الباحث نفسه، ويأخذ بطرح مجموعة من الأسئلة عبر أقنية اتصال خاصة. وعليه أن يحدد، بالاستدلال من طبيعة الإجابات، نوعية الجانب الآخر: أهو رجل أم امرأة أم كومبيوتر؟ لا تتمتع هذه التجربة بالكفاية المطلوبة لتحقيق أهدافها؛ ولا أدل على ذلك من بَحْثٍ متأخر أجرتْه طبيبةٌ متخصِّصة، تبيِّن فيه أن المخ الذكري يختلف عن المخ الأنثوي، حتى في الطور الجنيني. إذن فلكلٍّ خصائصُه؛ وتشمل هذه الحقيقة الكومبيوتر الذي سيكون مختلفًا إنْ بَرْمَجَهُ هذا الشخص أو ذاك، أو بَرْمَجَتْه أنثى، أو تصدَّى للمهمة نفسها ذَكَرٌ. يُعتبَر الكومبيوتر، في هذا السياق، أكثر مقدرة على التلاؤم من الإنسان؛ إذ إنه يتغير بالكلِّية تغيرًا جذريًّا عندما ينتهي سريانُ برنامج معيَّن فيه ويبدأ سريانُ برنامج آخر. نضع اليد هنا على المعنى الحقيقي للتلاؤم أو التكيف: فالمقصود بذلك تحقيق التوازن والراحة الداخليين. فبينما يقبل الكومبيوتر بَرْمَجَة الجميع، لا تتَّسق الذات إلا مع نخبة منتقاة. فلو كان التلاؤمُ الاجتماعي سِمَةً إنسانية مميِّزة، إذن لما كان هناك عظماء صنعوا العالم؛ ولو جارى هؤلاء المبدعون اشتراطاتِهم الاجتماعية لما استطاع كلٌّ منهم تحقيقَ القفزة المميِّزة له عِبْرَ التاريخ. أما الاتساق الكوني فشأنه شأنٌ آخر: إنه تناغمٌ يحدث بين طالب المعرفة وبين الوجود من حوله؛ ويتفتق هذا التناغم عن معطيات معلوماتية تزيد من ذُخْرِ طالبِها على الدوام (شكل 2).
الشكل 2: تزداد معلومات طالب المعرفة وتتعاظم طردًا مع تخلُّل ذاته للمحيط وللكون بأسره. لا ينفِّذ الكومبيوتر، من حيث المبدأ، إلا ما بُرْمِجَ عليه. وعلى الرغم من أن الحركات الظاهرة لأحجار الشطرنج تبدو في برامج الكومبيوتر المُعَدَّة لذلك وكأنها ناجمة عن تفكير أو محاكمة، ترتبط تلك الحركات، في واقع الأمر، بخطط مرسومة مسبقًا، ويجري انتقاء خطة منها بما يناسِب حركةَ اللاعب الآخر. بذا نستطيع القول إن الكومبيوتر لا يملك أيَّ هامش حرية في إقرار ما يُقْدِمُ على تنفيذه. تتباين هذه الحقيقة مع حالة الجَبْرية في الوجود الإنساني. لقد اكتشف الإنسان الحالة المذكورة وتحسَّسها، لا بل وتعوَّد عليها. ولن نأتي هنا بجديد إن قلنا إن الخيار الحرَّ الظاهر إنْ هو إلا جَبْرية باطنة. فلو اخترتُ أحد شخصين، وتبيَّن لي بعد مدة، بالدليل العملي، أن الخيار لم يكن موفَّقًا، لما استطعت العودة بالزمن إلى الوراء لكي أختار الشخص الآخر. يتميَّز الإنسان عن الكومبيوتر، في هذا السياق، باستبصار awareness عميق يحقِّقه الإنسان لهذه الحقيقة.[1] تشير كلمة "أفكِّر" أو كلمة "أدرِك" إلى شيء أستبصره، أو إلى قرار أستبصره وأدركُه، بصرف النظر عن آلية صَوْغه في الخافية unconscious. هل ينفي عدمُ وجود الاستبصار إمكانية التفكير؟ وهل من المحتمل أن ترتقي الآلةُ إلى مرحلة الاستبصار؟ إنْ كان الوعي والاستبصار غير ضروريين للتفكير، فإننا نبقى في حيِّز السلوكية الضيق. إننا لا نستطيع أن نرى في التفكير إلا معالجةَ الرموز البانية للنماذج في ضوء الاستبصار. وحتى ما يجري من معالجة في الخافية، لا تظهر له أيةُ قيمة إنْ لم يتحول إلى الواعية consciousness في لحظة من اللحظات، أي إنْ لم يَغْدُ مستبصَرًا. يعرَّف بالسلوك بكونه منتوج الفكر. السلوك، في عبارة أخرى، هو النهج المتَّبع في تنفيذ الفكرة. فما السلوك، إذن، إلا نموذج داخلي يخاطِبُ الفكرة، وتخاطِبُه الفكرة بدورها. من هنا كان الوهن في السلوكية، لأنها وضعت السلوكَ الظاهر في المقام الأول. وأنَّى لنا أن نُبعِدَ السلوكَ عن جذوره الفكرية؟ – خاصةً في ظلِّ العزلة المتفرِّدة للتجربة الذاتية والتعذر الراهن لتحقيق اندماج الذوات. لا تفضي زيادةُ التعقيد إلى الاستبصار؛ فالقفزة الكيفية، في هذه الحالة، هي قفزة هابطة. ولا أدل على ذلك من تجارب أجراها بعض العلماء بهدف زيادة تعقيد النماذج باستخدام الكومبيوتر، فكان أن هجروا محاولاتِهم عند حدٍّ معيَّن، مفضِّلين العودة إلى أصل الظاهرة وتناوُلَها من منظور كلاَّني. وعلى الرغم من أن التعقيد المطَّرد يخفض الفوضى الكونية، فإن الأمر يتعلق في جوهره بميتامخ meta-brain (مصطلح سنتطرق إليه فيما بعد). حسبنا الآن أن نؤكد أن الذكاء intelligence لا يرتبط بالضرورة بالتعقيد؛ وهو لا يرتبط كذلك بجودة التصنيع. فالأداء أمر، والذكاء أمر آخر.[2] لذا يجب ألا نتوقف عند أيِّ مصطلح في بحثنا هذا. فشأن الذكاء الإنساني أنه يهتم بـالمعنى، بصرف النظر عن المقابل الاجتماعي لهذا المعنى. إن هناك فارقًا كبيرًا بين تعقيد التصميم في حالة الديناصورات وبين تعقيد التصميم في حالة المخ الإنساني، على الرغم من التطابق اللفظي بين المصطلحين. نواجه إشكال المصطلح إنْ حاولنا، مثلاً، اختزال الفكر للروح، وذهبنا أبعد من ذلك بقبول كون الفكر حِكْرًا على الإنسان. إن افتقارنا إلى تعريف جليٍّ للمادة يحول بيننا وبين طَرْحِ أيِّ تعريف واضح لما قد يبدو ندًّا للمادة. إننا لا نعرف ما هي المادة؛ ومن البديهي أن نجهل ما الذي نعنيه على وجه التحديد إنْ تناولنا بالبحث أنداد المادة. نؤكد، في هذا السياق، أن تعريفات مثل هذه المصطلحات هي تعريفات منقوصة، ولا يمكن لنا أن نتبنَّى مثل هذه التعريفات لدى مناقشة مسألة بالغة الأهمية كمسألة الآلة المفكِّرة. إذ لا نستطيع قبول أن يكون الفكر حِكْرًا على الإنسان. وتُثبِتُ تجربة العناكب المفكِّرة وجهة نظرنا (شكل 3).[3]
الشكل 3: بين العناكب أيضًا نجد طليعيين وعباقرة. عندما نكتب برنامج تشغيل داخلي للكومبيوتر، نصوغه فيما يُعرَف بمصطلح "المعاودة"؛ أي أن البرنامج يعرَّف به بدلالة ذاته. وليست تلك المرحلة إلا المرحلة الأولى في كتابة البرنامج؛ إذ إن تطبيقه الفعلي يفرض أن نحوِّله من إطار المعاودة إلى لغة النماذج العلمية التي تنطلق من تعريفات محددة، لتَخْلُصَ إلى العلاقات المنشودة. نلاحظ هنا تدنِّي مقدرات الكومبيوتر وعجزه عن استيعاب آلية المعاودة. إن استخدام المبرمجين لهذه الآلية يستند إلى تفكيك المنظومة الداخلية لها لتشغيل الكومبيوتر واختزالها إلى لغة النماذج العملية. صحيح أن المخ يبدأ أيضًا باستخدام آلية المعاودة، أي التعريف بالشيء بدلالة ذاته؛ لكنه، بعكس الكومبيوتر، لا يلبث أن يعود إليها في النهاية. فبعد الانطلاق من تعريف أولي، ينتقل المخ إلى درس تفاصيل الأداء، ليرجع إلى صياغة تعريف أعلى للأداء، وإلى استشفاف مبدأ المعاودة في التعريف الجديد.[4] يختزل المخ العوالم الخارجية والداخلية إلى نماذج يُسكِنُها في الخافية، ويتعامل معها على أساس مبدأ المعاودة. لذا فإن أيَّ تعامُل للمخ مع الأحوال الوجودية التي تتخلَّله وتحيط به إنما يتحدد بفعل الاستبطان. نستبعد هاهنا احتمال الاستبطان الموضوعي objective introspection. وتعني الموضوعية objectivity، فيما تعنيه، البحث المستقل عن الذات في شيء مستقل عن الذات. إذن، يستحيل على الاستبطان أن يكون موضوعيًّا؛ لا بل لا يوجد أيُّ بحث يمكن له أن يوصَف بأنه "موضوعي". وليس الفارق بين الاستبطان وبين البحث الموضوعي فارقًا لفظيًّا فقط؛ كما لا يمكن أن نعتبر أن أحد المصطلحين هو نظيرٌ للمصطلح الآخر، ذلك أن البحث الموضوعي هو قناة من أقنية الاستبطان. نعلم أن الكومبيوتر هو حيِّز لتخزين المعلومات ومعالجتها؛ وهو يتميز بصغر حجمه وبسرعته الكبيرة (شكل 4). ولو قبلنا بأن الكومبيوتر كائن منفصل، لما استطاع هذا الكائن الاستمرار دون وساطة الإنسان. وإذا أخذنا بالرأي الخاطئ القائل بأن الإنسان، في وجوده الموضوعي، ندٌّ للطبيعة، لتعمَّق دورُ هذه الوساطة أكثر وأكثر. فناقل المعلومات إلى الكومبيوتر هو الإنسان؛ وهو ناقل انتقائي، بمعنى أنه لا يزوِّد الكومبيوتر إلا بالمعلومات التي يراها مناسبة. نتساءل، في صورة مناظِرة، عن الوساطة الممكنة بين الدماغ وبين البيئة. لا يمكن لأجهزة الجنس أن تلعب دور الوسيط في هذه الحالة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، لا نجد أية قناة معلوماتية حسِّية تبدأ بالعالم الموضوعي المحيط، لتنتهي في النموذج النظري للنسبية العامة General Theory of Relativity الذي صاغه أينشتاين، أو لتنتهي، بالمثل، في النظرية الرياضية البالغة التعقيد التي طَرَحَها كومر عن المثاليات في البنى الجبرية.[5]
الشكل 4: الكومبيوتر هو حيِّز منمنم لتخزين المعلومات ومعالجتها؛ وهو يتميز، بالإضافة إلى نمنمته، بسرعة كبيرة في الأداء. نختزل النشاط المعلوماتي للكومبيوتر (أو ما يُعرَف بالسيبرنتيكا cybernetics) بأنه إسهام في النَمْذَجَة الذهنية التي يمارسها المخ؛ وهو إسهام مِن صُنْعِ المخ نفسه. يستطيع هذا الإسهام تحقيق أدوات أشبه بأجهزة الحسِّ، كالروبوتات مثلاً، التي يعتبرها المخ مجرَّد نماذج، تمامًا كنماذج الآخرين والأشياء. ونصنِّف في عداد الروبوتات المسابر الفضائية المأهولة Astronaut space probes التي أبحرت بعيدًا في الكون وأضافت معارف مدهشة لبني البشر (شكل 5).
الشكل 5: أبحرت المسابر الفضائية غير المأهولة بعيدًا في الكون. تُعَدُّ هذه المسابر روبوتات كونية؛ ومنها الروبوت Voyager الذي درس التخوم الخارجية للمجموعة الشمسية. يقول بعضهم إن التكرار والتواتر شرطان لازمان لتكوين النماذج. ونؤكد، بدورنا، أن هذه النماذج هي نماذج مباشرة؛ ذلك أن نماذج أخرى، كنموذج الحياة مثلاً، لم تنجم عن التكرار. ثم يضيفون أن تفسير النموذج باطن في تطبيقه. نعترض بالقول إن هذا التفسير إنْ هو إلا تفسير ظاهري صرف. إن برمجة الروبوتات لغسيل النوافذ هو تفسير ظاهري، لكننا لا نستطيع أن نُدْرِجَه في إطار العلم المعرفي لمجرَّد اشتقاقه من قوانين المنطق. إن قوانين المنطق هي قوانين نسبية؛ وعلى الرغم من ذلك، يتعامل معها الكومبيوتر على أساس كونها منظومات مطلقة. هنا يظهر قصور الكومبيوتر، لأن الحدَّ الفاصل بين النافذة النظيفة وبين النافذة الوسخة هو حدٌّ عائم لا يستطيع أيٌّ كان طَرْحَ تعريف نظريٍّ له. إن مسألة ذلك الحدِّ هي مسألة غشتالت Gestalt ذاتي. ونميز هنا بين "التأكيد" وبين "التفسير"؛ إذ إن هناك فجوةً كبيرة، مثلاً، بين تأكيد ظهور الأشياء منكسرةً في السوائل وبين تفسير انكسار الضوء. ينتهي التأكيد عند الحدود الظاهرة؛ لكن التفسير يقع وراء تلك الحدود، ويبرز كسلسلة من تفسيرات مركَّبة منتمية إلى سويَّات متباينة. ويُعزى ذلك إلى حقيقة حبِّ المعرفة التي جُبِلَ عليها الإنسان. لا نستطيع الحديث عن الفكر إلا باستخدام لغة الفلسفة. أوَليس العلم، في حدِّ ذاته، فلسفة؟ فمبدأ الشمولية universality في العلم هو مبدأ فلسفي؛ والنشاط الاستهلاكي المعاصر هو نهج "فلسفي": إنه النهج الذي يختزل الإنسان إلى جهازين عضويين وحسب – جهاز الهضم وجهاز التكاثر! يدلنا ذلك على وجود نمطين للفلسفة: نمط جيد ونمط رديء. إن الاتصال بين بني البشر والكائنات الحية الأخرى، لا بل والآلات، هو مهمة وجودية أساسية، للعلم فيها دور، كما للفلسفة وللحكمة. والعلم يستطيع أن يسهم في المحاولات المعرفية. نذكر، في هذا الصدد، أن العلم المعرفي يلتقي في تخومه مع المعاناة الجمالية؛ أما العلم الذرائعي pragmatist فيدفع عالمنا نحو الأسوأ: إنه يخلق المشكلات، ويقف عاجزًا عن حلِّها. وهكذا تحلِّل الفلسفةُ العلمَ؛ وبدوره، يبادر العلمُ إلى تحليل الفلسفة. يقوم هذا التحليل المتبادل على تماثُل الأنماط: فهناك عمل جيد وآخر رديء. إننا نخشى آلةً تفكر انطلاقًا من مبدأ التنافس؛ فالتنافس مرفوض في عملية المعرفة. لكن لا يمكن لهذه الخشية أن تحول بيننا وبين تحقيق آلة تفكر. فإن ابتغينا آلةً تفكر بالكفاءة الإنسانية نفسها، فلا بدَّ من الكشْفِ عن نواظم التفكير الإنسانية – وهي عملية كَشْفٍ صعبة ومعقدة. حسبنا أن نتوقف عند استشعار الهمِّ الوجودي، الذي لا تطيقه أيةُ آلةٌ على الإطلاق. إن بمقدور الكومبيوتر التكيف؛ لكنه تكيف أعمى واستلاب alienation، كما أشرنا لتوِّنا. كما تستطيع الكومبيوترات التكاثُر، – إذ قد يصمِّم كومبيوتر ما كومبيوترًا آخر يتجاوز أخطاءه، – لكنها تبقى كومبيوترات وبرامج ليس إلا. إن تجاوُز الأخطاء، في هذا السياق، ما هو إلا تعميق لتثبيت الأخطاء. فالعلم الذرائعي الذي يقود هذه العمليات قد ضَرَبَ عرض الحائط بمبدأ الجودة المعلوماتية، وهو مبدأ حياتي أصيل. يُعزى تدميرُ البيئة إلى أجيال متوالدة من الروبوتات: كلما حذف روبوت تالٍ أخطاء روبوت سابق، اقترب العالمُ من نهايته بسرعة أكبر؛ إذ يؤدي خَلْقُ أصناف جديدة من الروبوتات إلى إهلاك أنماط حياتية كثيرة (شكل 6). لكن البيئة السليمة تقوم على التعددية الحياتية، بينما يسعى أدعياءُ الاستهلاك إلى نَشْرِ الروبوتات وتكثير أصنافها، وتقليص التعددية الحياتية بالتالي. إن هؤلاء الأدعياء هم روبوتات بحق! إن الروبوتات والكومبيوترات تعجز عن التفسير.
الشكل 6: تهلك كل يوم أصنافٌ نادرة من الحياة ضرورية للاستمرار، وتحل محلَّها روبوتات نافية للوجود. وللتفسير دور كبير؛ إذ لولا هذا الدور، لما كان هناك أيُّ فارق بين القولين: فلان حكيم؛ فلان لا يلتزم بالقيم الأخلاقية. لا يُقرَن التفسيرُ بالحثِّ الخارجي. فلنتصور شخصًا يتألم: هل نستطيع حثَّه على عدم الإحساس بالألم بذِكْرِنا له أن دماغه ليس في حالة الألم. إن المرجع في الألم هو ذات الإنسان: فأنا أؤكد بأني أتألم. إن الذات الإنسانية هي المرجع في كلِّ شيء آخر. سنحاول معالجة هذه الفكرة معالجة أعمق فيما يلي من بحثنا. تتجاوز ثنائيةُ الفكر والدماغ ثنائيةَ الأداء والآلة؛ لا بل إن الثنائية الأولى ليست ثنائية في حقيقتها، كما أنها تنطوي على نموذج الثنائية الأخرى في باطنها. أشار المتنبي إشارة غير مباشرة إلى المرجعية المذكورة بقوله: خليلُك أنتَ لا مَن قلتَ خِلِّي * وإنْ كَـثُـرَ التجمُّـل والكلام إذا عرَّفنا بالفكر بأنه "أداء للدماغ"، علينا أن نتذكر أن كلمة "أداء"، بدورها، هي مصطلح ذهني ومفهوم فكري. إن في هذا التعريف ضربًا من المعاودة أو الاستجرار الذاتي. أما أداء الآلة، فهو اختزال ضيِّق محدود للمفهوم نفسه، حيث يعرَّف بالأداء تعريفًا صريحًا في هذه الحالة بدلالة قطع الغيار! – ولا تستطيع قطع الغيار البيولوجية تغيير الأداء الخلاق للإنسان العبقري. قد لا يخطر ببال الكثيرين أن العلم يقوم على القضايا غير المعروفة؛ ومن دون هذا الارتكاز يصير المخ أشبه بالكومبيوتر: ضحية حلقة مغلقة، أساسها الموضوعة القائلة بأن "لا منطق بلا منطق". أما العلم – وجميع المناهج المعرفية الأخرى – فتستند إلى موضوعة مغايرة، مفادها أن "لا منطق بغير المنطق". فالنقطة والحياة موضوعتان غير معرَّف بهما في العلم، ولا يستطيع الكومبيوتر تصورهما. إنهما قضيتان غير معرفيَّتين، تقعان وراء حدود المنطق. تلكم حقيقة وجودية عميقة، ألا وهي وجوب ارتباط منظومة معينة بمنظومة خارجة عنها أو انبثاقها منها. من هنا كانت ضرورة القضايا غير المعرَّف بها في منظومة معينة. لا توصف فكرة "اللانهاية" في الرياضيات بكونها قضية غير معرَّف بها، ذلك أنها تبرز على خلفية إرجاع تفسير معيَّن إلى سلسلة من التفسيرات ضمن منظومة معطاة. والأمر أشبه هنا بحوار داخلي يجريه الإنسان مع ذاته: يستهلُّه بطرح السؤال التالي: "لماذا؟"، ثم ينتقل إلى تفاصيل الحوار على النحو التالي: إنْ لم أطرح في مرحلة معينة سؤال: "لماذا؟" حول موضوع معيَّن، فسأطرح السؤال التالي: "لماذا لا أطرح سؤال: لماذا؟"[6] تصبُّ التفسيرات الإنسانية المختلفة، بما فيها التفسيرات الاحتمالية probabilistic، في قناة الحتمية determinism. ولا علاقة لمعنى الحتمية هنا بقناة الاستنتاجات المنطقية الضيقة: فالاتفاق بين أ وب على حالة أ تفرض تبايُنًا بين الحالة التي يقصدها أ والحالة التي يعنيها ب؛ إذ يصعب على الذات تقييم ذاتها أو الإحساس بكمالها. فالمعاودة المستمرة لا تقرِّر القيمة، بل ترتقي إلى المعرفة. والقيمة، بما هي مصادرة حتمية، تحتاج إلى الذات الأخرى. أما المفارقة فهي أن الذات الضرورية لا تخرج عن نطاق ذات–نموذج لدى الذات الأولى. تقع الذات الأولى بسبب ذلك في محيط من الريبة indeterminism. إنه محيط مقرَّر وحتمي، لكنه غير محدود، والدلائل فيه لا نهاية لها. يختلف الكومبيوتر عن المخ في هذا السياق: فبينما يعمل الكومبيوتر في محيط الحتمية الحتمي (ولهذا يعود إلى النتائج نفسها انطلاقًا من الاشتراطات نفسها)، يتحرك المخ في محيط الريبة الحتمي، فيبقى خارج دائرة التوقعات دائمًا (شكل 7). يقوم نموذج ما هو متوقَّع على مصطلح الاتفاق العام، من دون برهان يُذكَر. في المقابل، يستند نموذج ما هو محتمَل على مصطلح انتفاء الاتفاق العام، على الرغم من تأييد طفيف لما هو محتمَل. يعلَّل هذان النموذجان في إطار الريبة الحتمية: إن حتمية الذكاء الاصطناعي هي حتمية أولوية مقتطَعة من النموذج الكلِّي؛ إنها ثوانٍ قصيرة مجتزَأة من شريط سينمائي لا نهاية لطوله.
الشكل 7: يعمل المخ في محيط لا نهاية له من الريبة الحتمية؛ وهو قادر بذلك على صوغ عدد غير منتهٍ من النماذج المتباينة. تختلف الرياضيات عن المنطق الموظف في الكومبيوتر. تنطلق الرياضيات، بادئ ذي بدء، مما هو غير معرَّف به. وقد اختلف العلماء في وصفهم للرياضيات: قال نيوتن إن الرياضيات هي جزء من المنطق. أما هِلْبِرْت فقد ذهب إلى أن الرياضيات هي تشكيل من الرموز لا يستوجب التفسير، وكل ما يقتضيه هو تحقُّق اتِّساق معيَّن بين رموزه المتباينة. يعني الاتساق coherence، بلغة الرياضيات، عدم الإفضاء إلى نظرية ونقيضها. طرح براور وجهة النظر الثالثة التي ترى في الرياضيات نشاطًا حدسيًّا خاصًّا بالمخ. ولم يصنِّف براور وأقرانُه في عداد البراهين الرياضية البراهينَ التي اعتمدتْ نَقْضَ الفرض. أما البراهين الرياضية الحقيقية، فقد كانت، وفقًا لمدرسة براور، هي البراهين الإنشائية الصرفة. برهن كورت غودل، في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، أن كلَّ منظومة موضوعاتية – وفي مقدِّمتها الرياضيات – هي منظومة غير كاملة. ويعني بـ"المنظومة الموضوعاتية" المنظومةَ التي تقوم على جملة من الموضوعات التي تُفترَض صحتُها افتراضًا مسبقًا. يقرُّ عدمُ الكمال بتعذُّر البرهان على نظريات صحيحة في إطار منظومة معينة. ويؤدي توسيع المنظومة، بإضافة موضوعات جديدة، إلى برهان تلك النظريات، لكنه يخلق نظريات جديدة، صحيحة بدورها، لكن البرهان عليها متعذَّر في إطار المنظومة الموسَّعة. لو كشفنا عن ذاكرة الكومبيوتر، لألفيناها تشكيلاً من الرموز تتجدَّد معالمُه بافتراضات منطقية يطرحُها المبرمِج. تنطبق آراء غودل على هذا التشكيل انطباقًا حرفيًّا. فالكومبيوتر هو بنية غير كاملة – وسيبقى كذلك. أين المخ من هذا التحليل؟ نستقرِئ من نظرية غودل تعذُّر كمال منظومة بالرجوع إلى ذاتها، مهما توسَّعتْ وكَبُرَتْ. وبكلمات أوضح: إن الإسناد الذاتي هو ضرب من ضروب المستحيلات. فالمعالجات على الكومبيوتر، مثلاً، تتدفق خطوة خطوة في منهج منطقي محدَّد؛ وهي بذلك في حاجة إلى إسناد خارجي يتجاوَز الكومبيوتر. لقد تجاوَزَ المخ الإنساني حقيقة عدم الكمال هذه. فالمخ، بما هو منظومة منطقية موضوعاتية منطلقة من الموضوعات غير المعرَّف بها، هو منظومة غير كاملة. لكن المخ – وهو أداة إسناد في الوقت نفسه – يرجع إلى ذاته لتلمُّس ذاته ولتحديدها. نستخدم مصطلح "ميتامخ" للدلالة على هذا النشاط المفارق للمخ. فالمخ – المنظومة غير الكاملة – يستدرج الميتامخ إلى التعريف به وتحديده. والحدس intuition هو الآلية الباطنة لهذا الاستدراج؛ وهي آلية تتجاوز قوانين المنطق. تثبت هذه القوانين أن ما يمكن تصنيعُه هو ما يخضع لها وحسب؛ أما المنظومات ذاتية الإسناد، كالمخ مثلاً، فهي تخرج عن هذا النطاق. إن صلة وثيقة تقوم بين مصطلحَي "الحدس" و"المعاودة". وقبل أن ندلف إلى بحث هذه الصلة، نسوق مثالاً عن افتقار الكومبيوتر إلى الحدس: غُذِّيَ الكومبيوترُ بنموذج بطليموس الكوني، ثم أُدْخِلَتْ إليه تباعًا الكشوفاتُ الرصدية المتأخرة، وطُلِبَ منه إنجازُ نموذج كوني وفقًا لهذه المعطيات. لم يغيِّر الكومبيوتر من نموذج بطليموس الذي يعتبر أن الأرض هي مركز الكون، وأقْحَمَ فيه، عبر سلسلة منطقية من الإجراءات، الكشوفاتِ المُشار إليها، ليخرج بكونٍ عجيب ذي بنية منطقية سليمة. كان النموذج الناتج نموذجًا خاطئًا تمامًا، بعيدًا كلَّ البُعد عن الحسِّ السليم والحدس المبدع. ولا غرو في ذلك؛ فالنمذجة المخِّية تستند إلى القفزة الحدسية، وإلى قبول ما لا يمكن قبوله على السوية المنطقية. وبينما يتقرَّر كمالُ الكومبيوتر بتكامله، يعرَّف بكمال المخ بسعة محيط الريبة الخاص به. لا يستطيع الكومبيوتر الخروج عن معطيات واشتراطات بالغة التحديد، بينما يألف المخ سَبْرَ كلِّ ما هو بعيد عن متناوله ومجهول بالنسبة إليه. يدل مفهوم الأنا على الإسناد الذاتي أو المرجعية الذاتية. أما كلمة "أنا"، في حدِّ ذاتها، فيمكن أن تُضمَّن في أحد البرامج بما يسمح للكومبيوتر بقول: "أنا"! لكن الكومبيوتر لن يعي هذا المفهوم على الإطلاق أو يتفهَّمه. إن قال الكومبيوتر "أنا" في أحد البرامج، فهي "أنا" البرنامج المعيَّن اللحظي؛ أما "أنا" الذات الإنسانية، فهي الأنا ذاتها في كلِّ الظروف والمناسبات. نَصِفُ مُراكَمَةَ الخبرات لدى الكومبيوتر بأنها مُراكَمَةٌ معلوماتية فيزيائية صرفة، تتحكَّم فيها طرائقُ حلِّ المسائل، أي القوانين المنطقية. في المقابل، يُراكِم المخ خبراتِه باستخدام معيار مخالف، هو معيار المعنى. وحتى لو قبلنا بأن الإنسان ما هو إلا تَراكُمٌ معلوماتي صرف، فإن أناه تبقى شمولية، بمعنى أنها تمتد في المكان إلى أوسع حدوده وفي الزمان حتى البدايات الأولى. نجد، من جهة أخرى، أن أنا الكومبيوتر هي أنا لحظية، يستحوذ عليها برنامجٌ محدَّد وحسب. نعود إلى الصلة التي تكلَّمنا عليها، ونلجأ إلى اللغة في محاولة منَّا لبحث أمرها. تُشتَقُّ اللغةُ من تطبيق المعاودة على ظاهرة التفسير. فهناك كلمات تفسِّر الواقع، وهناك كلمات تفسِّر الكلمات؛ وبدورها، توجد كلماتٌ تفسِّر الكلماتِ الأخيرة. وهكذا ترتبط الكلمات الأبعد بتصورات دفينة تفسِّرها. إن هذه التصورات هي ذات منشأ ذاتي صرف، وتستمد من المتصَّل المكاني الزماني space-time continuum حيويتَها وخصوصيتَها. أما التصورات لدى الكومبيوتر فهي برمجةٌ لأحدث جيل من الكلمات المفسَّرة؛ وهي لا تملك بذلك أيَّ بُعد زماني، بل تتكرر في المكان وحسب. فمعارفنا هي نماذج بنيوية هيكلية باطنة فينا، نعيد تشكيلها في نموذج مستحدَث نتصوَّره لحظة الحاجة كما نريد. تختلف النماذج عما تمثِّله؛ إذ إن هناك تبايُنًا بين الأشياء وبين نماذجها. أما ما نضعه في الكومبيوتر، فهو أجزاء من النماذج، لا ما تمثِّله النماذج. ونكتب تلك النماذج عادة بلغة اصطلاحية هي لغة الرياضيات المتناهية. إن كانت النماذج هي نماذج العالم المباشر، فالنظريات هي "نماذج النماذج"؛ ولهذه الأخيرة نماذجُها. لا يتعلق التفسير أو المعنى بهذه السلسلة التي تنتهي عند قاعدة التصورات – ذلك أن التفسير يسبق صوغ النظرية.[7] فسلسلة النماذج ونماذج النماذج لا تمس قاعدة التصورات عند حدود معينة – ذلك أن نموذجًا أحدث يتولَّد عادة بين النموذج الأخير وبين قاعدة التصورات. إن الأمر هنا أشبه بنموذج التقارُب في الرياضيات. ولعل نموذج التقارُب قد تمَّ اشتقاقُه من السلسلة المذكورة. ندعو هذه التصورات بـ"الميتانماذج" meta-models تيمُّنًا بالميتامخ. إن لغة الميتا هي الأساس والأسبق بالنسبة للفكر؛ وفيها يبرهَن على الكمال والاتساق لمجرَّد قبوله بالحدس. إن الـ"ميتا" هو غير المعرَّف به في اللغة. فإذا كانت النماذج تقوم على ما هو غير معرَّف به، هل يمكن للكومبيوتر أن يصنع نموذجًا يا تُرى؟ نخلص مما تقدَّم إلى تمييز البنى الإعرابية عن المفاهيم في اللغة. فالبنى الإعرابية morphology لا بدَّ منها كمصطلحات يستخدمها بنو البشر. أما المفهوم concept، فهو التفسير المسبَّق بعينه، ولا علاقة مباشرة له بالاتصال بين بني البشر. ويقاد الإنسان إلى تمثُّل الكون على أساس المفاهيم.[8] نعيد طَرْحَ ما تقدَّم بالقول إن سوية البنى الإعرابية هي السوية التي يتحقق فيها تناغُمٌ محدَّد بين النماذج المباشرة وبين الكلِّمات المفسرِّة لها. أما سوية المفاهيم فهي حيِّز شمولي يتحقق فيه التناغمُ بين أطوار الكلمات المفسَّرة أو النماذج كلِّها، بما فيها الميتانماذج. في المقابل، لا يمتلك الكومبيوتر إلا سوية واحدة من النماذج أو الكلمات المفسَّرة (شكل 8)؛ لذا كانت البنى الإعرابية حاسمةً في بناء المقاطع اللغوية الكومبيوترية. أما المخ فيتجاوز، بسبب استبطانه للميتامخ، البنى الإعرابية كلَّها: فمهما كان النص مغلوطًا من الناحية اللغوية، يستطيع القارئ استشفافَ المعنى.
الشكل 8: لا يمتلك الكومبيوتر إلا سوية واحدة من النماذج أو الكلمات المفسَّرة: إنها النماذج المباشرة وحسب. لا نأخذ على محمل الجدِّ محاولاتِ تعليم الكومبيوتر. ينطوي التعليم على استنهاض إرادة التعلُّم أولاً، وتحريك المقدرات الدفينة لإجراء النمذجة في مجال معيَّن بعد ذلك. إن عدم كفاية تلك المقدرات قد تقود العملية برمَّتها إلى طريق مسدود. ويخطئ الباحثون هنا في تصورهم أن الحوارات الإنسانية الداخلية قابلة لأن تصاغ في هيئة موضوعات، كما سبق أن قدَّمنا. نتطرَّق هاهنا إلى المعتقَدات، لنقول إن المعتقَد يستند إلى تصور خفيٍّ غير متكوِّن لكلِّ ما قد يتمخَّض عنه هذا المعتقَد. إن برمجة المعتقَد في الكومبيوتر هي أشبه ببرمجته لنُطْقِ كلمة "أنا". تقوم نظرية المعتقَدات على مفهوم قوة المعتقَد كقضية غير معرَّف بها. فالمعتقَد هو نمط من أنماط الحدس. وبذلك نستطيع تطبيق نتائج بحثنا على المعتقَدات، فنقول بأن المعتقَدات هي منظومات ونماذج تقوم على ميتانماذج وميتاميتانماذج، تقع جميعًا في دوائر الميتامخ. يتحقق كمالُ المعتقَد باستكمال تلك المنظومات والنماذج. وليس للمعتقَدات علاقة مباشرة بالإيقاعات الحسِّية للحياة؛ ولا أدل على ذلك من المعتقَدات الأخروية eschatology. تستند هذه المعتقَدات إلى جنوح النماذج الباطنة إلى تحقيق كمالها، خاصة إن لم تَكْفِ مدةُ حياة الفرد لذلك. إنْ غدا الكومبيوتر قادرًا على النمذجة، فأي طابع ستتَّخذه نماذجُه يا ترى؟ هل ستكون نماذج بصرية أم شمِّية؟ – مثلاً. لا يتعلق الأمر هنا بجهاز حسٍّ معيَّن قد نبنيه ونصله بالكومبيوتر. إن الطابع البصري للنماذج المخِّية إنما يتأتى من حقيقة أن العين ليست جهاز حسٍّ، بل هي جزء من المخ استطال باتجاه الخارج.[9] ها نحن نعود إلى جوهر بحثنا، وأعني كون النمذجة نشاطًا مخيًّا باطنًا. نَصِفُ نماذج الكومبيوتر بأنها نماذج بصرية عمياء: بصرية لأنها منسوخة عن نماذج المخ، وعمياء لأنها بمفردها، من دون المخ، لا تعني أيَّ شيء، بل هي لاشيء. استقطاع ثانٍ: يفتقر الكومبيوتر إلى الدافع: أمْرُ الاستمرار بنظره سيَّان. كما تتعذَّر عليه المعاناة الجمالية التناظرية، أساسُ كلِّ عملية نمذجة. استقطاع ثالث: إذا بَرْمَجْنا كومبيوترًا على الدفاع عن نفسه، وحاولنا قَذْفَه من النافذة، لحاول المقاومة على أساس البرمجة؛ لكنه، في أثناء المقاومة، يعدم أيَّ وعي أو وعي بالوعي. تعمل أعضاء الحسِّ بإمرة داخلية؛ وهي رُسُل إيصال نتائج حوار النماذج الداخلية، وتعديل تلك النماذج وفقًا لرغباتنا. تتأجج العاطفة ويحدث الانفعال بفعل تناغُم وطنين يتحقق بين نموذج معيَّن وبين رغباتنا الخاصة به؛ وتلعب أعضاءُ الحسِّ دورَ مؤيِّدات للحالة الطنينية المذكورة ومحفِّزات لها. إن الكومبيوتر بعيد كلَّ البعد عن هذه الإرهاصات، ولا تميِّزه أيةُ سِمَة خصوصية. استقطاع رابع: يُعتبَر الوجهُ مقدمةَ الأنا؛ أما الانطباعات عليه، فما هي إلا رسائل مرمَّزة مختلفة. لا يملك الكومبيوتر أية مقدمة؛ وإذا رُكِّبَتْ لبعض الروبوتات وجوهٌ، فستبقى تلك الوجوه مشتقةً من النماذج الداخلية لصُنَّاع الروبوتات. حاول مفكِّرو الثورة الصناعية صبَّ النماذج الداخلية في قوالب خارجية مصطنعة، فأتت النتائجُ غريبةً عن الحقيقة الإنسانية. فعلى الرغم من التضادِّ الظاهري للمناهج التي طَرَحَها هؤلاء المفكرون، إلا أنهم اتفقوا على تعريف شامل للحياة في مصطلحات ضيقة، كالتنافس، والصراع، والطباق الموضوعي الأعلى؛ كما أنهم اختزلوا المحبة إلى الجنس، وعزلوا المتعة الجنسية عن وظيفة التكاثُر. يستطيع ورثة الثورة الصناعية برمجة هذه الآليات في كومبيوتراتهم. وإن أجهزة التدمير الموجَّهة بعضها إلى بعض في العالم إنما تقودها الكومبيوترات؛ وفي هذا تأكيد لإمكان هذه البرمجة. ينطلق مبرمجو الألعاب في الكومبيوتر من الأفكار نفسها: فبرامج للشطرنج، وبرامج للألعاب الاستراتيجية، وبرامج لتنظيم المواصلات والتخطيط. ونظرًا لأولوياتها، تتبنَّى هذه البرامج في جوهرها حسابَ توابع رياضية معيَّنة والبحث عن الحلول الممكنة في كلِّ الاتجاهات المحتملة (شكل 9).[10]
الشكل 9: تُعِدُّ برامج الذكاء الاصطناعي – ومنها برامج تنظيم المواصلات والتخطيط – لأولوياتها على أساس حساب توابع رياضية معينة والبحث عن الحلول الممكنة في كلِّ الاتجاهات المحتملة. أما وقد استطعنا التمييز إلى حدٍّ مُرْضٍ بين الذكاء الاصطناعي وبين المخ (أو الذكاء الطبيعي)، فإننا نستطرد لنؤكد أن النشاط المعلوماتي المعاصر لا يخرج عن إطار الأنظمة الموضوعاتية؛ وهو بذلك أقرب إلى إيقاعات الآلة منه إلى النفحات الإنسانية، إن جاز لنا استخدام التعبير. ما هو التفكير الخلاق؟ هل هو المقدرة على حلِّ المسائل البالغة الصعوبة؟ أم هو مجرَّد مسألة سلوكية، يحكُم عليها الناظرُ الخارجي بكونها مدهشة وعجيبة؟ إن كنَّا لا نعرف إلا القليل عن عملية الخلق لدى الإنسان، فإننا نستطيع التأكيد على أن التفكير الخلاق إنما يتمخَّض عن تداخُل ومضات حدسية تقع وراء حدود التأثيرات الاجتماعية، كما تَخْرُقُ قانونَ انبثاق التغيرات الكيفية عن تراكُم التغيرات الكمية (ماركس).[11] أكدتْ نظرية المعلومات Information Theory المعاصرة على آلية الحدس. فوفقًا لهذه النظرية، يتكون كلُّ مخٍّ من بنية معلوماتية أصغرية لا تُنسَخُ ولا تُكرَّر؛ كما يتعذَّر، وفقًا لغودل، برهانُ طابعها الأصغري. من هنا كانت ضرورة الحدس، لأنه المبرِّر الوحيد لحقيقة البنية المعلوماتية الأصغرية للمخِّ المشار إليها. نجد، في المقابل، أن البنية المعلوماتية للكومبيوتر ليست بنية أصغرية، بل يتبارى الصانعون في جَعْلِها بنية أعظمية. لقد غَدَتْ جودةُ الكومبيوتر مقترنةً بسعة ذاكرته. نضيف إن ذاكرة الكومبيوتر هي ذاكرة مكشوفة، والمعلومات جاهزة فيها على الدوام، ولا يستوجب استخدامُها إلا استدعاء معلومة معينة من عنوان محدَّد (شكل 10). أما المخ الإنساني فهو ذاكرة مغلقة، والمعلومات غير جاهزة فيه. يمكن لنا القول هنا إن المخ يخلق المعلومة اللازمة عند الضرورة، كما يحدث في حالة تداعي الأفكار، ليعيدها إلى غياهب النسيان بعد ذلك. ولا تعود المعلومة إلى عنوان معيَّن في المخ إثر استخدامها، لكنها تقفز إلى الوجود مرة أخرى عند بروز الحاجة إليها في وقت لاحق. استقطاع خامس: ليس ضروريًّا أن يعبَّر عن مفاهيم جديدة بدلالة مفاهيم سابقة، بل قد يحدث أن يجري التعبيرُ عن المفاهيم السابقة بدلالة المصطلحات الجديدة. وقد حَدَثَ ذلك أكثر من مرة في تاريخ العلم. أما ما يُزرَع في الكومبيوتر، فلا بدَّ من أن يُربَط إلى ما سَبَقَه. استقطاع سادس: تتعذَّر التجربة الحسِّية على الكومبيوتر. فالتجربة الحسِّية هي حوار بين الذات وبين نموذج المحسوس. كما أن الكومبيوتر يعجز عن تركيب المفاهيم: ذلك أن المفهوم يولد أولاً، ثم تليه الكلمةُ الدالَّة عليه. بينما تحتاج برمجةُ المفاهيم في الكومبيوتر إلى تعريفات جاهزة مسبقًا. وإن كنَّا في صدد برمجة المفاهيم فلا بدَّ من تحقيق اتِّساق كامل في البنية المفهومية الخلفية لدى المبرمج. أما المفارقة الكبرى فتبرز بسبب انطواء الاتساق المذكور على تعذُّر زَرْع المفاهيم في الكومبيوتر.
الشكل 10: يعمل الكومبيوتر على أساس الجاهزية المعلوماتية الدائمة. فلو أردنا تحديد بصمة مرفوعة من موقع حادث معيَّن بواسطة الكومبيوتر، لوجب أن نحتفظ بكلِّ البصمات في بلد معين؛ ويتطلَّب ذلك ذاكرة هائلة. كما أن مقارنة البصمة المرفوعة بالبصمات الموجودة في الكومبيوتر قد تستغرق أيامًا وأشهرًا بحسب سرعات الكومبيوترات المعاصرة. لكن الخبراء المتمرِّسين يستطيعون، بالتدقيق والمراجعة، تحقيق قفزات حدسية مبدعة يحدِّدون بواسطتها طبيعة البصمة المرفوعة. استقطاع سابع: يختلف التقويم في الإنسان عنه في الكومبيوتر: فبينما يستند التقويم الإنساني إلى مفاهيم، كالمعنى والتفسير والقيمة الأخلاقية، ويترافق بأحوال انفعالية متباينة، لا يتجاوز التقويمُ الكومبيوتري المقابلُ الصيغةَ المنطقية الباردة والمحايدة والضيقة والمحدَّدة بمصطلحي "صح" و"خطأ". إن هناك فارقًا كبيرًا بين الحقيقة وبين التفسير: فبينما أفسِّر وجود الأدوية بضرورة المعالجة، لا أُخلِصُ، في المقابل، إلى هذا التفسير إخلاصيَ للحقيقة – وأعني حقيقة شمولية الكون ووحدته. تظلِّل الحقيقةُ المذكورة التفسيراتِ كلَّها؛ لكن التفسير ليس هو الحقيقة. أما الكومبيوتر فإنه لا يُخلِص إلا للبرنامج الساري فيه في أثناء فترة محدَّدة. ويشكَّل هذا السريان الحقيقة الوحيدة بالنسبة للكومبيوتر؛ والكومبيوتر، في هذا السياق، لا يسعى حتى إلى إرضائنا! يمتلك التفسير مدى واسعًا. فحتى ما هو عديم المعنى نُخضِعُه لتفسيراتنا. لكن لا يوجد، في المقابل، ما هو عديم المعنى في الكومبيوتر. فالأخطاء الحسابية أو المنطقية هي أحوال ذات معنى بنظر للكومبيوتر. يتوقف التفسير على النماذج؛ ولأن النماذج تختلف بتبيان الأفراد، فإن التفسيرات لا تتطابق إطلاقًا. يرتبط المعنى – ومعه التفسير – بخاصية باطنة أخرى، وأعني النية، من حيث إنها منظومة سببيَّة، ومن حيث إنها قابلة للتفسير، كقولنا إنها نية "صادقة"، أي ملتزمة بمبادئ القيم الأخلاقية. لا نجد في قاموس الكومبيوتر أية من هذه المصطلحات! إن الخلافات الفردية القائمة على تبايُن الجُمَل المعلوماتية الفردية الأصغرية لا ترتبط بوجود سبب معيَّن لتحقُّق مخٍّ ذي بنية معلوماتية معطاة، أو بعدم وجود مثل هذا السبب. على النقيض من ذلك، فإن التشابُه والتطابُق القائمين بين أعداد كبيرة من الكومبيوترات يُعزَيان مباشرة إلى بناة تلك الكومبيوترات. لا يعني استخدامُنا لمصطلح سريان البرنامج في الكومبيوتر أن للكومبيوتر بنيةً ديناميَّة. واقع الأمر أن ما يعرِّف بالكومبيوتر هو عددٌ مُنْتَهٍ من الأحوال تحدِّده بنيةُ الكومبيوتر والبرنامج المغذِّي له في فترة محددة. وما نفسِّره باعتباره سريانًا إنْ هو إلا انتقال من حال إلى حال، وفقًا لمخطَّط نضعه نحن، ونرى فيه "سريانًا"، بينما هو تحوُّل من وَضْعٍ سكوني إلى وَضْعٍ سكوني آخر. إن هذه الأحوال معروفة ومقدَّرة سلفًا؛ أما التحولات في المخ فيصعب التنبؤ بها وتحديدها تحديدًا مسبقًا. كما يستطيع المخ، في حالات طارئة، دَفْعَ المتعضِّية organism إلى القيام بما تعجز عنه في الأحوال العادية؛ بينما لا توجد أحوال طارئة لدى الكومبيوتر، كما أنه لا يدَّخر طاقاتٍ لمثل هذه الأحوال المعدومة. هذا ويستوجب تحوُّل الكومبيوتر من حال إلى أخرى توفُّر شروط ابتدائية محدَّدة، كمًّا ومضمونًا، على نحو بالغ الدقة. أما التحولات المخِّية المقابلة، فلا تفترض اشتراطاتٍ معينة، وتبدو أحيانًا مفتقرة إلى أسباب بادية للعيان. يستطيع الإنسان الإبحار زمنيًّا إلى ما لا نهاية في ماضيه. أما تاريخ الكومبيوتر فهو تاريخ ضيِّق ومحدود – ناهيك عن أن المَقْدِرات الرياضية للمخ تفوق بشكل لا يقارَن مَقْدِرات الكومبيوتر. إنْ تجاوَزَ الكومبيوتر المخَّ سرعةً في حلِّ بعض المسائل، فإنه إنما يسهم بذلك في الإنجازات الأوسع للمخ.[12] إن البحث في السببية causality هو بحث بالغ التعقيد، لدرجة تبدو معها العلاقةُ بين البحث، من جهة، وبين وجود الأسباب أو عدمه، من جهة أخرى، غير واضحة، أو ربما غير موجودة على الإطلاق. يمكن للسبب أن يكون بَعديَّ الطابع. فتحلُّل النيوترون يتم بسبب ضرورة تكوُّن البروتون. إن الأسباب في الكومبيوتر بَعدية الطابع. فسبب عمل الكومبيوتر هو طَبْع النتائج في وقت لاحق. نخلُص إلى الأسباب البَعدية بالاستناد إلى نماذج سابقة. أما الكومبيوتر فينجز النشاط المناظر دون تكوين نموذج خاصٍّ بطبع النتائج. واقع الأمر أننا نحن الذين حمَّلنا الكومبيوتر طابعَ المعالجة السببية البَعدية؛ لا بل إن نموذج السبب–النتيجة في أذهاننا قد تمَّ إسقاطُه على عمل الكومبيوتر. لا ينفصل التفسير عن التنبؤ والتخيل. ينطبق ذلك على رؤيتنا لما قد ينجزه الكومبيوتر. أما بالنسبة للكومبيوتر ذاته، فالمعالجة عمياء، وهي عارية عن أيِّ تنبؤ أو تخيُّل. يميِّز المبرمِج بين المتغيِّر كعنوان فيزيائي وبين محتواه كمفهوم، ويحدِّد كلاً منهما بنموذج خاص. أما بالنسبة للكومبيوتر، فالمتغيِّر والمحتوى حالتان فيزيائيتان؛ بل إنهما ليسا كذلك: فالأصح أن نقول إن نموذجنا عن الكومبيوتر يحدِّد المتغيِّر والمحتوى على أنهما حالتان فيزيائيتان بالنسبة للكومبيوتر. نعود فنبرِّر بحثَنا بحقيقة أن العلم منظومة معرفية، وليس أداة ذرائعية. ولا أدل على ذلك من وجود نظرية النسبية والميكانيكا الكوانتية. ونتطرَّق، في النهاية، إلى الاختيار الحرِّ الجَّبْري الذي ألمحنا إليه في البداية. إن هذا الاختيار هو حالة طنينية بين الأنا وبين المنظومة العصبية المنفذِّة كأداة فيزيائية صرفة. يتوقَّف الطنين على أحوال المنظومة الأخيرة، وعلى القرار المسبَّق المُتَّخَذ قي ضوء النماذج الداخلية المتوفِّرة. أما الاختيار الكومبيوتري فما هو إلا حالة طنينية بين وعي المبرمج ومنظومته العصبية، من جهة، وبين البنية الصلبة hardware للكومبيوتر، من جهة أخرى. إننا لا نعرف، حتى الآن، إلا مرجعًا وجوديًّا وحيدًا: المخ الإنساني. *** *** *** [1] لفَهْمِ مصطلح "الاستبصار"، نشير إلى أن المعدة تحسُّ بوجود الطعام، فتقوم بهَضْمِه؛ لكن صاحب المعدة لا يشارك المعدة هذا الحسَّ: إنه حسٌّ عارٍ عن الاستبصار. [2] لقد كانت الديناصورات جيدة التصنيع، – إذ ثَبَتَ أن عظامها كانت مفرغة بما يُنقِص كتلَها ويزيد في مقدراتها على التحمل، – لكنها لم تكن ذكية! [3] ثُقِبَتْ في هذه التجربة شِباك مئتي عنكبوت بإنزال خيط في كلِّ شبكة. هجرت معظم العناكب شِباكها إثر ذلك، باستثناء عشرين منها: عمدت عشرة عناكب إلى نسج شبكة ثانوية حول الخيط لعزله؛ أما العشرة الأخيرة فقد تأمل كلُّ عنكبوت منها لفترة، ثم عمد إلى سحب الخيط حتى السقف، ولفَّه هناك، ونَسَجَ عليه بهدف لَصْقِه، وعاد أخيرًا إلى شبكته لإصلاحها. فلعل العشرة الأخيرة هي عباقرة العناكب! تضعنا هذه التجربة وجهًا لوجه أمام التساؤل التالي: هل ننظر إلى الفكر كضرب من ضروب التأمل الوجودي، أم أنه مجرد منظومة تساعد في حلِّ المشاكل؟ [4] نفرِّق هنا بين الدماغ كمنظومة معقدة وبين المخ كوظيفة للدماغ. ويبدو أن الوظيفة تفوق المنظومة المستنِدة إليها. [5] كذلك، أنَّى لنا أن نفسِّر بعض الأحلام النادرة المنقطعة عن وتائر الحياة اليومية دون القبول بمبدأ وحدة المخ والوجود؟ [6] لنتتبَّعْ ذرائعيًّا في محاولته الإجابة على السؤال التالي: "لماذا الكهرباء؟" يذكر الذرائعي أن الكهرباء ضرورية على الصعيد العملي لتشغيل الآلات؛ أما في الإطار الإنساني، فلعلَّها تعكِّر صَفْوَ الصلات الفيزيائية الحميمة. لا تخرج التحليلات الذرائعية عن نطاق الجَدْوَلَة؛ وهي تصلح للبرمجة على الكومبيوتر، ذلك أنها تبدأ من المنطق، وفيه تنتهي. أما السؤال الأساسي: "لماذا الكهرباء؟"، فسيبقى عصيًّا حتى على العقول العلمية الكبيرة. [7] نذكر كمثال، في معرض أسبقية التفسير، أن صانعي الخرائط لا يتحدثون عن مناطق رمزية يحدُّ بعضُها بعضًا ويرسمونها، ثم يبحثون عن بلدان تناسبها. لا نجد في قاموس الكومبيوتر مثل هذه الآليات. [8] لنا في كتاب حي بن يقظان لابن طفيل تأييدٌ قويٌّ لما ذهبنا إليه من أن الرياضيات في مراحل خَلْقِها هي حوار داخلي بين النماذج. [9] إن كانت هناك نماذج شمِّية في الكون فلا شكَّ أنها مشتقة من أنف هو جزء من المخ؛ لكن الأنف ليس كذلك في حالة الإنسان. [10] لا يفوتنا، هاهنا، وقد عرضنا السِمَةَ المشتركة بين هذه البرامج، التذكيرُ بافتقارها كلِّها إلى آلية الحدس. [11] مثال النسبية العامة خير مؤيِّدٍ لآرائنا: إذ إن ظهورها لم يُسبَق بأية تغيرات كمِّية، كما اقتصر أمرُ بحثها على عدد محدود للغاية من المفكرين والعلماء. [12] نذكر، في هذا المجال، أن المسائل التي يستطيع الكومبيوتر حلَّها ضئيلة ومحدودة؛ وهناك الكثير من التوابع الرياضية التي يُبرهَن على تعذُّر معالجتها بواسطة الكومبيوتر. |
|
|