|
أطفئي عينيَّ سأظل أراكِ
يسمُّونه الشاعر الذي قتلتْه وردة! من أصدقائه الكثيرين: الله والربيع والطفولة والريح. ولد هذا الشفاف النمساوي في براغ في العام 1875 لعائلة مفكَّكة. كان طفلاً منعزلاً وصموتًا. مواجهتُه مع العالم الواقعي جاءت سلسلةً من المخاوف والأوجاع والخيبات. أحبَّ الوحدة لأنها صعبة، ولأن الصعوبة جميلة، قال، فلم يسرف في الانغماس في الأوساط الأدبية والاجتماعية، وظل مسكونًا بهاجس الموت طوال حياته. كأن ولادتَه كانت بداية موته!
عندما تعرَّف ريلكه إلى قَدَرِه لو أندرياس سالومي، التي كانت حبيبة نيتشه لخمسة عشر عامًا خَلَتْ، كان هو في الثانية والعشرين من العمر وهي في السادسة والثلاثين. أُغرِمَ بها حتى الاحتراق، على الرغم من فارق السنِّ بينهما، وصارت له العشيقة–الأم التي حُرِمَ منها في صغره. على الرغم من ذلك، كانت علاقتُه معها قصيرة الأمد، ومثلها كلُّ قصصه العاطفية، بما فيها زواجُه من النحاتة كلارا وستهوف. اكتشافُه باريس في العام 1902 شكَّل منعطفًا حاسمًا، في حياته وكتابته على حدٍّ سواء، وهي المدينة التي شُغِفَ بها إلى أقصى حدود الشغف. رجل مفرط في الحساسية، بلا بوصلة، ممحو، يضحك كطفل، وكطفل يبكي. يداه مرهفتان ناعمتان كيدي عازف بيانو، وجسده سفينة تغرق. كانت كتابة الشعر في نظره إليه فعلاً دينيًّا، داخليًّا وسِرَّانيًّا وتأمليًّا، كأنها صلاة موجهة إلى اللامرئي. انتقل من الرومانسية الرقيقة إلى الشعر الميتافيزيقي، وبينهما تعلَّم كيف ينظر إلى الواقع في عينيه. كتب في حياته ما يزيد على عشرة آلاف رسالة، من أهمها رسائل إلى شاعر شاب. سافر كثيرًا وترجم عددًا من الكتَّاب الفرنسيين إلى الألمانية، بينهم بول فاليري وأندريه جيد. عندما انتحرتْ صديقتُه الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا، كَتَبَ لها قصيدة يقول فيها: "نحن الأمواج، مارينا، والبحر! نحن الأعماق العائدة إلى السماء!" في أحد أصباح تشرين الأول من العام 1926، خرج ريلكه إلى حديقة مقرِّه السويسري لكي يقطف، كعادته، بعض ورودها. لم يكترث عندما جَرَحَتْ يدَه إحدى الأشواك، ولم يَخَفْ حين ظهرت لديه في المرحلة نفسها بوادر اللوكيميا. استسلم بعد أقل من شهرين، وعاد العابرُ كالشهاب إلى سمائه. ج.ح. ***
أنتِ التي لم تَصِلِي
أنتِ، يا محبوبتي، التي تُهْتِ قبل أن تذهبي، التي لم تَصِلِي قط إلى ذراعيَّ – لا أعلم أية موسيقى تُسْعِدكِ. لقد عدلتُ عن محاولة التعرُّف إليك كلما عَلَتْ موجةُ لحظة جديدة آتية. كلُّ الصور الشاسعة فيَّ – المشاهد البعيدة المحسوسة في عمق، المدن والأبراج والجسور والمنعطفات غير المتوقعة في الدرب، وحيوية الأراضي التي كانت يومًا تنبض بحياة الآلهة – هذا كلُّه ينهض معكِ ليعثر على معناه فيَّ، أنت التي تتملَّصين منِّي إلى الأبد.
أنتِ، يا محبوبتي، كل الجنائن التي نظرتُ إليها يومًا في توق. عبر نافذة مفتوحة في بيت ريفي رأيتكِ – كنت تهمِّين بالخروج، حالمةً، لملاقاتي. في شوارع وجدتُها مصادفةً حدستُ بكِ – كنتِ قد عبرتِها للتوِّ واختفيتِ. وأحيانًا، في متجر صغير، كانت المرايا لا تزال دائخةً من حضورك، حين عكستْ لي، مذعورةً، صورتي التي فاجأتْها. مَن يعرف؟ ربما العصفور نفسه أرسل صداه عبرنا نحن الاثنين أمس، إذ كنَّا مفترقين عند المساء... ***
مثل يد
أطفئي عينيَّ، سأظل أراكِ. صُمِّي أذنيَّ، سأظل أسمعكِ. حتى بلا قدمين سأشقُّ دربي إليكِ، وبلا فم سأذكر اسمكِ.
اكسري ذراعيَّ وسأضمُّكِ بقلبي، مثل يد. أوقفي قلبي وسيخفق دماغي، وإنْ أضرمتِ في دماغي النارَ سأشعر بكِ تحترقين في كلِّ نقطة من دمي. ***
من أجل أن تأتي يومًا
هذا النَفَس، ألم أغرفْه من مدِّ منتصفات الليالي من أجل حبِّكِ، من أجل أن تأتي إليَّ يومًا؟
وجهكِ، كنتُ آمل أن أهدِّئه بروائع لم تَزَلْ صعقاتُها بكرًا، عندما سوف يرتاح قبالة وجهي في لانهاية ما أتكهَّنه.
كان فضاؤك يتغلغل من دون صخب إلى قسماتي، ودمائي كانت تبرق وتزداد عمقًا لكي تستحق النظرةَ العالية التي تشرق فيك.
ولمَّا كان الليل يسود أقوى، بكلِّ نجماته، عبر التفرُّع الشاحب لشجرة الزيتون، كنتُ أنهض وأنتصب وأرتمي إلى الوراء، وأتعلَّم الدرس الذي لم أدرك يومًا أنه درسٌ منكِ.
آه، يا لقوَّتها الكلمات التي انزرعتْ فيَّ، كي، إذا حدثت ابتسامتك، أنقل إليك بنظراتي فضاء العالم. لكنك لا تأتين، أو تأتين متأخرة.
فانقضِّي، أيتها الملائكة، على حقل الكتَّان الأزرق هذا واحصدي، احصدي! ***
أغنية حب
كيف لي أن أحمل روحي كي لا تجرح روحكِ؟ كيف يمكن لي أن أرفعها برقَّة فوقكِ وأودعها مساحاتٍ أخرى؟ كم أود لو كان في وسعي أن أطويها بين أشياء ضائعة في العتمة، في مكانٍ هادئ ومجهول – مكانٍ يظل بلا حراك عندما تدوِّي أعماقكِ. ولكن كلَّ ما يلامسنا، أنا وأنت، يجرفنا معا كما لو بقوس واحدة صانعًا من وترين صوتًا واحدًا. ترى أوتار أية آلة نحن؟ وأيُّ عازف كمان يحضننا بين يديه يا أعذب الأغاني؟ ***
أريد
أنا وحيد في العالم، لكني لستُ وحيدًا بما يكفي لكي أجعل كلَّ ساعة مقدَّسة. صغير أنا، لكني لست صغيرًا بما يلزم لأقف أمامك كشيء معتم ولاذع. أريد تصميمي، وأريد أن أكون مع تصميمي إذ يتجه نحو الفعل، وفي اللحظات الساكنة والمترددة التي يقترب فيها كلُّ بعيد، أريد أن أكون مع ذوي الحكمة – وإلا فلأكن وحيدًا. أريد أن أكون دومًا المرآة التي تعكس كيانك وألا أكون يومًا أعمى أو مسنًّا أعجز من أن يحمل صورتك الثقيلة المترنحة. أريد أن أنبسط وأتجلَّى لا أن أظلَّ مطويًّا لأني حيث أكون محنيًّا ومطويًّا، كذبةً أكون – وأنا أريد معناي صادقًا من أجلك. أريد أن أصف نفسي مثل لوحة درستُها عن كثب وقتًا طويلاً، مثل كلمة فهمتُها أخيرًا، مثل إبريق الماء الذي استخدمه كلَّ يوم، مثل وجه أمِّي، مثل سفينة عبرتْ بي أفظع العواصف. ***
نافذة
يا نافذةً نبحث عنها غالبًا لكي نضيف إلى الغرفة المحسوبة كلَّ الأرقام الكبيرة غير المروَّضة التي يُضاعِفُها الليل. يا نافذةً كانت تجلس في ما مضى عندها تلك التي، في حنان كلِّي، تقوم بعمل بطيء يحني ويشلُّ. يا نافذةً تنبت لها صورةٌ نُهِلَتْ من الإبريق الشفاف، أنت زردة تغلق حزام رؤيتنا الواسع. ***
أغنية المنتحر
طيب، مهلكم لحظة، هم دائمًا يسلبونني الحبل ويقطعونه. في الآونة الأخيرة كنتُ مستعدًّا حقًّا وكان ثمة قليل من الأبدية في أحشائي.
أمسكوا الملعقة من أجلي، هذه الملعقة التي آكل الحياة بها. أريدها ولا أريدها، فدعوني أستسلم وأتقيأ.
أعرف أن الحياة كاملة وصالحة وأن العالم يشبه طبقًا مليئًا، لكنه لا ينسرب إلى دمائي بل يصعد فورًا إلى رأسي.
هو للآخرين غذاء، أما أنا فيثير اشمئزازي فحسب: وطوال ألف سنة على الأقل سوف عنه أصوم. ***
حياتي
أعيش حياتي في حلقات تتَّسع وتعبُر الأشياءَ التي تحوطني. ربما لن أكمل الحلقة الأخيرة أبدًا، لكني أنوي أن أحاول. إني أدور حول الله، حول البرج القديم، منذ ألف عام أدور، وحتى الآن لا أعلم هل أنا صقر، أم عاصفة، أم أغنية عظيمة. *** *** *** ترجمة: جمانة حداد |
|
|