|
أشجارٌ لِحديقةِ المَعْنى
(من يوميَّات رحلة أخيرة)
1. تلك المرأة لم أستطع أن أرفع عينيَّ عن وجه تلك المرأة التي استقبلتْني في قاعة الدرجة الأولى في مطار اسطنبول. أخذتُ أختلقُ أعذارًا للحديث معها. وتمنَّيتُ لو كانت لديَّ أعذارٌ لا تنتهي. نسيتُ إن كنتُ جلستُ أخيرًا على مقعد في هذه القاعة، أم جلستُ بين يدي عاصفة. وأخذتْ أحشائي تضطرب. * قلتُ لنفسي، فيما أحشائي تضطرب: لا بُدَّ من أن تكون للشاعر أسبابٌ أخرى لكتابة الشعر غير الأسباب التي نراها عند قُرَّائه. وقلت: لا بُدَّ، إذا أردتَ أن تفهم شاعرًا، من أن تتعلَّم الإقامة في شعره. * أسافِرُ كثيرًا. يمنحني السَّفر مَزيدًا من الفقر إلى مَزيدٍ من الكشف. * لا أعرف شيئًا، ولا أملك شيئًا أجملَ وأغلى من الرَّغبة في المعرفة. * صارِعْ بلا توقُّف، لكن، ليكنِ الحبُّ والحلمُ جيشَكَ في هذا الصراع. وليكن العنفُ، بأشكاله جميعًا، خارجَ المعركة. * كم هي طاغيةٌ مِرآةُ الرَّغبة. * لا تجيء الكتابةُ العظيمة إلاَّ من الذُّروة أو من الهاوية. * سابقًا، كانت شهرزادُ في المأثور العربي تحيا بقوَّة الكلام. الكلامُ، اليوم، هو نفسه الذي يقتلها.
2. طغيان يُقال: الطغيانُ يجعلُ لَهَبَ الحرية في أعماق الكاتب أكثرَ حِدَّةً واشتعالاً، ويُعطي لأسلوبه بُعدًا آخرَ في الكفاح ضد الرَّقابة، فاتحًا أمامه قارَّةً واسعة من الرموز والإشارات. وسواءٌ كان ذلك صحيحًا أو باطِلاً، فإن من الخير للكاتب أن يكون طاغية نفسه، داخلَ نفسه.
3. النصُّ: اللغة والتاريخ الإيمانُ، في حدِّ ذاته، نظرًا وممارسةً، في أزمة. نظرًا، لأن سرعة التغيُّر في العالم، ومفاجآت التغيُّر، زلزلتْ طبيعةَ العلاقة بين الفكر والحقيقة، ولم تعد تولِّد الطمأنينة واليقين بقدر ما أصبحتْ تولِّد الحيرةَ والشكَّ. ممارسةً، لأنَّ التطابُق بين الإيمان والحقيقة يكاد أن ينعدم بسببٍ من الكشوف المعرفيَّة المتواصلة التي يتحوَّل فيها الإيمانُ من اليقين بالشيء إلى اليقين بحركيَّة الأشياء – أعني بحركيَّة المعرفة – فيما وراء كلِّ يقين. تُرى ما يكون وضع الإيمان الدينيِّ، منظورًا إليه في هذا الضوء؟ الحق أن ما نراه على السطح، في الجمهور أو العامة، كما كان يقول أسلافنا، من مظاهر هذا الإيمان لا يشير إلى تجربة روحية، أو كَشْفٍ معرفيٍّ، أو علمٍ لَدُنِّي خاص، وإنما يشير، على العكس، إلى انكماشٍ وتزمُّتٍ وتعصُّب. يشير، بتعبير آخر، إلى ضيقٍ بحركة العالم وبالتغيرات المصرفية الكبرى في جميع الميادين. وفي هذا المستوى، لا يمكن النظرُ إليه بوصفه ظاهرةً عقلية، وإنما بوصفه ظاهرةً بسيكولوجية؛ وهو، كما يمارَس في الحياة اليومية، سلوكًا وتفكيرًا، علامةٌ حاسمةٌ على التراجع والتدهور. ولست أنكر هنا وجودَ أشخاص يعيشون تجارب دينية روحية عالية. غير أنهم، كما أظنُّ، قِلَّةٌ. إضافة إلى أنهم يعانون أزمةً كيانية عميقة، لأنهم لا يجدون لتجاربهم هذه امتدادًا بين الناس أو صدًى. استطرادًا: ما تكون العلاقة بين هذا "الإيمان الديني" والديموقراطية؟ فهذا الإيمان وليد الإقرار بوحيٍ إلهيٍّ وَحْداني، في حين أن الديموقراطية ابتكارُ فكرٍ وثنيٍّ تعددي. وفي هذه الديموقراطية يختار الناس حُكَّامَهم – بحرية كاملة. وبهذا الاختيار الشعبيِّ الأكثريِّ يعطون الحُكَّام حقَّ السلطة، مما يتيح لها أن تُسمَّى "سلطة ديموقراطية": الحاكم فيها ممثِّل، وسلطتُه محدودة. وتنهض المُواطِنيَّةُ فيها على حقوق أساسية تُحترَم وتُصان – أوَّلها الحرية. أما في ذلك الإيمان الديني، فإن السيادة لله ولخلفائه المؤمنين، وليست للشعب. فالشعب لا يتمتع بسلطة الاختيار. فقبل سلطة الشعب، هناك سلطة الله وخليفته، خصوصًا "ما حَكَمَ فيه الله من مقاصد الشريعة وحدودها". وهي تتمثَّل الآن، في إيران، في ما يُسمَّى بـ"مجمع تشخيص [تحديد] مصلحة النظام" وما يُسمِّى بـ"مجلس صيانة الدستور". والأعضاء هنا لا يُنتخَبون، وإنما يُعيَّنون من فوق، أو من أعلى. وقد كشفتْ لنا الانتخاباتُ الأخيرة في إيران نفسها كيف تتوالد من هذا الإيمان الديني سلاسلُ الرقابة والتحريم والتجريم إلخ. حقًّا، يكاد هذا "الإيمان الديني" أن يدعو إلى "دين بلا فكر"! لكنْ، ما السرُّ في كون هذا "الإيمان الديني" مُغْلَقًا ومطلقًا إلى هذا الحدِّ الذي يتناقض مع هوية الإنسان، ومع الحياة، ومع المعرفة؟ هل هذا السرُّ كامنٌ في النظر إلى النص–المرجع بوصفه نهائيًّا ومطلقًا، يَسْتنفد المعنى كلَّه – معنى الإنسان والعالم – ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً؟ غير أن المعنى، سواء كان "دينيًّا" أو غير دينيٍّ، إنما يكمنُ داخل النصِّ، وخارجه، في آن. فكما أن لِلُغة النصِّ دورًا أساسيًّا فيه، فإن لِما يحيط به – أي للتاريخ، ولحركيَّة الأشياء والعالم – دورًا أساسيًّا فيه كذلك. فالمعنى حركةٌ، وهو في تكوُّن متواصل. النصُّ والعالم كمثل إناءين مُسْتَطرقيْن: متداخلان في شبكة من العلاقات. ويُستَخلَصُ المعنى عِبْرَ النظر في هذه الشبكة بوصفها وحدةً لغويةً–تاريخية. لا يُقرَأ النصُّ في ذاته ولذاته، كأنه عالقٌ في فراغ. ذلك أن القارئ نفسه شبكةٌ من العلاقات، ومتغيِّر: القارئ، اليوم، هو غير القارئ في القرن الأول، مثلاً، أو القرن الثاني، أو في غيرهما. وفَرْضُ قراءة واحدة، لا تُنتِجُ إلاَّ معنًى واحدًا، يعني القولَ إنَّ هناك قارئًا واحدًا عِبْرَ التاريخ كلِّه، وعقلاً واحدًا، وفهمًا واحدًا. يعني، في عبارة ثانية، أن القرَّاء الذين يُولدون في الزمان مجرَّد آلاتٍ تكرِّر قارئًا أوحد. فهل هذا ما يدعو إليه هذا "الإيمان الديني" ويريده؟!
4. أثينا، تلك الليلة 1 كانت القاعة في المركز الثقافي الفرنسي في أثينا مليئة (19 كانون الثاني 2004)، لم تتَّسع لعدد من الحضور، فظلوا واقفين طوال السهرة. كان بين الحضور عربيان اثنان فقط: الأول أستاذ في الجامعة، نصفه يوناني والنصف الآخر حلبي، والثاني فلسطيني. المشكلة هي إيَّاها: ليس للعربيِّ في بلدان هجرته أيُّ اهتمام ثقافي – كما هو الشأن في بلدان نشأته. والأمر لله! 2 قلَّما تجد مطعمًا مهمًّا في أثينا، أو قاعة فندق، لا ترى فيهما صورَ المبدعين اليونانيين الكبار معلَّقةً على الجدران، تقديرًا لدورهم وحضورهم في الحياة والذاكرة، واعترافًا بإبداعهم. كذلك، الأمر لله في ما يتعلَّق بالمطاعم والفنادق العربية! 3 الطامة الكبرى هي عندما نقارن صناعة الكتاب في أثينا بصناعته في بيروت، – "ست الدنيا"، – أو القاهرة، أو غيرهما من العواصم العربية: صناعة الكتاب في أثينا فن، وصناعته عند العرب هي، في الأغلب الأعم، تجارة. الأمر لله – هنا كذلك! 4 أعود إلى الفندق: إسبيريا. أصعد إلى غرفتي في الطابق التاسع. أجلس قبالة الأكروبوليس. كلُّ شيء يدفعك إلى أن ترى وتتأمل وتكتب. لكنْ، أشعر، في هذه اللحظة بالذات، أن قراءة الحجر أمتع من قراءة الكتاب ومن الكتابة. آه، أيتها البلاد التي أنتمي إليها!
5. سَجَّاد الغيم أحرصُ دائمًا على النظر إلى أشكال الغيوم في سماء بيروت، قُبيل أن تهبط الطائرة في مطارها، آتيةً من باريس أو غيرها. لا أشكُّ في أنني أرى (الأرجح أن أقول: يُخيَّلُ إليَّ أنني أرى) حشودًا من البشر والآلهة في تلك الأشكال، يجلسون على سَجَّادٍ من "العهنِ المنفوش". ويُخيَّل إليَّ، فيما أصغي، أنني أسمعُ أصواتهم تتعالى، فيما وراء هدير الطائرة، من حلقات نقاشهم وأحاديثهم. كدتُ، مرَّةً، أن أفهم أشياء كثيرة مما يقولونه. وكدت، مرَّةً، أن أشاطرهم الرأي في كثيرٍ مما يقولون.
6. الضيف أحبُّ أن أستضيف، اليوم، صوفيًّا تعلَّمتُ منه الكثير. إنه أبو يزيد البسطامي. وهذه بعض كلماته التي أقرؤها دائمًا: 1 هذا فرحي بك، وأنا أخافُكَ، فكيف فرحي فيك، إذا أمِنْتُكَ. 2 لا صباح ولا مساء، إنما الصباحُ والمساءُ لِمَنْ تأخذُهُ الصِّفة، وأنا لا صفة لي. 3 كنت أطوف حول البيت أطلبهُ، فلمَّا وصلتُ إليه، رأيتُ البيتَ يطوف حولي. 4 لم أزلْ أسوق نفسي إليه وهي تبكي، حتَّما ساقتْني إليه وهي تضحك. 5 كُنْ فارسَ القلب، راجِلَ النَّفْس. 6 نفسُكَ دابَّتُكَ. 7 - كيف الطريق؟ - غِبْ عن الطريق، تَصِلْ إلى الله. 8 جاء سَيْلُ عشقه، فأحرقَ الماءَ دوني. 9 الدنيا مرآة الآخرة. 10 ما حضرتُ إلا وغبت. 11 لا يعرف نفسَه مَن صحبته شهوتُهُ. 12 بكَ أدلُّ عليك، وبكَ أصلُ إليك. 13 الجوعُ سحابٌ، فإذا جاعَ العبدُ، مَطَرَ القلب الحكمة. 14 ذِكْرُ الله باللسان غفلةٌ. 15 - لِمَ لا تسافر؟ - لأنَّ صاحبي مقيم. 16 الرجلُ مَن ينام طول الليل على فراشه، ثم يُصبح وقد سَبَقَ القافلة. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة |
|
|