|
المنشق:
نيكوس كازنتزاكي أرملةُ
رجلٍ حيٍّ تتذكَّر خمسمائة
رسالة هي مختصر الحياة/التكاتُب بين نيكوس
كازنتزاكي وزوجته إيليني، منذ أن التقى بها
في أثينا سنة 1924، وهي لمَّا تتجاوز الواحدةَ
والعشرين فيما كان هو يخطو أولى خطواته نحو
العقد الخامس من عمره، إلى أن سمعتْ آخرَ
كلماته: "إني أشعر بالعطش"، قبل أن يسلم
الروح في ألمانيا بلحظات سنة 1957، لتمسك بيده
اليسرى "الحريرية، التي لم تتعرق"، بحسب
وصفها في نهاية المذكرات، التي جمعت فيها
أيضًا بعضَ مراسلاته ونصوصه غير المنشورة
لتُصدِرَها في كتاب، أرادها أن تكتبه هي دون
غيرها: اكتبي
عني كتابًا... سوف تضعين كتابًا عني، يا
لينوتشكا. عليك أن تفعلي ذلك لأن الآخرين سوف
يقولون عني أشياء كثيرة غير دقيقة. أنت
الوحيدة التي تعرفينني جيدًا. وبعد أن تجاوزت إيليني ما
كانت تعتبره مستحيلاً، أي الكتابة عن
كازنتزاكي – الأسطورة، الإنسان، المناضل،
المحب – واستطاعت، بكثير من الجهد
والمغالبة، أن تمسَّ خطاباتِه، فاستنسختْها
على الآلة الكاتبة لتتفادى النظر إلى خطِّ يد
رجل أحبَّتْه ولاءً وعاهدتْه مسلكًا، أصدرتْ
كتابَها بعد عشر سنوات عن الذي ناداها ذات
مُكاتَبة: "يا أرملةً يحبها رجلٌ حي"،
واستعطفها مرة أخرى: "عندما أسافر أندم على
اضطهادي لك"، في إشارة إلى كثرة أسفاره
وابتعادهما الدائم واحدهما عن الآخر،
أحيانًا بسبب ظروف الحياة، وأحيانًا أخرى وفق
عهد متفَق عليه: "ميثاق الأيام العشرة"
التي يلتقيان فيها سنويًّا بين فاصل التنسك
للكتابة والاعتراك مع متطلبات الحياة
والمُكاتَبة. وقد صدرت الترجمةُ العربية
للكتاب الذي تجاوَز الخمسمائة صفحة بعنوان المنشق
(بترجمة محمد علي اليوسفي) عن دار الآداب –
وإن كان سيد أحمد بلال يميل في مقدمته لكتاب
كازنتزاكي تصوف إلى عنوان مختلف: الذي
لا يساوم، في إشارة دلالية إلى كاتب
تطابقتْ حياتُه تطابقًا مقنعًا مع كتاباته.
فهذا الذي اندفع مرتين ليصبح "قديسًا" هو
ذاته الذي أغضبَ العالمَ المسيحي بكتابه
المثير الإغواء الأخير، وأيضًا بكتابه المسيح
يُصلَب من جديد؛ وهو ذاته الذي ذهب إلى
موسكو شيوعيًّا، فلم يعثر فيها، بحسب قوله،
"على الجنة التي وَصَفَها الشيوعيون
التبسيطيون، ولا على الجحيم الذي أعلن عنه
البرجوازيون الشرسون المتخوفون"؛ وهو الذي
وجَّه نداءً إنسانيًّا بمثابة بيان من لندن
"إلى ذوي الإرادة الطيبة في العالم قاطبة"؛
وهو الذي أعاد إلى الصين مبلغَ "لجنة
السلام الدولية" في بكين ببرقية تنم عن
حسٍّ إنساني رفيع: "الصداقة عندي أهم. لن
نأكل الرز الذي يعود إلى الشعب الصيني"،
فيما كان هو في أمسِّ الحاجة إلى ذلك المبلغ
من أجل العلاج؛ وفي المقابل، أهدى إلى
الصينيين رواياتِه دون مقابل. هكذا كان كازنتزاكي يحصد
الأصدقاء والأعداء، المحبين والكارهين،
أفرادًا وجماعات. فقد كان أول المهنئين – إنْ
لم يكن الفَرِحَ الوحيد – بحسب إيليني، بحصول
ألبير كامو على جائزة نوبل، فيما كان العالمُ
يترقب الإعلانَ عن فوزه هو بالجائزة، ليردَّ
كامو على برقيته برسالة وصلت لزوجته بعد
وفاته: "تحسَّرتُ على جائزة يستحقها
كازنتزاكي مئة مرة أكثر مني." ولم يكن
بعيدًا عن المهمات الرسمية: فقد حمل حقيبةً
وزارية، كما عمل مديرًا في اليونسكو، حتى
استقال من منصبه لأنه كان يرفض استلام راتب
دون عمل؛ تمامًا كما رفض عقد دار نشر باريسية
لأنها عرضت عليه شرط الكتابة بالفرنسية، وهو
المتمسك بموقعه في الأدب اليوناني والمحب
لِلُغته حدَّ الهوس بترجمة ملاحمها إلى لغة
عصرية، ضمن جهوده لمواءمة اللغة اليونانية
الصفائية بالتداوُلية. فقد كان مناضلاً
شريفًا من أجل عقيدته وناسه، يعطي للآخرين
حقَّ وواجب مهاجمة فكرته، ويحمل على عاتقه
مهمة "إعادة الفضيلة إلى هذا العالم"،
على الرغم من وصفه لنفسه في مرافعته المبكرة
في كريت بأنه ليس صاحب عقيدة منحوتة بفظاظة،
وبأنه ليس رجل ممارسة، بل "رجل هدفه
التفكير ومحاولة صياغة أفكاره"، وبأنه ليس
من أولئك السذَّج الذين يعتقدون بإمكانية
تحوُّل الفكرة إلى واقع تحولاً آليًّا
وفوريًّا. أجل، من تلك الزوايا جميعًا
ينبغي النظر إلى كازنتزاكي: "أو هكذا كان
يجب أن نحكم عليه، ليس بما فعله وبما إذا كان
ما فعله ذا قيمة سامية أم لا"، بحسب إيليني
في مقدمتها لكتاب تقرير إلى الغريكو، بل
"بما أراد أن يقوم به وبما إذا كان لما أراد
أن يقوم به قيمةٌ سامية له ولنا أيضًا." في نظرها، كان الأمر كذلك
خلال سنوات عشرتهما التي دامت 33 عامًا؛ وهو ما
حاولتْ أن تبثَّه عِبْرَ سيرة محبٍّ كبير يرى
"للبطولة والحب مُعينًا واحدًا"، ومناضل
حرٍّ ظلَّ يبشر بفكرة ما بعد الشيوعية التي
سماها "الميتاشيوعية"، فيما رآها بعضُهم
مثلبةً صريحةً من آثار اجتماع لينين والمسيح
في داخله، أو نتيجةً لحسِّ التصوف الذي سطا
على حياته تأثرًا بأديان وحكمة الشرق الذي
افتتن به لدرجة الاعتقاد بأن دمًا من هناك
يجري في عروقه، وبعشقه الواضح لكلِّ البقاع
المقدسة، أو ربما نتيجة انقياده للنزعة
النتشوية ومراسلاته مع غاندي – وإنْ كان لا
ينفي عن دماغه الكريتي الصلب بعض التقليدية
والإيمانية العميقة التي لا تذهب به إلى
الإلحاد بقدر ما تدفعه إلى الاحتجاج، كما بدا
ذلك جليًّا في مذكراته. كل ذلك الهَجْس بـ"القفص
الإنساني"، كما يسمِّي جدله الداخلي، الذي
استحق بموجبه "سعادة متوحشة"، بحسب
تعبيره، تبدَّى من خلال عشقه الحاد للكلمة،
ذلك الإكسير الذي ظل يجري فيه مجرى الدم. فقد
كان يصارع بها – بالكلمة – العملَ والمرضَ في
شجاعة: "لم يعد لي عزاء إلا في الكلمة."
حتى وصل إلى ما يسمِّيه المتصوِّفة
البيزنطيون، على غرار الطاويين، "ذروة
اللاجهد"، حيث أنجز أكثر من ثلاثين أثرًا
أدبيًّا جدليًّا، موزعةً بين الشعر والرواية
والمسرحية والسيرة والنقد والترجمة. فقد ظل
حتى آخر لحظاته يستشعر مثابرةً جسدية عارمة
تستنفره للكتابة: "في ذهني أعمال عديدة،
والأيام تبدو لي قصيرة. لم يسبق لي أن عشت
أعوامًا بهذا القِصَر." أجل، هذا ما كتبه؛
وهو هاجسه في آخر أيامه: "أحمل في داخلي منذ
الآن ثلاثة كتب أخرى تتلهف لرؤية النور... سوف
أموت وكتب كثيرة لا تزال في داخلي." ولذلك
انتابه الجزعُ عندما علم بإمكانية بتر ذراع
اليمنى، وهو الكاتب الذي لا يجيد إملاء
كتابته. ولكن ترى ما هي الكتب التي
كتبها أو أراد أن يكتبها، وماذا كانت تعني في
نظره؟ إنها كتب مُقلِقة، فظيعة إذا أمكن، كما
يصفها، ...
لأنه يجب التأكيد للبشر بأنهم سائرون نحو
الكارثة، وبأن عالمنا على شفير الشواش الذي
سيلتهمه. قليلون هم الكتَّاب الذين يهتمون
بذلك. إنهم يتلاعبون بحكايات صغيرة عن الجنس
والتحليل النفسي. الرسامون والموسيقيون أكثر
حساسية ويتوقعون دنوَّ النتيجة؛ أما
الكتَّاب فيتلهون بملذات بالية. ينبغي
إعلامهم بأننا نقترب من النهاية. هكذا تحدث عن آثاره الأدبية.
فهو لا يكف عن الابتهاج وإبداء القلق إزاء أوذيسته
التي نَظَمَها في 33333 بيتًا، ولا يخفي
انفعالَه وتوحشه في أثناء كتابة الإغواء
الأخير: "لم أعد قادرًا على رفع رأسي من
شدة انغماسي في فرح الإغواء الأخير
وقلقها." كما يكتب في موقع آخر: "تأثرت في
أثناء كتابتها بتأثر عميق وحنوٍّ صارم،
وكثيرًا ما كانت عيناي تترقرقان بالدموع." أما روايته زوربا
فكتبها في إثر صحبته لزوربا الذي يلقِّبه
إعجابًا بـ"الغول" ويضعه في مصاف نيتشه
وبرغسون وبوذا، انبهارًا بفلسفته الحسية في
الحياة؛ وقد شبَّهها بحوار "بين كاتب فاشل
ورجل حقيقي من عامة الشعب، حوار بين الروح–المحامية
وروح الشعب العظيمة". كان يرى في كتاب الفقير
إلى الله – سيرة حياة القديس فرنشيسكو
الأسيزي – الذي أملاه على إيليني في أوقات
الحمِّى، انعكاسًا لقناعته بـ"حاجة العالم
إلى أبطال". كما كتب عنه مرة أخرى متسائلاً:
"لماذا كتبتُه؟ هل يوجد متصوف ديني في
أعماقي؟" كذلك رأى كتابه القبطان ميخاليس
أو الحرية أو الموت: فمأساة القبطان التي عاشها "بصورة
نازفة"، بحسب تعبيره، عندما كان في الرابعة
من عمره في أجواء كريت المأساوية، تحولت إلى
كتاب يحكي "سيرة الصراع من أجل الحرية،
تطلُّع الروح الأبدي إلى الانعتاق، جهد
المادة للتحول إلى روح". هكذا يوجِد كازنتزاكي
مبررًا روحيًّا لكلِّ كتاب يكتبه. فهو يحب
كتبه ويجيد التحدث عنها: فكتابه رياضة روحية
أو مخلِّصو الله، الذي ترجمه سيد أحمد بلال
لدار المدى بعنوان تصوف، أراد للآخرين أن
يقرؤوه بالروح نفسها التي كتبه بها: "كلهم
يعتبرون كتاب الزهد عملاً فنيًّا، وليس
صرخة بحث وقلق، وذلك لعدم وجود واحد منهم
يمتلك هذه الصرخة." ثم يكتب عنه في رسالة
أخرى: "إن كتاب الزهد الذي كتبته بدمي
هو صرخة مريعة سوف يتم الاستماع إليها بعد
موتي. لا يفهم الناس حاليًّا سوى الشكل الشعري."
أما كتاب تقرير إلى الغريكو الذي لم
تُرِدْ إيليني أن ترقنه على الآلة الكاتبة،
حيث كانت تجهش بالبكاء كلما دفعها إلى ذلك،
بحسب قوله، لأنه يتحدث فيه عن موته، فهو مزيج
من الواقع والخيال؛ وقد كان بمثابة ...
سيرة ذاتية أُسِرُّ فيها باعترافاتي إلى جدي
الغريكو... فكرتي ليست شخصية، إنها قديمة
جدًّا، تدفع بالمرء إلى محادثة ميت محبوب يثق
به كي يعترف بهمومه. وهكذا جاءت روايته الحرية
أو الموت، حيث كتب عنها: "أسعى قدر
المستطاع إلى بعث والدي حيًّا، وبالتالي، إلى
تسديد ديني لِمَن أنجبني بوضعه في العالم." وعلى الرغم من الاضطهاد
الذي واجهه به مثقفو بلاده، إلا أنه لم يُبْدِ
أيَّ يأس أو إحباط، إلى أن مات صديقُه الشاعر
آنغِلوس سيكِليانوس، فأحدث موتُه في داخله
فجيعةً كبرى، وأراد أن يخلِّده في كتاب. وقد
رثاه كمن يرثي نفسه، بلغة غاية في الشفافية،
تنمُّ عن حزن دفين، وربما مؤجل منذ زمن بعيد: هنا
في العزلة أحاول الشفاء من صدمة فظيعة: تربطني
بسيكليانوس صداقة أربعين عامًا. كان وحده
الذي أستطيع معه التنفس والتحدث والضحك
والصمت. أما الآن، فاليونان فارغة في نظري...
مات صديقي. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحمل جثمانه
بين ذراعي. أنام وأستيقظ ولا أتوصل إلى هدوء
البال. وعندما أختلي بنفسي فقط أنحني وأبكي،
وتعاودني الأسئلةُ الأبدية تمزِّق فكري، فلا
أعود قادرًا على تحمُّل الحياة والظلم. ثمة
الآن قرود مثقفة تحيا، وتعيش جيدًا، وتدنِّس
اليونان. كان سيكِليانوس ملاذَه
وتوأمه. فالسعادة تكمن في رحلة يتم فيها
الجمعُ بين الصداقة والحركة، تمامًا مثلما
كان هنري ميلِّر يتحسَّس صلابةَ الأرض بقدميه
ثقةً وامتنانًا وإعجابًا بكاتسيمبالِس عملاق
ماروسي عندما كانا يجوبان أرجاء اليونان.
أما ملاذه الثاني، فهي إيليني التي تترقق
لغتُه كلما تحدث عنها: "إن زوجتي هي التي
مازالت تشدني إلى مجتمع البشر وتمنعني من
التوحش." وهكذا كان ينتظرها على الدوام
ويخاطبها بكثير من الرقة والأمل: "لحسن
الحظ أنك ستأتين بعد ثلاثة أسابيع، وسوف
تصالحينني مع بني البشر." لم تكن كتاباتُه كلماتٍ
وأفكارًا، بل نداءاتٌ يتخفف بها من قلق وجودي
أزلي مقيم في الروح الإنسانية. فأحيانًا، كما
يقول، تتملَّكه رغبةٌ جامحةٌ في رؤية أشخاص ...
أنقض عليهم في وحشية خفية وبربرية، كي ألمسهم
وأرى ما الذي يجلبونه. حتى الآن لم أكتشف عند
أيِّ شخص آخر توترًا روحيًّا وقلقًا نفسيًّا
في مستوى ما أعيشه، لكنهم أنجزوا أعمالاً
ومارسوا تأثيرًا لا أدَّعيهما. أجل، هكذا كان كازنتزاكي:
ممتلئًا بالأسئلة والكفاحات الميتافيزيقية،
كما يصف نفسه؛ بل كان وعاءً بشريًّا هائلاً
يتسع للصداقة والحب في أسمى معانيهما. ولذلك
دعا القارئ في مقدمة كتابه تقرير إلى
الغريكو إلى تلمُّس أثر قطرات دمه الحمراء،
"الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس
والعواطف والأفكار". ***
*** *** |
|
|