أن تكون عربيًّا

تحدِّيات السؤال الوجودي

 

خالد غزال

 

يحوي كتابُ أن تكون عربيًّا حصيلةَ أسئلة وأجوبة طَرَحَها الصحافي الفرنسي كريستوف كنتشف على الكاتبين السوري فاروق مردم بك والفلسطيني إلياس صنبر، وتغطِّي مرحلةً تاريخيةً امتدت من النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى زمننا الراهن.

يسجل الكاتبان تأريخًا لمحطات مهمة من الفترة الواقعة بين صيرورة الإمبراطورية العثمانية "الرجلَ المريض" والحرب العالمية الأولى. وقد شكَّل التدخلُ الأوروبي المباشر في المنطقة أهم الحوادث آنذاك: ذلك أن أوروبا سَعَتْ، عبر تدخلها، إلى اقتسام الإمبراطورية العثمانية وإلى رَبْطِ الاقتصاد العثماني بالسوق الرأسمالية وتحويل المقاطعات العثمانية سوقًا للإنتاج الأوروبي، وجمعت بين استخدام الآلة العسكرية وإجبار الدولة العثمانية على إدخال إصلاحات عُرِفَتْ بـ"التنظيمات". وقد ركزت الإصلاحاتُ على إعطاء الأقليات حقوقَها في المساواة وتكريس هذه الحقوق في تشريعات. وكانت تلك الإصلاحات أحد المداخل للتعاطي الأوروبي مع طوائف المنطقة واختيار كلِّ دولة طائفةً تضعها تحت جناحيها.

في مقابل ذلك، شهدت تلك المرحلةُ بواكيرَ النهضة العربية عبر بعض روادها، أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي. دعا الطهطاوي إلى إدخال التحديث إلى العالم العربي، وشدد على وجوب التوجه إلى الغرب، وطالب بألا يقتصر التوجُّه على أخذ تقنية الغرب، بل يشمل الإفادة من الأفكار الأوروبية كمادة اقتصادية/سياسية/اجتماعية. أما محمد عبده، فتميز بدعوته إلى تأويل النصوص الدينية بما يتلاءم مع موجبات العصر.

يصعب القول بتبلور شعور وطني عربي خلال تلك الفترة، بالمعنى الذي يتأسَّس حول الدولة–الأمَّة. كان الدين ممثلاً للهوية، وكان العرب يتحدَّدون بالنسبة إلى لغتهم. لكن يمكن القول بأن إرهاصات القومية العربية كانت قد بدأت بالتبلور لتصل إلى أوجها لاحقًا في مواجهة المشروع الاستعماري والصهيوني تجاه المنطقة.

في تناوُلهما لأحداث القرن العشرين، يرى الكاتبان أن العالم العربي انحكم بمشاريع سياسية لا تزال محور التطورات فيه حتى اليوم. تمثلت هذه المشاريع في الاستعمار البريطاني–الفرنسي، ولاحقًا الأمريكي، وفي المشروع الصهيوني في فلسطين، ثم في ولادة المشروع القومي العربي ردًّا، في حيِّز أساسي منه، على المشاريع السابقة. مثَّل اتفاق سايكس–پيكو خلال الحرب العالمية الأولى محطة أساسية، فتقاسمت فرنسا وبريطانيا المنطقةَ العربية، وأعطى ذلك الاتفاقُ اليهودَ دولةً في فلسطين من خلال وعد بَلفور، مما أدى إلى ضرب المشروع الوحدوي العربي الذي نهض مع ثورة الشريف حسين ضد تركيا (وهي الثورة التي وعد البريطانيون بدعمها). نجم عن فشل الثورة العربية تشكُّل "كيانات" عربية ركَّبها الاستعمار على بنيات سياسية تستند إلى أقليات وطوائف وعشائر، بما يمكِّنه من التلاعب بها والسيطرة عليها – مع الإشارة إلى أن العالم العربي لم يكن موحدًا آنذاك، فجزَّأه الاستعمار؛ بل بنى الاستعمارُ على تجزئة موروثة وركَّب عليها كياناتِه.

طوال النصف الأول من القرن العشرين، خاضت هذه الكيانات معارك استقلالها وتحرُّرها من المستعمر. وخلالها، تبلور الشعورُ القومي الوحدوي الذي وجد تعبيراتِه الفكرية في كتابات ساطع الحصري والقوميين العرب وحزب البعث.

تجلَّى الحدث الأكبر في تلك المرحلة في تحوُّل القضية الفلسطينية إلى قضية العرب المركزية. فمنذ حصولها على وعد بَلفور في العام 1917، عمدت الحركة الصهيونية إلى الإسراع في بناء مقومات دولة إسرائيل. قامت إيديولوجيا الحركة الصهيونية على مقولة "فلسطين أرض بلا شعب تعود إلى شعب بلا أرض"، أي اليهود. وتحددت فلسطين بأنها "أرض الميعاد" التي وعد الله اليهود بإعادتهم إليها، فاقترنت توجهاتُ عودة اليهود بتهجير الشعب الفلسطيني تباعًا – وهو الموجود فعلاً، بسكانه ومؤسَّساته وأحزابه وصحفه. استندت الحركة الصهيونية إلى الدعم البريطاني في تسهيل الهجرة وتسليح التنظيمات اليهودية. لاحقًا، ارتبطت المصالح الأمريكية العسكرية والسياسية والاقتصادية بالمصالح الصهيونية، فشبَّهتِ الولاياتُ المتحدة ولادةَ دولة إسرائيل بولادة الولايات المتحدة. واختُتمت تلك المرحلة بانتصار المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيل في العام 1948 بعد هزيمة الجيوش العربية التي دخلت فلسطين لمنع إسرائيل من الوجود.

طرحت نكبة 1948 على العالم العربي أسئلةً وجودية تتعلق بمفاصل تكوينه السياسي والعسكري والفكري. فقد ضاعت فلسطين، وجرى تثبيت المشروع الصهيوني في قلب المنطقة العربية، مدعومًا من أمريكا وأوروبا. وأفرزت "النكبة" تحولاتٍ عميقةً في المنطقة، كان أبرزها انقلاب "الضباط الأحرار" في مصر في تموز 1952، الذي سيجعل مصر، لسنوات لاحقة، محورَ الصراع مع الغرب ومع إسرائيل. وقد وصل ذاك الصراع إلى ذروته مع تأميم جمال عبد الناصر قناةَ السويس في العام 1956 وما تبعه من عدوان بريطاني–فرنسي–إسرائيلي، أعطى دفعًا للمشروع القومي العربي بقيادة عبد الناصر. تحول شعار الوحدة العربية شعارًا مركزيًّا يرتبط به التحررُ من الاستعمار واستعادة فلسطين وتحقيق التنمية الاقتصادية. وفي هذا المناخ، تحققت الوحدةُ بين مصر وسوريا، وأطيح النظامُ الملكي في العراق واليمن، وقامت ثورةُ الجزائر ضد فرنسا. ولعقد من الزمن، امتد من نهاية الخمسينيات حتى العام 1967، عاش المشروع القومي العربي الصاعد عصرَه الذهبي، ليعود فينتكس مع هزيمة حزيران 1967.

شكَّل صعودُ المقاومة الفلسطينية بعد 1967 رافعةً تاريخيةً متجددة للمشروع القومي العربي. وبين العامين 1967 و1982، خاضت الحركةُ الوطنية الفلسطينية ثورتَها من الخارج، من الأردن ولبنان وسوريا. وقد ركَّز شعارُها على العودة إلى فلسطين طريقًا للوحدة العربية، فدعا العربَ إلى فتح الحدود أمام المقاومة المسلحة، القادرة وحدها على تحرير فلسطين. لكن العمل المقاوم اصطدم بالأنظمة العربية، فكانت مجازر "أيلول الأسود" في الأردن، وكان الحَجْر عليها في سوريا، وكان استخدام المقاومة للساحة اللبنانية إدخالاً لها في الحرب الأهلية اللبنانية.

لم تستطع ثورةُ الخارج استعادةَ أية مساحة من أرض فلسطين؛ لكن أهميتها تكمن في استعادة الشخصية الوطنية الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل وعودة الفلسطينيين إلى الحياة السياسية، وذلك بعدما سعت الأنظمةُ العربية لعقود إلى مصادرة الشعب الفلسطيني. كان إقفال الحدود وانتهاء ثورة الخارج من العوامل التي نقلت ثورة الفلسطينيين إلى الداخل عبر انتفاضة العام 1987 وانتفاضة العام 2000. وأدى ذلك إلى عقد اتفاقات أوسلو والاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ليس من المبالغة وصف عقدَي الثمانينيات والتسعينيات والسنوات الخمس الأولى من القرن الحادي والعشرين بأنها سنوات الانحدار العربي وتآكُل المشروع القومي وسيادة الانقسامات العربية والحروب الأهلية وانحلال الدول وبروز العصبيات والطائفيات والعشائريات بديلاً من الدولة. وعلى الرغم من وهج حرب تشرين 1973، اجتاح إسرائيل لبنان في العام 1982، مما أدى إلى احتلال أول عاصمة عربية. وأتى غزو العراق للكويت في العام 1990 ليعيد الاستعمارَ العسكري مجددًا إلى الأرض العربية. أما إسرائيل، فتمكن من توقيع اتفاقات صلح رسميٍّ مع بعض الدول العربية ومن اختراق أقطار أخرى اختراقًا غير مباشر. واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، فانتهى موقعُه كدولة أساسية، ودخل نفق الصراعات الأهلية. وعلى الرغم من الاتفاقات الفلسطينية–الإسرائيلية، استمر الصراع في أعلى ذروته، وتفاقمت معاناةُ الشعب الفلسطيني في ظل رفض إسرائيل الاعتراف بحقوقه وانسحابه من الأراضي المحتلة في العام 1967.

هكذا يقدم لنا الكاتبان پانوراما عربية على امتداد مئة عام. تشي هذه اللوحة، في محطاتها الأخيرة، بالصعوبات الهائلة التي تواجه العالمَ العربي في جميع المجالات، بحيث يصبح سؤالُ ما معنى "أن تكون عربيًّا" سؤالاً وجوديًّا بكلِّ معنى الكلمة.

*** *** ***

عن النهار، الاثنين 30 كانون الثاني 2006

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود