|
دور المثقَّف أن يشهد
للحقِّ حرًّا دوري إظهار الوجه
المُشرق للثقافة العربيَّة أحمد علي الزين: هذا الرجل أخذ على
عاتقه، منذ زمن مبكر، مهماتٍ عديدة، من
أبرزها التعريف بالوجه المضيء لثقافتنا
العربية، رهانًا منه على دور خلاق للثقافة،
بعد أن خذلتِ السياسةُ الكثيرَ من المثقفين
في أُطُرها السائدة، عبر تهميش أدوارهم
وإبعادهم عن القيام بدورهم الذي لا يتعدى
حدود الشهادة للحق والتعبير في حرية. فاروق
مردم هو واحد من هؤلاء الذين غرَّدوا خارج
السرب دون أن يضيعوا في الفضاءات البعيدة، بل
كوَّنوا لغيابهم عن أوطانهم حضورًا نافذًا،
حتى في أوطانهم، عبر مهمات نبيلة قاموا بها. في
أواسط آب من العام 2005، التقيت به هنا، في
العاصمة الفرنسية باريس، التي يسكنها منذ
حوالى 40 سنة. تجولنا قليلاً على ضفاف نهر
السين، حيث يبدو أنه يرغب في التسكع بين
أفكاره هنا؛ أو لعل المكان مؤاتٍ لاستعادة
المشهد الدمشقي يوم كان طالبًا في المعهد
الفرنسي. فاروق
"مردم بك" إذا شئت... إذا شئتَ أم أبيت: ما
أصل هذه العائلة؟ فاروق مردم: أصل العائلة تركي
عثماني. الجد الأعلى كان حاكمًا لمدينة دمشق،
واليًا على مدينة دمشق، في أواخر القرن
السادس عشر. ثم ترك الأسرة في دمشق، واستمرت
هذه الأسرة حتى الآن. أ.ع.ز.: استمرت عبر "فاروق
بك"! ف.م.: كمان، إذا شئت! أ.ع.ز.: طيب، أستاذ فاروق،
أنت من مواليد دمشق، العام 1944 في 23 نيسان،
وغادرتَها سنة 65. ف.م.: أواخر الـ65... قصتي مع المنفى أ.ع.ز.: يعني تبعد عن ربيعك
الأول حوالى 61 سنة، وتبعد عن دمشق حوالى 40 سنة.
ما حكاية هذا البعد، أو خلِّنا نسميه المنفى؟ ف.م.: لا أحب كلمة "منفى"،
لأنني لم أشعر بغربة. لا أريد أن أكذب عليك وأن
أقول إنني أعيش حالة لا تطاق من الغربة
والحنين، إلخ – فهذا غير صحيح. جئت إلى فرنسا
للدراسة، ثم طرأت أمورٌ سياسية، وأمورٌ
حياتية أيضًا، جعلتْني أبقى في فرنسا وأستقر
فيها وأتزوج. عندي ولدان فرنسيان، بما أنهما
ولدا في فرنسا، مما يجعلني أشعر بنفسي
فرنسيًّا أيضًا – وإن كنت أعتقد أن هويتي
العربية هي الهوية الغالبة. أ.ع.ز.: طبعًا العشرون سنة
الأولى من حياتك كانت في دمشق، وتشكَّل وعيُك
الأولي وبدأ في حارات دمشق عبر علاقات معينة،
عبر صداقات، عبر أفكار. كيف بدأ انحيازُك
لتكون من اليسار مع القضايا القومية، مع قضية
فلسطين. بِمَن تأثرت؟ ف.م.: حدث هذا، على ما
أعتقد، في المعهد الفرنسي–العربي بدمشق،
لأننا عشنا بشكل حادٍّ جدًّا. هناك، أولاً،
العدوان الثلاثي على مصر؛ وأن تكون في مدرسة
فرنسية، وأن تكون فرنسا مشارِكة أساسية في
هذا العدوان في فترة نهوض الحركة القومية
العربية، وفي فترة نهوض شخصية عبد الناصر
الكبيرة وتبلورها – طبعًا هذا أثَّر تأثيرًا
كبيرًا، جعل رغبتي في أن أثبت هويتي العربية
قوية جدًّا. ثم عشت الوحدة السورية–المصرية
وأنا في المعهد الفرنسي أيضًا، مما أضاف
بُعدًا إضافيًّا إلى هذا الشعور العربي/العروبي.
يضاف إلى ذلك أن الثقافة الفرنسية التي
شُبِّعنا بها في المعهد الفرنسي كانت ثقافة
عَلمانية، ثقافة ديموقراطية، وكان بعض
أساتذتنا في المدرسة، من فرنسيين وعرب،
يساريين. أذكر، مثلاً، أن أستاذًا فرنسيًّا
للتاريخ هو الذي درَّسنا تاريخ الثورة
الفرنسية وأثَّر فينا كثيرًا. أتذكر كذلك
أستاذين: أستاذًا للتاريخ وأستاذًا
للجغرافيا من العرب، من السوريين، كانا
شيوعيين، واعتُقلا في بداية سنة 59 في أثناء
الاعتقالات التي عمَّت سوريا وقتذاك وضربت
الحزب الشيوعي السوري؛ وقد تأثرتُ جدًّا
باعتقال هذين الأستاذين لأني كنت أحبهما
جدًّا، مما جعلني أميل إلى هذا التيار، وبقيت
صديقًا للحزب الشيوعي السوري خلال بضع سنوات. أ.ع.ز.: كان فاروق مردم
منهمكًا في إصدار كتابه الجديد بعنوان ماذا
يعني أن تكون عربيًّا، بالاشتراك مع إلياس
صنبر. وهذا الكتاب الذي فيه عودة إلى أصول
الحركة العربية المعاصرة وإلى معنى الانتماء
والعروبة والقومية، كان عنوانه "مدخل
لإعادة طرح السؤال: ماذا يعني أن تكون عربيًّا
اليوم؟" أن تكون
عربيًّا،
كتاب فاروق مردم وإلياس صنبر. بالتوازي:
"ماذا يعني أن تكون فرنسيًّا؟" – في عالم
التبستْ فيه الهويات والصراعات ومعنى
الانتماء، وأصبح العربي، في مستوى ما، في
موضع شبهة وسط تضافُر الجهود لتشويه صورته أو
لطغيان صورة أحادية الملمح والسلوك والفكر
وُصِمَ بها شعبٌ برمَّته. ف.م.: في هذا الكتاب،
حاولنا، قبل كلِّ شيء، أن نعود إلى أصول
الحركة العربية المعاصرة، أي إلى أواخر العهد
العثماني وبدايات القرن العشرين، عندما
تبلورتِ الفكرةُ العربية كفكرة سياسية. نحن،
إذن، ننطلق من فكرة أن العروبة قديمة؛ أي أن
الإحساس العربي، إحساس الفرد من أبناء هذه
البلاد – وبالأخص بلاد الشام – بعروبته هو
إحساس قديم، ولكنه لم يكن متبلورًا على
المستوى السياسي. جاءت البلورةُ على المستوى
السياسي في أثناء تكوُّن الحركات القومية في
أواخر القرن التاسع عشر. وقد حاولت، مع صديقي
إلياس صنبر، أن نتابع البحث في هذه الهوية
لنبين تعدُّد الهويات العربية: كيف يمكن أن
تكون، في وقت واحد، سوريًّا أو لبنانيًّا أو
فلسطينيًّا – وعربيًّا، وأن تكون عربيًّا
ومسلمًا أو مسيحيًّا، وأن تكون دمشقيًّا أو
حلبيًّا أو نابلسيًّا، إلخ. هي محاولة لإعادة
النظر في الهوية على أساس أنه ليس هناك هوية
واحدة، وإنْ كانت هناك هوية طاغية بحسب
وجود المرء في هذا البلد أو ذاك، أو بحسب
الحالة السياسية العامة لهذا البلد أو ذاك،
إلخ. ماذا يعني أن تكون
عربيًّا؟ أ.ع.ز.: إذن فالجواب كان على
مستوى ماذا يعني أن تكون عربيًّا. أي أنك
حاولت أن تفسر معاني هذه الهوية ودلالاتها... ف.م.: من خلال تطور
الحركات السياسية العربية، ومن خلال تطور
التاريخ العربي المعاصر. ماذا جرى بعد الحرب
العالمية الثانية؟ المسألة الفلسطينية،
الحقبة الناصرية، التراجع في الفكرة العربية
بعد هزيمة 67، مع تكوُّن الأنظمة الاستبدادية
العربية، ومع صعود الحركات الإسلامية
الراديكالية، إلخ. ماذا بقي من "الفكرة
العربية"؟ ولماذا مازلت أعتبر نفسي "عربيًّا"؟ أ.ع.ز.: وماذا يعني الجزء
الآخر من السؤال الذي طرحتُه في البداية؟
ماذا يعني أن تكون اليوم فرنسيًّا؟ ف.م.: الحقيقة أنني صرت
"فرنسيًّا" بمحض المصادفة: صرت فرنسيًّا
لأني حُرِمْتُ من جواز سفري السوري خلال فترة
من الفترات؛ ثم بسبب وجودي الطويل في فرنسا،
– فأنا مقيم في فرنسا منذ 40 سنة – وإذن،
لضرورات الحياة اليومية، لضرورات العيش،
لأسباب عائلية، بسبب الأطفال، إلخ. أ.ع.ز.: بس، ألا يعني لك هذا
شيئًا: أن تكون فرنسيًّا اليوم؟ لأن كلمة "عربي"
أو "مسلم" أو ما شابه، في نظر الغرب على
الأقل، فيها شيء من الاتهام: أن تكون "إرهابيًّا"
مثلاً... ف.م.: أنا ثقافتي في الأصل
ثقافة عربية وفرنسية في وقت واحد. كنت طالبًا
في المعهد الفرنسي–العربي في دمشق، ولذلك
رُبِّيتُ في وقت واحد على الثقافتين العربية
والفرنسية. ثم حين وصلت إلى فرنسا كانت البلاد
في حالة غليان. كنت طالبًا، وعشت، منذ السنوات
الأولى، الحركةَ السياسيةَ الطلابية،
الانفجار الطلابي الذي حدث سنة 68، وهذا الشبق
إلى الحرية وإلى التغيير الذي عمَّ بين شبيبة
فرنسا وشبيبة العالم في تلك السنوات – مما
جعل علاقتي بفرنسا علاقة خاصة، علاقة ذات
معنى: هي مسعى من أجل الحرية، من أجل
الديموقراطية، من أجل العدالة الاجتماعية. أ.ع.ز: طيب، أستاذ فاروق،
كما ذكرنا، أنت منذ 40 سنة تقريبًا خارج دمشق.
هل، في تقديرك، هناك سنوات أخرى ستُبعِدك عن
دمشق؟ ف.م.: أنا لست بعيدًا
جدًّا عن دمشق بالمعنى الجغرافي. أعتقد أن
أوان العودة لم يعدْ بعيدًا جدًّا. أ.ع.ز.: على ماذا تراهن؟ ف.م.: أراهن على هذه
التغييرات التي تعمُّ المنطقةَ في الوقت
الحاضر والتي تجعل من الغريب ومن المستهجَن
أن يُحرَم أيُّ مواطن من العودة إلى بلده!
هناك مطلب ديموقراطي بسيط في سوريا، هو طبعًا
إطلاق جميع المعتقلين السياسيين، أولاً؛
والثاني هو عودة جميع المنفيين إلى الوطن –
المنفيين قسرًا أو من غير قسر. أ.ع.ز.: أستاذ فاروق، هناك
معارضات مختلفة للنظام القائم في دمشق الآن.
أين أنت منها؟ وما هو دورك؟ ف.م.: أعتقد أنني أميل
طبعًا إلى المعارضة الديموقراطية العَلمانية
في سوريا. أما "دوري"، فلا دور لي
سياسيًّا. فأنا لست سياسيًّا. أعتقد أنني أقوم
بدور ثقافي في فرنسا؛ وهذا الدور الثقافي
لا يتعلق بسوريا وحدها. فدوري الثقافي يتعلق
بالعالم العربي بأسره؛ إذ إنني أقوم بالتعريف
بالأدب العربي وبالتيارات الأدبية والفكرية
الحديثة في العالم العربي وبالترويج لها.
وأعتقد أن عملي الرئيسي هو إظهار هذا الوجه
الذي أعتقد أنه الوجه المشرق للثقافة العربية
الحالية أكثر من أن ينصبَّ همِّي الأساسي على
الموضوع السوري فقط. أ.ع.ز.: إذن، ما يشغل فاروق
مردم، الآن ومنذ سنوات، هو التعريف بإنجازات
الكتَّاب العرب وإبداعاتهم وتقديمهم للقارئ
الفرنسي وللغرب بشكل عام. وهذا، في حدِّ ذاته،
إنجاز رائع يُسهم في بلورة الصورة الأصل، أو
الصورة المعاكسة للسائد في الذهنية الغربية.
وفي موازاة هذا الاهتمام أو هذا الدور، لم
يغبْ فاروق مؤلفًا وباحثًا في العديد من
القضايا: فلقد حقق على المستوى الشخصي الكثير
من الأعمال، تأليفًا وبحثًا وترجمةً،
مدفوعًا بالهاجس نفسه، سواء في كتاباته عن
القضية الفلسطينية أو في تناوُله موضوعات
أخرى في الفكر والأدب والشعر. في
السنوات الأخيرة، على ما يبدو، صرتَ من
المتحمسين أكثر، كما ذكرت، لإظهار الصورة
المشرقة للإنسان العربي. طيب، هذه الصورة... ف.م.: دون أن نكذب على
نفسنا، بالطبع، دون أن نقول إن هذه الصورة "المشرقة"
هي الصورة الوحيدة! مع الأسف، العالم العربي،
كما تعلم، يعيش أزمة رهيبة. مَن ساهم في تشويه
صورة الإنسان العربي؟ أ.ع.ز.: يبدو، إذن، أن هناك
صورةً أخرى مشوهة. هذه الصورة، مَن ساهم في
تشويهها؟ وكيف تشوهت؟ ف.م.: هناك في فرنسا،
أولاً، صورة مشوهة أصلية. هناك خلاف عميق
جدًّا بين الغرب، من جهة، – إذا أردنا أن
نعمِّم، – وبين العرب والمسلمين، من جهة
ثانية. وربما يعود ذلك إلى عصر الحروب
الصليبية، ومن بعدها الحروب الاستعمارية. وما
من شك أيضًا أن العنصرية في فرنسا اتخذت
أبعادًا جديدة في أثناء حرب الجزائر، وخاصة
بسبب الهزيمة الفرنسية في تلك الحرب. ثم لا شك
أيضًا في أن وجود عدد كبير جدًّا من العمال
المغتربين من ذوي الأصول العربية في فرنسا قد
أثَّر في إعطاء صورة مخيفة عن العرب: "مخيفة"
بمعنى أن هناك فرنسيين عاديين يعتقدون بأن
هناك جحافل من العرب والمسلمين سيجتاحون
فرنسا، وما إلى ذلك. فضلاً عن ذلك، يسهم بعضُ
التيارات اليمينية المتطرفة في نشر هذه
الأفكار وتركيزها. وما من شك، أيضًا وأيضًا،
في أن الحركات الإسلامية الراديكالية لعبت
دورًا كبيرًا في ذلك: عندما يشعر المواطن
الفرنسي بأنه مهدد بقنبلة قد تنفجر في
الطريق، كما انفجرت قنابل في السابق في باريس
وكما تنفجر اليوم في لندن وفي سواهما، فما من
شك في أن هذا يخيف المواطن الفرنسي العادي
ويجعله أكثرًا حذرًا من جاره العربي. أ.ع.ز.: طيب، من خلال
احتكاكك اليومي بالوسط الثقافي الفرنسي، هل
تجد أن المثقفين الفرنسيين يقرؤون هذه الصورة
كما هو مروَّج لها في الإعلام الغربي بشكل
عام؟ ف.م.: هناك تياران. ما
عشناه طبعًا في هاتين السنتين الأخيرتين كان
رهيبًا، من خلال بعض المعارك المفتعلة،
كمعركة "الحجاب" في فرنسا التي أثارت
الرأي العام ضد العرب والمسلمين المقيمين
فيها. ولكن هناك أيضًا – لحسن الحظ – ثقافة
ديموقراطية عميقة في هذا البلد، وهناك مثقفون
متنورون يحاربون هذه التيارات ويتصدون لها
بشكل يجعل الفرنسيين أكثر قبولاً للآخر وأكثر
استعدادًا لتقبُّل الثقافة العربية الحديثة
التي ندافع عنها. أ.ع.ز.: طيب، لنرجع إلى قصة
الفكر القومي الذي حاولتَ توضيحه من خلال بعض
المسائل في كتابك الأخير. هناك من المثقفين
العرب مَن يرى أن سبب الأزمات التي يعيشها
عالمُنا العربي اليوم هو تحديدًا في هذا
الفكر الذي جذَّر هذه الأزمات، بدلاً من أن
يكون وصفةً أو حلاً للمجتمع، تحت شعارات
كبيرة، وأهمل حياة الناس إهمالاً مخيفًا. ما
رأيك بهذا القول؟ ف.م.: أنا أعتقد أن
العروبة العقائدية، العروبة التي تأدلجت
والتي عُبِّر عنها في حركات وأحزاب سياسية
وفي أحزاب تسلَّمت السلطة عبر انقلابات
عسكرية، أساءت إساءةً كبيرة قطعًا إلى الفكرة
العربية. أنا أرى أن الفكرة العربية هي فكرة
حديثة وراهنة أكثر من أيِّ وقت مضى. يستحيل،
في عالم اليوم، على أيِّ بلد في حجم الأقطار
العربية، كما هي اليوم، أن يصمد في إطار
العولمة الحالية. عندما تفكر أن أوروبا كانت
في حاجة إلى أن تجمع قوى فرنسا وبريطانيا
وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا – وهي كلها دول
كبيرة – حتى تستطيع الصمود أمام الاجتياح
الأمريكي، وربما الاجتياح الصيني فيما بعد
على المستوى الاقتصادي، فما بالك بدول
كالأردن أو سوريا أو لبنان أو قطر؟! هناك
ضرورة للتقارب العربي؛ وهي اليوم ليست ضرورة
عاطفية، بل ضرورة حياتية، ضرورة وجودية.
ولكن بخلاف ما كان يقال في السابق، لا أنطلق
من فكرة أن هناك "أمة عربية واحدة ذات رسالة
خالدة" منذ الأزل، بل من فكرة أنه يجب بناء
هذه الوحدة العربية. وهذه تُبنى من خلال المصالح
المشتركة، من خلال إظهار أن هناك مصلحة
مشتركة للسوري وللبناني، مثلاً، في التعاون
وتطوير حالة "وحدوية" بينهما على أسُس
حقيقية وصحيحة ومتكافئة – لكن من خلال مصالح
مشتركة، وليس من خلال الأفكار المجردة، كأن
نقول إننا "شعب واحد في بلدين"، إلخ –
فهذا لا معنى له. يجب أن نسعى إلى ذلك من خلال
إقامة علاقات حقيقية بين الشعبين، من
خلال تبادُل المصالح بينهما، بحيث يشعر كلا
المواطن السوري والمواطن اللبناني بأن لكلٍّ
منهما مصلحة في هذا التعاون. أ.ع.ز.: هناك مَن يقول إن
هناك مؤامرة من الغرب – وخاصة الغرب الأمريكي
– على فكرة القومية العربية، على إدانة
العروبة، على ضرب العروبة، على محو هذه
الفكرة. ما قولك؟ ف.م.: هذا نوعًا ما صحيح.
أعتقد أنه عند المراكز الإستراتيجية
الأمريكية، وعند المحافظين الجُدُد، هذه
الفكرة موجودة: يجب ألا يكون هناك أي تعاون
حقيقي بين الدول العربية، وأن تمر العلاقة
بين كلِّ دولة عربية ودولة عربية أخرى عبر
الولايات المتحدة، بل حتى عبر إسرائيل. أنت
ترى كيف تضغط الولايات المتحدة حتى لا تنعقد
قمةٌ عربية حقيقية! فأنا أعتقد، نعم، أن
الولايات المتحدة اليوم معاديةٌ عداءً
كبيرًا لفكرة التقارب بين الدول العربية. أ.ع.ز.: طيب، كنَّا نتكلم
على الوسط الثقافي الفرنسي. كيف ينظر هذا
الوسط إلى صورة العربي في مجتمعه؟ وهل، في
تقديرك، ساهم العرب والمسلمون المقيمون في
فرنسا منذ فترة طويلة، بسلوكهم اليومي أو
بثقافاتهم التي نقلوها معهم، في تشويه هذه
الصورة؟ ف.م.: أنا أعتقد أن
الأغلبية الساحقة من المسلمين ذوي الأصول
العربية الذين يعيشون في فرنسا اليوم أناس
معتدلون، يرغبون في الاندماج في المجتمع
الفرنسي، ويندمجون فعلاً فيه. منذ يومين أو
ثلاثة، قرأت استطلاعًا في جريدة Le Monde
يبيِّن صورة معاكسة تمامًا للصورة الشائعة:
العرب خارجون على القانون، العرب في فرنسا لا
يريدون الاندماج، وهم خاضعون لتأثيرات
الإسلام الراديكالي، إلخ – مما لا يعني أن
وَضْعَ جزء من الجاليات العربية، من أبناء ما
نسمِّيه الجيل الثاني أو الثالث، في ضواحٍ
معزولة، في أبنية هَرِمَة متهالكة، في أوساط
أشبه بالغيتوات، لا يجعلهم يشعرون أنهم
منبوذون، وأنهم يردون على هذا النبذ بنوع من
بناء شخصية أو هوية جديدة لهم هي هوية إسلامية
متطرفة. من هنا، في رأيي، انتشر ارتداء النساء
للحجاب في فرنسا للتمايز عن بقية الفرنسيين... أ.ع.ز.: كردة فعل... ف.م.: كردة فعل... أ.ع.ز.: ... لإثبات الهوية،
حتى بأية طريقة كانت! في
عبارة أخرى، فاروق مردم "عروبي"، لكنْ
على طريقته، و"دمشقي" على طريقته، و"فرنسي"،
على طريقته أيضًا. على الرغم من السنوات
الأربعين، مازالت لديه معايير للانتماء،
ركيزتها الأساس هي الحرية – واحدة من
المقدسات في نظره. فاروق مردم الذي، بين "معهد
العالم العربي" IMA
ودار Actes Sud
التي يشرف عليها، يدير مشروعه الضخم في ترجمة
الكتَّاب العرب، يصرف أيامه، ويزاول حبَّه
لبلاده ولأصدقائه وحلمَه بعالم أقل بشاعة
وأكثر رحمة وعدلاً، ويتابع مشروعاتِه الخاصة
في الكتابة، ممتلئًا بحيويته وبصورة المثقف
الذي، حتى لو عرف أن منازلاتِه قد تكون خاسرة
إلى حين، يبقى يقارع بما يملك من معرفة وحب. سبق
لنا أن قمنا بجولة مع فاروق مردم في بعض نواحي
الذاكرة ما بين دمشق وباريس، وفي بعض مواقفه
من قضايا الانتماء والهوية والعروبة،
وتحدثنا عن دوره كمثقف في الترويج، إذا صحَّ
التعبير، للصورة المشرقة في ثقافتنا العربية
وفي جعلها تحتل حيزًا لها في المشهد الثقافي
الفرنسي خاصة، وفي الغرب عمومًا. وفي السياق،
لخَّص فاروق مردم مسألة الاندماج وعوائقها
لدى المهاجرين العرب، منذ سبعينيات القرن
الماضي، وظواهر التعبير عن الهوية التي تذهب
أحيانًا حتى التطرف كردة فعل على واقع
اجتماعي وظروف عيش. اهتماماته
بـ"قضية العرب الأولى" هذه
العناوين هي من بعض اهتمامات فاروق مردم الذي
يسعى إليها بكلِّ نشاطه لخلق حوار بنَّاء بين
الأنا والآخر، ولتصحيح الصورة المغلوطة،
وللـ"شهادة للحق"، كما يقول. أما فلسطين،
كقضية وإنسان، فقد احتلت، منذ البدايات،
أولويات اهتماماته. فالسنوات الأربعون التي
صَرَفَها من عمره في باريس كانت حافلةً
بالكثير من الإبداع وبالكثير من الحضور
الفلسطيني في وجدانه. ف.م.: أولاً، أنا أعتقد
بأن الفكرة القائلة بأن فلسطين هي "قضية
العرب الأولى" هي فكرة حقيقية وصحيحة، ليس
فقط بسبب التضامن مع الشعب الفلسطيني – وهو
شيء طبيعي... أ.ع.ز.: قضية العرب الأولى،
صحيح، على أن لا ننسى القضايا الداخلية
التي دفع جيلان... ف.م.: لا أنسى القضايا
الداخلية... أ.ع.ز.: ... ثمنَها غاليًا تحت
هذا الشعار... ف.م.: أنا أعتقد أنها قضية
العرب الأولى، وإنْ لم أقل إنها الوحيدة.
وهذا ليس ذلك فقط بسبب التضامن مع الشعب
الفلسطيني، بل بسبب ما يشكِّله إسرائيل من
تهديد على الدول العربية: إسرائيل يهدد فعلاً
مجموعة الدول العربية. نحن نرى أن إسرائيل لا
يسير في اتجاه الاندماج في المنطقة، بل العكس
تمامًا. الصور التي رأيناها مؤخرًا في
التلفزيون – موضوع الانسحاب من غزة، مثلاً –
ماذا تبيِّن؟ تبين أن هذا البلد يزداد تعصبًا
على المستوى الإيديولوجي، يزداد تطرفًا على
المستوى السياسي، وأن المجتمع الإسرائيلي
مهدَّد بالانفجار اليوم بين تيارين: التيار
الديني المتصلب، والتيارات الأكثر عَلمانية
التي ترغب، ربما، في إيجاد حلٍّ ما. طبعًا حتى
الاتجاهات العَلمانية تريد الحلَّ لمصلحتها
أو على حساب العرب، – وهذا طبيعي، – لكنها قد
تبحث عن حل؛ أما الاتجاه الأول، فهو يدور في
دوامة غير معقولة، لأنه يتجه نحو تأسيس غيتو
يهودي كبير في وسط العالم العربي، لكنه
غيتو مسلَّح بمائتي قنبلة نووية، وبجيش قوي،
وبقدرة اقتصادية كبيرة يستطيع من خلالها
السيطرة على جزء كبير من عالمنا العربي. لذلك
فإن هذا التهديد هو الذي يدعونا إلى الاهتمام
اهتمامًا خاصًّا، سواء كنَّا فلسطينيين أو
غير فلسطينيين، بالموضوع الفلسطيني، لأن
المسألة الفلسطينية، كما قلت، هي جامعة. جميع
المغتربين في فرنسا في حاجة دائمًا إلى قضية
مشتركة؛ ويبدو أن القضية الفلسطينية هي
القضية المشتركة التي تجمع بيننا. نحن اليوم
نجتمع حول قضيتين: القضية الفلسطينية، وقضية
الديموقراطية في العالم العربي – هذا ما يجمع
بين المثقفين العرب...
أ.ع.ز.: وكلتاهما مفقودة!
طيب، من خلال هذه التجربة الطويلة التي
راكمتَها عبر السنوات، هل استطعت أن ترسم
ملامح لدور المثقف العربي، – دوره الذي
هُمِّشَ أو قُمِعَ في أوطانه الحقيقية،
فانتقل للنضال، إذا صح التعبير، خارج أوطانه،
– هل قدرتَ أن تكوِّن ملامح أو مشروعَ كتاب عن
المثقف؟ ف.م.: أنا أعتقد أن ما يقال
عن دور المثقف وعن دور الصحافي وعن دور الأديب
لا يمكن تلخيصه في كلمة واحدة... لكن مدار
المسألة، في الحقيقة، هو أن يكون شاهد حق،
لا شاهد زور. المشكلة أن عددًا كبيرًا من
المثقفين استسلموا للأنظمة العربية خلال
فترة طويلة، فأساءوا إلى أنفسهم وإلى هذه
الأنظمة أيضًا. واليوم... أ.ع.ز.: ... وإلى المثقف وصورة
المثقف؟ ف.م.: ... إلى أنفسهم وإلى
قضيتهم وإلى كلِّ شيء! المهم اليوم أن يكون
المثقف فاعلاً حرًّا، أن يعبِّر عما يراه
بكلِّ مسؤولية وبكلِّ حرية أيضًا.
أعتقد أن هذا دور المثقف، وليس للمثقف من دور
آخر: ليس عليه أن يغير الأنظمة، وليس عليه أن
يمارس العمل السياسي بالمعنى النضالي، إلخ.
مهمته في ميدانه هي أن يقول... أ.ع.ز.: الحقيقة وأن يكشف
الحقيقة...
فاروق مردم، إلى
اهتماماته العديدة، ذواقة طعام من طراز رفيع،
أصدر عدة كتب تعرِّف بالمطبخ العربي. "سندباد"
أو Actes
Sud
– دار النشر الفرنسية التي كان
يديرها رجلٌ من كبار المثقفين الفرنسيين هو
پيير برنار – اهتمت بترجمة الأدب العربي منذ
أوائل السبعينيات. ولفاروق مردم في السنوات
العشر الماضية دور في دَفْع هذه التجربة
ورَفْدها بأنشطة تجعلها أكثر رسوخًا وحضورًا
وتعميمًا: فقد جعل العديد من الكتَّاب العرب
في صُلْب المشهد الثقافي في فرنسا، وبالتالي
في أوروبا، من خلال ترجمة أعمالهم. ولعل هذا
الدور الذي يقوم به فاروق مردم يحفز
الحكوماتِ العربيةَ على الانتباه – على
الأقل – إلى دور غائب كان ينبغي أن تقوم به
منذ زمن بعيد في تقديم صورة خلاقة عن أمَّة
أمعنت الصهيونيةُ والعنصريةُ والتياراتُ
الراديكالية في تنميط صورة بشعة عنها ذات
بُعد همجيٍّ ومتخلف. طيب،
طبعًا، كما ذكرت، إن دار "سندباد" معنية
بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية... ف.م.: بالدرجة الأولى. أ.ع.ز.: بالدرجة الأولى
طبعًا... فما هي المعايير التي يخضع لها
الكتابُ الذي سيترجَم؟ في عبارة أخرى، هل
هناك من لجنة تقرأ؟ أم هي نتيجة فقط معرفة
وعلاقات من النوع الذي... ف.م.: لا، هو، أولاً،
نتيجة لتتبُّع ما يصدر في العالم العربي
طبعًا، ولتقدير شخصي، ثانيًا. والحقيقة أنه
تقديري الشخصي لتطور الأدب العربي، الشعر
العربي والرواية العربية، في السنوات
الثلاثين الماضية. أعتقد أنه يجب ألا نحرق
المراحل، بحيث نقدم الفترات الانتقالية
أيضًا. فإذا ترجمنا، مثلاً، طه حسين وتوفيق
الحكيم ونجيب محفوظ ويحيى حقي إلخ، ثم
انتقلنا إلى ترجمة الكتَّاب الحاليين فقط، أي
الكتَّاب الذي يبلغون الآن الثلاثين أو
الأربعين من أعمارهم، نكون قد تناسينا جيلاً
كاملاً من كتَّاب الستينيات. ولذلك اهتممت،
بالدرجة الأولى، بترجمة أعمال هؤلاء
الكتَّاب، كتَّاب الستينيات الذين شكَّلوا
نقلةً أساسية في الأدب العربي وفي الرواية
العربية، الكتَّاب المصريين، أمثال جمال
الغيطاني وصنع الله إبراهيم ومحمد البساطي
إلخ. عملت، قبل كلِّ شيء، على تقديمهم إلى
القارئ الفرنسي، وسعيت إلى أن يكونوا جزءًا
من المشهد الثقافي الفرنسي. هذا شيء مهم. ولا
تكفي ترجمة كتاب واحد للكاتب: إذا تُرجِمَ
كتابٌ واحد سيضيع في زحام الكتب والترجمات من
جميع لغات العالم إلى الفرنسية. أنت في حاجة
إلى العمل مع كاتب، وإلى تتبُّع أعماله، وإلى
أن تُراكِم التجربة، كأن تسعى إلى تقديم كتاب
جديد كل سنتين مثلاً، بحيث... أ.ع.ز.: يأخذ موضعَه، يأخذ
مركزَه... كتاب جماعي بعنوان كتَّاب
عرب من الأمس ومن اليوم، صدر عن دار سندباد
ومعهد العالم العربي بإشراف فاروق مردم. ف.م.: ... في الوسط الثقافي
الفرنسي. وأعتقد أننا نجحنا حتى الآن. هناك
بعض الكتَّاب يمكن لنا القول إنهم أصبحوا
جزءًا من المشهد الثقافي الفرنسي. طبعًا هم
عدد قليل، لكنك تستطيع أن تسأل أيَّ مثقف
فرنسي: "هل تعرف محمود درويش؟" فيجيبك:
"نعم، أعرف محمود درويش." ولذلك عندما
يأتي محمود إلى باريس، في ندوة مثلاً، تجد أن
القاعة تغص بألف شخص مثلاً، ويدفع الحضور. قصور
الدول العربية في مجال الترجمة أ.ع.ز.: هذا الشيء يُفرِح في
الحقيقة! طيب، كيف كان وقْع هذه التجربة في
الوسط الثقافي الفرنسي؟ كيف استقبلها
الناقدُ الفرنسي؟ كيف استقبلتْها الثقافة
والإعلام؟ كيف ساهمت هذه التجربةُ بدورها بـ"حط
كتف"، مثلما نقول عندنا بالعربية، لإبراز
هذا "الوجه المشرق"، كما تقول، لعالمنا
العربي؟ ف.م.: نعم، أعتقد أن بعض
الكتَّاب العرب استطاعوا فعلاً، كما قلت، أن
ينفذوا إلى صميم الهمِّ والوعي الثقافي
الفرنسي. ولكن المهمة كبيرة جدًّا؛ والمشكلة
أن دار Sindbad/Actes Sud
لا تستطيع القيام بها وحدها. ومن المؤسف أن
الدول العربية لا تساعد ولا تسهم إطلاقًا في
التعريف بأدبها. في المقابل، تجد، مثلاً، أن
ألمانيا أو اليابان – وهما دولتان كبريان –
تدعمان ترجمة أدبهما إلى اللغة الفرنسية! أ.ع.ز.: وأحيانًا ترجمة
الكتب العربية إلى لغتهما... ف.م.: تمامًا، مثل معرض
فرانكفورت... أ.ع.ز.: وما عرف العربُ أن
يتعاملوا معه... ف.م.: تمامًا... ترى الدول
العربية لا تسهم إطلاقًا في هذا الجهد، مما
يجعل غالبية دور النشر تخاف، لأنها لن تبيع
كثيرًا في البداية. عندما تترجم كاتبةً
عربيةً غير معروفة في فرنسا، تقوم بمغامرة
لأنك ستبيع 500 نسخة، 600 نسخة، 1000 نسخة في أحسن
تقدير، فتكون خاسرًا. الدُّور، إذن، لا تغامر
لأنها تسعى إلى... يجب أن تقوم الدول العربية
بدعم الترجمة، لأن الترجمة هي البند الأكثر
كلفةً في ميزانية أيِّ كتاب... أ.ع.ز.: لكنه الأقل كلفةً
للـ"ترويج" لصورتهم، إذا أرادوا تحسين
هذه الصورة... ف.م.: وخاصة أن هناك
اليوم، كما أعتقد، أدبًا عربيًّا حديثًا
جيدًا، جديرًا بالنقل إلى اللغات الأجنبية،
وذلك في جميع الأقطار العربية. لم يعد الأدب
العربي محصورًا بين ثلاثة أو أربعة بلدان،
كما كان من قبل. ليس هناك أدب مصري أو لبناني
أو فلسطيني فقط: هناك أدب مغربي، باللغة
العربية، يستحق الترجمة؛ هناك أدب في الخليج
العربي: في المملكة العربية السعودية، في
اليمن. أ.ع.ز.: لا أحد يعرف هذا
الأدب! ف.م.: نقرأ لكتَّاب وشعراء
وشاعرات وأديبات من الخليج أعمالهم جيدة
جدًّا وتستحق الترجمة. ولكن لن تقوم أية دار
نشر فرنسية بالمغامرة إذا لم تساهم الدولُ
العربية نفسها في تشجيعها على هذه المغامرة. أ.ع.ز.: أنت طرحت الصوت على
مؤسَّسة ما، على وزارات الثقافة... ف.م.: أنا أتكلم في هذا
الموضوع دائمًا، أتكلم، لكنْ كصرخة في واد. أ.ع.ز.: ألم تحاول أن تقوم
باتصالات، أي مثلاً... ف.م.: في عدد كبير من
الندوات، أحاول، بقدر استطاعتي، أن ألفت
الانتباه إلى هذه الناحية. أ.ع.ز.: لكنك أنت مَن يصرخ في
واد... علاقته
وسمير قصير هناك
صداقات تتعدى معناها السائد، فتصبح شراكةً في
العطاء، بعد أن تتأسَّس على شراكة في الموقف
وفي الرؤية، وتوحِّدها همومٌ وقضايا وأحلام.
لقد جمعت فاروق مردم وسمير قصير حكايةُ صداقة
من نوع الشراكة، حيث أصدرا كتابًا مشتركًا عن
فلسطين بعنوان مسالك من باريس إلى القدس
في العام 1992 في جزأين. وحين التقيت فاروق مردم
في آب من العام 2005، كان سمير قصير قد سقط
شهيدًا في بيروت، وكان غيابُه الصاعق طاغيًا
وحاضرًا في أيِّ لقاء يجمع بين أصدقائه. يعني
غياب هذا الشاب، هذا الرجل، قديش ترك أثرًا،
في رأيك، أو قديش ترك فراغًا في مهمات كان من
الممكن أن يقوم بها؟ ف.م.: يصعب عليَّ الكلام
عن هذا الموضوع فعلاً. مازلت حتى الآن تحت
وطأة ما جرى. سمير طبعًا لم يكن "واعدًا"
فقط، لأن ما أنجزه خلال حياته القصيرة كان
كبيرًا. سمير ألَّف ثلاثة كتب ضخمة ومبدعة في
مجالاتها. عملنا معًا على كتاب عنوانه مسالك
من باريس إلى القدس: فرنسا والصراع العربي–الإسرائيلي؛
وهو كتاب في جزأين، نحاول فيه أن نتتبع علاقة
فرنسا بالصراع العربي–الإسرائيلي، ومن قبلُ
بالصراع الصهيوني–العربي منذ مؤتمر بال، منذ
نشأة الحركة الصهيونية. كتاب سمير قصير
وفاروق مردم بك، مسالك من باريس إلى القدس،
في جزأيه. أ.ع.ز.: طبعًا هو صَدَرَ
بالفرنسية... ف.م.: صدر بالفرنسية،
ونأمل الآن أن يُترجَم إلى العربية. الهدف منه
لم يكن فقط الكلام على السياسات الحكومية،
ولكن أيضًا على الرأي العام الفرنسي، على
الأحزاب السياسية، على الثقافة الفرنسية
وعلاقتها بهذا الموضوع – مما دعانا أيضًا إلى
البحث في موضوع تاريخ اليهودية في فرنسا،
تاريخ الدولة، وتاريخ الجاليات العربية
والعلاقات فيما بينها، والعنصرية المعادية
للعرب والعنصرية المعادية لليهود في فرنسا،
إلخ. أي أنه كتاب جامع يحاول أن يعالج جميع
جوانب هذا الموضوع وزواياه. الكتاب الثاني
الذي ألَّفه سمير – والذي أعتقد أنه الأول في
بابه – هو تاريخ الحرب اللبنانية، وهو
رسالة الدكتوراه التي كتبها في باريس عن
الحرب اللبنانية، ويستحق الترجمة إلى
العربية (طبعًا لم يُترجَم إلى العربية!)؛ وهو
كتاب كبير أيضًا، يقع في أكثر من 600 صفحة.
والكتاب الثالث طبعًا هو تلك الرائعة التي
اسمها تاريخ بيروت: كتاب في غاية الجمال،
من حيث المضمون ومن حيث الشكل، لأن سمير كان
كاتبًا مرهفًا باللغة الفرنسية وباللغة
العربية أيضًا، ولكنه كان يعد بأكثر. يعني أنا
شخصيًّا أعرف أنه كان في جعبته ثلاثة أو أربعة
كتب أخرى، منها روايات ومنها، مثلاً، كتاب عن
التجربة الناصرية: كان يريد أن يكتب كتابًا عن
الحقبة الناصرية وما تعنيه في نظره، لأنه كان
يكنُّ احترامًا كبيرًا لشخص الرئيس عبد
الناصر، ولذلك أراد أن يعالج هذه المسألة، من
وجهة نظر نقدية طبعًا، بعد 30 سنة على وفاة
الرئيس عبد الناصر. وهناك مشاريع أخرى،
بالفرنسية وبالعربية. ولذلك أعتقد أن موته
خسارة كبيرة جدًّا للثقافة العربية؛ وهي
خسارة لا تُعوَّض في نظر أصدقائه. أ.ع.ز.: يقال إن لك أيادي
بيضاء في بلورة شخصية سمير، بدعمها،
باحتضانها، إذا صحَّ التعبير. هكذا يُروى عنك:
أنك أنت الأخ الكبير أو "الأب الروحي" له. ف.م.: أريد أن أوضح ذلك.
أنا أكبر من سمير بخمس عشرة سنة، وقد عملنا
معًا. لكن، كما قلت في مداخلة أخيرة عنه،
عندما أفكر في الموضوع الآن، أعتقد أنه هو كان
"الأخ الأكبر"! أ.ع.ز.: إضافة إلى هذه
النشاطات والاهتمامات كلِّها، أنت تشغل موقع
"مستشار" في "معهد العالم العربي".
يعني أيش حكاية هذا المعهد؟ وأنت، أيش موقعك
فيه تمامًا؟ فيمَ يستشيرونك؟ ماذا يسألونك؟ فاروق مردم يدير
حوارًا في معهد العالم العربي حول "لبنان:
إلى أين؟"، شارك فيه أحمد بيضون، هنري
لورنس، جوزيف مايلا، وزياد ماجد (4 نيسان 2005). ف.م.: معهد العالم العربي
تأسَّس على أساس شراكة بين فرنسا، من جهة،
وبين دول الجامعة العربية، من جهة ثانية، على
أساس المناصفة في التمويل، وعلى أساس الشراكة
من الناحية الثقافية. تأسَّس في بداية
الثمانينيات في فترة كانت العلاقات الفرنسية–العربية
فيها صاعدة، بما فيها العلاقات الاقتصادية.
وربما كانت الفكرة الأولى من المعهد هو أن
يكون نوعًا من "الواجهة الثقافية" لا
أكثر! ولكن بسبب الطلب الاجتماعي – هناك طلب
اجتماعي كبير، حتى في المدارس الثانوية وفي
الجامعات إلخ، سببه هذا التوتر الخاص حول
العرب والمسلمين وفلسطين وسائر الأمور التي
تهم المواطن الفرنسي – أتيح لهذا المعهد... أ.ع.ز.: أن يلعب دور... ف.م.: ... أن يلعب دورًا
ثقافيًّا أكبر وأكثر طموحًا. وقد بدأ بلعب هذا
الدور في سنة 1989 بفضل رئيسه آنذاك پيزاني،
وكان شخصية فرنسية كبيرة، وزيرًا سابقًا عند
ديغول ووزيرًا عند ميتران، ورجلاً مثقفًا ذا
شخصية خارقة في الحقيقة. فهو الذي أعطاه هذا
الزخم وجعله... أ.ع.ز.: حاضرًا... فاروق مردم يدير
حوارًا في معهد العالم العربي حول "الولايات
المتحدة وأوروبا وإعادة تشكيل الشرق الأوسط"،
شارك فيه جلبير أشقر، جوزف باحوط، جان پول
شانيولو، وبرهان غليون (9
أيار 2005). ف.م.: ... حاضرًا، أجل، في
النقاش الاجتماعي والثقافي الفرنسي اليومي.
بدأ ذلك ببعض المعارض التراثية الكبيرة: كان
أول معرض عن تاريخ مصر؛ ثم أقيم معرض آخر عن
تاريخ سوريا، وكان معرضًا بديعًا جدًّا. معرض
سوريا، مثلاً، زاره أكثر من 400000 شخص، مما يعني
أنه كان أحد المعارض الكبرى في فرنسا في ذلك
الوقت. طبعًا، عندما تستدرج 400000 شخص إلى
المعهد، فهؤلاء الأشخاص سيزورون المعهد،
وسيطَّلعون على المكتبة، وسيزورون مكتبة بيع
الكتب، وسيشترون بعض الكتب، إلخ. أي أنك، من
خلال المعارض الكبيرة، تستدرج الجمهور
العريض، وليس المثقفين وحسب، للتعرف إلى مجمل
نواحي الثقافة العربية، بما فيها الثقافة
الحديثة والمعاصرة... كتاب جماعي بعنوان لبنان:
وجوه معاصرة، صدر عن معهد العالم العربي
بإشراف فاروق مردم. أ.ع.ز.: وسط هذه "العجقة"
والانهماك كلِّه – وكانت المعارض مجدية! ليت
هناك الكثيرين من أمثالك! ف.م.: سلمت! أ.ع.ز.: هل تجد وقتًا لفاروق
لتحكي معه كلمتين "على جَنَب"؟ ف.م.: في الليل، أو في
الصباح الباكر، لأنني فعلاً مبكر في
الاستيقاظ. أ.ع.ز.: يبدو من الأماكن
التي تقضي فيها عطلتك الصيفية أنك تقصد أماكن
قريبة من بلاد الشام، كأن تذهب صوب تركيا أو
إلى بيروت أو صوب إسبانيا... ف.م.: وإبان فترة طويلة
إلى قبرص، على مقربة من سوريا ولبنان... أ.ع.ز.: بتقديرك، هل في
الوعي أو في اللاوعي الواحد منَّا يختار
المكان؟ ف.م.: في اللاوعي، أعتقد،
في اللاوعي. أ.ع.ز.: فاروق مردم،
المتحدِّر من أصول تركية، من جدٍّ كان واليًا
على دمشق في القرن السادس عشر، ليس فيه شيء من
صفات "الوالي" إلا العدل – فيما لو
مرَّ في زماننا حاكمٌ عادل! – يضاف إلى صفات
أخرى، هي اشتغالات ومهمات تنوعت ما بين
التنشيط الثقافي، والإبداع، وإدارة مؤسَّسات
تهتم بشؤون الكتاب، إلخ. هذا الستيني،
المولود في دمشق في 23 نيسان سنة 1944 والمقيم في
باريس منذ العام 65، تشرَّب فكرة التمرد
والاختلاف من المعهد الفرنسي في دمشق،
متأثرًا بالفكر الماركسي وببعض الأصدقاء
والأساتذة، وكانت ثورة الطلاب في باريس سنة 68
بوصلة لأفكاره. أما الهزائم والحروب والأنظمة
التي صادرت الأفكار تحت الشعارات البراقة،
فشحنتْه ليكون شاهدًا: سَمَحَ له الفضاء
الباريسي أن يدلي بشهادته، فيحتج ويكتب ويجمع
صورًا من فلسطين ووجوهًا من العالم العربي
لينازل بها في ميدان الصراع. *** *** *** عن
برنامج روافد، حاوَرَه: أحمد
علي الزين الجمعة
27/1 والجمعة 3/2/2006
|
|
|