رؤى

أنا الآن موجودٌ مادمتُ قد متُّ

 

سليمان الحكميَّة

 

مهمَّةٌ شاقةٌ هي محاولة ولوج عالم عزمي موره لي في رؤى[1] – هذا العمل الطافح حتى الطوفان بمياه مندفعة، على أشكال مختلفة – بركانية، نافورية، ينبوعية، انسيابية –، لتلتقي معًا على سطح واحد، مشكِّلةً محيطًا عظيمًا، مكتظًّا بالهول والوهم: هو محيط المعرفة واللامعرفة، محيطٌ للوجود وللعدم، للشيء وللاَّشيء، للصيف وللشتاء، على سطح واحد، بالفعل، لا بالرمز والتخييل. فالرهبة في مواجهة هذا المحيط العظيم مشروعة، والحذر والتردد بين الثقة ونقيضها، بين الضعف والقوة، أمران مشروعان أيضًا ومفهومان، بنظري على الأقل، وأنا أحاول تفكيك عالم يتمتع بقدرٍ هائل من التماسك والتداخل والتشابك والتعقيد، كشبكة صاغها خيالُ متخصِّصٍ في السينما الغرائبية، لأن: «أكثر الشعراء ثقةً بنفسه مَن يجيد الهذيان لكنه يجد نفسه فيه» (ص 60).

لم أجد سبيلاً إلا أن أنطلق، مطرِّحًا روحي في هذا الخضم المهيب، في هذا العالم الذي ينوس بين الوهم واللاوهم (ولا أقول «الواقع»)، على طريقة «الرائي». فلعزمي موره لي «دماغ يحتوي الزمان والغبار» (ص 51)، «من الهاوية التي لا مطلق فيها ولا ذاكرة، تقول الجمجمة لذاتها وهي تشاهد تعفُّنها، وقد ملأها الذعر ووجد الصمت في الزمن والانهيارات: سأنتزع منكِ السرَّ، يا جمجمة!» (ص 71). فماذا يريد أن يقول؟ علامَ يريد أن يبرهن؟ هل هي مجرد «تهويمات» يخطُّها الشاعر على «ورقة الروح»؟ أو أنه «اللاَّشيء»، كما ذكر في المقدمة؟

ليقل ما يشاء في مقدمته، ثم ليهوِّم في شعره و«رؤاه» كما يحلو له! فالتهويم فعلٌ حقيقي، قفزٌ في المجهول، اندفاع صوب المطلق، انغمار في اللجَّة، انسحابٌ نحو العمق، حيث عناق الذات للذات، في دائرة مغلقة تبدأ من حيث تنتهي: «منِّي تبدأ اللانهاية، وفيَّ تنتهي اللانهاية. أنا لقاء الوجود حيث ينتهي حاضرٌ أبدي ويبدأ» (ص 99). إنها وحدة حلولية، خلط بين الفاعل (الذات) والموضوع. فالموجود واحد: هو الوجود الكلِّي المطلق اللانهائي: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (لبيد). «جبتُ الحركة والليل، متحررًا من القصد والفعل، فشهدت التكوين، وأنَّى نظرت ذاتي قبضت على السر» (ص 99). جاء في عبارة بوذية: «يتماثل ما يُرى مع ما يراه، لأن الرائي هو المرئي والمرئي هو الرائي».

لكن عزمي موره لي لا يستقر على هذه الحال، بل ينتقل إلى صوفية التجلِّي (صوفية التوحيد) كالتي عند ابن الفارض: «أتجلَّى، شيء ما يتجلَّى ويصير، شيء ما وراء الموت والولادة» (ص 69)، حيث تتحصَّل الدهشة والتحيُّر، لعظمة المشهد والمشاهدة: «تنظر الرؤيا إلى ذاتها مدهوشة» (ص 69). «تحيَّر فأبصر، أبصر فتحيَّر، شوهد فشاهد» (الحلاج، الطواسين).

ولكن جلال المشهد المتعانق مع شدة الظهور والوضوح يجعل الصورة تتفلَّت وتغيب. فـ«الغيب لا يُدرَك»، و«أبصر فغاب» (الحلاج). لكنها «الصورة» تترك خلفها كشفًا للسرِّ وانجلاءً للُّغز: «انجلى اللغز، ولكن لم يَلُحْ شيءٌ للرائي» (ص 100). ومع ذلك: «ليست القضية قضية معرفة بل قضية وجود» (ص 65). و«يضنيك العقل، تعذِّبك الفكرة، تُسقِمُك الإرادة. تقامر خاسرًا على منضدة تدور إلى الأبد». «حرِّر قدميك وطاقاتِك من الأوامر. الجملة العصبية قَيْد. قُلْ ما يقال وما لا يقال. افعل ما يُفعَل وما لا يُفعَل. ولكنها أفعال يمكنك مسحها، ويمكنك أن لا تفعل. أطلق صوتك وروحك للغناء!» (ص 33-34)

بوهيمية على حافة الجنون، أو هي هي الجنون بعينه! دعوة إلى اللاشيء، أو ربما دعوة فلسفية وحياتية، أو لعلها صوفية مستغرقة في المطلق، حيث الذهول عن الذات، والذهول عن الآخر، وحيث الكائنات محض أشباح وأوهام، أو كمٌّ مهملٌ لا يثير المبالاة، كما رآها صوفي أندلسي هو أبو الحسن الششتري، حين انطلق مغنيًّا في الأسواق، ذاهلاً عمَّا حوله: «شيخ من أرض مكناس وسط الأسواق يغني: إيش عليَّا من الناس وإيش على الناس مني؟» لأن «المقصود هو الموجود» (ص 75)، ولأن لدى «الرائي» «أحيانًا الفكرة أن شيئًا يمكن أن يكون أو لا يكون. الشموس والنجوم يمكن أن تكون أو لا تكون. ليست تلك سوى فكرة، لكن الفكرة يمكن أن تكون أو لا تكون» (ص 54).

إذن، كل شيء قائم بالمصادفة: فما هو كائن، كان يمكن ألاَّ يكون. هي، إذن، اعتباطية الوجود وخلوُّه من العقل والنظام والتدبير: «أتمضي أبعد من ذاتك؟ حلمك هل تتجاوزه؟ الفكر يدلك؟ الحب تشوش» (ص 33). قهر العواطف والمشاعر: لا حب ولا كره، لا حزن ولا سرور، لا خير ولا شر... خمود جميع العواطف! لأنه سيظل يولد ويموت حتى تتخلَّص روحُه من «الكارما الجينية»، فتتطهَّر نفسُه: «الحياة والموت يروِّضان الشواش، وجهان هما للغز مغلقان» (ص 57).

ويخرج «الرائي» من حيرة التفكير إلى الدهشة، ومن التعقل إلى الذهول، في تهويمات تتغذى على ثقافته الشمولية الواسعة، وجولات فكره الوثَّاب، وخياله المجنَّح كنسر في وضعية التحليق. فكأنه يؤرخ ملحميًّا لحركة الفكر الإنساني، من الوثنية حتى الأفلاطونية، ومن الجَيْنية الهندية والطاوية الصينية إلى الإسلامية المعتزلية والأشعرية والصوفية، إلى القدرية والجبرية، عابرًا إلى «عصر الأنوار»، ومن الهيغلية إلى النيتشوية والوجودية والماركسية، في ثنائيات ليست متناقضة بالضرورة، وقد لا تتضاد، وقد لا تتفق، وقد تتساوق أو تتوازى، إنما هي ثنائيات، لكن دون كيفية صريحة، بعد أن قام «الرائي» بفرز خيوط ما بينها من تلاوين دقيقة وأعاد حياكتها على نول الإنسانية لتشكِّل، كما يبدو، شخصية عزمي موره لي.

فهو، في المحصلة، يقف في مركز دائرة، تحيط به كل هذه النقاط التي تشكِّلها، وكل منها يبعد مسافة موحدة عن المحرق: فلا هو ملحد صرف، ولا هو وثني، ولا يبدو مؤمنًا حقًّا، ولا هو من هذه المدرسة أو تلك. هو، هكذا، مركَّبٌ من الإيمان والإلحاد، من الشك واليقين، من المعرفة واللامعرفة، من العقل والذهول. ليس بعجينةٍ مركبة كيميائيًّا، وإنما باتحاد روحي يجعل منه الإنسان: الرائي، الشاهد، المحارب، المنفصل عن الوجود والمتحد بكلِّية هذا الوجود بطريق المجاهدة الصوفية، «كما الموجة تعقب الموجة وتنفصل وهي تتوحد» (ص 85). أما الزمان، فهو مستوعَب في «الرائي»: «أعقل الزمان الذي لم أكن فيه، أعقل الزمان الذي لن أكون فيه، أعقل الزمان» (ص 75).

ولكن ما هذا «الزمان» الذي عَقَله «الرائي» عزمي موره لي؟ هل هو زمن الفلاسفة أم هو زمن العلماء أم هو زمن المتصوفة؟ هل هو زمن أفلاطون، أو أرسطو، أو ابن سينا، أو ابن الهيثم، أو جابر بن حيان؟ أهو زمن برغسون أو ديكارت أو أينشتاين؟ أم هو زمن أبو البركات البغدادي أو ابن عربي؟ أهو زمن العلاف والجويني والأشعري والباقلاني؟ يبدو لي أن «الرائي» انطلق متواثبًا بين هذا وذاك، مؤكدًا هويته في عدم الثبات. أم أنه، بصورة ما، جَمَع كلا هذا وذاك، على اختلافه وتبايُنه، وحتى تناقُضه؟ أم هو اللاَّزمن؟ أم هو غير هذا وذاك؟ – زمن عصي على الفهم والوصف والتعريف، ليتشكَّل زمنٌ خاص، هو زمن رؤى عزمي موره لي. فهذا الزمن المتصل «سرمدي»: «أنت البدء الأبدي لشيء ليس بدءًا ولا انتهاء، هنيهة في المتصل» (ص 45)، وهذا زمن أزلي: «زمن مغرق في القدم، لا عالم، ولا حلم، ولا مطلق» (ص21). والزمن/الخالق «يلد [...] ما كان وما سيكون». «ذاك هو الوجود» (ص 54). ذهنية الزمن: «لي دماغ يحتوي الزمان والغبار» (ص 51). وحدة الزمان والمكان (الزمن الفيزيائي): «تواصل الزمان والمكان اللانهائي» (ص31). الزمن وعاء: «كان كوخي يحميني من الزمان الذي يحف بي من كلِّ جانب» (ص 19).

أما «الهنيهة» - تلك المفردة الأثيرة لدى «الرائي» التي تتكرر أحيانًا بمرادفها «اللحظة» – فهي كسر خفي ولغز مقفل. فما هي هذه الهنيهة/اللحظة؟ هل هي اللحظة الجدلية، الهيغلية، التي هي مرحلة من مراحل التحول الجدلي، قوة تدفع الفكرة إلى ضدِّها: «إذا متَّ في الهنيهة، في اللحظة ذاتها التي تعقل فيها موتَك فإنك لم تمت» (ص 97). أم هي انسياب الزمن الأفلاطوني: «لا نور ولا حلم يبلغان الهنيهة» (ص 41). «ما من حياة تستنفد الهنيهة» (ص 51). «كل لحظة من الأبدية لانهاية، منها يفر النهائي» (ص 72). أم هي «الآن» الذي عرَّف به الغزالي: «الآن طرف يشترك فيه الماضي والمستقبل من الزمان». أم هي لحظة «الصيرورة»، لحظة الانتقال من الكم إلى الكيف الماركسية. أم هي مجرد فضاءات سائبة ننظر فيها ونحن في موقع التحير، لنستشعر، فقط، متعة خدر اللاَّجدوى. ربما كانت هذا أو ذاك، أو ربما كانت كل هذا وذاك، لكننا نزعم أنها ليست زمن «النبضة الليزرية» القصير، ما لم تكن واحدة من تهويمات عزمي موره لي في رؤى، وقعت، عرضًا، وهو يلتحم «عمدًا بالعبث»، ويعيش «حتى الهول تجربة العالم» (ص 27) وليلَه: «بلا منفذ، يهزه الكابوس والهول» (ص 19).

«الهول»: ممَّ؟ أمِنَ الانفصال واللاَّشيء؟ «في ذروة القلق، وفيما أنت عارٍ أمام ذاتك، تشعر برعب الانفصال واللاَّشيء» (ص 43). «الهول» - المفردة الأكثر تعبيرًا والأقوى دلالةً على معاناته من احتمال أنْ «لا يوجد شيء» فعلاً – تشكِّل في رؤى المعادل الذاتي للعدم، بما هو موضوع: «لم تكن تشعر بشيء، لم تكن تريد شيئًا، لم تكن تعقل شيئًا، لم تكن أنت، أخرجوك من العدم» (ص 59). «الهول» الذي تغرق فيه الـ«رؤى» ربما كان ما يولِّده الفناء من الجزع – هذا الفناء الذي ستكون مكافأته «الشعور باللامتناهي»: في «الذات»، كما عند شلايرماخر، وهو شعور ظرفي؛ وقد يكون الشعور باللامتناهي، كحالة مستديمة، تحليقًا في الأبدية، «هول» من أنْ لا يكون ثمة شيء غير الذي نحن فيه، أو بعد الذي نحن فيه – مجرَّد فناء، موت أبدي: «اللاشيء».

لكن «الهول» من أن يكون ثمة شيء غير الفناء اللامتناهي هو الأقسى. فإذا كانت هناك أبدية لم نستعد لها، لن نكون من خاصَّتها ولا من «رائييها»، لتصبح الـ«رؤى» كونًا مشحونًا بالهول والتلاشي، الحضور والغياب، جدلية الوجود والعدم، الخلود والفناء: «لا تؤمن أبدًا بالخلود، إياك وهذا الالتباس. لكن لا تيأس: كن ذاتك وترقَّب» (ص 64). دعوة متناقضة، ملتبسة.

ذات موره لي عالمٌ عجيب، تتنازع فيه ألوانُ الطيف كافة، تتحاور، لكنها لا تتجاور كما في حالة قوس قزح، وإنما تتداخل وتتماهى، كما لو أنها مدلوقة على جسد لوحة تجريدية خرجت من الحاضنة السوريالية أو من معطف هكذا تكلم زرادشت. رحلة صوفية، وراحل من «جسد العالم إلى روحه»، «من ظاهره إلى باطنه»، ليعود مرة أخرى من الباطن إلى الظاهر، من الروح إلى الجسد، فينسجها (الرحلة) كشرنقة، ليتكوَّم فيها كجنين في رحم، لكنه يخرم شرنقته ليطير محلقًا في فضاءات هو صانعها ومبدعها، هو هنداسها العبقري. وكلما زادت جرعة الغنوص، اقترب من «هول» الحقيقة، حيث الوجود هو عين العدم: «رأيتني أرحل، هائمًا في الضباب حيث لا شعاع نافذ. ووسط المخاوف الصوفية ووجدي بالوجود تأملت عدم المطلق» (90). «يرتسم العدم على الأفق الصوفي. أعلن الانتظار الأخير. وجدت نفسي، فوجدت صمت الظهيرة» (ص 39). والموت عين الحياة: «الآن أنا موجود ما دمت قد مُتُّ» (ص 65).

ثنائيات غير رمزية، تصورية، لأنها غير مجزأة، ولا مبعثرة. إنها ليست ذرية، تقسم «رداء الكون الخالي من أيِّ درْز»، بتعبير وايتهد، وإنما هي ثنائيات رؤيوية، كشفية. إنها «المعرفة الحميمة»، كما يصفها إدنغتون، و«المعرفة الغسقية»، بحسب اصطلاح المعلم إكْهَرت: «كان الليل يدجو ولا يني يدجو حتى أصبح نورًا» (ص 101).

بهذا ختم «الرائي» عزمي موره لي «رؤاه»، مصفقًا خلفه الباب، منطلقًا/غارقًا في حلكة الإبهام، مصرًّا على إبقائنا خارجًا، في حيرة من فهمه. أهو الحلول، أم هو التجلِّي، أم وحدة الشهود، أم هو نوع من الغنوص الإلحادي؟ الجملة مفتوحة على الاحتمالات، وهي بانفتاحها تُحكِمُ الإقفال من الداخل على ذاتها ومعناها. بعد هذا كلِّه، هل لنا أن نزعم، بصورة ما، أننا فهمنا؟ وهل تمكنَّا، بقدر ما، من ولوج عالم رؤى، عالم «الرائي» عزمي موره لي، الشاعر/الكاهن، المندهش والمدهش؟

*** *** ***


[1] عزمي موره لي، رؤى، بترجمة كمال فوزي الشرابي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1994.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود