الانتصـار على هتلـر
أڤراهام بورغ و"اليهودية الأخرى"

إسرائيل في مواجهة تاريخه

 

إيريـك رولـو[1]

 

أڤراهام بورغ، "الولد المشاغب" في المؤسَّسة الإسرائيلية الحاكمة، لا ينفك يثير الصدمة والافتتان. يثير الدهشة هنا وهناك في كلِّ حال. فإبان تولِّيه موقعًا قياديًّا، في حزب العمال أو في زعامة الحركة الصهيونية أو كرئيس للكنيست، كان يطلق آراء تتعارض مع قناعات غالبية مواطنيه. وبعد أن يئس من التأثير في الحاكمين، انتهى به المطاف إلى التخلِّي عن الحياة السياسية في العام 2004. وستثير الأفكارُ التي يطلقها في كتابه الأخير الانتصار على هتلر: في سبيل يهودية أكثر إنسانية وعالمية[1] المزيد من الدهشة لجهة صراحتها الفظَّة. ففيما يخص احتلال الأراضي الفلسطينية، ها هو ذا يوضح موقفه قائلاً:

طوال سنوات، اعتدلتُ في مواقفي تفاديًا لإيجاد تمزُّق في المجتمع الإسرائيلي. [...] أما اليوم فقد تغيَّرت. اليوم أنا أطرح السؤال: هل [جميع اليهود] إخواني؟ وأجيب: كلا! [...] ففي نظري، منذ المحرقة لا وجود ليهودية جينية، بل فقط يهودية مبنية على القيم. [...] الأشرار، المحتلون، ليسوا إخواني، ولو أنهم مطهَّرون ويحترمون السبت والوصايا الدينية.

وهو يرسم في صفحات كتابه تعارُضًا بين "يهودية الغيتو" وبين "اليهودية العالمية" التي ينتسب إليها: "عنصرية" الأولى في مقابل "إنسانية" الثانية. وفي تناقض مع العهد القديم، يؤكد أن الشعب اليهودي ليس "مختارًا" من الرب، ما قد يعني أن الأمم الأخرى تنتمي إلى "أعراق دنيا"! وهو قد صرَّح في العام 2003 لصحيفة يديعوت أحرونوت الواسعة الانتشار: "إن سرطان العنصرية ينهشنا." كما كتب قائلاً إن مأساة المحرقة الرهيبة قد بيَّنتْ أن يهوه ليس حاميًا لـ"الشعب المختار"، كما أنَّه ليس مسؤولاً عن مآسيه. فمؤلِّف الانتصار على هتلر يؤمن بإله كلَّف الإنسانَ حقَّ القرار بجعله مسؤولاً عن أفعاله.

أڤراهام بورغ هو ابن حاخام يحظى باحترام الجميع، بعد أن كان رئيسًا للحزب القومي الديني وممثِّله في الكنيست وجميع الحكومات تقريبًا منذ ولادة دولة إسرائيل في العام 1948. وقد تلقَّى أڤراهام دروسه في المدارس الدينية (يشڤوت) المتخصِّصة في تدريس النصوص الحاخامية؛ لذا فهو يستفيض في الاستشهاد بالتوراة والتلمود ليبرهن كم أنَّ بعض النصوص المقدسة قد أُسيء فهمُها وتفسيرُها وكم شُوِّهتْ، وهي في كلِّ حال قد تقادمت.

أڤراهام بورغ

ويأخذ بورغ على الزعماء الصهاينة "استيلاءهم" على المحرقة – مأساة تخص اليهود، بالطبع، ولكن الإنسانية جمعاء أيضًا – واستخدامها أحيانًا لأغراض لا يمكن البوح بها. وهو ينتقدهم على جعلها مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات الهوية اليهودية التي تنحصر، بالتالي، في الاضطهاد الذي حلَّ باليهود في الماضي[2]. فهم يجتزئون، برأيه، تاريخ اليهود، متغاضين عن قرون من السلام وحسن التعايش مع الشعوب الأخرى.

ويذكِّر بورغ، على سبيل المثال، بتودُّد كسرى الأكبر الفارسي إلى رعاياه اليهود، وبالعلاقات المثمرة التي كانت لهم مع مواطنيهم المسلمين في أوروبا خلال القرون الوسطى في مقاطعات أراغون وقشتالة والأندلس، وبالتعايش العريق اليهودي–الألماني قبل وصول النازية إلى السلطة، وبالموقع المتميز لليهود في الأمريكيتين وعدد من البلدان في قارات أخرى. بذا لا يجوز التنديد باليهود المندمجين في أوطانهم المختلفة الذين يمانعون في الهجرة إلى إسرائيل، لاسيما أن "الشتات" Diaspora هو عامل إغناء للحضارة العالمية، كما يعتبر.

ويعترض أڤراهام بورغ حتى على اختيار كلمة "شُواه" Shoah ("الكارثة") التي تضفي على المحرقة الهتلرية طابعًا فريدًا لا يُقارَن بعمليات إبادة تكبدتْها شعوبٌ أخرى. فهذه الحصرية تحد، برأيه، من التعاطف أو التضامن الضروريَّين مع الضحايا من غير اليهود، كما تغذي هذيانًا ذُهانيًّا مريضًا يحافظ على عقيدة صهيونية تعتبر أن العداء للسامية ظاهرة عالمية وأبدية: بمعنى أن "العالم كله متحالف على اليهود".

لقد استخدم المسؤولون الصهاينة "الشُواه" لأغراض متعدِّدة: فهي تخدم ممارسة "ابتزاز عاطفي" مربح ماليًّا وسياسيًّا، إذ تذكِّر الألمان بذنبهم الإجرامي والأمريكيين والأوروبيين بموقفهم السلبي من إنقاذ اليهود من النير النازي. هكذا تُعفى السلطاتُ الإسرائيليةُ من المساءلة، مهما تجاوزت الأخلاقيَّات والقوانين الدولية وانتهكت حقوق الإنسان، ومهما كانت جرائمُ حربها، ومنها "الاغتيالات المستهدفة" ضد الفلسطينيين[3].

وينتقد مؤلِّف الانتصار على هتلر الكتب المدرسية الإسرائيلية التي تتجاهل الإبادات التي عانى منها غير اليهود، بتركيزها فقط على القوانين التي تعاقب الجرائمَ المرتكَبة في حقِّ الشعب اليهودي والإنكارَ التاريخي لنكبتهم. وهو يرفع الصوت ضد المنح التلقائي للجنسية الإسرائيلية للمهاجرين اليهود على أسُس دينية وجينية. ويستنكر هذا الداعية إلى العَلمانية الكاملة مواقف "الأصوليين الدينيين" الذين ما انفكوا ينتهكون السيادة الوطنية. وإذ يلاحظ أن مواطنيه غالبًا ما يوصِلون إلى السلطة جنرالات من الجيش أو مسئولين في أجهزة المخابرات، يحذِّر من أن "دولة الحاخامين والجنرالات ليست كابوسًا مستحيلاً". وهو يوصي، بالتالي، بأن يتحرَّر اليهود من كابوس "الشُواه"، المطلوب "بالطبع تذكُّرها دائمًا مع التوقف عن التمرغ في التراب"؛ إذ يجب، على حدِّ قوله، أن "نخرج من دولة أوشڤيتس وثقافة الصدمة والإرهاب".

لا يصنِّف بورغ نفسه مناهضًا للصهيونية إلاَّ عندما تتم "خيانة" المبادئ التي أرساها ثيودور هرتسل والقيم التي احتواها "إعلان الاستقلال". وهذه هي حال الخيانة: عندما يتحول إسرائيل إلى "دولة استعمارية تقودها زمرةٌ لاأخلاقية من الفاسدين الخارجين على القانون"، بحسب تصريحه لصحيفة يديعوت أحرونوت. ويشتكي قائلاً في المقابلة نفسها:

نهاية الصهيونية على الأبواب. [...] قد تستمر دولةٌ يهودية، لكنَّها ستكون من نوع آخر، رهيب وغريب عن قيمنا.

أثار كاتب الانتصار على هتلر، بطبيعة الحال، حملةَ استنكار كبيرة في إسرائيل، لكنه استنهض أيضًا تأييدًا من رجال ونساء يطمحون إلى إصلاح في العمق لدولتهم. والمؤلِّف الذي يكاد أن يبلغ الخمسين من العمر قد يأمل في رؤية حلمه يتحقَّق. على كلِّ حال، وضمن إطار موجة الخروج على التقاليد التي تجتاح المثقَّفين الإسرائيليين، وعلى رأسهم "المؤرخون الجُدُد"، يشهد أڤراهام بورغ، بطريقته، على مجتمع في أوج تحوُّله.

*** *** ***

عن le Monde diplomatique، أيار 2008


 

horizontal rule

[1] Avraham Burg, Vaincre Hitler : Pour un judaïsme plus humaniste et universaliste, traduit de l’hébreu par Orit Rosen et Rita Sabah, Fayard, Paris, 2008.

[2] Cf. Esther Benbassa, La souffrance comme identité, Fayard, Paris, 2007.

[3] راجع أيضًا: نورمان فينكلشتاين، صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية، بترجمة سماح إدريس وأيمن حنا حداد، دار الآداب، بيروت، 2001. جدير بالذكر أيضًا أن كلاًّ من الپروفسورين ن.غ. فينكلشتاين وآرون غاندي قد أخذا على إسرائيل المآخذ نفسها وحُرِما من التدريس في الجامعات الأمريكية للأسباب نفسها، حتى إن السلطات الإسرائيلية حرَّمت على فينكلشتاين مؤخرًا دخول إسرائيل (راجع بهذا الخصوص معابر، المرصد). (المحرِّر)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود