قطوف من شجرة الحياة 6

 

اسكندر لوقــا

 

يختلف الإنسان عن بقية المخلوقات الحية بامتلاكه الإرادة الواعية. والإرادة كمظهر من مظاهر العقل المنفتح على ما حوله، يتجلى دورها في إطار العمل، وبالتالي، تحدّد مواصفات الشخصية بمقدار ما تتمتع به من قوة ومن تصميم على بناء الإنسان من الداخل قبل كل شيء. وفي السياق المتصل تكتسب الوظيفة التربوية قيمتها في تكوين شخصيات المستقبل المؤهلة للمشاركة في بناء الغد.

إن الإرادة في حدود هذه الرؤية ليست مجرد استجابة لمنبّه ذاتيّ يستدعي يقظتها تلقائيًا، بل هي إحدى مكوّنات ذلك العقل المنفتح وحركته المستدامة باتجاه الموقف - الهدف. وبمقدار ما تقارب هذه الحركة هدفها المنشود يكون لها حضورها ودورها المؤثر في عملية بناء إنسان اليوم والمستقبل.

إن تلاحم الإرادات الواعية في مجتمع ما كوضع الطاقات الفاعلة كافة في الاختبار، وكشدّ السواعد كافة بعضها إلى بعض، وكانسياب اللحن الواحد من حناجر ألوف الناس. ومن صلب مثل هذا التلاحم غالبًا ما يتكون الواقع الجديد، وتحديدًا في المجتمعات الضالة عن سبلها أو الفاقدة لهويتها.

***

مع تطور الحضارات عبر التاريخ بات مؤكدًا، في أيامنا هذه، أن مصادر المعرفة ليست الكتب وحدها. إن الكتاب هو أول الدرب الذي يقود صاحبه إلى المعرفة ولكن على غرار الواقف على شاطئ بحر واسع تتجاوز أبعاده حدود الرؤية. وفي هذا السياق قد تكون الشهادة المدرسية مطلب طامح في الحصول على وظيفة، ولهذا نجد بيننا أحيانًا حاملي شهادات لا حاملي معرفة حقيقية، ذلك لأن ما تحقق على أيدي العلماء، خلال النصف الثاني من القرن العشرين وما بعد، قلب مفهوم المعرفة رأسًا على عقب؛ إذ لم تعد المعرفة، بمعناها الموضوعي، حصيلة قراءة بضع عشرات من الكتب على مقاعد الصف أو خارجها، بل غدت رسالة ملقاة على عاتق إنسان يريد اختراق المستحيل وصولاً إلى اكتشاف ذاته، وما يعنيه حضوره بين الكائنات الحية، وذلك على غرار اكتشاف البعد الثالث في لوحة فنية لرسام شهير. بهذا المعنى تكون المعرفة مدخلاً إلى حضارات قادمة، وإلا غدت صورة لشهادة معلقة على جدار.

***

كالكلمة التي تبحث عن أذن لتهمي إليها فتؤدي غرضها، وكالنغمة التي يرددها الوتر لجهة النفس المرهقة كي تستريح، وكالخطوة التي تقود صاحبها على الدرب، كذلك هي الحياة تكتسب معناها عندما يكون لها هدف، ذلك لأنها من دون هدف تقارب حالة السير في صحراء قاحلة ليلاً، مثلما تقارب صناعة الفن للفن، والغناء بين جدران صامتة، وكما الأكل للأكل، والشرب للشرب، والنوم للنوم، ولا لشيء أكثر من ذلك يدل على بصمة يتركها الإنسان بعد الرحيل.

إن ثمة أناسًا يؤمنون بأن زمن الحياة كزمن إغماض جفن قياسًا على عمر الزمن الذي يعدّ بملايين الملايين من السنوات، ولهذا يتملكهم القلق من غد لا يدرون ماذا يخبئ لهم، فيسعون إلى امتلاك ما يقدرون على امتلاكه، بمعنى امتلاك ما لهم وما لسواهم في آن. وحين يرحلون لا يتركون أثرًا يدل عليهم، على أنهم كانوا حقًا بين الأحياء. ولعلنا نتذكر جميعًا قصة القائد الروماني الشهير اسكندر الكبير الذي كان المثل على بشاعة غريزة امتلاك ما هو أهم من الأموال والعقارات وذلك حين أوصى أن يوضع جثمانه بعد الموت داخل تابوت يظهر كفه ليراها المحيطون بجنازته كيف هي عارية مما كان يملك وهو على قيد الحياة.

***

يتساءل المرء أحيانًا بينه وبين نفسه: ترى بماذا يفكر الإنسان عندما تقع عيناه على الأطلال في مكان ما على سبيل المثال؟ أحيانًا نسمع البعض من الناس يرددون أن الأطلال هي عبارة عن كومة من الأحجار، وأنها أفضل من الإنسان لأنها الأكثر بقاء منه، ولأنها أيضًا الأقدر منه على تحدي تقلبات الزمان، إذ تتلقى بصدرها العاري ما أمكنها كل أنواع الصدمات، من حيثما أتت، ولا تتخلى عن جزء من مكونات بقائها شاهدة على ديمومتها، إلا استسلامًا لعوامل طبيعية قاهرة كالزلازل وسوى ذلك. وينسى البعض منا أن هذه الأطلال وما شابه هي، في الأصل، من صنع الإنسان، هذا المخلوق صغير الحجم قياسًا إلى أحجام العاديات المنتشرة على سطح الأرض هنا وهناك. هو من أبدع صنعها وجعلها دليل عظمته قبل أن تكون عظيمة بحدّ ذاتها. إنه الإنسان، هذا المخلوق كما أسلفت، هو الذي أبدع آثار تدمر وبصرى وأفاميا وسواها في سورية مثلما أبدع أهرامات مصر وبرج روما وغير ذلك من أدلة تشهد على عظمته وإن هو مضى إلى دنياه الآخرة، بحكم طبيعته البشريّة، قبل قرون معدودات.

***

من القناعات الدارجة في الوقت الراهن بين أطياف من الناس، حتى في المجتمع الواحد، أن رؤية الوجه القبيح مع خروج الإنسان من منزله إلى مقر عمله فأل غير مستحب لأنه لا يجلب الحظ، والعكس هو المستحب لأنه يجلب الحظ، وخصوصًا في تقدير أصحاب المهن الحرة. بيد أن الذي يتخطاه هذا النوع من الناس هو أن القبح مسألة نسبية، ذلك لأنه يعلن عن نفسه بوضوح، بينما الجانب الآخر من الإنسان، الجانب المتعلق بالروح والنفس، لا يبدو ظاهريًا للناظر إلى الوجه فقط. من هذه الناحية يتساوى القبح والجمال، إذ ليس شرطًا أن يوحي الجمال بما يوحي به القبح للناظر. ومن هذه الناحية أيضًا تبقى النسبية في الحكم على الأشياء هي القول الفصل، وخصوصًا في سياق العلاقات بين الناس، حيث لا قبح بكل المقاييس المتعارف عليها تقليديًا في الحياة ولا جمال بكل تلك المقاييس أيضًا.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود