هاجس القطيع وروح الأوركسترا

 

حربي محسن عبدالله

 

لطالما شغلتني فكرة المقارنة بين عمل سيمفوني لأوركسترا، وما يحمله من جمال وتناغم وتكامل وحياة قائمة بذاتها لهذه الوحدة المركّبة المنتجة ولهذا العمل الجماعي الفردي بالوقت نفسه، وبين اجتماع لأفراد (يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا) كما يقول المثل العربي المثير للأسى والكآبة والإحباط - مع الإعتذار بالطبع لعازف الإيقاع في الأعمال السمفونية -. فالمسافة بين الاثنين عظيمة، والبون شاسع. فالأول عمل يتبارى به الفرد مع الجماعة ليؤكد ذاته من خلالها، بينما في الحالة الثانية نجد الفرد وقد تهشمت ذاته، بعصا الاستبداد الجمعي أو هاجس القطيع، إلى شظايا يجمعها طبل الحشود. وعندها تختفي من الحديث والنقاش والحوار صيغة (أنا) الفردانية المسؤولة عن أفعالها، الواثقة من موقفها، المدافعة عن وجهة نظرها، لتحل محلها صيغة القناع، أي صيغة (نحن) الدفاعية، التي طالما أخفت ورائها ضعف الحجة وهزال المنطق وخواء المعنى، والمختبئة تحت عباءة الجمع، والمتحدثة باسمه. كما أن الحديث عن الحشود والجموع من جهة والفرقة من جهة أخرى يحيلنا إلى مفارقة في منتهى الغرابة نجد فيها العمل المتناغم المتكامل الذي اشرنا إليه آنفًا نتاج (فرقة وفردانية) بينما الفعل الذي تقوم به الجماعة في الحالة الثانية ليس سوى تجمع قطيعي. فكيف تخلق الفرقة عملاً جماعيًا فذًا يحتفظ بخصوصية الأفراد المشاركين فيه، ولا تخلق الجماعة سوى حشد تحركه هواجس القطيع بغريزته البهيمية؟! سواءً كان التجمع لمهرجانات البهجة، أو الاستعداد للعدوان وتبريره، أو للتسلط، أو التفرد الأناني بأبشع صوره لجماعة تظن أنها شعب الله المختار فتفعل ما تشاء، أو الفرقة الناجية التي تحيل الآخرين إلى جهنم وبئس المصير، أو الوكيل الحصري والوحيد للحقيقة المطلقة الذي يرفض حق الحياة أصلاً لمن لا يشاركه إيمانه وقناعاته، أو بالتعصب الأعمى المزهو بنفسه والمدافع عن مواقف بلا حجة أو دليل سوى أن عددًا كبيرًا من البشر الكسالى، الذين اراحوا أنفسهم من التفكير وانقادوا لمن يفكر بالنيابة عنهم وأسلموه رقابهم، آمنوا بها. وقد يجرنا الحديث إلى مسارات أخرى ويدفعنا نحو إعادة التفكير في الكثير من المسلّمات القطيعية التي استقرت في أذهاننا ودخلت من باب الكسل الموارب وكأنها بديهيات أو مقدسات لايجوز لنا أن نستقرؤها من جديد ونعيد النظر بها، أو حتى أن يكون لدينا الجرأة لفعل ذلك. يدفعنا الخوف المتأصل في ذواتنا من الجماعة، والخوف من إعلان الاختلاف معها، فالخروج على الجمع من الكبائر على حد تعبير الخطاب الديني، أو من العيوب التي تدعو إلى خجل من يرتكبها بالتعبير الاجتماعي الجمعي الذي يخيف الغنم من سطوة الذئب الذي يستهدف القاصية منها، باستبطان نفسي لحالة من القبول المطلق لما تقره الجماعة حقًا كان أم باطلاً، أو بأحسن الأحوال تشيد بما قاله منذ قرون - ونحمله كشعار تبريري لتقاعسنا عن السير في طريق التنوير والعقلانية وتأكيد الفردانية الخلاقة - الشاعر زهير بن أبي سُلمى:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة                 يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

وكفى الله المؤمنين شر القتال، فالخروج على جمع الأمة يورد صاحبه الهلاك، ولكي نتجنب الهلاك علينا أن نصانع ونجامل أو نصمت صمت الساكت عن الحق. فهل نحن شياطين أخرسها الحق لكي نكون في هذا الموقف؟ ادعو القارئ أن يرى ذلك بأم عينه فيما يجري من حولنا من أحداث. فمن سيطرة القنوات لفضائية بشقيها المتناقضين في الظاهر والمتكاملين في الجوهر، أعني بذلك قنوات الابتذال بمسلسلاتها التي لا تقدم - وفي أحسن الأحوال- غير التسلية الرخيصة كما إنها تساهم مساهمة فعالة في ترسيخ روح الاستهلاك التي تحول كل فرد إلى جزيرة معزولة تحكمها الأنانية المبتذلة والسطحية الفارغة، إلى ما يبدو وكأنه النقيض للوهلة الأولى الذي يحاول الابتعاد نحو أقصى نقطة من الرفض المطلق لكل شيء ماعدا منهجه الذي عفا عليه الزمن، وهذا ما نشهده بوضوح عندما نرى وجهات نظره التي تحيل إلى التطرف بكل أشكاله في السلوك وفي الرؤى، وبدافع من الكسل الفكري والإفلاس الحضاري؛ فليس ثمة من بديل: إما الابتذال أو التطرف الديني أو اتهام من يحاول أن يجد له طريقًا ثالثًا - لكي لا أقول وسطًا بين الاثنين - باستيراد أفكار من الخارج إلى آخر موشح الاتهامات التي تمس الإنسان بأغلى مايملك إذا حاول أن يتبع القول الأثير الذي يؤكد (خذ الحكمة ولا تسأل من أي وعاء خرجت)، والمقصود بالاستيراد من الخارج هنا هو كل ما يقع خارج القطيع الذي لايطيق رؤية (القاصية!!) من الغنم. والمفارقة هنا واضحة فالقطيع يندفع بهاجس لا يختلف كثيرًا عما تنقاد به الأغنام، لذلك نجد أن أمثال هذه التعابير قد اكتسبت قدسيتها من فرط تكرارها على ألسنة وعاظ السلاطين سواءً كانوا خطباء منبر أم أصحاب أقلام لا تبرى إلا لمقارعة من يرفع صوت الفرد المدافع عن حقه في الحياة والحرية والتعبير، وكأنهم رقباء متطوعين ورعاة غنم ساهرين على مصالح القطيع وهواجسه التي تفتقد الروح.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود