|
ملخص كتاب جماليات المكان لغاستون باشلار
لإيضاح مسألة الصورة الشعرية فلسفيًا علينا أن نلجأ إلى ظاهراتية الخيال. وهذا يعني دراسة ظاهرية الصورة الشعرية حين تنتقل إلى الوعي كنتاج مباشر للقلب والروح والوجود الإنساني، وهي مدركة في حقيقة هذا الوجود. كيف تستطيع الصورة، وفي وقت غير اعتيادي للغاية، أن تبدو وكأنها تكثيف للنفس بكليتها؟ وحتى نحدد بدقة كيف يمكن أن تكون ظاهراتية الصورة، وكون الصورة تسبق الفكرة، علينا أن نقول إن الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من كونه ظاهراتية العقل. علينا في كثير من الظروف أن نقر أن الشعور هو التزام الروح، أن الوعي المتصل بالروح أكثر استرخاء وأقل قصدًا من الوعي المتصل بظاهرة العقل، أن هناك قوى تتبدى في الأشعار لا تمر عبر دوائر المعرفة المغلقة. لكتابة قصيدة مكتملة وحيدة البناء يكون العقل مرغمًا على وضع مشاريع أولية لها. أما بالنسبة لصورة شعرية بسيطة فلا يوجد مشروع سابق لها فكل ما تحتاجه الصورة هو ومضة من الروح. "الشعر روح تتفتح شكلاً". المشلكة الظاهراتية للروح بكل وضوحها هي هنا القوة العليا، إنها الكرامة الإنسانية، وحتى لو كان "الشكل" معروفًا ومكتشفًا من قبل، صيغ من مكونات مبتذلة قبل أن يضيئه نور الشعر الداخلي، فإنه يظل موضوعًا من موضوعات العقل. ولكن الروح تأتي وتفتتح الشكل، وتقطنه وتستمتع به. بالرنين نسمع القصيدة، بالترددات نقولها، فتصبح ملكنا. إن الترددات تُحدِث تغييرًا في الوجود. ينبعث تعدد الرنين ينبعث من ترددات وحدة الوجود. إن القصة التي يمسك بها الشعر بوجودنا الكلي تحمل علاقة ظاهراتية لا تخطئها العين. الغزارة والعمق في القصة هما دائمًا ظاهرة ثنائية الرنين ورجع الصدى. فكأن القصيدة بغزارتها وخصوبتها توقظ أعماقًا جديدة في داخلنا. للتأكد من الوظيفة السيكولوجية للقصيدة علينا تتبع المنظورين للتحليل الظاهراتي في اتجاههما نحو تدفقات الذهن، ونحو أعماق الروح. خلال هذا الترجيع، ومن خلال التخطي الفوري لعلم النفس وللتحليل النفسي، نشعر بالطاقة الشعرية ترتفع ببراءة في داخلنا بعد الترجيع الأصلي، نستطيع أن نعيش تجربة الرنين وترجيع الصدى وذكريات ماضينا. ولكن الصورة الشعرية لمست الأعماق قبل أن تحرِّك السطح. تصبح الصورة وجودًا جديدًا في لغتي، تعبيرًا عني بتحويلي أنا إلى ما تعبر عنه. هنا يخلق التعبير الوجود. العبارة الأخيرة تحدد مستوى الأنطولوجيا التي أسعى إليها، وعمومًا فإنني أعتقد أن كل ما هو إنساني بالتحديد في الإنسان هو (لوغوس). ونحن لا نستطيع أن نتأمل في المنطقة السابقة على اللغة، ولكن حتى لو بدت هذه المقولة كرفض لعمق أنطولوجي فيمكن اعتبارها، على الأقل، مقولة افتراضية تناسب موضوع الخيال الشعري. خلال هذا الإعجاب الذي يتجاوز سلبية المواقف التأملية فإن متعة القراءة تبدو انعكاسًا لمتعة الكتابة، وكأن القارئ هو شبح الكاتب. الشعر المعاصر قد أدخل الحرية في جسد اللغة ذاته. ولهذا يظهر الشعر كظاهرة حرية. تولد صورة الشعر تحت شارة كينونة جديدة. هذه الكينونة الجديدة هي الإنسان السعيد... إن التسامي في الشعر يعلو فوق سيكولوجية الروح الشقية، وذلك لأنها حقيقة لا يمكن إنكارها: يمتلك الشعر هناءته الخالصة مهما كان حجم المأساة التي يصورها. ولكن الشاعر يقرر بوضوح: "الشعر، خاصة في مساعيه الحالية، يمكن مقارنته فقط بالفكر اليقِظ المشحون حبًا بشيء مجهول، وقابلاً بشكل جوهري للصيرورة"، وبعد ذلك يقول: "يترتب على هذا أننا أمام تعريف جديد للشاعر وهو: هو الذي يعرف، أي يتجاوز ويسمِّي ما يعرف ثم يقول: "لا شعر دون خلق مطلق"". ما يكاد الفن يصبح مكتفيًا بذاته حتى يبدأ بداية جديدة. لهذا فإنه من المناسِب أن نعتبر هذه البداية نوعًا من الظاهراتية. فمن حيث المبدأ تلغي الظاهراتية الماضي وتواجه الجديد. وحتى في فن مثل الرسم الذي يحتاج إلى مهارة فإن الإنجازات الهامة فيه تمت بعيدًا عن المهارة. وفي دراسة لرسم تشارلس لاييك بقلم جان ليسكور، كتب يقول: رغم أن هذه الأعمال تدل على ثقافة واسعة، ومعرفة بتعابير دينامية المساحة، فإنهما غير مطبقتين، ولم تتحولا إلى وصفات جاهزة... المعرفة يجب أن ترافقها قدرة مساوية على نسيانها. ونسيان المعرفة ليس نوعًا من الجهل بل هو تجاوز صعب للمعرفة. هذا هو الثمن الذي يجب دفعه لجعل مجموعة رسوم نوعًا من البداية الخالصة. والذي يجعل خلقها تمرينًا في الحرية. يضيف ليسكور: يطلب لابيك من الفعل الإبداعي أن يمنحه دهشته كالتي تمنحها الحياة ذاتها. الفن، إذًا، هو إثراء لخصوبة الحياة، ونوع من المناقشة بين أنواع الدهشة التي تنبِّه وعينا وتمنعه من الخدر. ويستنتج ليسكور: الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدِع به [...] إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لامباليًا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية [...] إن مكان الكراهية والصراع لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليًا والصور الكابوسية. حين نتذكر البيوت والحجرات فإننا نتعلم أن نسكن داخل أنفسنا. البيت: من القبو إلى العلية دلالة الكوخ من الواضح تمامًا أن البيت كيان مميز لدراسةٍ ظاهراتيةٍ لقيمِ ألفة المكان من الداخل، على شرط أن ندرسه كوحدة وبكل تعقيده، وأن نسعى إلى دمج كل قيمه الخاصة بقيمة واحدة أساسية. البيت هو ركننا في العالَم، إنه، كما قيل مرارًا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى. لو درسنا بدايات الصور ظاهراتيًا فإنها سوف تعطينا الدليل الملموس لقِيَم المكان المسكون، للاأنا الذي يحمي الأنا. ونظرًا لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة حياتنا. إن البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية. ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما أحلام اليقظة. في حياة الإنسان ينحِّي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية، ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائنًا مفتتًا. إنه – البيت – من يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض. البيت جسد وروح، وهو عالَم الإنسان الأول. قبل أن "يُقذَف الإنسان في العالَم"، كما يدَّعي بعض الفلاسفة الميتافيزيقيين، فإنه يجد مكانه في مهد البيت. وأيَّة ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة لأنها قيمة هامة، نعود إليها دائمًا في أحلام يقظتنا. الوجود أصبح الآن قيمة. الحياة تبدأ فسيحة، محمية، دافئة في صدر البيت. إن الفلسفة التي تنطلِق من لحظة "إلقاء الإنسان في العالَم" هي فلسفة ثانوية. إنها تقفز من فوق الأوليات، وتلك حين كان الوجود هنيئًا، حين كان الإنسان منخرطًا في الهناءة، وحين كانت الهناءة ترتبط بالوجود. لشرح ميتافيزيقا الوعي علينا أن ننتظر التجارب التي يمر عبرها الإنسان حين نلقي به إلى العالَم، خارج البيت، وهو وضع تحتشد فيه عداوة البشر والكون. ولكن الميتافيزيقا الكاملة، المحتوية على الوعي واللاوعي، تبقى قيمها في داخلها. في داخل الوجود، في وجود الداخل، يغلف الدفء الوجود مرحبًا. الوجود يحكم نوعًا من الجنة الأرضية تذوب في متع الحياة الكفوءة. وكأن الإنسان في هذه الجنة المادية ينغمِر في غذاء وافٍ، وقد مُنِحَ كل المزايا الجوهرية. حين نحلم بالبيت الذي وُلِدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي. هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله. سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت. وأود هنا، عابرًا، أن أؤكد امتلاء وجود البيت بأحلام يقظة تقودنا إليه. يعرف الشاعر جيدًا أن البيت يحمل الطفولة "بين ذراعيه"، يقول ريلكه:
البيت،
قطعة المرج، يا ضوء المساء في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان، والذي يود حتى في الماضي، حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة، أن يمسك بحركة الزمن. إن المكان، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمن مكثفًا. هذه هي وظيفة المكان. إن وظيفة الشعر الكبرى هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا. فالبيت الذي وُلِدنا فيه هو أكثر من مجرد تجسيد للمأوى، هو تجسيد للأحلام كذلك؛ كل ركن وزاوية فيه مستقر لأحلام اليقظة. وعاداتنا المتعلقة بحلم يقظة ما قد اكتُسِبَت في ذلك المستقر. حتى نتبين مدى ارتباطنا بالبيت الذي وُلِدنا فيه يساعدنا الحلم أكثر من الفكر. إن قوة لاوعينا هي التي تبلور أبعد ذكرياتنا؛ فعلى مستوى حلم اليقظة، لا الواقع، تظل طفولتنا حية ونافعة شاعريًا في داخلنا. ومن خلال هذه الطفولة الدائمة نحتفظ بشعر الماضي. فسكنى البيت الذي وُلِدنا فيه – حلميًا – يعني أكثر من مجرد سكناه في الذاكرة؛ إنها تعني الحياة في هذا البيت (الذي زال) بنفس الأسلوب الذي كنا نحلم فيه. وهكذا، متخطين القيم الإيجابية للحماية، نشحن البيت الذي وُلِدنا فيه بقيم الحلم الذي تبقى بعد زوال البيت. تتجمع مراكز الوحدة والضجر والأحلام لتشكل بيت الأحلام، وهو أكثر ديمومة من ذكرياتنا المشتتة عن البيت الذي وُلِدنا فيه. يشكل البيت مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية براهين أو أوهام التوازن، ولتنظيم هذه الصور علينا أن نأخذ في الاعتبار موضوعين أساسيين: الأول تصوُّر البيت كائنًا عموديًا؛ إنه يرتفع إلى الأعلى فيميز نفسه بعاموديته؛ إنه إحدى الدعوات الموجهة إلى وعينا بالعامودية. ثانيًا، تخيُّل البيت كوجود مكثف؛ إنه يتوجه إلى وعينا بالمركزية. تتجسد العمودية من خلال الاستقطاب بين القبو والعلية. والواقع أننا نستطيع مقابلة عقلانية السقف بلاعقلانية القبو؛ فالسقف يكشف عن علة وجوده على الفور، إنه يحمي الإنسان من المطر والشمس اللذين يخافهما [...] قرب السقف تكون أفكارنا نقية. أما بالنسبة للقبو فهو أولاً وقبل كل شيء الهوية المظلِمَة للبيت، هو الذي يشارك قوى العالَم السفلي حياتها، فحين نحلم بالقبو فنحن على انسجام مع لاعقلانية الأعماق. حين نحلم بالارتفاع فنحن في المنطقة العقلانية للمشاريع الذهنية الرفيعة، أما بالنسبة للقبو فإن الحالِم يحفر ويحفر حتى يجعل أعماقه نابضة بالحيوية. القصر المبني فوق الهضبة مجموعة من الأقبية تقوم كجذور للبيت. أية قوة يكتسبها البيت البسيط حين يبنى فوق هذه الجذور التحت–أرضية. البيت والقبو وأعماق الأرض تشكل وحدة كلية خلال العمق. لقد أصبح البيت كائنًا طبيعيًا يرتبط مصيره بالجبال والمياه التي تنخر الأرض. إن هذه النبتة الحجرية الهائلة – البيت – لم تكن لتزدهر لولا الماء تحتها. وهكذا فإن أحلامنا تتخذ أبعادًا لانهائية. إن البيت الذي يصفه بوسكو يمتد من الأرض إلى السماء، إنه يمتلك العمودية لبرج يرتفع من أعمق الأعماق الأرضية المائية إلى مأوى روح تؤمن بالسماء. إن بيتًا كهذا شيده كاتب، يصور عمودية الكائن الإنساني. البيت في المدينة يفتقد القيمة الحميمية للعمودية، فهو يفتقد أيضًا الكونية لأنه هنا، حيث لا تقام البيوت وسط محيطها الطبيعي، تصبح العلاقة بين البيت والفراغ مصطنعة. كل ما يحيط بها يصبح ميكانيكيًا، والحياة الأليفة تفلت هاربة في كل اتجاه. يقول ماكس بيكار: البيوت تشبه الأنابيب التي تشفط البشر في داخلها بواسطة تفريغ الهواء. إذا أصبح ضجيج السيارات أكثر إيلامًا فإنني أحاول بأقصى ما أستطيع أن اكتشف فيه قصف الرعد، قصفًا يحدثني ويؤنبني، فأشعر بالحزن لنفسي: ها أنت ذا يا أيها الفيلسوف التعس، في قلب العاصفة، عواصف الحياة! أحلم عندها حلمًا مجردًا – ملموسًا، أن سريري قارب تائه في البحر. وهذا الصفير المباغت هو صفير الريح في الأشرعة من جميع الاتجاهات، يمتلئ الفراغ بأصوات أبواق السيارات، فأحدِّث نفسي لبعث البهجة فيها: ها هو قاربك سالِم، أنت في أمان في قاربك الحجري. ثم، رغم العاصفة، ثم في قلب العاصفة، نم شجاعًا، سعيدًا أن تكون الرجل الذي تهاجمه العواصف والأمواج. ثم أنام، تهدهدني أصوات باريس. الواقع أن كل شيء يعزز وجهة نظري بأن صورة هدير المدينة–البحر هي "من طبيعة الأشياء"، وبأنها صورة صادقة. وبالإضافة إلى هذا فإنه أمر مريح تحييد الأصوات لجعلها أقل عدائية. الكوخ يتحول على الفور إلى عزلة مركزة، إذ في أرض الأساطير لا يوجد كوخ مجاور. الراهب يقف وحيدًا أمام الرب، ولهذا فإن صومعته هي عكس الدير. ويشع من هذه الصومعة، العزلة المركزة، كونٌ من التأمل والصلاة، كونٌ خارج الكون. الصومعة لا تستطيع أن تستفيد من ثروات "هذا العالَم"، إنها تمتلك هناءة الفقر المدقع، والحق أنها إحدى أمجاد الفقر، فكلما ازداد الحرمان ازددنا اقترابًا من صورة الملجأ المطلق. مهما كانت كونية البيت المنعزل المضاء بنجم مصباحه فسوف يرمز دومًا إلى الوحدة. فمن خلال مثال الكوخ والضوء الحارس في الأفق البعيد قد أوضحنا تركيز الألفة في المأوى في أكثر أشكالها بساطة. البيت والكون حين كان سجين الشتاء قرأ (كانت) مستعينًا بالحس المثالي الذي يثيره الأفيون، المشهد في كوخ في منطقة ويلز: أليس صحيحًا أن البيت اللطيف يجعل الشتاء أكثر شاعرية، وأن الشتاء يضفي مزيدًا من الشعر على البيت؟ كان الكوخ الأبيض مبنيًا على طرف الوادي الصغير، محصورًا بجبال عالية، وبدا ملفوفًا بالشجيرات. نشعر عندها بأننا نعيش في القلب الذي يحمينا، قلب البيت الذي في الوادي. إننا نحن أيضًا نلتف ببطانية الشتاء. نشعر بالدفء لأن الخارج بارد. وبعد هذا يعلن بودلير أن الحالِمين يحبون الشتاء القاسي، إنهم في كل عام يضرعون إلى السماء أن ترسل أقصى ما تستطيع من الثلج والبرد والجليد. ما يريدونه حقًا هو شتاء كندي أو روسي لأنه بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئًا ونعومة، تصبح محبوبة أكثر... ومثل إدغار آلان بو فقد كان بودلير حالمًا بالستائر، ليحمي البيت الممنطق بالشتاء من البرد، فأضاف "ستائر ثقيلة تهبط حتى الأرض". خلف الستائر الداكنة يبدو الثلج أكثر بياضًا. والحق أن الحياة تنبعث من كل الأشياء عندما تتجمع التناقضات. إن مراكز الراحة المصممة جيدًا هي وسائل اتصال بين الناس، الذين يحلمون باليقين نفسه الذي تمتلكه المفاهيم المحددة جيدًا، كوسائل الاتصال بين الناس الذين يفكرون. يزيد التذكير بالشتاء سعادة السكنى. في مجال الخيال فقط يصبح ما يذكرنا بالشتاء إضافة لقيمة البيت كمكان نعيش فيه. الشتاء أقدم الفصول؛ فهو لا يضفي قدمًا على ذكرياتنا وحسب، آخذًا إيانا إلى الماضي البعيد، بل إنه، في الأيام الثلجية، يصبح البيت أيضًا قديمًا، كأنه عاش عبر القرون الماضية. البيت والفراغ ليسا مجرد عنصرين متجاورين من المكان، فهما في مملكة الخيال يثيران أحلام يقظة متعارضة. إن ريلكه مستعد أن يقر أن البيت القديم "يتصلب" بالتجارب، ويستفيد من انتصاراته على الأعاصير. ولهذا، فإنه في كل البحوث المتعلقة بالخيال، علينا أن نتحلى عن منطقة الحقائق الواقعية، بهذا نشعر بثقة واطمئنان أكثر حين نكون في البيت القديم، الذي وُلِدنا فيه، من وجودنا في بيوت شوارع المدن التي نعيش فيها عابرين. لا شيء كالصمت قادر على خلق شعور بالفراغ اللامتناهي. الأصوات تمنح لونًا للفراغ، وتضفي نوعًا من الصمت المجسد عليه. ولكن غياب الصوت يجعله نقيًا للغاية، وفي الصمت يتملكنا شعور بشيء واسع وعميق ولانهائي. وبينما يواجه البيت هذا القطيع الذي أخذ ينطلق تدريجيًا من عقاله فقد أصبح – البيت – الوجود الحقيقي للإنسانية الخالصة التي تدافع عن نفسها دون أن تهاجم. هذا البيت هو المقاومة الإنسانية. إنه الفضيلة الإنسانية، وعظمة الإنسان. الكوخ يتحول إلى قلعة محصنة تحمي الإنسان المتوحد الذي يتوجب عليه أن يتعلم كيف يقهر الخوف بين جدرانه. في هذا الصراع الديناميكي بين البيوت والكون تُستبعد الإشارة إلى الأشكال الهندسية البسيطة. إن هذا البيت المجرب ليس مجرد صندوق ساكن. والمكان المسكون يتجاوز المكان الهندسي. إن عالم نفس الخيال سوف يستفيد كثيرًا حين يضيف "الكوني" إلى قراءاته للاجتماعي. سوف يتبين له أن الكون يصوغ الإنسانية فيحول إنسان التلال إلى إنسان الجزر والأنهار، وأن البيت يصوغ الإنسان. إن البيت هو أولاً وقبل كل شيء، كيان هندسي، وهو بهذا يغرينا بتحليله عقليًا. إنه معاين وملموس بشكل واقعي ومصنوع من قوالب صلبة تؤلف هيكلاً متماسكًا، كما تسيطر عليه الخطوط المستقيمة، أما الخطوط العمودية فتمنحه النظام والتوازن. إن كيانًا هندسيًا كهذا يفترض فيه أن يقاوم التشبيهات التي تجعل منه جسدًا وروحًا إنسانيين. ولكن إضفاء صفات إنسانية على البيت يحدث على الفور حين يكون البيت مكانًا للفرح والألفة، مكانًا يستقطب ويكثف الألفة ويدافع عنها. أحيانًا ينمو البيت ويتمدد فتحتاج الحياة فيه إلى مرونة أكبر في أحلام اليقظة. كتب جورج سبيراداكي: بيتي شفاف ولكنه من زجاج. طبيعته أقرب إلى البخار. نتقلص ونتمدد حسب هواي. أحيانًا أجذبها إليها حتى تصبح مثل درع واق، وأحيانًا أخرى أدع جدران بيتي تتفتح كزهرة وتأخذ مداها في المكان، هذا المدى المتسع إلى ما لا نهاية. هذا البيت يتنفس. في البداية يكون درعًا ثم يتمدد إلى ما لا نهاية، وهذا يعني أننا نعيش في داخله الأمان والمغامرة بالتناوب. إنه زنزانة وعالم في نفس الوقت. هنا تم تجاوز الهندسة. أحب أن يكون بيتي شبيهًا بريح البحر، تترجرج بالنوارس. وهكذا، فإن الكوني الفسيح يصبح إمكانية لكل الأحلام عن البيوت. الرياح تنبعث من قلبه والنوارس تطير من نوافذه. إن بيتًا يملك هذه الدينامية يتيح للشاعر أن يسكن في الكون أو يفتح نفسه للكون ليسكن فيه. ففي مقال لإيريك نويمان منشور في كتاب ايرانوس السنوي عام 1955، يبرهن الكاتب أن كل الكائنات الأرضية الراسخة – والبيت أحدها – تخضع لإغراءات العالم الهوائي والسماوي. إن البيت المتجذر جيدًا في الأرض يجب أن ينبثق عنه غصن حساس للريح، أو حجرة علوية قادرة على سماع همس أوراق الشجر. من خلال الألفة يستعيد البيت هويته. حين تغلف أحلام اليقظة ذاكرة بيت الطفولة فإن هذا يقودنا إلى مناطق من الوجود مبهمة وغير محددة حيث تتملكنا الدهشة من الوجود. إن البيت العتيق، بالنسبة لأولئك الذين يحسنون الإصغاء، هو كيان هندسي مصنوع من الأصداء. حيث تبدو أصوات الماضي مختلفة في الحجرة الكبيرة، عنها في حجرة النوم الصغيرة، كما أن صوت النداء من فوق السلم مختلفة عن كليهما، وأصعب الذكريات، المتجاوزة لأية هندسة يمكن رسمها، هو محاولتنا أن نستعيد نوعية الضوء، ثم يلي ذلك الروائح التي تتلبث في الحجرات الفارغة واضعة ختمًا أثيريًا على كل حجرة من حجرات بيت الذاكرة. ونستطيع أن نستعيد ليس مجرد جرس الصوت "تلك الدرجات المتغيرة للأصوات الحبيبة التي أصبحت صامتة الآن" بل تردداته في كل حجرة. لكل منا لحظات يحلم فيها بالكوخ وأخرى يحلم فيها بالقصر. يجب أن نهبط قريبًا من الأرض، أرض الكوخ، كما يجب أن نسيطر على الأفق بكامله من فوق قلعة في إسبانيا. وحين تمنحنا القراءة العديد من البيوت التي نحلم بسكناها فإننا ندرك جيدًا كيف يتردد جدل الكوخ والقصر في داخلنا. الأعمال المنزلية تقوم بمراقبة يقظة للبيت، رابطة ماضيه المباشر بمستقبله المباشر، لتصونه في طمأنينة الوجود. في اللحظة التي نضيف فيها لمحة من الوعي إلى عمل رتيب، أو نمارس ظاهراتية حين نلمِّع قطعة من الأثاث القديم، فإننا نشعر بانطباعات جديدة تتولد تحت سطح هذا العمل المنزلي المألوف. وذلك لأن الوعي يحدد كل شيء مانحًا صفة البدء لمعظم ممارستنا اليومية. بل هو يسيطر على الذاكرة. كم هو رائع أن تصبح حقًا مرة أخرى مبتدعًا لعمل رتيب! ولهذا فحين يلمِّع الشاعر قطعة من الأثاث – حتى لو كان ذلك ليس عمله اليومي – أو حين يضع قطعة من الشمع المعطر على سطح منضدته مستعملاً قطعة قماش صوفي تمنح دفئًا لكل ما تلمسه فهو يخلق شيئًا جديدًا: إنه يدعِّم الكرامة الإنسانية في قطعة الأثاث، ويسجل هذه القطعة رسميًا كفرد من البيت الإنساني. إن عمل ربة البيت في تنظيم قطع الأثاث في الحجرة، والانتقال من هذه الحجرة إلى تلك ينسج علاقات توجد ماضيًا قديمًا جديدًا مع عهد جديد. توقظ ربة البيت قطع الأثاث من نومها. إذا وصلنا إلى حد يتضخم فيه الحلم فإننا نعيش تجربة نوع من الوعي ببناء البيت وبالجهود الكبيرة المبذولة للمحافظة عليه حيًا، ومنحه كل وضوحه الجوهري. لم يستطع كاتب أن يعبِّر عن دمج حلم اليقظة من الاسترخاء بالعمل البيتي، ودمج أشد أحلام اليقظة سعة بأقل الأعمال اليدوية شأنًا، مثلما عبر عنه هنري بوسكو في وصفه للخادمة العجوز المخلصة سيدوان: كانت تلك فرصة للسعادة، لا تسبب اضطرابًا لحياتها العملية، بل تعززها وتنعشها. عندما تغسل شرشفًا أو غطاء مائدة، أو حين تلمع شمعدانًا نحاسيًا تنبثق انتقاصات صغيرة فرحة في أعماق قلبها، باعثة حيوية مدهشة في عملها المنزلي. لم تكن تنتظر حتى تنتهي من عملها، بل كانت خلال ذلك تنطوي على نفسها وتتأمل بكل رضى الصور السماوية التي تقطن هناك، الواقع أن المخلوقات العلوية تبدو لها مألوفة مهما كان العمل الذي تقوم به عاديًا. ودون أن يبدو عليها أنها تحلم، كانت تغسل، وتنفض الغبار، وتكنس، وهي في صحبة الملائكة. حين يعيد الحالم بناء العالم، من شيء يحوِّله – سحريًا – عبر عنايته به، فإننا نقتنع أن كل شيء في حياة الشاعر مادة للخلق. الأدراج والصناديق وخزائن الملابس تعطينا الاستعارة تحديدًا متعينًا لانطباع يصعب التعبير عنه، وهي تحال إلى وجود نفسي يختلف عنه. أما الصورة فهي نتاج الخيال المطلق وتدين له بوجودها الكامل. إن الخزائن برفوفها، والمكاتب بأدراجها، والصناديق بقواعدها المزينة هي أدوات حقيقية لحياتنا النفسية الخفية. دون هذه الأشياء ومثيلاتها فإن الحياة تفقد نماذج الألفة. وهذه الأشياء تمتلك صفة الألفة مثلنا، وعبرنا، ولأجلنا. في الخزانة توجد نقطة النظام المركزية التي تحمي البيت بكامله من الفوضى التي لا ضابط لها. هنا يسود النظام، أو على الأصح، هنا حكم النظام. والنظام ليس مجرد علاقات هندسية بل هو أيضًا الذاكرة التي تحفظ تاريخ العائلة. تجيء الذكريات متزاحمة حين نرى على رف الخزانة أشرطة الدانتيلا، وقطع الحرير الطبيعي،... موضوعة فوق الأثاث الثقيل. كتب ميلوز: "الخزانة ملأى بضجيج الذكريات الأخرس". ولكن الخزانة الحقيقية ليست مجرد قطعة عادية من الأثاث. فهي لا تفتح في كل يوم، وهي كالقلب الذي لا يبوح بأسراره لأي إنسان، فمفتاحها لا يوجد في بابها دائمًا. يقول رامبو:
الخزانة ليس لها مفاتيح!.. ليس للخزانة الكبيرة مفاتيح حين نمنح الأشياء المودة التي تستحقها، فإننا لا نفتح خزانة دون إجفالة بسيطة. فخلف خشبها الخمري اللون تكون الخزانة لوزة بيضاء جدًا، حين نفتحها نعيش تجربة البياض. إن العلب وعلب الجواهر، هذه التحف المعقدة التي أبدعها حرفيون مهرة هي شواهد شديدة الوضوح على الحاجة للسرية، وعلى الحاسة الحدسية لأماكن الإخفاء. أما القفل فهو عتبة سيكولوجية. نرى الشاعر يفتح الصناديق أو يكدس ثروات كونية في علبة مجوهرات رقيقة. إذا كان هناك مجوهرات وأحجار كريمة في العلبة فإن الشاعر يندفع إلى خلق رومانسية لأن هذه الجواهر هي الماضي، الماضي البعيد، ماض يخترق الأجيال. الجواهر سوف تتحدث عن الحب. بالطبع، ولكنها سوف تتحدث أيضًا عن القوة والقدر. وكل هذا أعظم بكثير من القفل والمفتاح! تحتوي العلبة على أشياء لا تُنسَى، لا تُنسَى بالنسبة لنا، بالنسبة لمن سوف تمنحهم كنوزنا. هنا يتكثف الماضي والحاضر والمستقبل... فالعلبة هي ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من زمن. كل ذكرى مهمة. ما يسميه برجسن بالذكرى المحضة – موضوعة في علبة مجوهراتها الصغيرة. الذكرى المحضة، الصورة التي تخصنا وحدنا، لا نرغب في نقلها للآخرين... نواتها أنها تخصنا، ولا نحب أبدًا أن نقول عنها كل ما نعرفه. لكل سر علبة مجوهراته الصغيرة، وهذا السر المطلق، المحروس بعناية مستقل عن كل دينامية. هنا تحقق الحياة الأليفة توليفًا بين الذاكرة والإرادة، هذه هي الإرادة الحديدية، وهي ليست موجهة ضد الخارج، أو ضد الآخرين، لكنها تتجاوز كل سيكولوجية أن نكون (ضد). هناك حماية علبة مطلقة تحيط ببعض ذكريات حياتنا الداخلية. بمجرد فتح العلبة ينتهي الجدل تمامًا. يلغى الخارج بضربة واحدة ويسود جو من الجدة والدهشة. لا يعود للخارج معنى. وحتى الأبعاد المكعبة تفقد معناها وذلك لأن بعدًا جديدًا، هو بعد الألفة قد انفتح للتو. الواقع أن الخيال يزيد حدة حواسنا. إن اليقظة الخيالية تهيئ انتباهنا للاستجابات الفورية. إن نشاط السرِّي يمر دون انقطاع من الإنسان الذي يخفي الأشياء إلى الإنسان الذي يخفي الذات. الأعشاش ليست وظيفة الظاهراتية وصف الأعشاش كما هي في الطبيعة، فتلك مهمة علم الطيور. إن بداية الظاهراتية الفلسفية للأعشاش تكون في قدرتنا على توضيح الاهتمام الذي نطالع به ألبومًا يحتوي على صور الأعشاش، أو بشكل أكثر وضوحًا، قدرتنا على استعادة الدهشة الساذجة التي كنا نشعر بها حين نجد عشًا. يعود هذا بنا إلى طفولتنا، أو إلى الطفولة التي كان يجب أن تكون لنا. إن العش الحي هو الذي يستطيع أن يقودنا إلى ظاهراتية العش الحقيقي، العش الموجود في محيطه الطبيعي، والذي يصبح للحظة مركز الكون كله. وهذا المصطلح ليس مبالغة – ودليلاً على موقف كوني، إنني أرفع الغصن برفق، في العش أجد عصفورًا راقدًا. إنه لا يطير، بل يرتعش قليلاً. فأرتعش لأنني جعلته يرتعش. أخاف أن تكتشف العصفورة أنني إنسان، ذاك الذي فقدت العصافير ثقتها به. أقف ساكنًا، فيتلاشى خوف العصفورة وتتلاشى خشيتي أن أكون قد أخفتها – أو هكذا يخيل إلي. أتنفس بهدوء مرة أخرى وأعيد الغصن إلى موضعه. سوف أعود غدًا، أما اليوم فأنا سعيد لأن العصافير قد بنت عشًا في حديقتي. وعندما أعود في اليوم التالي، سائرًا برفق أكثر من اليوم السابق، أرى ثماني بيضات وردية اللون في العش، لكم هي صغيرة! ... لقد اكتشفت للتو الدلالة الأنثوية لعش قائم فوق مفترق غصين، واتخذ الحرش دلالة إنسانية... الشجرة التي نالت شرف استضافة العش انخرطت في سره. فبالنسبة للطائر أصبحت الشجرة ملجأ. إن ثقة هذا الطائر في الشجرة كمأوى حيث أخفى عشه عند امتلاك البيت العش، مثل كل صور الراحة والهدوء، يرتبط على الفور بصورة البيت البسيط. حين ننتقل من صورة العش إلى صورة البيت، ثم العكس، فإن الجو الذي يتحقق هو جو البساطة. كتب الرسام فان غوخ إلى أخيه، وهو الذي رسم العديد من الأعشاش ومن أكواخ الفلاحين: الكوخ الريفي المسقوف يذكر بعش طائر الصعو. حين أسمع في شقتي في باريس جاري يدق مسمارًا في وقت غير مناسب فإنني أحيِّد هذا الصوت بأن أتصور نفسي في بيتي في ديجون، وأحوِّل الدق إلى صوت القراع في الحديقة. بهذه الوسيلة أعيد الهدوء إلى نفسي. العش هو حزمة غنائية من أوراق الشجر، وهي حزمة منخرطة في سلام الدنيا النباتية، إنه نقطة في محيط السعادة الذي يحيط بالأشجار الكبيرة. وهكذا فإننا حين نعايش عشًا نضع أنفسنا في المنبع الذي تنبثق منه الثقة بالعالم، نتلقى بداية الثقة ودافعًا نحو الثقة الكونية. إن بيتنا المدرك عبر إمكاناته الحلمية يصبح عشًا في العالَم. إن تجربة عدائية العالَم – وبالتالي أحلامنا الدفاعية والعدوانية – تأتي في وقت متأخر. فالحياة كلها في بذرتها الأولى هناءة. الوجود يبدأ بهناءة الوجود. حين يتأمل الفيلسوف العش فهو يهدئ نفسه بتأمل موضوع وجوده في إطار الوجود الهادئ للعالم. وإذا أردنا أن نترجم السذاجة المطلقة لحلم يقظته إلى اللغة الميتافيزيقية المستعملة في أيامنا فإن الحالم سوف يقول إن العالَم هو عش الإنسانية. يتحدث باسترناك عن الغريزة التي نستعين بها، كما يفعل السنونو، لنبني العالَم، نبنيه عشًا هائلاً، كتلة مسواة ومصاغة من الأرض والسماء، من الموت والحياة، ومن نوعين من الزمن: نوع نهبه وآخر نفتقده. عش الإنسانية، مثل عالمها، لا ينتهي أبدًا. الخيال يساعدنا على المواصلة. الشاعر لا يستطيع أن يتخلى عن صورة عظيمة كهذه، أو لنكون أكثر دقة، إن صورة كهذه لا تتخلى عن شاعرها. كتب باسترناك أيضًا يقول: الإنسان بذاته أخرس، والصورة هي التي تتكلم. لأنه من الواضح أن الصورة وحدها هي التي تستطيع أن تجاري الطبيعة. القواقع سوف أقدم هنا مثالاً للفكرة–الحلم الذي من هذا النمط، والذي يتخذ القوقعة كأحسن برهان على قدرة الحياة على إنشاء الأشكال. وطبقًا لهذه النظرية التي صاغها ج. ل. ربينت في القرن الثامن عشر، فإن كل شيء له شكل يمتلك تكوين القوقعة، وفعل الحياة الرئيسي هو صنع القواقع... وبهذا يمكننا القول إنه في داخل الإنسان يوجد مجموعة من القواقع، ولكل واحدة منها سببيتها التي جربتها الطبيعة خلال قرون طويلة، عندما كانت تعلم نفسها كيفية صنع الإنسان بجمع قوقعة مع أخرى. تبني الوظيفة شكلها من قوالب قديمة والحياة رغم كونها جريئة، تبني مأواها كما يبني المحار قوقعته. كان روبينت يرى الشكل حركة من الداخل إلى الخارج. فالحياة، كما يرى، تخلق الأشكال، ولذلك فإنه من الطبيعي تمامًا أن الحياة منشئة الأشكال قادرة على خلق الأشكال الحية. ومرة أخرى، فإنه في أحلام يقظة كهذه يكون الشكل هو بيت الحياة. كتب شاربونيه لاسيه: كانت المحارة بقوقعتها الصلبة والحيوان الطري الذي في داخلها هي رمز القدماء إلى الإنسان جسدًا وروحًا. لقد استعمل القدماء القوقعة كرمز للجسد الإنساني الذي يحيط الروح بغلاف خارجي، بينما الروح التي تنشط الجسد كله تتمثل بالرخوية. ولهذا قالوا إن الجسد يموت عندما تغادره الروح مثل القوقعة التي تتوقف عن الحركة عندما يغادرها الحيوان الذي يعيش في داخلها. ونحن نعلم أن معنى سكنى القوقعة هو أن نعيش الوحدة. إن معايشة هذه الصورة تعني قبولنا بالوحدة. أحيانًا تكون الصورة سلبية، لا تكاد تظهر، ولكنها على الرغم من ذلك مؤثرة، إنها تعبر عن عزلة الإنسان المنطوي على نفسه. وفي أحيان أخرى تكتسب الصورة قوتها من تماثل كل أمكنة الراحة، فيصبح كل فراغ أليف قوقعة هادئة. الأركان إن كل ركن في البيت، وكل زاوية في الحجرة، وكل بوصة في المكان المنعزل الذي تعودنا الاختباء فيه، أو الانطواء فيه على أنفسنا، هو رمز للعزلة بالنسبة للخيال أي أنه بذرة الحجرة والبيت. إن الركن المنعزل الذي ننزوي فيه ينزع إلى رفض أو كبح أو حتى إخفاء الحياة أي أنه يصبح نفيًا للكون، ففيه لا يتحدث الإنسان مع نفسه. يدعونا دفء المنحني إلى التكور داخل أغطيتنا. إن جلال الخط المنحني ليس مجرد حركة برجسونية (حيوية) بسيطة ذات انثناءات مناسبة، ولا مجرد زمن ينساب، بل مساحة مسكونة مكونة بتناسق. إنها حقيقة شعرية تلك التي تجعل الحالِم يصف الخط المنحني بالدفء، هل يستطيع أحد أن يتهم برجسون بالمغالاة حين يصف الخط المنحني بالجلال والخط المستقيم بعدم المرونة؟ فماذا يمنعنا من القول بأن الزاوية باردة والخط المنحني دافئ؟ وأن نقول إن الخط المنحني يرحب بنا في حين ترفضنا الزاوية الحادة؟ وإن الزاوية الحادة ذكرية والخط المنحني أنثوي؟. إن قدرًا ضئيلاً من تغيير الصفة يغير كل شيء. فإذا منحنا الخيال ما يستحقه في إطار الأنظمة الفلسفية الخاصة بالكون، فإننا نتبين أن جذره هو الصفة. إننا ننصح كل من يرغب في النفاذ إلى جوهر أية فلسفة شاملة: أن يبحث عن صفتها. إن جلال الخط المنحني دعوة لنا للبقاء فيه، فلا نبعد عنه إلا ونشتاق إلى العودة إليه. فالخط المنحني يمتلك قوى العش إنه يحرضنا على الامتلاك، إنه ركن "منحن"، مساحة هندسية مسكونة. إننا هنا: قد امتلكنا الحد الأدنى للمأوى في تكوين مبسط للغاية لهناءة حلم اليقظة. ولكن الحالم الذي يتكور متأملاً الانحناءات هو وحده قادر على فهم المتع البسيطة للاسترخاء داخل الخطوط. كثيرًا ما أتخيل الكلمات كبيوت، كل بيت له قبو وعلية. الحس السليم يسكن الطابق الأرضي، وهو على استعداد دائم للمتاجرة مع الآخرين الذين يشبهونه، والذين هم دائمًا رجال غير حالمين. حين نصعد درجات البيت–الكلمة فإننا ننطوي مع كل درجة نصعدها. أما حين نهبط إلى القبو فإننا نضيع في الممرات البعيدة للأصول ولتاريخ الكلمات الخفيين، باحثين عن كنوز لا نجدها في الكلمات. الصعود والهبوط في الكلمات – تلك هي حياة الشاعر. الصعود إلى علو شاهق والهبوط إلى الأعماق السحيقة مسموح بهما للشعراء الذين يجذبون السماء إلى الأرض. أهو محكوم على الفلاسفة بواسطة زملائهم ألا يعيشوا إلا في الطوابق الأرضية. المتناهي في الصغر إن الأشياء الصغيرة التي نتخيلها ببساطة تقودنا إلى أيام الطفولة، إلى الألفة مع الدمى، إلى حقيقة الدمى. هذه التفاحة كون صغير بذاتها، وبذرتها التي هي أكثر حرارة من أجزائها الأخرى تشع الحرارة التي تحافظ على الكون، وهذه البذرة في رأيي هي الشمس الصغيرة لذلك العالم الصغير، التي تدفئ وتغذي الروح النباتية في هذه الكتلة الصغيرة. هنا يسلك العقل الذي يتخيل الطريق المعاكسة للعقل الذي يلاحظ. "أعتقد أن الخيال، سواء في عالمنا أو في عالم آخر، لم يخلق شيئًا لم يكن حقيقيًا". إن المتناهي في الصغر هو أحد مآوي العظمة. إذا حلمنا باستغراق لمرأى المربع، وأدركنا ثباته، نعلم حينذاك أنه ملجأ أمين جدًا. حين تنمو صورة مألوفة لتتخذ أبعاد السماء فإننا نفاجأ بانطباع أن الأشياء المألوفة تصبح مصغرات للعالم. فالكون الكبير والكون المتناهي في الصغر مترابطان. المسافة تخلق منمنمات في كل النقاط التي على الأفق، والحالم في مواجهته لمشاهد الطبيعة عن بعد، يلتقط هذه المنمنمات وكأنها أعشاش للوحدة أعشاش يحلم بالعيش فيها. من قمة برجه يرى فيلسوف السيطرة العالم بصورة مصغرة جدًا. كل شيء صغير لأنه هو في مكان عال. وما دام عاليًا فهو عظيم. إن علو موقعه برهان على عظمته. انفعل رينيه – غاي كادو، الذي كان يعيش في "قرية البيوت السعيدة"، وكتب: نستطيع سماع ثرثرة الأزهار على اللوحة. ذلك لأن كل الأزهار تتكلم وتغني، حتى تلك التي نرسمها... كتب شاعر آخر يقول:
سرها
كان يصغي للأزهار ومثل شعراء كثيرين فإن كلود فيجيه يصغي للعشب وهو ينمو:
أسمع يجب اعتبار صور كهذه، على الأقل، حقيقة تعبيرية، لأنها تدين بوجودها كلية للتعبير الشعري، وهذا الوجود سوف يتضاءل إذا نسبناه إلى الواقع، بما في ذلك الواقع النفسي. والواقع أنها تسيطر على علم النفس ولا تماثل أية دواقع نفسية، باستثناء الحاجة البسيطة للتعبير عن الذات في واحدة من تلك اللحظات المسترخية حين نصغي إلى كل شيء في الطبيعة عاجز عن الكلام. كتب جوتييه: أصبح مسمعي حادًا للغاية، سمعت أصوات الألوان، أصوات الأخضر والأحمر والأزرق والأصفر. جاءتني بموجات متمايزة للغاية. ونحن القراء الذين اكتسبنا معرفتنا بالانطباعات التي يخلفها الحشيش وكالة من خلال القراءة، لن نستطيع سماع الألوان وهي ترتعش لو لم يعلمنا الشاعر كيف نصغي، أو نبالغ في الإصغاء. إذن، فكيف نستطيع أن نرى دون أن نسمع؟ يوجد هنالك أشكال معقدة تصدر عنها أصوات حتى وهي ساكنة. الأشياء المشوهة تواصل إصدار صريرها. لقد كان رامبو هذا حين أصغى إلى التعريشة البالية وهي تزحف. ألفة المتناهي في الكبر كثيرًا ما يكون الاتساع الداخلي هو الذي يمنح معنى حقيقيًا لبعض التعبيرات المتعلقة بالعالَم المرئي. الغابة سابقة علي، سابقة علينا، بينما بالنسبة للحقول والمروج فهي تتواكب في أحلامي وذكرياتي مع مختلف مراحل الحرث والحصاد، حين يصبح جدل الأنا وما ليس – أنا أكثر مرونة، أشعر بأن الحقول والمروج معي، في معيتي، ومعنا. أما الغابات فإنها تسيطر على الماضي. ففي حضور هائل السعة كالليل يستطيع الشاعر أن يحدد الطريق إلى العمق الأليف. كتب ميلوز: حين وقفت متأملاً حديقة عجائب الفضاء، شعرت بأنني كنت أطالع الأعماق القصوى، وأكثر المناطق خفاء في وجودي، وابتسمت. لأنه لم يخطر لي قط أنني قادر أن أكون صافيًا وعظيمًا وجميلاً إلى هذا الحد! تفجَّر قلبي يغني أغنية لجلال الكون. كل هذه النجوم هي لك، توجد فيك، خارج حبك لا وجود لها! كم يبدو العالم مريعًا للذين لا يعرفون أنفسهم! حين شعرت أنك وحيد جدًا ومهجور في حضور البحر، فلتتخيل الوحدة التي شعرت بها المياه في الليل، أو وحدة الليل ذاته في كون لانهائي!. والواقع أن كلمة "واسع" هي أكثر الكلمات بودليرية شيوعًا، إذ هي بالنسبة له، الكلمة التي تحدد لا نهائية المكان الأليف. وكلمة "واسع" بالنسبة لبودلير تعبر عن أعلى درجات التركيب. يقول بودلير: إن الروح الغنائية تخطو خطوات لها سعة التركيب في حين أن عقل الروائي يبتهج بالتحليل. يستغرق العقل الفلسفي في نقاش لا نهاية له حول علاقة الواحد بالمتعدد، في حين أن تأملات بودلير ذات الطابع الشعري جدًا، تجد وحدة عميقة في القوة التركيبية بالذات التي تتواصل عبرها مختلف انطباعات الحواس. المكان المتسع هو صديق الوجود. ظاهراتية الاستدارة إن صور (الاستدارة الكاملة) تساعدنا على التماسك، وتسمح لنا أن نضفي مزاجًا مبدئيًا على ذواتنا، وأن نؤكد وجودنا بحميمية في الداخل لأن الوجود حين تعاش تجربته من الداخل، ويصبح خاليًا من كل الملامح الخارجية يكون مدورًا. وبالإضافة إلى هذا، فإن عالم الهندسة حين يتحدث عن الأحجام، فهو يتحدث عن السطوح التي تحددها. إن دائرة عالم الهندسة هي دائرة فارغة، فارغة جوهريًا. لهذا فهي لا تصلح أن تكون رمزًا جيدًا لدراستنا الظاهراتية للاستدارة. وبالنسبة للحالم بالكلمات، أية طمأنينة توجد في كلمة مستديرة. كم فيها من السلام الذي يلمس الفم والشفتين، فيصبح وجود التنفس مدورًا.
|
|
|