|
الحداثة التي انتهت الحداثة التي لم تبدأ بعد
انتهت الحداثة أم لم تنته؟ هذا السؤال لم يطرحه المثقفون العرب وهم ينتقلون إلى مقولات جديدة كما كان دأبهم باستمرار مجاراةً للموضة التي حذَّرنا منها هنري لوفيفر، والتي تعني "عبادة الجديد من أجل الجديد"، أو مسايرة العصر، أو الانخراط في مشاغل الساحات الثقافية الغربية التي تعج في كل عقد بالكثير من الأفكار والمقولات والأسئلة والنقاشات. فجأةً انتقلنا في الخطاب الثقافي العربي إلى ما بعد الحداثة وصار المصطلح أكثر تداولاً بين النخب ومشتهرًا في أدبيات المثقفين والصحافيين، وصار عندنا أدب ما بعد حديث يتجلى في نصوص هذا أو ذاك، في لوحات فنان من هنا وآخر من هناك، أو أغان شعبية ينتجها وعي العامة والسوق كانت مهملة إلى وقت قريب، بل كانت تعبِّر عن درجة من الابتذال والسوقية لتنتقل إلى كونها علامة من علامات العصر الجديد الذي تعيشه الحالة العربية الراهنة. نسي هذا الخطاب أو أهمل مناقشة مسألة الحداثة التي طرحت منذ أكثر من عقد ونشطت سجالات ساخنة بين مختلف تيارات الثقافة العربية وشغلت البال النقدي لعقود بأكملها. تلك الفكرة أحدثت الصدمة وخلخلت البنية وفتحت الثغرة الكبيرة في جدار السُبات الثقافي العربي، واعتبرت عند البعض دخيلة ورمزًا للانسلاخ عن التقاليد والتراث وغزوًا غربيًا جديدًا. أما المدافعون عنها فاعتبروها فرصة القطيعة التاريخية المرجوة للذهاب نحو المستقبل. نية القتل في السنوات الأخيرة ظهرت دراسات كثيرة تعلن أزمة هذه الحداثة أو فشلها. عناوين تُفصح عن نية القتل، عن نية دفع الجثة المقتولة إلى القبر: مثل الحداثة المعطوبة، الحداثة المخذولة، نكسة الحداثة... إلخ. ليتم الانتقال بسرعة نحو مقولات جديدة من مثل العولمة وما بعد الحداثة. بدأت في سياق هذه العملية الجديدة ترجمة ما ينشر في الغرب حول عصر ما بعد الحداثة الجديد ونظرياته الكثيرة، وسارع بعض نقَّادنا ممن يريدون أن تكون لهم الريادة دائمًا، في تطبيق تلك النظريات والمناهج على النصوص والخطب والوقائع، من دون الانتباه إلى أن مشكل الحداثة لا يزال قائما على الأقل واقعيًا، وعلى مستوى الحياة العربية التي لم تنجز أي حداثة إلا تلك التي بشَّر بها الشعراء والأدباء بشكل خاص. حتى هذه الحداثة الأدبية التي ذهبت إلى اختراق كل شيء ولا شيء، أنتجت أزمتها، وخلقت رد فعل عكسيًا بعودة الشعر التقليدي من جديد إلى الواجهة. وما مسابقات شعر المليون أو أمير الشعراء إلا دليل على ذلك، حيث نشهد احتفالاً بالشعر المجتر والمستهلك الذي يغرق في بحيرات القضايا القومية أو العاطفية، باللغة المنقولة من قاموس تم اجترار موسيقاه وصوره حدَّ الابتذال. لكن لنفترض أن هذه الحداثة الأدبية حققت ما كان مطلوبًا منها تحقيقه، فهل تكتمل الصورة بهذا التحقق؟ لنتصور شاعرًا مثل بودلير أو رامبو يتحدثان عن حداثة منفصلة وخاصة بهما فقط كشاعرين، فما معنى حداثة تكون مجردة من واقعها، مفصولة عن ديناميكية الحياة الحديثة التي تنتمي إليها؟ كيف يستطيع رسَّام الأزمنة الحديثة أن يعبِّر عن تلك الحداثة في بيئة غير حديثة أو منشطرة، وممزقة بين واقعين متضادين، ورؤيتين متباينتين، ونموذجين، كلٌّ يسبح في عالم يختلف عن الآخر؟ الأخطر في هذه المسألة، أن تميل الغالبية إلى نموذج الفصل بين العصر الذي تعيشه والذهنية التي تفكر من خلالها وتنتج عبرها قيمها ورموزها وطرق تفكيرها. طي الحداثة؟ طويت الحداثة فجأةً لصالح موضات جديدة وأفكار تعبِّر عن لحظة العصر الذي نعيش فيه، لكن هل تعبِّر في الضرورة عن مجتمعاتنا وثقافتنا التي بقيت ترزح تحت واقع التحديث الشكلي فحسب؟ حتى التحديث الشكلي بقي في خدمة الأنظمة الاستبدادية، التوتاليتارية، وفي خدمة الأصوليات والعشائريات والقبليات (الأنماط التقليدية المتخلفة) في ظل غياب الفرد بما يمثله من قيم التفرد والحرية والمسؤولية والمبادرة، وسحق المجتمع له، وضعف العقل لصالح حكم النقل من التراث ومن الآخر، وفقه الحلال والحرام (توقف الاجتهاد لصالح الفتاوى)، واستبداد الذكورة بالأنوثة (حيث وجود المرأة لا يزال مرتهنًا لسلطة الرجل). أي أن كل ما تدعو إليه الحداثة من حرية، وفردانية، وعقلانية، لم يتحقق إلا في خطاب النخب المثقفة التي كانت تطرح مادتها في أرض مفخخة وجسم مشلول يحتاج إلى أكثر من النصوص والخطب لكي يشفى من حاله، أي إلى تأسيسات واقعية ميدانية تمسُّه في صلب علاقاته الحياتية والواقعية وليس محض أفكار يجترُّونها من دون أن تمس أي قناعة من قناعاتهم التي يمارسونها في الحياة. كثيرًا ما نلتقي بمثقفين أو كتَّاب يتحدثون عن نيتشه وأفكاره، ولكن بعد الحديث معهم وملاحظة سلوكهم وتصرفاتهم لا تشعر بأن نيتشه أحدث في داخلهم أي انقلاب فكري أو زلزال عقائدي. يبقى نيتشه بالنسبة إليهم فلسفة من بين فلسفات يقرأونها للقول إنهم قرأوها وإنها مهمة لأن الكثير من الباحثين الغربيين شهدوا لها بذلك. لكن، أليست أهميتها في الحقيقة تنبع من درجة تحويلها للذات وأثرها في العقل الذي يتفاعل معها وقدرتها على خلخلة تلك القناعات الجاهزة في استقبال فيلسوف من هذا الطراز العجيب؟ ما يقال عن نيتشه قد يقال عن غيره من فلاسفة ومفكرين وأدباء أحدثوا انقلابات في حياة العالم الغربي بينما لم يكن لهم أثر يذكر في ذواتنا نحن. المشكل ليس أدبيًا توقف شعراء الحداثة والمنظِّرون لها والمبشرون الأوائل بها عن الكلام اليوم عن الحداثة بعدما شعر الجميع بأن المشكل ليس أدبيًا في النهاية، وهو من جانب ما له علاقة أساسية بالأدب، بدون أن نفصل الأدب عن شبكات واقعه. تاليًا لا يمكن حله فحسب من خلال إحداث تحويل في نمط القصيدة الشعرية أو استحداث فنون أدبية جديدة كالرواية أو المسرح أو الفنون. فالأمر مرتبط في صميمه بالبيئة والجغرافيا والتاريخ ومشكلات الواقع العربي. لهذا السبب راح أدونيس يقسم الحداثة حداثات متعددة بحسب وجهة نظره ليخلص إلى القول إن الحداثة الشعرية نجحت بالتأكيد لكن حداثات الدولة والاقتصاد والمجتمع بقيت ما قبل حديثة، أو عجزت عن أن توطن نفسها في هذه البيئة التي تتزعمها ظلاميات الاستبداد السياسي وبنية تراثية تحكم على رقاب العباد بقوة من حديد. هل انتهت الحداثة بهذا الشكل؟ سأجيب وليس في ذلك أي يقين بأن الحداثة لا تزال في صلب الإشكالية الثقافية العربية، ومن السهل التحدث اليوم عن كوننا نعيش في قرن القرية الصغيرة والعالم الواحد لكن الفوارق شاسعة بين ذهنية تطرح أسئلة واقعها الحقيقي وتنتج فكرًا نابعًا من همومها ومحنها ومشكلاتها وسعاداتها، وبين ذهنية إما تنطوي على نفسها في المرجع الأصلي الأول لهويتها، منكفئة على ذاتها ومعبِّرة عن أن ردَّها الوحيد هو رفض التفاعل والتواصل، وإما تجري وراء العصر المنفلت منها باستمرار، عصر يتفوق فيه الآخر بمبتكراته ومنجزاته السريعة في كل المجالات، وتحكم تاليًا على نفسها بأن تبقى أبد الدهر في جري لاهث للحاق به. إذا كانت الحداثة بحسب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مشروعًا ناقصًا لم يكتمل بعد في الغرب ولا يزال أمامها خطوات كثيرة تنجزها، فلِمَ لا نقول نحن بدورنا في عهد الثورات الشعبية الجديدة إن الحداثة ربما تبدأ اليوم في امتحانها الحقيقي المرتبط بالواقع وليس بالفكر فحسب، ما دامت الأفكار موجودة في الخطب المجردة عن سياقها الذي قدمت فيه، تلك التي أنتجتها الثقافة العربية على مدار عصور الاستبداد الطويلة واكتفت بها كشعارات مزخرفة، واستعملتها السلطات العربية كواجهات براقة لا غير؟ هل انتهت الحداثة العربية أم لم تنته؟ هذا السؤال يجب أن يطرح من جديد ضمن سياقه الراهن، وهو سيعيدنا حتمًا إلى التفكير في مسائل الفرد والجماعة والعقل والنقل، والتجديد والتراث والسياسة والدولة والديموقراطية ومختلف الأسئلة التي ما فتئنا نناقشها ضمن رؤية مجردة ومحكومة بأغلال السلطة المحتكرة لإصدار القرار وتنفيذ التغيير. النهار |
|
|