الكلمة والروح

 

جورج خضر

 

النفس البشرية ميدان التوتر بين القيام والسقوط. هي في طريق القيام وفي طريق السقوط. ليس للخير وجه يساير وجه الشر. إنهما يتصادمان. هناك نزف لا نعرف كيف يتفجر وأنت مفطور على الخيرات ولا يسكنك إلا الله. ما من ذات أخرى تنثني فيك. هناك انبثاث إلهي يتسرب إليك وانبثاث إبليسي أو وساوس شيطان يومًا بعد يوم وتتشرب بثًا بعد بث حتى ساعة شفاء.

ليست القضية قضية ميزان بين نوازع خير ونوازع شر في النفس. ليس ثمة كفة ترجح وما في الأمر حساب. السؤال هو ما في عمقك. سؤال ربك في الأخير هو: هل أنت معي؟. في اللحظة الأخيرة، في الدينونة السؤال هو: هل أنت معي في كثافة وجودك البادي أمامي؟. الإنسان لحظة، وجود أمام الوجود الإلهي. فليست المسألة أن يفحصك ربك في الوصايا العشر التي أعطاها الله موسى. هذه إشارات، جملة وتفصيلاً، إلى كونك صديق الله أو عدوه.

أنت في هذه الدنيا لا تخرج بالتوبة من رذيلة إلى فضيلة. هذا يحدث مرات بالتوبات العظمى. ما يحدث، هو نقلة من سوء وضعك إلى وجه الله، من انحجابك عنه إلى انكشافه لك. المكشوف وجهه للناس بحسناتهم يقول لهم «تريدون وجه الله» (سورة الروم، 38). فمن بعد سيئة لا يحول عملك إلى حسنة إلا إذا أردت وجه الله ذاته أي إذا دخلت في حبه. بسبب من ذاته وبذاته يمحو خطاياك. ليس السؤال ماذا تطلب ولكن من تطلب. وإذا كانت اللغة تقول لك أنت تطلب الرحمة أو الغفران أو الإحسان وما إليها تكون في الواقع طالبًا الله إذ لا تمتلئ النفس إلا به. إنه هو المالئ الكل بكل جمالاته. «ومن ملئه نحن جميعا أخذنا. ونعمة فوق نعمة» (يوحنا 1: 16). هناك إذًا نعمة تختلف عن نعمة ولكنها جميعًا صادرة عن الملء الإلهي. ليس غلوًا تاليًا أن أقول إن الخاطئ ينتقل من مقاطعة ربه إلى معاشرته. بلا هذه المعاشرة لا نرث شيئًا ولا نرى شيئًا.

هذه القربى تلاشي البعد بين القدرة الإلهية وما تستطيعه أنت. قد تصل القربى إلى حد اللصوق. ما الفارق بين اللصوق والوحدة؟ بينك وبينه فسحة في الجوهر إذ هناك هوة بين الخالق والمخلوق لئلا تزول الخالقية أو تزول عبادة المخلوق للخالق. على ذلك هناك وحدة ما حتى نتمكن من الكلام عن صلة. بلا صلة حقيقية أنت مشلوح في الخلق شلحًا. لا بد إذًا من بث إلهي في الإنسان أو من فعل إلهي أزلي في الإنسان يتم به الخلاص.

ينزل الله إليك بالحب الإلهي حقيقة. بينك وبينه تواصل أو ليس من شيء. كل مواجهة تواصل. أن يكون وجهك إلى وجه آخر في المحبة. يوحدهما. ولو بقيتما على استقلال. الذات تقابل الذات لكنهما لا تتباعدان حتى الانفصال؛ إذ تبطل، إذ ذاك، المواجهة. إذا استطعت أن تؤمن تنوجد في هذا اللقاء بينك وبينه.

* * *

هل ينطبق مفهوم الحوار في علاقتك مع الرب؟ الحوار يتضمَّن مساواة ما بين شخصين. في اللامساواة القائمة بينك وبين الله ليس من حوار إلا إذا تنازل الله بمشيئته أن يجعلك بمحبته متصلاً به حتى الوصال. في المسيحية هذا ممكن بسبب التجسد الإلهي. يلبس فيه ربك التساوي. ليس ذلك تصنعًا أو اصطناعًا ولكنه عمل تنازل على مستوى المشيئة الإلهية. يقابل ذلك منك تصاعد بشري. هذا ما يمكن تسميته حوارًا بين الله والإنسان. في الحقيقة هو انضمام منك إليه والخضوع لكلمته.

ماذا لا يتضمَّنه الحوار؟ إذا أنت أغرتك الخطيئة – وهذا ما نسميه التجربة – لا يناقشك الله. هو يأمرك أمرًا. أمرك أن تُسكت الإغراء، أن تقول لا للخطيئة في أول ظهورها في ذهنك. أنت لا تناقش الشيطان. ترفضه رفضًا منذ البدء. لا تتردد في الكلام معه. ترده بحدة. تنكفئ في كلمة الله. تمتلئ منها كثيرًا في خزانة قلبك حتى تنسكب فيك وتواجه الإغراء بشدة حتى لا تقيم مع الإغراء حوارًا.

تجذبك لذة الخطيئة. فقط نور القيامة إذا نزل عليك ينتشلك من جاذبية اللذة إلى فرحك بمعاشرة المسيح. «لا تترك لذة إلا لذة أعظم» (باسكال). عندما يشدك فرح الرب إليه يهون خيارك. افرح في الرب كل حين حتى يقوى فرحك في أوان الضيق أي حتى يصبح ينبوع مقاومة منك. لك أن تألف الرب حتى يصبح مأواك وفي هذا المأوى تتشدد.

* * *

هنا يأتي السؤال عن تقوية الإرادة. ما من شك أنك في كل مرة تقول للإغراء "لا" تتقوى وتستقوي بالروح الإلهي. الإرادة فيها رياضة روحية وفيها ما يهيئ دروب النعمة. غير أننا نلاحظ أن آباءنا لم يتكلَّموا كثيرًا عن ترويض الإرادة. إنهم تكلَّموا بخاصة عن الصوم والنسك وقراءة الكلمة والصلاة. هذه كانت عندهم وسائل ترويض الروح البشرية، ترويض الكيان الكامل.

التعفف عن الطعام والشراب واللهو وكل ما كان غير نافع في الأوان الذي نحن فيه، هذا التعفف بناء كامل يهيئنا لاستقبال النعمة. وأن نتخطر في النعمة ونصبح بذا كلمة إلهية يجعلنا نرد ما كان يصدم الكلمة ويحولنا في كل مشاعرنا وأفكارنا عقلاً إلهيًا ومسكنًا لله بالروح.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود