الصفحة التالية

هل يمكن للحضارة أن تدوم بدون الله؟-1

 

حوار مع كريستوفر وبيتر هيتشنز

 

دعا منتدى بيو حول الدين والحياة العامة The Pew Forum on Religion & Public Life الأخوين كريستوفر وبيتر هيتشنز للتداول في مسألة ما إذا كانت الحضارة بحاجة إلى الله.

كريستوفر مؤلف له أكثر من 10 كتب، بما فيها كتاب الأخير Hitch-22: مذكرات، والبيان الأكثر رواجًا: الله ليس عظيمًا: كيف يسمِّم الدين كل شيء God Is Not Great: How Religion Poisons Everything. وهو محرر مساهم في أتلانتك The Atlantic وكاتب عمود في فانيتي فير Vanity Fair، وله كتابات غزيرة في الدوريات الإنكليزية والأمريكية، منها The Nation (الأمة)، The London Review of Books، Granta (غرانتا)، Harper’s (هاربرز)، Los Angeles Times Book Review، New Left Review، Slate، The New York Review of Books (مراجعة الكتب، نيويورك)، Newsweek International (نيوزويك الدولية)، The Times Literary Supplement (ملحق التايمز الأدبي)، The Washington Post (واشنطن بوست). وحاز في العام 2007 على جائزة المجلة الوطنية تكريمًا لأعماله في Vanity Fair.

بيتر مؤلف له أربعة كتب، منها: إلغاء بريطانيا The Abolition of Britain، الكتاب الأكثر مبيعًا في تلك البلاد، والكتاب المنشور مؤخرًا: الغضب ضد الله: كيف قادني الإلحاد إلى الإيمان The Rage Against God: How Atheism Led Me to Faith، الذي كتبه معارضًا كتاب كريستوفر الله ليس عظيمًا. وهو صحفي بريطاني ومؤلف ومذيع، ويكتب حاليًا لـ The Mail on Sunday، ككاتب عمود ومراسل خارجي في المناسبات. كما يساهم (مع آخرين) في The Spectator (المشاهد)، Prospect (المشهد)، Standpoint (وجهة نظر)، The Guardian (الغارديان)، The New Statesman (رجل الدولة الجديد)، American Conservative (المحافظ الأمريكي). وكونه ملحدًا فيما مضى، يعزو عودته إلى الإيمان إلى حد كبير إلى تجربته مع الاشتراكية في التطبيق، التي شهدها خلال سنوات عمله الطويلة كمراسل في أوروبا الشرقية، والسنوات الثلاثة تقريبًا كمراسل مقيم في موسكو أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي هذا العام، حاز على جائزة أورويل للصحافة تكريمًا لتقاريره الخارجية.

المتحدثون:

كريستوفر هيتشنز، كاتب ومحرر مساهم في The Atlantic وكاتب عمود في Vanity Fair.

بيتر هيتشنز، مؤلف وكاتب عمود في The Mail on Sunday.

منسق الجلسة:

مايكل كرومارتي، نائب رئيس مركز الأخلاق والسياسة العامة Ethics and Public Policy Center.

* * *

لويس لوغو، منتدى بيو حول الدين والحياة العامة: مساء الخير، وشكرًا لكم جميعًا لحضوركم. شكر خاص لكريستوفر وبيتر هيتشنز لوجودهم معنا اليوم. أنا لويس لوغو، مدير منتدى بيو حول الدين والحياة العامة. نحن مشروع مركز بحوث بيو، وهو منظمة محايدة لا تتخذ مواقف بشأن القضايا والمناقشات السياسية – ولا حتى بما يخص السؤال حول وجود الله. وهذا الحدث هو جزء من سلسلة luncheon منتدى بيو نستقدم فيها صحفيين وشخصيات عامة لها مكانتها من أجل إجراء مناقشات جادة حول موضوعات لها تقاطعات مع الدين والشؤون العامة.

نسق نشاطنا في هذه الوقائع بسيط، بسيط جدًا بالفعل. نطلب من ضيوفنا أن يتحدثوا لمدة 10 دقائق أو ما يقارب ذلك، ثم ندعو بقية الحضور إلى الانضمام إلى المحادثة. وينبغي أن أشير إلى أن هذا الحدث يجري تسجيله على أشرطة. وأصدقاؤنا في محطة CNN، كما ترون، يسجلونه أيضًا على أشرطة فيديو. هذا للعلم فقط.

في هذا الوقت، أود أن أقدم مايكل كرومارتي من مركز الأخلاق والسياسة العامة، وهو مستشار في منتدى بيو. لقد تحمل مايكل كل العبء في استقدام الضيوف المشاركين، ولذا يستحق امتياز إدارة جلسة هذا الحدث.

معنا أيضًا عدد من الصحفيين من خارج المدينة يستمعون من خلال الاتصال المؤتمري، وأود أن أرحب بهم أيضًا. أما أولئك الذين هم على اتصال ويودون المشاركة في المناقشة – ونحن نشجع ذلك – فيرجى منهم إرسال أسئلتهم عن طريق البريد الإلكتروني. وسنعمل على التأكد من إحلال أسئلتكم على الدور.

مجددًا، إنه لأمر رائع أن تتواجدوا هنا وعن طريق الهاتف معنا. نرحب بكم في مركز بحوث بيو. مايك، تفضل... حان دورك.

مايكل كرومارتي، مركز الأخلاق والسياسة العامة: شكرًا لك، لويس، وأهلاً بكم سيداتي وسادتي. إن كان لديكم سيرة ذاتية أمامكم، وأنا أعلم ذلك، فأنا لست من منسقي الجلسات أولئك الذين يتلفَّتون حولهم ومن ثم يقرأون عليكم تلك السيرة. وأنا أعتقد أنكم تعرفون لماذا أنتم هنا. أنتم تعرفون كلا الرجلين من سمعتهم، والسيرة الذاتية لكل منهما أمامكم. ومع ذلك، ما أود فعله هو سرد حكاية أو حكايتين عن ضيفينا فحسب.

كريستوفر، كما يعلم الكثير منكم، لديه كتاب جديد صادر بعنوان Hitch-22: مذكرات. عدت قليلاً إلى الوراء وتفحَّصت بعضًا من المراجعات للكتاب، على اعتقاد أنني سأتمكن من العثور على شيء ما في المراجعات حول كريستوفر. في نيويورك تايمز، يلقي المراجع الضوء على قدرة كريستوفر العظيمة على استيعاب فكرة الصداقة. إنه مدفوع بشدة بحقيقة أن كريستوفر في هذه السيرة الذاتية لديه مثل هذه الأشياء الرائعة ليقولها حول أصدقاء عمره. وفي الواقع، يقول المراجع:

هو أيضًا منذور للصداقة. فـ Hitch-22 هي من بين التسابيح الأكثر روعة في معزَّة الأصدقاء... التي قرأتها على الإطلاق. فالجوانب العملية والباعثة على السرور لشخصية السيد هيتشنز يمكن أن تجعله يبدو، سواء اتفقت معه أم لم تتفق، من بين الناس الأكثر اتقادًا وحيوية بكل معنى الكلمة على وجه الكوكب.

وفي مراجعة أخرى في نيويورك تايمز، يقول المراجع:

الحقيقة، وفقًا لمعايير هيتشنز، هي أن تفحُّصه المثير للدهشة لكيفية افتراقه عن اليسار ليس طنانًا ولا مماحكًا بعداء. إنه، في الواقع، تفحص سوداوي بعض الشيء. لا يفاخر [هيتشنز] بقوته الصلبة النموذجية التي تستنبطها الموازنات. وربما يكون هذا بالضبط مكمن قوته في Hitch-22 – ذلك أن الموازنات أحيانًا فوضى شريرة.

[...] عندما وصل إلى أوكسفورد، كان معتادًا على 'الحفاظ على مجموعتين من الكتب'، توزيع المنشورات في مصانع السيارات نهارًا، والإسراع ليلاً بثياب مبهرجة إلى نادي Gridiron Club. ربما يتوق كريستوفر هيتشنز إلى أن يكون عقلانيًا، وفي وسعه بالتأكيد أن يكون خصمًا عديم الرحمة. لكنه يعرف أن هناك طرفين في أية مباراة تتسم بالنبل، وهذا ما تمت ملامسته في Hitch-22 لإيضاح كيف سيهرع، في أغلب الأحيان، إلى الجانب الآخر من الملعب لكي يعيد إرسال ضربته الاستهلالية، التي يمكن أن توضح، رغم أنه يحاول أن يكون صلبًا، لماذا من الصعب عليه أن يكره.

سيداتي سادتي، أقدم لكم شخصًا، وإن لم تتفقوا معه في آرائه السياسية والدينية، من الصعب جدًا أن تكرهوه. كريستوفر؟

كريستوفر هيتشنز: أوه، هل حان دوري؟

كرومارتي: تفضل.

كريستوفر هيتشنز: أود القول أنني كنت متأثرًا جدًا عند قراءتي كتاب بيتر الأخير – والذي أوصي بإيلائه انتباهًا خاصًا – وأن أرى أنه قد كُتب على وجه الخصوص... [انقطاع الصوت]... قبل فترة طويلة من تمكنه من قراءة كتاب آمل منكم أيضًا جميعًا أن تقرأوه، وهو كتاب ديارميد ماكولوش الفريد عن تاريخ المسيحية. لا أعرفُ كم من الحضور هنا حاولوا ذلك حتى الآن. لكنه حقًا كتاب مُصاغ بشكل جميل وعلى نحو يثير الإعجاب.

إنه [أي الكتاب] ينطلق في جدله من وجهة نظر إنجيليكانية إيمانية بحق، بغض النظر عما قد يثبت في النهاية. لقد كُتب، على أية حال، من منظور مسيحي وبتمكُّن استثنائي تمامًا من العوالم الثقافية وفن النثر. ومن رجاحة العقل بالنسبة للقارئ المسيحي، كما أفترض، أن يقرأ التالي:

ثمة كلمة جرت العادة على استخدامها دونما تهكم، وهي تستخدم، في الحقيقة، منذ أكثر من قرن ونصف. كان بوسع الناس أن يقولوا، وكانوا يعنون ما يقولون عندما لفظوا كلمة العالم المسيحي Christendom. أجل، كان هناك عالم مسيحي. لقد تطور جزئيًا، وجزئيًا تقطعت أوصاله بحد السيف، ودافع جزئيًا بحد السيف، وكان يتقهقر في بعض المراحل، ويتوسَّع في مرات أخرى. لكنه كان اسمًا ذا مغزى بالنسبة لمجتمع العقيدة والقيم الذي دام لقرون طويلة – وكان له الكثير من الإشراقات والعظمة.

وتبخر كل ذلك: فاليوم، لا أحد بوسعه استخدام ذلك المصطلح دون الشعور بقدر عظيم من الحنين أو بدرجة ما من التهكم. لقد ضاع كل ذلك بمبرر – ماكولوش يقدم بالضبط المبرر الذي يقدمه بيتر في كتابه. لقد دمر العالم المسيحي نفسه، دمر نفسه عبر فعل إجرامي هائل بحضِّه مكوِّناته على التقاتل ضد بعضهم البعض في الحرب العظمى، كما كانت حينها معروفة – لكن ما لم يكن معروفًا أنه سيؤدي إلى حرب ثانية أضخم بل وأسوأ – في العام 1914، حيث الملك – الإمبراطور في الإمبراطورية البريطانية، والذي كان أيضًا رأس الكنيسة في إنكلترا، والقيصر الروسي الذي كان أيضًا رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية....

ثمة استثناء جزئي يجدر تسجيله هنا، وهو متعلق بالإمبراطورية الفرنسية، التي لم تشارك في الحرب على وجه التحديد تحت راية دينها. لكن كل الآخرين فعلوا ذلك، وسوّوا بالأرض الحضارة المسيحية، الحضارة الأوروبية، إلى حد ما زالت فيه رؤانا تائهة عن مقدار ما خسرناه ومقدار تطورنا كجنس بشري وكمجتمع تمت إعاقته. وبدفع من الخراب، والخطو بخطوات واسعة عبر ذاك الخراب المُسمَّم، نشأت التوتاليتاريات الكبرى التي وضعت حدًا تقريبًا لما تبقى مما يمكن أن يُدعى، ليس بالتأكيد حينها العالم المسيحي، بل الحضارة الروسية والأوروبية.

لذا، لا تتسم هذه المناقشة التي نجريها بالجدَّة بأي حال من الأحوال، ولا تتضمن أي فكر جديد. لقد ترتب علينا أن نتصارع لأمد طويل مع فكرة، ما الذي سوف نقوم به بصدد الحضارة؛ ما الذي سنفعله بخصوص القيم والمبادئ الأخلاقية؛ كيف سنعلمهم؛ كيف سنتعلم العيش مع الآخر بغياب أية سلطة دينية حقيقية، أية سلطة دينية جديرة بالثقة، أية سلطة دينية تستحق اسمها، وتستحق الاحترام؟ هذا الغياب محسوس منذ فترة طويلة، طويلة جدًا؛ طويلة قبل أن أكون قادرًا على البدء بالكتابة عنه.

وأود أن أضيف فقط، لأنني أعتقد أن هذا لافت للغاية، أن معظم تلك الامبراطوريات قد بادت منذ ذلك الحين. بعضها كسب الحرب، صوريًا، وبعضها خسرها، صوريًا أيضًا. لقد ارتضوا، إلى هذا الحد أوذاك، الهزيمة الضمنية على المدى البعيد، لكن اثنتان منهما سلكتا مسلكًا شريرًا، وفق حكمي الخاص، في محاولة لاستعادة أمجادهما – الامبراطورية العثمانية، الخلافة، التي دخلت الحرب بطيش كبير إلى جانب الألمان الولهيلميين والإمبريالية النمساوية–الهنغارية، مُلقية إمبراطوريتها في حلبة الصراع ومُعلنِة الجهاد jihad العالمي من على عرش الخليفة نفسه في القسطنطينية، ومُلزِمة كل مؤمن بقتل اثنان على الأقل من غير المؤمنين ماداموا ليسوا من الألمان أو النمساويين أو الهنغار، نظرًا إلى كون الألمان والنمساويين والهنغار ذخائر كانت تسدد ثمن نشر هذا الجهاد.

لم يخسر الخليفة الحرب فحسب، بل خسر خلافته أيضًا؛ لقد ألغى مصطفى كمال [أتاتورك] الخلافة برمتها. لكن الأمر المثير للاهتمام هو أن امبراطورية من اثنتين تسعى للانتعاش من جديد. بوسعك الآن الذهاب إلى ملتقى في كنسينغتون في لندن، إن كنت ترغب، أو إلى Left Bank، أو كروزبيرغ في برلين، ويمكنك أن تذهب إلى نادي الخلافة. سيكون المكان مزدحمًا بالحضور؛ سيكون هناك عدد كبير جدًا من الناس الذين يعلنون أن خلاص البشرية، الأخلاقية الصادقة، الإيمان الحقيقي، سيجيء عندما يُعاد توحيد أمة المسلمين كلها من جديد – في الواقع، العودة إلى توسُّعها لكي تشمل، على سبيل المثال، إسبانيا ومناطق أخرى فقدتها في حروب سابقة.

إنها حركة حقيقة، ونحن متجهون إلى معايشتها لبقية حياتنا. وأولئك الذين يعتقدون أن الحركة القائمة على أساس ديني هي فاتحة لما هو إيجابي في حوزتهم الكثير من الحجج، كما أعتقد، عندما يواجهون الناس المعنيين حقًا بأمر من هذا القبيل.

ثاني الإمبراطوريتين التي شاركت في مذبحة الحضارة هذه باسم دينها الخاص أيضًا، وأعني الإمبراطورية الروسية، أبدت أيضًا مؤشرات حقيقية من الحنين إلى الماضي الإمبراطوري. لا أحد هنا، كما أفترض، سيكون قد نسي اللحظة التي التقى فيها جورج بوش للمرة الأولى بفلاديمير بوتِن الذي كان قد اختار في هذا اليوم أن يزيِّن صدره بالصليب الأرثوذكسي الروسي المزخرف الذي ورثه عن جدته، مما دفع الرئيس للاقتناع والقول إن مجرد النظر في تلك العينين الجميلتين الرائقتين كان كافيًا لمعرفة أن صاحبهما كان عميقًا في روحانيته ورقة شعوره.

في المناسبة، أعتقد اعتقادًا تامًا أن ذلك كان من أشد الأمور غباء التي قد قالها رئيس على الإطلاق. لكن الآن، لا حاجة لكم لأن تستعملوا الكثير من خيالكم عندما تشاهدون حفل تنصيب – عندما يريد بوتن تقليد شخص ما منصب رئاسة الوزراء، وعندما يقول كيف يمكن أن يجعل من نفسه قيصرًا مرة أخرى برسوخ – يحضر كل مراسم التنصيب هذه بطاركة يرتدون القلنسوات السوداء وملوِّحين بمباخرهم، مطالبين وفاسحين المجال لعودة امتيازاتهم على الكنائس الأخرى والأديان الأخرى في روسيا، ومسترجعين التوازن السياسي والإكليركي نفسه، تقريبًا، الذي كان يشكل أساس النظام الاستبدادي والأوتوقراطي الروسي الذي كان قائمًا حتى الكارثة الكبرى في العام 1914.

وهذا يعود، أيضًا – وأعتقد أننا لا نوليه القدر الكافي من الانتباه – إلى اندماج الشوفينية الروسية التقليدية الهائلة والنظام البوليسي مع الحرس الإكليركي. لكن الآن من البديهي أن أتطرق إلى مسألة ما مدى توافق الحضارة مع الدين؟

لكن حتى الآن، هما الإمبراطوريتين الوحيدتين اللتين تبديان هذا المؤشر على الإحياء الديني. ومن الصدق القول على نفس السوية أن هناك في الأنحاء الشاسعة مما قد ندعوه العالم الحديث الصناعي ملايين الناس، في الواقع، يعيشون في مجتمع ما بعد ديني. وأعتقد أنه من الصعب الجدال بأنهم يعيشون حياة أقل تحضرًا من أسلافهم، من أجيال العام 1914 والعام 1939.

نحن لم نتغلب بعد على بعض المشاكل مثل الاستلاب أو الاغتراب أو التصحُّر الروحي أو الرهبة من الموت. ينبغي العمل على هذه المشاكل. ولدينا مشكلة مع النسبوية الأخلاقية التي أخفقت سيادة الدين [متعذر سماع الصوت] في حلها. لكني لا أعتقد أنه من الصحيح حقًا القول إننا نعيش حياة أقل تحضرًا من أسلافنا أولئك الذين تلمسوا وجود سلطة دينية أصيلة اتسمت بالقوة.

لقد مر، فعليًا، أكثر من نصف قرن منذ أن كتب جورج أوريل أن مشكلة الحضارة ستكون هذه بالضبط. لقد تساءل، كيف سنغرس الأخلاق في أذهان غالبية الناس، كيف نلقِّنهم المبادئ الأخلاقية بغياب سلطة روحية تحظى بالاحترام وتتمتع بحضور متأصل وتستحق التقدير؟ فمع هذا الانحدار لسلطة الدين، كيف سنعلِّمهم القيم والمبادئ الأخلاقية؟

هذا سؤال وجيه جدًا. لكن، سأتوقف لكي أشير أن جورج أورويل نفسه، الملحد باقتناع تام مشوب باحترام بالغ ومتجذر للطقوس الدينية والكتاب المقدس والتقاليد، حقق تمامًا رمية صائبة، بعيشه حياته الخاصة وتطوير موهبته في الكتابة، وفي إظهار كيف يمكن، في الواقع، سلوك وجود أخلاقي دون الحاجة إلى سند ماورائي أو توسل قوى غيبية. وهذا قد يكون اختيارًا لمثال مناسب لحجتي إلى حد كبير.

في واقع الأمر، إذا نظرنا فقط إلى مجتمعنا الخاص، ماذا نجد حقًا؟ لقد كنت مهتمًا جدًا بمعرفة النتائج الأخيرة التي توصل إليها مُضيفونا اليوم حول مدى معرفة الأمريكان حقًا بدينهم الخاص – كم هم قلة من الكاثوليك الذين يعرفون حقًا ما يعنيه سر القربان المقدس، على سبيل المثال، وكم هم قلة من البروتستانت الذين يعرفون من هو مارتن لوثر، وكم هم قلة قليلة – وقد تفاجأت كثيرًا – من اليهود الذين يعرفون أن موسى بن ميمون كان واحدًا منهم–يهودي، وهلم جرا.

لكن، لم يكن ينبغي أن أتفاجأ، لا أعتقد ذلك. قال توماس جيفرسن ما اعتدت أن أفكر فيه كرسالة مشؤومة لا تنبؤية – أعتقد أنها كانت موجهة إلى ابن أخيه بيتر كار – أن ليس هناك من أمريكي شاب مولود اليوم سوف يموت مُوحِّدًا.

حسنًا، ذلك هو أحد الأمور التي جانب فيها الصواب توماس جيفرسن. لكن إن تجولتم في المحلات الشعبية والمسارح الريفية، كما أنا أفعل كلما سنحت لي الفرصة، وكنتم مهتمين بالإيمان والمؤمنين، ستجدون أن هناك نوعًا من الإنسانية الأخلاقية ذات المحتوى الروحي المبهم شائعًا إلى مدى واسع للغاية. وبوسعي أن أنتقي عشرة أشخاص من الأشد كاثوليكية وأسألهم عن الفرق بين مفهومي الحبل بلا دنس والولادة البتولية. لقد عرفت كل شيء عن كيفية القيام بذلك قبل ينبهني مركز بيو بفترة طويلة... (ضحك).

ثمة أناس يجمعون بين شكل من الإنجيليكانية وآخر من البوذية – وهو ليس بالأمر اللاشائع – أو الهندوسية. وأود القول إن المواطنين اليهود الأمريكان هم في غالبيتهم مابعد دينيون عمليًا. لقد تجاوزوا، وأفضِّل قول هذا، فكرهم التوحيدي صوب إنسانية أخلاقية. وبالتأكيد في حركة الإصلاح، وإلى درجة كبيرة التجمعات المحافظة، وهذا هو الحال بالفعل، والكل يعرف أنه غير ديني ولكن، إذا جاز التعبير، مسائل أخلاقية تدعوها الطائفة الكاثوليكية الأمريكية ذاتها كافيتيريا كاثوليكية، أو بحسب الطبق المُقدَّم. بعبارة أخرى، يختار وينتقي ما قد يكون، أو لا يكون، ملائمًا للتبني العقائدي.

من المؤكد أن هذا تفكير ضحل وهزيل، لكنني لست واثقًا فيما إذا كان غير مفضَّل لدى أورثوذكسي أكثر حزمًا وتطبيقًا لمعتقده، بالارتباط مع... لأنني أعرف أنني أتعدى على وقتكم، سأحاول أن أصيغه على شكل سؤال. إنه اختبار فكري، إن شئتم، الذي سأدعكم معه. لاحظوا، في صحفكم اليومية ووسائل الإعلام، كيف اكتسبت كلمة العلمانية، المُعابة كثيرًا على بعض صفحات الجرائد، أعني الجرائد الدولية، طابعًا إيجابيًا تقريبًا. لقد فقدت طابعها الازدرائي بالكامل تقريبًا.

بعبارة أخرى، لنفترض أنك قرأت اليوم أن رئيس الوزراء العراقي الجديد كان زعيم قوة علمانية ليس لها أي ولاء ديني. هل ستكون: آ. مشوَّشًا بشدة، ب. مرتاحًا إلى حد كبير، أم جـ. تشعر بسعادة غامرة؟ (ضحك). هل ينبغي عليكم أن تكونوا عقلانيين في إيمانكم؟

ماذا لو كان على أحد ما أن يقول إن زعيمًا سيظهر في إيران، زعيمًا معارضًا، مع تأييد أصيل في أوساط المثقفين و[الصوت غير مسموع] والعمال والفلاحين المسحوقين، من كان سيقول، أنت ماذا تعرف؟

لم أكن أصدِّق على الإطلاق كلمة من هذه القصة عن الإمام الثاني عشر القادم وعودة ظهوره لكي يملأ الأرض عدلاً ويكون حبل الخلاص للجنس البشري بكامله. أعتقدُ أنها لا تعدو أن تكون حكاية من حكايا الجن بالمطلق؛ أعتقد أن حظها من الصحة ليس أكبر من حظ سانتا كلوز. ولكن، ألن تشعروا بالارتياح أكثر لدى سماعكم أن مثل هذا الشخص موجودٌ فعلاً؟ أنا أؤكد بأنكم ستكونون كذلك.

إذا سمعت اليوم أن بيبي نتانياهو المسافر في رحلة أخرى من رحلاته المخادعة إلى واشنطن لكي يهين رئيسنا والكونغرس قد استغنى عن خدمات الرابي عوفاديا يوسف، زعيم التكتل الديني في ائتلاف نتانياهو الحكومي، والذي يدعو الله أن يمحق الفلسطينيين بالطاعون، على سبيل المثال – وبأن هذا الرجل لم يعد مُعيَّنًا في منصب المسؤول عن الإسكان والمستوطنات، وهو واقع الأمر، ألا تعتقدون أن تلك الخطوة كانت لتكون في الاتجاه الصحيح؟ أنا أؤكد أنكم ستكونون كذلك.

لذا، قد يكون من الفظاظة أن أدعكم مع سؤال بدلاً من عرض إجابة، لكنني أعتقد أنكم سوف تتفهمون السبب الذي دعاني إلى ذلك. وأنا الآن أفسح المجال لجيل شاب وأكثر مبدئية.

كرومارتي: شكرًا لك، كريستوفر. أمامكم سيرة ذاتية لبيتر، لكنني سألفت انتباهكم فقط إلى أمرٍ ما سجله بيتر في كتابه الجديد الغضب ضد الله: كيف قادني الإلحاد إلى الإيمان. في نيسان العام 2008، كان كريستوفر وبيتر يتناقشان في غراند رابيدز حول وجود الله، وكتب بيتر:

بطريقة ما، في ليلة الخميس تلك، في غراند رابيدز، كانت شجاراتنا القديمة قد انتهت إلى الأبد، بقدر ما يتعلق الأمر بي. لم يصل الأمر إلى الحد الذي ربما توقعه الكثير – والبعض ربما تمنوه – من أننا سنهتاج ونمزق بعضنا البعض. أخيرًا وصلت إلى استنتاج بأنه ما دام الجمهور لم يكن ربما قد لاحظ، أنهينا الأمسية بتفاهم أكبر مما كان يتوقعه أي منا. كان هذا الأمر بالنسبة لي، وما زال، أكثر أهمية من النقاش نفسه.

لقد حدث أمر ما أكثر أهمية بكثير من نقاش جرى منذ بضعة أيام عندما التقيت وكريستوفر في شقته في واشنطن العاصمة. وإذا كان يزدريني ويشمئز مني بسبب معتقداتي المسيحية، فإنه لم يُظهر ذلك. ولدهشتي، أعدَّ كريستوفر عشاء أضفى إلفة عائلية غير متوقعة ما زالت حاضرة في ذهني حتى الآن.

يصف إدوارد لوكاس، من صحيفة الإيكونومست، بيتر بـ

الصحفي النشيط والعنيد والبليغ والشجاع. قد يتذكر القراء طويلاً تغطيته الاستثنائية للثورة في روسيا في العام 1989، أو مؤخرًا سفراته الجريئة إلى أماكن مثل كوريا الشمالية. إنه لا يتورع عن توجيه النقد القاسي إلى التفكير المتسم بالعنف والسلوك الملتوي، إن كان في داخل الوطن أم خارجه.

سيداتي سادتي، أقدم لكم بيتر هيتشنز.

بيتر هيتشنز: شكرًا لك. بادئ ذي بدء، السؤال هو ما قد تكون عليه الحضارة. لدي شك في إمكانية اتفاقنا حول هذه القضية على نحو سريع، نظرًا إلى كوننا قد لا نستطيع حتى الاتفاق على كيفية تهجئة الكلمة على جانبي الأطلسي. وأود حقًا أن أبدأ بتوضيح ما لا تكون عليه الحضارة، وأن أسرد بعض التجارب الخاصة بي في أمكنة كفَّت الحضارة يدها عنها.

التجربة الأولى: لكم أن تتصوَّروني، إن شئتم، ببدلة زرقاء وحذاء جلدي لماع جالسًا على كومة من الأمتعة في طائرة سوفييتية محالة إلى التقاعد – بالأحرى، طائرة سوفييتية كان الأجدر لو أنها أُحيلت إلى التقاعد – حطَّت في مطار مقديشو بعد ظهر يوم شتائي قبل قليل من غروب الشمس. لن أتوسع بالشرح عن مدى الغباء الذي جعلني أورط نفسي في ذلك الموقف، لكنني كنت أعمل في ذلك الوقت لصالح صحيفة يومية وافقت بناء على اقتراح مني، بشكل غير متوقع، على الذهاب إلى مقديشو مباشرة قبل وصول مشاة البحرية الأمريكية، كما اعتقدوا، لإنقاذ الصوماليين من المجاعة والفوضى.

ربما يكون بعضكم قد مرَّ بتجربة الوصول إلى مطار مقديشو وبعضكم لم يمروا بها. ما يمكنني إخباركم به هو: ليس هناك تدقيق في جوازات السفر، ولا مكتب لاسترداد الأمتعة. في الواقع، تكون الأمتعة معكم في الطائرة تجلسون فوقها، ولدى تشغيل المكابح أثناء الهبوط تنزلق الأمتعة على طول الطائرة، مما جعلني منذ ذلك الحين آخذ بقليل من الجدِّية إجراءات الأمان في الطائرات. في الحقيقة، أمر ممتع نوعًا ما عندما تنزلق الأمتعة على طول الطائرة بالكامل!

في نهاية المدرج، تصادف رجلاً من وكالة أسوشيتد برس يحضر المؤونة والماء لمكتبه، وحوالي 15 شابًا يحملون أسلحة AK-47، يقتربون منك ويسألونك إن كنت بحاجة إلى حارس شخصي. تلتفت إلى الرجل من وكالة أسوشيتد برس وتسأله: هل أنا بحاجة إلى حارس شخصي؟ فيرد بالإيجاب. إذا لم يكن لديك حارس شخصي، ستكون ملقيًا جثة هامدة وعارية بحلول الصباح.

وهكذا، نستأجر، أنا وزميلي جون داوننغ، واحدًا – في الحقيقة اثنين – من هؤلاء الحراس، وسيارة بدون تنجيد، وننطلق إلى مقديشو لنصلها في الوقت الذي تغادرها فيه أرتال من رجال العصابات والتشكيلات العشائرية التي يُفترض أن يبعدها وصول مشاة البحرية الأمريكية. إنهم، في الواقع، يغادرون؛ يغادرون مع مغيب الشمس بأسلحتهم الآلية وعصاباتهم المزينة بالرسوم – إنهم يبدون مثل نجوم روك مدججين بالأسلحة – لأنهم يعرفون أنه لا جدوى من بقائهم هناك لدى وصول مشاة البحرية، مع عزمهم على العودة لاحقًا والقيام بما يقومون به.

نتجول في المدينة بحثًا عن مكان نمضي فيه ليلتنا. ولحسن الحظ، والحظ السعيد وحده، يرى زميلي شخصًا يعرفه من أيام ساراييفو، نجد مأوى نمضي فيه ليلتنا. كان المكان مجمَّعًا تم استئجاره من قبل بعض العاملين في قناة تلفزيونية ألمانية، الذين شاركونا وجبة حساء الجمل وسمحوا لنا بقضاء الليل على الأرضية الإسمنتية لمجمعهم. وقد أمضيت الليلة مستمعًا إلى صرخات المحتضرين وأزير الرصاص في الخارج ولما كان يمكن أن يحدث لي لو أنني لم أجد طريقي إلى المجمع الألماني.

في اليوم التالي، أجد من يأخذني في جولة؛ ونكون على وشك ملاقاة حتفنا في إحدى المرات لأن مترجمي من القبيلة المخالفة. أرى مشهدًا من الخراب الكامل. في كل بناية فتحات أحدثتها طلقات الرصاص، وفي الحقيقة، طلقات قذائف. الشارع الرئيسي يخلو تمامًا من أية سمة من سمات الحضارة الحديثة. إنه مجرد امتداد من الطين تغطيه حفر يثب الناس فوقها حاملين أسلحة بدون أية ضمانة من أنهم سوف لن يستخدموها ضدك. كل المظاهر المادية للحضارة، وكل المظاهر غير المحسوسة للحضارة، إذا جاز التعبير – اللطافة، الأمان، إمكانية الاعتماد على جارك، رجل المرور، وأي شكل من أشكال المعروف ومراعاة مشاعر الآخرين – تلاشت.

في النهاية، وبارتياح كبير، خرجت من مقديشو ووصلت إلى الوطن، وبعد بضعة أسابيع شاهدت صورة فوتوغرافية للشارع ذاته الذي كنت قد رأيته في ذلك المساء وصباح اليوم التالي. بدت مقديشو مستوطنة إيطالية، وكان مشهد الشارع رومانيًا بالفعل: أناس بثياب تسر النظر يتمشون على طول الأرصفة المُعتنى بها، سيارات فارهة تتهادى ذهابًا وإيابًا على طريق مستو، أكشاك هاتف، مقاهي رصيف.

كان يفصل بين ذلك وبين ما رأيته 20 عامًا، وقد ترك أثرًا في نفسي وبقي عالقًا في ذاكرتي منذ ذلك الحين، كلما كنت أتمشى في شارع أشبه بالمنتزه في أوكسفورد، حيث أعيش، أو أتجول في Dupont Circle أو أية مدينة متحضرة رئيسية، هذا ليس دائمًا. هذا ليس هنا تلقائيًا. إنه ليس كالهواء الذي نتنفسه أو الماء الذي نشربه. إنه محصلة لبعض الشروط غير العادية التي لا توجد دومًا والتي تحدث فقط لفترة زمنية قصيرة جدًا في عدد محدد جدًا من الأمكنة، والتي حتى وإن تأسست، يمكن أن تنتهي.

جاءت هذه التجربة تتويجًا لسنتين قضيتهما فيما كان، حينما وصلت، عاصمة الاتحاد السوفييتي، وما أصبحت، عندما غادرت، عاصمة روسيا الفيدرالية. وقد شاهدت هناك أيضًا حضارة متطفلة لم تكن حضارة. بمعنى آخر، هناك القليل جدًا من الدماثة بين الناس في الشارع. وقد كان هذا يفاجئني دومًا. وسأنزل إلى ما تخبرنا عنه الأدلة السياحية دائمًا وهو مترو موسكو الرائع.

بسبب الطقس الفظيع الذي لا يرحم، يتم تزويد المحطات بأبواب خشبية دوارة ثقيلة جدًا، أو كانت في تلك الأيام. وكنت حين أدخل، أمسك الباب لأبقيه مفتوحًا لكي أساعد الذين يدخلون إلى المحطة بعدي، لكنهم يخطون إلى الوراء ونظرات الشك تعلو وجوههم، كما لو كنت أدبر لهم لعبة مازحة. لم يكونوا معتادين أبدًا على فكرة أن شخصًا ما قد يقوم بهذا العمل. لم يكن هناك حتى هذا المستوى من مراعاة مشاعر الآخرين. لا أحد يثق بك في أي نوع من أنواع التعامل العام. كان كل شيء تقريبًا يجب أن يتم من خلال التهديد المهموس والرشوات.

وعلى النقيض من ذلك، إن تمت دعوتك إلى منازل الروس، ستجد نفسك على الفور في أجواء دافئة ومتحضرة تمامًا من الواجب والثقة المتبادلة في ذلك المجتمع الضيق للغاية والصغير جدًا. إنه مجتمع العائلة والأصدقاء المباشرين حيث الناس كانوا يعرفون بمن يمكن أن يثقوا ولمن يمكن أن يظهروا الواجب وممن يمكن أن يتوقعوه.

الآن، يمكن أن تقولوا إن هذا لابد أن يتم في مناخ أو شروط اقتصادية معينة. لا أؤمن بهذا الأمر، وإذا تلطَّف أي منكم بما يكفي لإلقاء نظرة على كتابي، آمل أنه سيجد أنني قد وضحت إلى حد ما كيف حدث هذا. هاتين التجربتين، مع التفاوت بينهما، أقنعتاني بأنه من الجدير بالاهتمام التفكير بما علينا تعظيمه في ما كان من حضارتنا.

كان هناك أمر آخر، وسوف يشعر كريستوفر إلى حد ما بألفة عائلية لذكر جزء منه. في فترة نمونا في أوائل الستينات وأواخر الخمسينات، سكنا لفترة قصيرة في ضاحية جميلة جدًا في ما كان آنذاك قاعدة بحرية بريطانية في بورتسموث. والآن، ولم يعد لدينا أسطول بحري، لم يعد هناك، لكنه كان آنذاك مكانًا منعزلاً ومريحًا وعليل الهواء وآمنًا جدًا يمكن لنا أن نتجول فيه بدون مراقبة لساعات. وكان بوسع والدينا تركنا نذهب دون قلق مما قد يحصل لنا. لا أستطيع أن أتصور، فعلاً، مكانًا أكثر نموذجية من الضواحي الإنكليزية في ذلك الوقت.

عندما كنت في موسكو، كان لدي امتياز الدخول إلى الإنترنت، وإلى وكالات الأنباء التي تزود صحيفتي بالأخبار، ومنها Press Association، وهي وكالة أنباء محلية. وقد أصابتني الدهشة، ذات مساء، وأنا أقرأ ما تورده وكالات الأنباء إذ وقع نظري على اسم ضاحية آلفرستوك، وهي ضاحية لها قصة. وما حدث في تلك القصة هو أن أحد الأشخاص تورط في مشاجرة مع مجموعة من الناس كانوا يركلون سياج حديقة منزله بينما كانوا يعبرون الطريق أمام الفناء الأمامي للمنزل. وعندما حاول الطلب منهم التوقف عن ذلك، بدأوا بركله إلى أن فارق الحياة. فكَّرتُ: آلفرستوك – رفس حتى الموت – ما الذي حصل للبلد الذي ترعرعت فيه؟

عندما عدتُ، اكتشفت أن هناك الكثير والكثير من هذه الحوادث تقع. وإن كان أيًا منكم مهتماً بذلك، أُحيله – لأن الوقت لا يتسع لي لعرض الحالات الآن – إلى غوغل للاطلاع على حالتين: الأولى تخص فيونا بيلكينغتون وابنتها فرانسيسكا، والأخرى عن رجل يدعى غاري نيولُف، وستدركون أن في أنحاء واسعة من إنكلترا، ولا سيما المناطق الأكثر فقرًا، انحدر السلوك الفردي للبشر تجاه بعضهم البعض إلى مستويات ليس بعيدة عن تلك التي كانت سائدة في العصر الحجري.

لقد تصرف السيد نيولُف كما يمكن أن يتصرف أي شخص في آلفرستوك. كانت جماعة من الناس يسيئون السلوك في الشارع، فاقترب منهم محتجًا. أمسكوا به وضربوه وألقوه أرضًا – وهذا التعبير يرد كثيرًا في التقارير الصحفية في بريطانيا – وأخذوا يركلون رأسه كما لو كان كرة قدم إلى أن فارق الحياة.

أما حالة فيونا بيلكينغتون فهي تتعلق بأم وابنتها المعاقة ذات المظهر غير السار للنظر، مما جعلهما عرضة لمضايقات قاسية متواصلة من قبل الجيران. كان منزلهما يتعرض للرشق بالبيض والطحين؛ وتتعالى صرخات الاستنكار في وجهيهما، إلى أن تحولت حياتهما إلى جحيم. وفي النهاية، انهارت السيدة بيلكينغتون تحت كل هذا الضغط، فأصطحبت ابنتها معها إلى الريف وأشعلت النار بالسيارة التي تستقلانها، فقضيتا حرقًا في حادثة انتحار شنيع من النوع الذي لا أتمنى لأي منكم أن يتصوره، لكنه يبدو أنه خاتمة مُقدَّرة لمعاناتها.

في كلتا الحالتين، وجد الأشخاص استحالة في استرعاء انتباه السلطات المعنية، ومع ذلك – طبعًا بعد أن استحوذت الحادثتين على اهتمام الرأي العام – شرعت السلطات في إيلائهما بعض الاهتمام. لكن، في الواقع، هذا النوع من الأمور شائع جدًا في الضواحي الإنكليزية التي تعيش مستوى خفيضًا من الحياة مما يجعلها واقعًا طبيعيًا بالنسبة للكثير من الناس.

لم يكن الوضع على ما هو عليه حتى وقت قريب جدًا. كيف أمكن حدوث مثل هذا الانحدار في الحضارة؟ حسنًا، أنا أعتقد أن الانحدار قد حدث جزئيًا على الأقل – وأنا لست حالة منفردة – لأن ضوابط الدين المسيحي لم تعد تستوطن قلوب الإنكليز، وهي الضوابط التي تحظر عادة هذا النوع من السلوك.

أعتقد أن القول بعدم وجود رابط بين الحادثتين سيكون بلا جدوى. وأنا لم آت إلى هنا لكي أقول إن الحضارة مستحيلة بدون عقيدة دينية، أو تحديدًا بدون الدين المسيحي. هناك حضارات غير مسيحية، وهناك بلدان متحضرة غير قائمة أساسًا على انتماء ديني مطلقًا، مثل اليابان التي أعتقد أن أي زائر لهذا البلد سيقرُّ بأنه بلد متحضر إلى حد كبير.

لكن الجمع الاستثنائي بين الحرية والنظام، الذي اعتدتم أنتم في بلادكم وأنا في بلدي التمتع به، وربما استمرار ذلك لبعض الوقت، يبدو لي أنه يحدث فقط حين يُدخِل الناس في قلوبهم الرسائل الفعالة إلى أقصى حد للضوابط الذاتية بدون انتظار منفعة مقابلها، وهو أمر مركزي بالنسبة للدين المسيحي.

بدون ذلك، سوف تصلون إلى شكل من الإلحاد اصطلحتُ على تسميته الإلحاد العملي، وهو ليس مصطلحًا يمكن استخدامه من قبل الناس المعنيين به فعليًا لأنهم لا يستطيعون ربما توضيحه ولا الإعلان عن الإلحاد لكنه الذي يبدو لي خلاصة صافية للطريقة التي يسلكها الناس. إذا كان بوسعنا الاتفاق هنا على البدء بالاتفاق بأن هناك حقيقة ما في أي من ذلك، يمكن عندها إجراء مناقشة.

ما وجدته مثيرًا للامتعاض فيما يتعلق بذاك القدر الكبير من الهجوم على الدين، الذي يجري على كلا جانبي الأطلسي في البلدان الناطقة بالإنكليزية في السنوات القليلة الماضية، كان النبذ والاحتقار والازدراء، بل وحتى الكراهية المُعبر عنها باستمرار ضد الإيمان المسيحي والقيم الخيِّرة التي يبشر بها الدين، والعزوف عن الاعتراف بوجود أيٍّ من تلك القيم الخيِّرة، وأن تحول قلوب العصاة إلى حكمة هو أمر يمكن حصوله بحرية من خلال طريقة ما أخرى.

لا أعتقد أن ذلك صحيح، وأعتقد في نقاش جدي حول هذا الموضوع سيكون الملحدون بحاجة إلى الاعتراف بأنه لم يكن صحيحًا كليًا، وربما التسليم باستعدادهم للدخول في مناقشة على نطاق ضيق جدًا أكثر مما هو حاليًا. وسوف أقف عند هذا الحد.

كرومارتي: شكرًا، بيتر، شكرًا لك. حسنًا، كريستوفر، سنكون معك خلال لحظات. والآن، تفضل، بيتر ديفيد.

بيتر ديفيد (الإيكونومِست): بيتر، لو سمحت لي بالرد على ما قلته للتو. لقد قدمت مثالين مُعبِّرين عن مجتمعات أو أمكنة تفتقد بالمطلق إلى بوصلة أخلاقية. كان المثال الأول مقديشو، والآخر ضاحيتك السابقة بورتسماوث. لكن ما أدهشني هو أنك تبدو في حالة بورتسماوث تحاجج بأن انتشار القيم العلمانية، أو على الأقل فقدان القيم الدينية، هو ما يفسر جزئيًا على الأقل ما قد حدث، بينما كنت أعتقد أن الصومال بلد متديِّن إلى حد ما، وإن لم يكن بلدًا مسيحيًا.

بيتر هيتشنز: النقطة التي أؤكد عليها بخصوص الصومال هي، في الواقع، أنه بلد لم تكن فيه حضارة، ولا يزال. الغوص في تاريخ التدخلات الأجنبية في الصومال، التي أدت إلى حد كبير إلى ذلك الوضع، هو قضية مختلفة. النقطة الوحيدة التي كنت أؤكدها هنا هي أن الحضارة يمكن أن تكف عن الوجود عندما تتمكن القوى، الداخلية أو الخارجية، من إنهائها.

أنا أعتقد، على نحو شبه مؤكد، أن التهديد في حالة بلد مثل بريطانيا، ومن المحتمل حتى الولايات المتحدة، هو على الأرجح تهديد داخلي إلى حد كبير. لكن التساؤلات التي تُثار حقًا هنا هي: ما هو مصدر السلطة؟ لماذا يجب على الناس أن يتصرفوا على نحو أفضل مما يحتاجون إليه؟ لماذا ينبغي أن يكون هناك وضع يخضع فيه الأقوياء للقانون؟ لماذا يجب أن يبزَّ القانون أية قوة أخرى في النظام على الإطلاق؟ لماذا يجب أن توجد تلك التقييدات؟

لماذا يجب تنشئة الناس على العادات الحميدة والالتزام بالضوابط والسلوك الحسن في تعاملهم مع الآخرين؟ على أي منوال سيكون التزامهم بذلك؟ وإذا كفَّ ذلك عن الحدوث، كم سيستلزم بلوغ المرحلة التي يكون فيها من الحكمة البقاء في المنزل في الليل بدلاً من الخروج، مما يعني حالة مقاربة جدًا لما كان عليه الحال الذي كنا نعيشه في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر؟

ما يصل إلى مسامعي، غالبًا، كرد من الناس، عندما أقول إن الأمور تمضي نحو الأسوأ في بريطانيا: حسنًا، إذا أنعمت النظر في سجلات أكسفورد في القرن الرابع عشر، ستجد أن الوضع كان على نفس القدر من السوء الذي هو عليه الآن. فأقول، نعم، بالتأكيد. لكن تفصلنا مسافة زمنية طويلة عن القرن الرابع عشر، حيث اعتقدنا أننا أحرزنا تقدمًا، والآن نحن نتقهقر بسرعة إلى الوراء.

كريستوفر هيتشنز: حسنًا... فقط في ما يتعلق بذكر آل هيتشنز، إذا كان لي ذلك، لأن ذلك الجزء الأثير ربما فُقِد بصورة مختلفة. أقول، طبعًا، إن القانون يُعاد تأسيسه في بعض أنحاء مقديشو. قبل ذلك، كان القانون يُسمى الشريعة Shari'a؛ المفروضة من قبل أناس يدعون أنفسهم "الشباب" al-Shabab. كانوا يعرفون تمامًا كم يتوق الناس إلى حكومة بدلاً من الفوضى، لذا كانوا يُعدُّون خطة لهذا الأمر منذ فترة طويلة؛ وبالمناسبة، كانت الفوضى أصلاً جزءًا من تلك الخطة: أخلق فوضى أولاً، بعدها سوف يناشدك الناس أن تطبق قانونك. بهذه الطريقة استولت طالبان Taliban على السلطة. إنها طريقة أخرى فحسب لإعادة صياغة المشكلة على أساس إيماني.

فيما يتعلق بذكرياتي عن ألفرستوك، لابد لي من القول إنني صُدمت بشدة لسماع تلك القصة. حتى في تلك الأيام، كنا نعلم بأننا محظوظون. ما كان آباؤنا ليقولون لنا بإمكانكم الدخول إلى بورتسماوث أو التسكع بالقرب من محطة سكة الحديد أو أحواض السفن في أي وقت من النهار أو الليل. لا... في الواقع، كان مفروض علينا دومًا أن نحذر الأماكن المارقة والمنبوذة التي كانت بادية للعيان في الحياة الإنكليزية.

ثم كانت هناك مدن لا تستطيعون حتى أن تتخيلوا ما يجري فيها؛ مدن يتحدث عنها كل الناس عنها – زملاؤكم في المدرسة مثلاً. هل تعرفون ما كان يحدث في المناطق السكنية في غلاسكو؟ كان هذا بالضبط في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، في الوقت الذي كانت فيه سلطة الكنيسة في إنكلترا مهيمنة أكثر بكثير مما هي عليه الآن. في غلاسكو، حيث قد تقتلع عين أحد ما بزجاجة مكسورة إذا [الصوت غير مسموع] طلاب معينون نظروا إليك. كان صحيحًا إلى حد ما أن غلاسكو هي المدينة الأكثر تديُّنًا في البلاد، حيث قد يقتلك الناس بسبب اختلاف طائفتك المسيحية. كان هذا واقع الأمر.

لم نكن ندرك آنذاك كم كان الوضع سيئًا في إيرلندا الشمالية، حيث العنف المستمر والجلافة والسادية، جنبًا إلى جنب مع كل الأمور التي تتوافق والأحكام الإكليركية والسياسية – الجهل، الحماقة، البطالة، المعايير المنخفضة للتعليم والصحة. كان المكان يعج بالسكان الفقراء. فما الذي كان يميزه عن بقية الأماكن في المملكة المتحدة؟ في الحقيقة، ما كان يميزه هو وجود سلطة للكهنة فيه، وكذلك أناس على أهبة الاستعداد للركل أو التلويح بزجاجة باسم الإيمان الديني؛ ذلك كان الفارق.

بيتر هيتشنز: لو سمحتم لي برد سريع ومختصر. جزء من المشكلة التي كنا نعانيها مع المناطق المارقة من البلدة – وعذرًا لذلك – هو أن أمنا، على وجه الخصوص، كانت نفاجية إلى حد ما. أتذكر أحد الأحداث: كنا قد استلمنا صندوق مشتريات من دكان البقالة، وكان فيه علبة زبدة فول سوداني، فأمسكتها وبدأت الأكل منها قبل... كانت والدتي خارج المنزل حينها. وعندما عادت، قالت: ماذا؟ زبدة فول سوداني؟ نحن لا ندخل مثل هذه الأشياء إلى بيتنا! واتصلت بدكان البقالة وطلبت منهم الحضور واسترجاعها، ومنعتني من تناولها مطلقًا، إذ لا يجدر بأولاد ضابط في البحرية تناول مثل هذا النوع من المأكولات.

بعد ذلك، سكنّا في رقعة من البلاد أكثر رقيًا، على أطراف دارتمور. وكان هناك عقار صغير مسبق الصنع يسكنه أناس كانوا يُعرفون بوصفهم أولادًا مارقين ولم يكن مسموحًا لنا الاختلاط بهم. وأنا لا أعتقد أنهم كانوا يشكلون خطرًا كبيرًا بالفعل؛ كان الخطر الداهم هو أننا قد نلتقط لهجاتهم.

أعتقد بحق أن الأمر الآخر الذي يميل كريستوفر إليه هو الخوض أكثر، وبتوسُّع، في الجانب السياسي للمسألة. أجل، بالتأكيد، المشكلة في إيرلندا الشمالية، وحقيقة في غلاسكو، كانت مشكلة طائفية بين البروتستانت والكاثوليك، وأخشى أنها سوف تتعاظم لسنوات. لكن من ناحية الحياة التي كان يعيشها الناس، والطريقة التي كانوا يتصرفون بها مع جيرانهم، والأسلوب الذي كان يتم فيه تنشئة الأطفال، ومظاهر السلوك التي كان يبديها الناس، أعتقد أنكم ستجدون أن أثر التربية المسيحية كان ضئيلاً في الخمسينيات أو الستينيات.

ما حدث لإيرلندا الشمالية، وفي الواقع لاسكوتلندا وكل بريطانيا، في تلك الفترة هو غزو لثقافة الدهماء وانهيار لكل أشكال التعاليم. وكان هناك قدر هائل من أعمال الابتزاز الحمائي والسلب واللصوصية وسفك الدماء التي كانت ترتكب باسم العصبوية الدينية، لكني لا أعتقد أن مرتكبي تلك الأفعال كانوا من مرتادي الكنيسة المتحمسين.

ثمة مشكلة مع وجهة النظر الطوباوية للعالم، والتي لا أتفق معها، وهي التركيز على القضايا الكبيرة. هل بوسعنا استحضار الديمقراطية والحضارة لـ x؟ وهل يمكننا إلحاق الهزيمة بكذا وكذا في كل أنحاء العالم بدلاً من إمكانيتنا فعليًا على تشييد مجتمع مدني، في الميل المربع الذي نقطنه فيه، حيث يمكن للناس أن يعيشوا بحرية ونظام؟ هذا ما يبدو لي، فعلاً، أكثر أهمية وصلابة من الناحية الإجرائية في أغلب الأحيان من إطلاق الصواريخ أو إرسال الجيوش إلى الطرف الآخر من العالم مع ما يترتب على ذلك من نتائج ملتبسة.

12 تشرين الأول 2010

يتبع...

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود