<LINK href="favicon.ico" rel="SHORTCUT ICON">

 ميثاق العبرمناهجية - Charter of Transdisciplinarity

هذا الشعار مستوحى من شعار المركز الدولي للأبحاث و الدراسات العبرمناهجية، عن رسم أصلي للفنان البرتغالي الراحل ليماده فريتاس

 إصدارات خاصّة

Special Issues

  المكتبة - The Book Shop

The Golden Register - السجل الذهبي

 مواقع هامّة

Useful Sites

أسئلة مكررة

F.A.Q.

الدليل

Index

 معابرنا

 Maaberuna

أليس الوهم كل شيء، أليس كل شيء وهمًا؟

      

رلى راشد

 

"ماتت زوجتي ودفنت". على هذا المنوال الذي يفتقر إلى العاطفة، تتلمَّس رواية اعتراف لاحق للموت طريقها، في حين كان ثمة احتمال أن تتبدل الكلمات الاستهلالية لتصير "أنا رجل مريض، بل أني رجل مقيت". يعود نسب العمل التخييلي الأثير هذا، إلى الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الهولندي مارسيلوس إيمانتس (1848 - 1923)، في حين يدين بالكثير إلى مناخ دوستويفسكي، على نسق ناقله إلى الإنكليزية الكاتب الجنوب افريقي دجاي ام كويتزي الفائز بـ"نوبل" الآداب. يستوي اعتراف لاحق للموت في رفِّ كلاسيكيات الأدب الهولندي في القرن التاسع عشر، بدفع أكيد من صاحبه إيمانتس المتعدد الثقافة والمنغمس في التشاؤم بنمط شوبنهاور. إنه ذاك التشاؤم التهكمي والبائس في آن واحد، الذي نقَّب ايمانتس عن فحواه، للمفارقة، في كلام التوراة وفي تصوُّر أساطير اوروبا الشمالية.

ثمة فرادة وغرابة على السواء في رواية ايمانتس الصادرة بنسختها الإنكليزية أخيرا لدى دار "ان واي ار بي كلاسيكس". ذلك أنها لا تتراءى كالعناوين الأخرى، بنتيجة نهايتها الهجسية المتكورة على ذهن مستوحد باسم وليم تيرمير، وهو امرؤ من طراز مألوف ونرجسي هشٍّ، تستر كرهه الصميم للناس، إنسانوية مثبطة الآمال. يصيب دجاي ام كويتزي في مقارنة ايمانتس بالفرنسي روسو من حيث حداثة الأسلوب، تمامًا مثلما يمكن استدعاء النروجي كنوت هامسون الذي مدَّنا بنصوص درامية مسحت الوعي الذاتي والعزلة في وجهة فرنسي آخر بهوية ألان روب غرييه، وإن اختلفت الهيئة التي اعتمدها كل منهما. في اعتراف لاحق للموت لا ينفك تيرمير يعلن مناهضته العنيفة للأحاسيس. بيد أننا نشعر بصوت مارسيلوس ايمانتس المتبصِّر قابعًا في الخلفية، يُمرُّ من خروم تصريحات راويه النارية، حضورًا أقل عدائية يشفق على أولئك المعتقلين في فكرة خاطئة تتمحور على ترف الحرية المطلقة.

تدفعنا الرواية إلى تخوم طفولة تيرمير حيث يبرز غياب الوالدين، ثم إلى يفاعه حيث تبين اخفاقاته في التحكُّم بتقلباته العاطفية إزاء الشابات اللواتي يفتتن بهن، وصولاً إلى ارتباطه بآنا لينتهي به الأمر إلى أن قاتلها. يأتي الراوي بنقد اجتماعي مترهِّل وفلسفة مدَّعية، فضلاً عن معرفة زائفة بالذات تؤطر جميع المشاهد في اعتراف لاحق للموت، ليتم من طريقها تسطير مأساة أن يتحول المرء إلى نسخة من تيرمير. هذا في حين يخيَّل إلينا أن وظيفة كل مقتطف تكمن في سؤالنا إذا سلَّمنا بهذا الواقع المرير، أو إن كنا لا نزال نعاند.

ينضح من حكاية تيرمير ميل إلى جلد الذات يفسِّر تطور الحوادث بمنحى على قدر رفيع من البؤس يحثه على أخذ حياة زوجته. إنه منطق يجعل الراوي وليس شريكته، يسبغ بألوان الضحية. تيرمير رجل مكبوت الأهواء، يقتنع بأن في وسع الجريمة وحدها أن تأتيه بالرضا الكامل. إنه رجل لم ينضج عاطفيًا بنتيجة التربية التي تلقَّاها، حيث كان التحريم والإدانة قاموس عيش. والحال أن والديه لم يغفلا أي مناسبة لتذكيره بأنه تفه وبلا قيمة. منذ البدء يتَّضح أن أعظم مشكلات الراوي تكمن في عجزه عن تحقيق أسخف الطموحات. يملك ما يكفي من المال ليصرف أيامه برخاء، بيد أنه يقصِّر عن العثور على الحافز لتعلُّم أي شيء أو أخذ عناء العمل. في ظلِّ هذا الوضع، يجيء بالذريعة الملائمة ليحصر اهتمامه بنفسه، وفي ذلك الخيار انحراف صوب أقل الانشغالات أولوية، وأكثرها استدعاء للمقت. يتمتع الراوي بحرِّية القيام بما يحلو له، لكنه يجد نفسه مكبلاً بسبب سيادة اللاقرار.

يكرِّس تيرمير نهاراته ولياليه لتلوٍّ يرتقي إلى أعلى مرتبة، في خضم سعيه إلى تلبية توقعات أسرته المتدنية، قبل أن يندفع، في وسط ذهول الآخرين التام، صوب سيدة استثنائية، جميلة وعلى موهبة على السواء. لكنه لا يلبث يعاين الزواج مصدرًا إضافيًا لمقت الذات، فتصير شريكته مرماه. والحال أنه عندما تخرج علاقته بسيدة أخرى إلى العلن، سيدة تضارع من حيث تطلُّبها احتقاره الراسخ لنفسه، لا محال من أن يتهاوى صوب الجريمة.

يمنحه الإجهاز على زوجته انعتاقًا مشتهى، غير أن باكورة الإقرارات التي ترشح من اعترافاته التطهُّرية، يشوبها السؤال. يستفهم الراوي: "بماذا تنفعني هذه الحرية؟ بلغت ما تقت إليه خلال الأعوام العشرين المنصرمة (صرت راهنًا في الخامسة والثلاثين) غير أني عاجز عن تلقف الحرية. لا يسعني في أي حال التمتع بها كثيرًا". لو قدِّر لتيرمير أن ينجز رسمًا تخطيطيًا لذهنه، لرآه معتمًا وموحشًا على شاكلة مغارة رطبة في البرية ممانعة وبعيدة من أي حضارة.

على رغم صدور اعتراف لاحق للموت قبل ما يزيد على مئة عام، أي في 1894، لا تزال تطالَع كأنها رواية حديثة أنجزت اليوم. ليس من الهامشي أن يرصد الكتاب تعريف الذات والحجة التي تدفع بها إلى أن تخطئ الهدف وتستسلم إلى نزوة القتل. والحال أن تنقيب الكاتب الهولندي المتقلقل في هذه المسألة التراجيدية العتيقة، جعله يلتفت إلى دوستويفسكي في سوابق الأدب، ويمهِّد لسيمونون في الزمن الآتي.

يسهل تحديد جذور التململ في الحكاية، في ظل بروز والد ناءٍ ومرور الراوي بمراهقة صعبة، غير أن ما تقدم لا يجعل الرواية تنحصر في خانة البورتريه النفساني المتقن فحسب. يمنح عبث التحليل الذاتي المتواصل الرواية، فكاهة لاذعة تنقذها. يعلن تيرمير على هذا النحو: "في وسعي ان أتحمل الناس الذين يشبهوني في حالتين فقط: عندما يحتلون مرتبة أدنى مني، وعندما يؤمنون بمعرفتهم لذواتهم بأسلوب معرفتي لنفسي، فيحتقرون أنفسهم تاليًا، تمامًا مثلما احتقر نفسي". يذكِّر الكاتب دجاي أم كويتزي، وفي هذه الحال المترجم، أن الرواية الإقرارية نوعًا، شهدت نموًا مضطردًا في عصر روسو، ليزيد أن اعتراف لاحق للموت يأتي بمثال خالص عليها. يدَّعي تيرمير عجزه عن المحافظة على سرِّه الكريه، فيدوِّن اعترافه ويتركه ويمضي ليغدو بناء ينوب عنه، يرفع من خلاله حياة فردية بلا قيمة، إلى مصاف العمل الفني.

غير أن استعراض المعرفة الشخصية يشكِّل عائقًا في هذه الرواية. لأن الاعترافات وعلى نقيض المذكرات، تفترض الاقتراب مما يسمِّيه تيرمير "ذاته الظلالية والأكثر حميمية"، تصير الإحالات الدائمة إلى اللاأخلاقية الذاتية وانتفاء الأحاسيس الانسانية، باعثة لليأس. والحال أن الراوي يعبُّ بلاغيًا من حاله فيقول: "أفتقر إلى الأخلاق، ولا يسعني أن أجد لنفسي مكانًا"، في وفاء لتقليد نبذ البورجوازيين للأخلاقية البورجوازية. بدءًا من السطر الأول، يرغب تيرمير في الاقرار بعتمته الداخلية ودهاليز لاوعيه الغامضة. غير أننا لا نلبث أن ندرك موضوع اعتراف لاحق للموت الأساسي. ليست ثيمة الرواية رصد سواد روحه وأعماقها، على ما يشتهي تيرمير، وإنما البحث النرجسي والعبثي عن الحقيقة الباطنية بالمطلق.

على مرِّ قرنين من البحث تبلورت ثلاث مدارس فكرية في مسألة اللاوعي. سلَّمت إحداها بوجوده، في حين رفضت الأخرى الفكرة تمامًا، بينما لم تهتم الثالثة به البتة. والحال أن رواية اعتراف ما بعد الموت توفر حجة متينة (غير مدركة على الأرجح) تؤيد الفئة الثالثة. يلقينا إيمانتس في تلاطمات تيرمير، وهو نموذج كاره للبشر ومناصر غير موفَّق للتيار المتعي، قبل أن يدفع بنا خلال نحو مئتي صفحة مثقلة، إلى التوقف عند نوازع الراوي التي تحثه على الجريمة. في كنف هذا النص، نعثر على راوٍ غير دمث، غير أن طباعه القاسية تلك، تشكل جزءًا من سطوته، وتعدُّ أحد أسباب استمرار الرواية في استدعائنا.

يميل تيرمير إلى التواصل، غير أنه ليس مستقرًا بالقدر الكافي ليترك أي تصريح من دون تفسير. يتساءل بسخف: "أليس الوهم كل شيء أليس كل شيء وهمًا؟" ليستنجد بتحليله الخاص فقط ليقول: "في الواقع، تبدو كلمة وهم المستخدمة ها هنا، أجمل مما يجب. إن الأوهام موهنة ومتيبسة، كنبات في دفيئة زجاجية تتعرض لتدفئة مبالغ فيها". في وسع شك تيرمير الذاتي الصميم أن ينتج أفضل سرد يتقنه ايمانتس. في حين أن الكاتب الهولندي، على ما يلفت كويتزي في تقديمه للرواية، "فنان ومحلل نفساني أدنى مستوى" من سلفه الروسي دوستويفسكي، غير أن ذروة الرواية العصابية هي تحية مستحقة بلا ريب إلى ذاك المرجع الأدبي.

وفَّق دجاي أم كويتزي في جلب العمل إلى الإنكليزية، واللافت أن راوي اعتراف لاحق للموت في وسعه أن يخرج، بيسر، من أحد مؤلفات الكاتب الجنوب افريقي. ذلك أن ثمة قطعة من منطق كويتزي الروائي في العمل الدانماركي، على مستوى لعبة المرايا بين الكاتب وتخييله خصوصًا. لا يمكننا إغفالها عندما يشير تيرمير إلى عرض مسرحي بعنوان فنانون كتبه مارسيلوس إيمانتس (بنفسه) تصنُّفه زوجته "مزعجًا"، في حين يخلِّف أثرًا عميقًا في الراوي "بنتيجة إبراز سمات تشابه جمة بين الفنان ونفسه".

لا يمكن المجازفة في عدِّ اعتراف لاحق للموت رواية مريحة، غير أن القسط الأعظم من النصِّ قادر على اجتذابنا في بشاعته، بل على الاستحواذ علينا تمامًا في حال قدِّر لنا أن نفقز على مقت الشخصية الرئيسية. يقبض النص على كل قارئ يظهر متعة في اللحاق بخيط روايات كويتزي التخييلية والتأملية في آن واحد.

اعتراف لاحق للموت تجربة على حدة تشبه فتح النافذة في أعقاب شهور عدة من استبداد الطقس البارد. من الجميل أن يدخل النور ويغلِّفنا من جديد.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود