تفاحة الخطيئة
نصوص تجريبية بين الفلسفة والأدب
الفاهم محمد
تفاحة الخطيئة
أحيانًا فقط بدافع حب الفضول أتساءل ماذا لو لم أولد، ماذا كانت ستكون
الحياة من دوني، هل كان سيحدث تغيير ما؟ ما الذي يحمله وجودي للوجود؟
هل كانت صدفة الميلاد هذه التي أنا عليها الآن ضرورية؟
ولكن لا عليَّ ما دمت قد جئت إلى هذا العالم فلأحاول أن أصنع شيئًا ما
بحياتي البائسة. يكفي فقط أن أتبع هذا النور إلى حيث يقودني، ولكني لن
أمنع نفسي مع ذلك من ممارسة لعبة التفكير، كما لو أن التفكير بالنسبة
لي هو مجرد رياضة ذهنية ليس إلا، شكل من أشكال خلط أوراق اللعب، رمي
للنرد بغرض الوقوف على الاحتمالات الممكنة. أو لنقل نوع من الهذيان
الواعي.
أتساءل مثلاً عن قصة هذه التفاحة التي صنعت تاريخ الوجود البشري، هل
كان من الضروري منعها على أبينا آدم، ولماذا يتم منعها عنه إذا كان
الله العلي القدير المطلع على كل خبايا الأمور يعرف جيدًا أن آدم لن
يستطيع منع نفسه عنها؟ بل هل كان من الضروري أصلاً أن توجد هذه الشجرة
هناك حتى يمد يده إليها؟ وماذا كان يفعل إبليس اللعين هذا في الفردوس
وهو المطرود منه؟
ولكن ما هذه التفاحة العجيبة المصقولة بأنفاس الرب، تفاحة البلور
والغبش، هاهي ذي تعود من جديد لكي تسقط كدمعة سماوية فوق أحلام نيوتن
الأبدية، هذه التفاحة مع ذلك هي نفسها الفاكهة التي آكلها ويأكلها طفلي
الصغير، ألم يكن من الأجدر على الأقل تحريمها فقط للتذكير بقصتها
الرمزية هذه؟ لقد عادت هذه التفاحة من جديد لكي تجذبنا نحو جنتنا
الأولى حيث لا تزال الشجرة هناك.
أحب أحيانًا أن أذهب مع هذه الميتافيزيقا المباشرة أو الاستعارة
البيضاء كما يمكن أن يسميها البعض. أنا أعرف أن الوجود ورطة، شرك لا
خلاص منه أبدًا حتى في العالم الآخر، ولكنني مع ذلك سعيد بهذه الورطة،
ولماذا لا أكون سعيدًا، طبيعتي تحب الأسرار وأكبر سرٍّ طبيعتي.
***
الصدفة والضرورة
كيف يمكنني أن أفكر في مصادفات الحياة، فيما هو غير قابل للتفكير. لا
يمكننا أن نفكر في الصدفة بالضبط لأنها صدفة، شيء غير متوقع. حياتي
برمتها سلسلة لانهائية من الصدف بدءًا من ذلك الحيوان المنوي الذي
كنته، والذي استطاع أن يركب القطار السريع إلى هناك حيث كانت الحياة
تنتظرني، إلى الصدفة التي جعلتني أعبر كل تلك البرك الداكنة لطفولتي
المليئة بالفقر والملح ويرقانات الوحدة.
وأخيرًا صدفة قطار آخر جمعني بزوجتي، ماذا لو لم أركب ذلك المساء، ماذا
لو كنت قد تأخرت وفوت الموعد، هل كانت ستتفتح هذه الزهور الصغيرة أمام
عيني.
يقال إن الصدفة إذا تكررت أصبحت ضرورة، لكن الشيء الوحيد الذي يتكرر في
حياتي هو السهاد والأرق. حياتي نشيد من أناشيد عمق الليل. أعيش في
انتظار صدفة أخرى، ورقة يناصيب قد أجدها بين الكتب، أو بين الأصدقاء،
أو بين الحيوانات والدواجن التي تكبر في مزرعتي.
أو ربما قطار آخر، أزرق هذه المرة، الصدفة التي لا بد منها، الضرورة
التي لا يريد أحد الاعتراف بها، النفق المظلم نحو الأبدية.
بالحواس أحلم وبالحلم أعيش، واقفًا هنالك ألوح للقطارات وهي تمضي في كل
الاتجاهات.
***
ما هو قادم
منذ مدة طويلة وأنا أتسكع في العالم الإفتراضي، أشعر أنني أنا نفسي لست
سوى فرضية ضاق بها الواقع فهامت في السماء.
منذ مدة طويلة أيضًا يصطرع داخلي ماردان أحدهما حكيم والآخر شاعر، هذا
الأخير كنت قد أرسلته في مهمة عسيرة متمنيًا أن لا يعود منها، لكن
الأرعن عاد مؤخرًا ولم يكلف نفسه حتى أن يستأذن ويطرق بابي، بل ركله
برجله. الآن هناك حرب ضروسة تجري داخلي، أكتفي بالتفرج عليها متمنيًا
أن لا تنتهي لصالح أي واحد منهما.
أنا في انتظار أمطار عميقة ستنزل قريبًا كي تغسل وحل الأرض. حينما أفكر
في كل هذه الأشياء أشعر بتقلصات في معدتي شبيهة بتقلصات الرعشة
الجنسية. الأفكار لا تخرج من رأسي كباقي الناس وإنما تطلع من أحشائي.
كل ما أشعره في هذه اللحظة أنني شبيه بقيثارة محطمة مفكوكة أوتارها،
وروحي تتقدم إلى الأمام وهي تسحب أعلامها المنكسة.
أنا كذلك في انتظار ولادة غامضة لكائن غامض. أتمنى لو كنت نوستراداموس
أو أي نبي آخر كي أستوضح تمامًا هذا السر، ولكنني أعرف أن القادم لا
يوزع الرحمات، فالنحل لا يريد أن يستقر في مزرعتي، ونجم الشعرى
اليمانية لا يلوح في الأفق.
لا أريد النظر في وجه هذا الكائن أبدًا. أريد أن أغرق في الفجر. أن
أومن بالنور. أعرف أنه من أجل هذا الفجر القصبات الحزينات في الوادي
الحزين ينتحبن، بجعات الصيف يغنين نشيد الأسى، ومع شروق الشمس يصعد
الغمام كبحر من الرماد أو النار يمد النهار مرة أخرى مديته، وفي البعيد
خلف الوادي الحزين يحترق مركب وتتحلل آخر أشجار البلح. اللاإنسانية
تلوح في الأفق، ما هو قادم لاإنساني تمامًا.
***
أنوات
لقد جربت مرارًا النزول إلى أعماق ذاتي. أتساءل دومًا من هذا الشخص
الذي يتحدث داخلي، أو كما قال الفلاسفة ما هذه الأنا؟ لكنني على العكس
منهم تمامًا لم أعثر على أي تفكير، بل بالعكس بمجرد طرح السؤال تنفتح
أمامي علبة باندورا، أشعر برعب كبير كمن يطل على حافة العدم، فأعود
سريعًا إلى الوراء محاولاً محو آثار هذا السؤال من ذهني.
يبدو أنني لا أستطيع أن أستمر في الحياة إلا من خلال نسيان هذه
الجرثومة داخلي التي اسمها الأنا. أحيانًا هناك أصوات كثيرة تتصاعد
داخلي لا أعرف كيف أضع لها حدًا، بعضها من طبيعة بشرية، وبعضها الآخر
حيوانية بدون شك، وثمة أصوات أخرى لا أدري حتى كيف أصنفها.
أعرف أنني لن أنتصر على هذه الأصوات إلا لحظة مماتي، آنذاك سوف تخرس
إلى الأبد وسأرقص منتصرًا عليها. أما الآن فأنا أتمسك بعدم الاقتراب من
هذا الثقب الأسود كي لا يبتلعني. وحين يثقل عليَّ الأمر لدي بعض الخطط
التي أتحايل بها على نفسي، منها مثلاً ركوب حافلة والذهاب معها إلى حيث
تشاء وتنتهي مسيرتها، لا أسأل السائق عن وجهتها إلا بعد أن نقطع نصف
الطريق. أو يمكنني أيضًا أن أستلقي على ظهري وأترك الشمس تلفع وجهي،
هكذا كقط كسول أظل ساعات وساعات أحدق في الفراغ دون أفكار أو أحاسيس.
الشيء الوحيد الذي أسمح لنفسي بممارسته هو الخيال. نعم أتخيلني ولدت في
حياة أخرى في كوكب آخر أو في كينونة مغايرة لهذه الكينونة. قد أولد
مثلاً ضفدعًا أو أسد بحر أو عنكبوتًا ضخمًا، أو شجرة معمرة، أو ربما
أيضًا محاربًا ضمن جنود جنكيز خان، أو كاهنًا شامانيًا في أراضي مجهولة
لا أعرفها.
وماذا لو كنت قد ولدت سفاحًا أو ملكًا أو عاهرة ... احتمالات الوجود
ترعبني، أعزي نفسي بالتشبث بأن هذه الحالة التي أوجد عليها الآن هي
"أحسن العوالم". من يدري ربما هذا أفضل ما في جعبة السماء فعله لي.
يا ربي! ما هذه الأقوام التي تتحدث داخلي، أي طبول وبخور تتصاعد من
داخلي، ما هذه الهوية غير المتطابقة أبدًا التي أنا عليها. كلا لم أكن
أملك أي وجه قبل أن أولد، ولن أحتفظ أيضًا بأي وجه بعد أن أموت. أعذرني
أيها الموقر ديكارت، أنا أنوات.
***
مجرد حلم
أحلم أحيانًا بالذهاب إلى أماكن نائية لا يعرفني فيها أحد، أعيش مع
أقوام غرباء مما وراء التاريخ، لا أتكلم لغتهم ولا يتكلمون لغتي، أجلس
معهم نصف عار، آكل من صيدهم، وأرقص حول نارهم بخطوات بلهاء بينما أقرع
طبلاً كبيرًا يتدلى فوق صدري العاري، وفي نهاية هذا الحفل الوثني أضاجع
فتاة خلاسية لليلة كاملة فوق فروة كبيرة لنمر بنغالي.
أحلم بأن أسير وحيدًا في شاطئ طويل لا نهاية له، ثم أتوقف فجأة وأصرخ
بكامل قواي حتى ينفذ الهواء من رئتي. ولكن ماذا أقول، لا أريد أن أفكر
أو أطلب شيئًا، أريد فقط أن أصرخ كالطفل الذي يعلن من وراء صراخه أنه
هنا وأنه موجود.
هكذا أشعر أنني عشبة اقتلعت من أعماق البحر ورمى بها الموج هناك في
الشاطئ بعيدًا عن الماء، في انتظار أن تيبس بفعل الشمس ثم تتلاشى كما
لو أنها لم تكن شيئًا يومًا ما.
تتملكني رغبة في الذهاب إلى العمل حافي القدمين، وأن أسلم على كل
المارة وأقبل جباههم جيئة وذهابًا. ثمة حدود أعرف أنه مهما كافحت قد لا
أطالها أبدًا. ما وراء الخير والشر، نعم، ولكن أيضًا ما وراء الجنون
والعقل.
***
نفس الكلام
أمطار شديدة تنزل هذا الصباح تتمرغ فوق التراب بشكل مهيب، كان الجو
يبدو كما لو أنه حدث مناخي غير مسبوق، أحسست أن لدي رغبة قوية في
الكتابة كما لو أن هذا الفيض المائي الذي يجري خارجًا عليه أن يجد ما
يماثله، فيض آخر له شكل لغوي تعبيري ومجازي. غير أنني حينما دخلت
أعماقي وحاولت كتابة شيء ما لم أعثر على أي أفكار تستحق التعبير عنها.
بدا لي أنني لا أقول إلا الشيء نفسه، مع اختلاف طفيف، نفس الكلام يتكرر
إلى ما لا نهاية. سواء عشت اليوم أو بعد ألف سنة أخرى، أو حتى إلى
نهاية الزمان فإن نفس المقيل سيقال بما فيه هذا الكلام ذاته الذي أكتبه
الآن.
كمن يجعل الغمام دليله فوق البحار، رغم أن الفكرة جلية وواضحة، بدت لي
في غاية الغموض والغرابة. ما الجديد إذًا؟ الأمر يشبه لعبة فيديو، رغم
أننا نخسرها ونموت فيها باستمرار يمكننا إعادتها إلى ما لانهاية.
هكذا بدا لي الوجود برمته نتكلم حتى نخفي أننا نقول الشيء ذاته، لكن
الشيء ذاته يعود لكي ينتصب من جديد في كلامنا.
ما هو الاختلاف إذًا، هذا المطر الذي يسقط لقد سبق له أن سقط مرارًا
وتكرارًا؛ هذه الشمس التي ستشرق غدًا أو بعد غد ربما، لقد أشرقت على
ذلك الجد الذي لا أعرفه في غابر الزمان الأومو إيريكتوس
OMO Erectus،
أو على تلك الجدة التائهة في السهول الواسعة للخفر الإفريقي، لوسي. كما
ستشرق غدًا أو ستمطر أيضًا على ذلك الحفيد البعيد الذي لا يعرفني في
المستقبل البعيد.
أي صفاء ذهني أكثر من هذا، حياتي برمتها مثل طبعة جديدة لكتاب قديم، كل
ما أتمناه هو أن يكون في حلة جديدة مزيدة قليلاً أو منقحة ربما. هذا هو
كل هامش الحرية الذي يمكن أن أحلم به، مشروع حياتي الخاصة إذا جاز لي
استعمال الكلمات العزيزة على سارتر: العثور فقط على هذا التنقيح، هذه
الإضافة.
هكذا أنا نسخة جديدة لعبارة قديمة، أفكاري ليست لي، لغتي تتحدثني،
حياتي في مجملها تمتد في المساحة الفاصلة بين الصمت واللانهاية. أنا
مثل رياح الأشواق فوق بحر الأحزان.
*** *** ***