مدخل إلى نصوص الشرق القديم: هبوط عشتار إلى العالم الأسفل

 

فراس السواح

 

في أسطورة هبوط إنانا السومرية، وجدنا أن الإلهة إنانا قررت دون سبب واضح النزول إلى العالم الأسفل، حيث تحولت إلى جثة معلقة على وتد؛ ولم تفلح في العودة إلى الحياة إلا بمعونة الإله إنكي. ولكن صعودها إلى العالم الأعلى كان يتطلب وفق شرائع العالم الأسفل أن ترسل إلى الموت بديلاً عنها يحل محلها، وكان أن أرسلت زوجها دوموزي الذي لم يراعِ طقوس الحداد عليها، ولم يظهر لهفة لاستقبالها. تسير أسطورة هبوط عشتار البابلية على خطى أسطورة هبوط إنانا في خطوطها العامة ومعظم تفاصيلها، حتى إن النص البابلي يقتبس حرفيًا الكثير من مقاطع النص السومري. ولكن النص البابلي أقصر بكثير، وهو يتجاوز الكثير من التفاصيل، ولا يزيد عدد سطوره عن الـ 120 سطرًا بينما بلغ عدد سطور النص السومري نحو 410 سطرًا، وهنالك فارق أساسي بين النصين تكشف عنه نهاية أسطورة هبوط عشتار، حيث نفهم أن هبوط الإلهة إلى العالم الأسفل كان يهدف إلى تحرير زوجها الأسير هناك. فنحن والحالة هذه أمام لاهوتين مختلفين، وتصورات ميثولوجية مختلفة. وفي النص البابلي هنالك شخصية أساسية غائبة هي شخصية ننشوبور وزير الإلهة إنانا الذي لعب دورًا مهمًا في استعادتها إلى الحياة، عندما مضى بعد انقضاء ثلاثة أيام على غيابها إلى مجمع الآلهة فبكى أمامهم طالبًا معونتهم على إعادة سيدته إلى الحياة، فلم يستجب له إلا إنكي. وقد حل محله هنا بابسوكال المدعو بوزير الآلهة الكبار الذي يُختصر دوره إلى الحد الأدنى. وفي مقابل الكائنين الذين يصنعهما إنكي ويرسلهما لفك قيود إنانا في النص السومري، فإن إنكي في النص البابلي يصنع مخلوقًا خصيًا على غاية من الجمال ويبعث به إلى العالم الأسفل لكي تعجب به إريشكيجال وتعده بأن تلبي له أي رغبة يطلبها. عُثر على أكثر من نسخة لهذا النص في مناطق بابل وآشور، وجميعها تعود إلى النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، إضافةً إلى نسخة مكتبة آشور بانيبال المعتمدة في هذه الترجمة.

يبتدئ النص البابلي بمطلع شبيه بمطلع النص السومري:

إلى الأرض التي لا عودة منها، إلى أرض إريشكيجال،
اتجهت عشتار ابنة سِـن بأفكارها.
نعم ابنة سِـن اتجهت بأفكارها
إلى دار الظلام ومسكن آلهة الإيرجالا؛
إلى الدار التي لا يؤوب منها داخل إليها؛
وعلى طريق لا يرجع بسالكه من حيث أتى؛
إلى المكان الذي حُرم سكانه النور،
حيث التراب طعامهم والطين معاشهم؛
لا يرون نورًا وفي الظلمة يعمهون؛
عليهم أجنحة من ريش تنقلهم كما الطيور؛
وعلى المزاليج والبوابات هناك تكدس الغبار.
وعندما وصلت عشتار إلى بوابة أرض اللاعودة،
توجهت بكلامها إلى حارس البوابة:
«اسمع يا حارس البوابة، افتح بوابتك أمامي.
فإذا لم تفتح لي بوابتك لأدخل،
فإني سأحطم البوابة وأكسر مزاليجها،
سأخلع عوارضها وأرمي بمصراعيها،
وأُقيم الموتى وأطلقهم لكي يأكلوا الأحياء،
حتى يربو عدد الموتى على عدد الأحياء».
فتح حارس البوابة فمه وقال لعشتار العظيمة:
«رويدك سيدتي لا تلق بالباب أرضًا؛
دعيني أمضي لأنقل كلماتك إلى الملكة إريشكيجال».
ثم اتجه إلى الداخل وقال لإريشكيجال:
«إن أختك عشتار هاهنا،
تلك التي تقود الاحتفالات العظيمة وتحرك المياه السفلية أمام الإله إيا».
عندما سمعت إريشكيجال هذا،
امتقع وجهها حتى غدا بلون شجرة طرفاء مجتثة،
واسودت شفتاها حتى صارتا بلون وعاء الكينينو:
«ما الذي أتى بها إليَّ؟ ما الذي أثارها ضدي؟
لا لأني أشرب الماء مع الأنوناكي، طبعًا.
فأنا التي تأكل الطين بدل الخبز، وتشرب الماء العكر بدل الجعة،
أنا التي تبكي الأزواج الذين تركوا وراءهم زوجاتهم؛
التي تندب الفتيات اللواتي انتُزعن من حضن الأحبة؛
التي تنوح على الطفل الضعيف الذي قضى قبل أوانه.
امض يا حارس البوابة وافتح لها بوابتك.
ثم عاملها وفقًا للشرائع القديمة»
مضى حارس البوابة وفتح لها البوابة:
ادخلي يا سيدتي، فالعالم الأسفل يحييك بسرور،
وسيبتهج قصر العالم الأسفل لرؤيتك».
ولما تركها تعبر البوابة الأولى نزع عن رأسها التاج العظيم.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت عن رأسي التاج العظيم؟»
«ادخلي سيدتي فهذه شرائع سيدة هذه الأرض».
ولما تركها تعبر البوابة الثانية انتزع الأقراط من أذنيها.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت الأقراط من أذنيَّ؟»
«ادخلي سيدتي فهذه شرائع هذه الأرض».
ولما تركها تعبر البوابة الثالثة، انتزع عن جيدها عقد اللآلئ.
«لماذا يا حارس البوابة انتزعت عن جيدي عقد اللآلئ؟»
«ادخلي سيدتي فهذه هي شرائع ربة هذه الأرض».
ولما تركها تعبر البوابة الرابعة نزع عن صدرها الحلي.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت عن صدري الحلي؟»
«أدخلي سيدتي فهذه شرائع ربة هذه الأرض».
ولما مر بها عبر البوابة الخامسة نزع عن خصرها حزام أحجار الولادة.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت عن خصري حزام أحجار الولادة؟»
«ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة هذه الأرض».
ولما تركها تعبر البوابة السادسة نزع عن رسغيها وقدميها الأساور.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت عن رسغي وقدمي الأساور؟»
«ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة هذه الأرض».
ولما تركها تعبر البوابة السابعة نزع عن جسدها ثوبها.
«لماذا يا حارس البوابة نزعت عن جسدي ثوبي؟»
«ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة هذه الأرض».
فلما صارت عشتار في قلب أرض اللارجوع،
وقع عليها نظر إريشكيجال فاستعر غضبها،
ولكن عشتار، دون تفكر، سارعت إليها؛
ففتحت إريشكيجال فمها قائلة لوزيرها نمتار:
«امض يا نمتار واغلق عليها في قصري،
ثم أطلق ضدها ستين مرضًا وعلة؛
ضد عينيها أطلق علل العيون؛
ضد أضلاعها أطلق علل الأضلاع؛
ضد أقدامها أطلق علل الأقدام؛
ضد أحشائها أطلق علل الأحشاء؛
ضد رأسها أطلق علل الرأس،
ضد كل جسدها فلتُطلق كل العلل».
بعد أن هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللارجوع،
لم يقفز ثور على بقرة، ولا حمار على أتان؛
ولم يعد الشاب يُخصب الفتاة في [......]؛
اضطجع الرجل وحيدًا في الغرفة ونامت المرأة على جنبها وحيدة.
بابسوكال، وزير الآلهة الكبار امتقع وجهه.
ارتدى وشاح الحزن وشعَّث شعره؛
مضى باكيًا إلى أبيه سن،
ثم فاضت دموعه أمام الملك إيا:
«لقد مضت عشتار إلى العالم الأسفل ولم تصعد منه.
وبعد أن هبطت السيدة عشتار إلى الأرض اللارجوع،
لم يقفز ثور على بقرة، ولا حمار على أتان،
ولم يعد الشاب يخصب الفتاة في [......]؛
اضطجع الرجل وحيدًا في الغرفة، ونامت المرأة على جنبها وحيدة».
إيا في قلبه الحكيم تصور خطة.
صنع أشوصونامير، المخلوق الخصي، ذي الحُسن الباهر:
«امض يا أشوصونامير إلى بوابة عالم اللارجوع،
وستُفتح أمامك بوابات ذلك العالم السبع.
سوف تراك إريشكيجال وتبتهج لمنظرك،
فإذا هدأت خواطرها نحوك وارتاحت إليك،
دعها تُقسم بجميع الآلهة الكبار،
ثم ارفع رأسك وحوِّل بصرك إلى قربة الحلازاكو، ماء الحياة،
وقل: «سيدتي، هل لي بقربة ماء الحلازاكو لأشرب منها؟»
عندما سمعت إريشكيجال منه هذا القول،
ضربت على فخذها وعضت على أصابعها:
«لقد أبديت رغبة ما كان لك أن تبديها
والآن يا أصوشونامير سألعنك لعنة كبرى،
وأرسم لك مصيرًا لن يُنسى؛
سيكون طعامك من مجارير المدينة،
وترد بالوعات البلدة لأجل شرابك؛
من ظلال الجدران تجد لك مسكنًا،
ومن عتبات الأبواب ملجأ،
وليصفع وجهك السكران والصاحي».
ثم التفتت إلى وزيرها نمتار قائلةً:
«امض يا نمتار واقرع باب الإيجالينا،
زين درجات العتبة بحجر المرجان.
استدع الأنوناكي ودعهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم انضح عشتار بماء الحياة وخذها بعيدًا عني»
فمضى نمتار وقرع باب الإيجالينا،
وزين درجات العتبة بحجر المرجان.
استدعى الأنوناكي وجعلهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم نضح عشتار بماء الحياة وأخذها بعيدًا عنها.
ولما تركها تعبر البوابة الأولى أعاد إليها ثوب جسدها،
ولما تركها تعبر البوابة الثانية أعاد إليها أساور الرسغين والقدمين،
ولما تركها تعبر البوابة الثالثة أعاد إليها حزام أحجار الولادة،
ولما تركها تعبر البوابة الرابعة أعاد إليها حلي الصدر،
ولما تركها تعبر البوابة الخامسة أعاد إليها عقد اللآلئ،
ولما تركها تعبر البوابة السادسة أعاد إليها أقراط الأذنين،
ولما تركها تعبر البوابة السابعة أعاد إليها تاج الرأس العظيم.
«فإذا لم تقسم على تسليمك من يفتديها عليك إرجاعها بدلاً عنه.
أما تموز حبيب صباها،
فاغسلوه بماء طهور وضمخوه بالعطور الطيبة؛
ألبسوه عباءة حمراء ودعوه يعزف نايه اللازوردي،
ولتحط به كاهنات عشتار يهدئن من خواطره».

(عشرة سطور غير واضحة المعنى رغم عدم وجود نقص في النص)

دراسة تحليلية:

في أسطورة هبوط عشتار التي دُوِّنت بعد ألف سنة تقريبًا من تدوين أسطورة هبوط إنانا، هنالك فارق أساسي يميزها عن سليلتها اللاحقة يتمثل في الهدف من النزول إلى العالم الأسفل، والذي لا يتكشف لنا إلا في نهاية النص. فعشتار قد هبطت لكي تنقذ زوجها الأسير هناك وتعيده إلى الحياة، بينما كان من نتائج هبوط إنانا السومرية وصعودها هو إرسال زوجها إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك. وهذا يعني أن اللاهوتيين البابليين قد أدخلوا تعديلاً جذريًا على الأسطورة، لا ندري بالفعل مدى تأثيره على طقوس الخصب البابلية بسبب نقص الوثائق. من هنا فإن التحليل الذي أقدمه فيما يلي ينصب بالدرجة الأولى على شكل هذه الأسطورة والبحث عن نموذجها البدئي في عصور ما قبل الكتابة. لأنني أعتقد أن السومريين والبابليين على حد سواء قد ورثوا أسطورة قديمة وأدخلوا عليها تعديلات تتفق والتصورات اللاهوتية السائدة لدى كل منهما، ولا سيما فيما يتعلق بالخاتمة التي أراها مقحمة على النص الأصلي، الذي يتحدث عن إلهة عظمى كانت تدعى سيدة السماوات (وهو اللقب الرئيسي لإنانا وعشتار على حد سواء) قررت دون سبب واضح ترك عرشها السماوي والهبوط إلى باطن الأرض، عالم الظلمات والموت، وفي اليوم الثالث لموتها قهرت الموت بقواها الذاتية وعادت إلى الحياة. فمن هي سيدة السماوات التي هبطت درجات الموت، وعند كل درجة كانت تخلع جزءًا من زينتها حتى وصلت عارية إلى العالم الأسفل، وفي اليوم الثالث شرعت في رحلة الصعود وهي ترتدي ما خلعته في رحلة الهبوط؟ وأي ظاهرة من ظواهر الطبيعة كان لها في نفس الإنسان القديم من القوة والتأثير ما حفزه على صياغة مثل هذه الأسطورة؟ لقد تأملت في ذلك طويلاً ولم أجد سوى دورة حياة القمر، ولم أجد في أسطورة هبوط إنانا-عشتار سوى أسطورة كوكبية قمرية من حيث الأصل، صيغت كنموذج ميثولوجي لتناقص القمر البدر وفقدانه من استدارته خلال النصف الثاني من الشهر القمري، حتى يغيب تمامًا في الليالي المظلمة الأخيرة، ثم يعود إلى الظهور والامتلاء من جديد.

إن أسطورتنا هذه تعود في أصولها إلى العصور الحجرية، عندما كان الإنسان يتأمل حائرًا في مظاهر الكون العجيبة محاولاً إيجاد تفسير لما يجري حوله. رفع رأسه إلى السماء وراقب حركة أجرامها، وسير شمسها وقمرها وتتابع ليلها ونهارها، فكان القمر أول ما رمى في نفسه الروع والرهبة بتألقه وسط الليل الغامض الذي يحيط به، وتفوقه على جميع الأجرام المنيرة المنتشرة في أرجاء السماء. كان الليل يطمس بصره ويتركه في رعب ينتظر القمر سيد الليل المترامي لينير له ما حوله. فكان أول جرم سماوي توجه إليه الإنسان بالعبادة.

عظَّم الإنسان الشمس ولكنه لم يجد فيها ندًا للقمر، ولم تثر في نفسه من الحيرة والعجب ما أثاره القمر. الشمس تشرق كل يوم من المكان نفسه وتغرب في مكان محدد آخر في حركة رتيبة منتظمة، أما القمر فكل يوم هو في شأن، يُشرق اليوم من مكان، وغدًا يشرق من مكان آخر، يغرب اليوم في مكان وغدًا يغرب في مكان آخر. في يومه الأول يبدأ هلالاً نحيلاً، ثم يأخذ في الامتلاء والتزايد حتى يستدير تمامًا ويتوسط قبة السماء بدرًا شعشعًا. ولكن اكتماله مؤقت، لأنه ما يلبث حتى يبدأ بالتناقص قطعة قطعة حتى يختفي تمامًا في آخر الشهر، وفي اليوم الثالث لغيابه تظهر قرونه عند الأفق مبشرة بميلاد جديد. حركة طبيعية كونية تشبه الحركة الطبيعية لجسد الأنثى في دورته الشهرية. فكان القمر بحق أنثى كونية عظمى، الأم الكبرى التي ولدت كل مظاهر الكون والطبيعة.

لقد كان مشهد الليل الجليل وقبة السماء الحافلة بنجومها وكواكبها وشهبها المارقة ومذنباتها من أكثر المشاهد تأثيرًا في نفس الإنسان القديم. فكان الليل بالنسبة إليه هو الأصل والنهار هو الفرع، الليل هو الأزلي والنهار هو الحادث. عن عتمة الليل أخذ الكون بالتمايز، وعن العماء الأول ظهرت الموجودات وترتبت كما تظهر نجوم السماء من جوف الليل في كل يوم. وعن الظلمة الخافية ظهرت المرئيات الواضحة. الخلق فعل سري يسمو على الأفهام، ولذا فإنه يصدر عن الليل والظلمة لا عن النهار والنور. والعتم هو الرحم البدئي الذي حبل بالكون وأنجبه.

إن أولوية الليل على النهار تستدعي أولوية القمر سيد الليل على الشمس، وأسبقية الديانات القمرية على الديانات الشمسية. وفي معظم الثقافات كانت الميثولوجيا القمرية سابقة على الميثولوجيا الشمسية. ويكاد يجمع دارسو الأسطورة، في يومنا هذا على هذه الحقيقة، وكذلك علماء الأنثروبولوجيا ممن درسوا الثقافات البدائية المعاصرة التي تسود فيها الديانات القمرية أو أشكال أخرى متطورة عنها. ففي جزر ميلانيزيا بالمحيط الهندي تُجمع الأساطير على أن الأم القمرية الكبرى هي خالقة الكون وسيدته. وإلى جانبها يعبد الأهالي ابنيها: القمر المتزايد والقمر المتناقص؛ وليس للشمس في ديانتهم إلا مكانة ثانوية. وفي غينيا الجديدة، يسود اعتقاد مشابه بالأم القمرية وابنيها. وعندما نزل الأسبان في إندونيسيا وجدوا أن القمر هو المعبود الرئيسي لدى قبائلها الوثنية، وما زالت عبادته قائمة إلى اليوم في بعض أنحائها. وفي جزر بولونيزيا بالمحيط الهادي لا تكاد الشمس تلعب دورًا مهمًا في الدين والأسطورة اللذين يرتكزان حول القمر. ولدى قبائل الأسكيمو تقوم الشمس مقام الأخت بالنسبة للقمر الذي تدور حوله ديانتهم، وهم يعتقدون أن الشمس قد استمدت نورها وحرارتها منذ القدم من القمر. ويؤمن الهنود الحمر في أميركا الشمالية بالأم القمرية، ويدعونها بالمرأة القديمة، والمرأة المتغيرة، والمرأة الأبدية. وفي أميركا الوسطى والجنوبية التي يظنها البعض موطنًا تقليديًا للديانة الشمسية، لم تكن تلك الديانات في ثقافات الأزتيك والأنكا والمايا إلا من خلق الطبقات الحاكمة، أما الطبقات الشعبية فقد بقيت على معتقداتها القمرية القديمة. وفي أفريقيا بقي كثير من القبائل البدائية حتى وقت قريب أمينًا للديانة القمرية وسيدتها الكبرى. وتحدثنا أسطورة من غينيا الجديدة عن القمر الأنثى الذي يغيب في باطن الأرض في اليوم الأول المظلم في نهاية الشهر لينبعث في اليوم الثالث، فتقول: في الأزمان السحيقة كان القمر فتاة جميلة اسمها رابيا تعيش على الأرض بين أهلها وقومها. ثم إن رجل الشمس المدعو نويل وقع في حبها ولكنها أعرضت عنه، فقرر الانتقام. قام رجل الشمس بإغراق رابيا في الأرض عند جذور إحدى الأشجار، وباءت كل جهود أهلها في إنقاذها فلبثوا ينظرون إليها وهي تغيب ببطء في جوف الأرض. ولكنها طمأنتهم عندما بلغ منها التراب العنق إلى أنها لن تغيب طويلاً، وإنما ستظهر في اليوم الثالث لرحيلها، وأن عليهم أن يرقبوا السماء لأنها ستظهر عند الأفق تدريجيًا على شكل جرم منير.

ومن ناحية أخرى، فإن الاعتقاد بأنوثة القمر قد رافقه اعتقاد بقمرية المرأة، التي تعكس حياتها الفيزيولوجية والسيكولوجية خصائص قمرية وإيقاعًا قمريًا. فهي مرتبطة بدورة شهرية معادلة لدورة القمر. وقد كان سكان وادي الرافدين يعتبرون تمام البدر يومًا تحيض فيه الآلهة إنانا أو عشتار، وتستريح من كل أعمالها. لذا فقد كانوا يمتنعون في هذا اليوم عن القيام بعدد من النشاطات وذلك مثل الشروع في سفر، وأكل طعام مطبوخ، وإشعال النار، وهي الأمور نفسها التي تستريح منها المرأة الحائض. وقد دعي هذا اليوم بيوم السباتو، أي يوم الراحة، وكانوا يحتفلون به مرة في كل شهر، ثم صاروا يحتفلون به مرة في كل ربع من أرباع الشهر القمري. وعنهم أخذ اليهود هذه العادة خلال فترة السبي البابلي، فجعلوا يوم السبت يوم راحة للرب فيه استراح من عناء الخلق، ودعوا هذا اليوم بيوم السباث، وفرضوا على أنفسهم فيه تحريمات مشابهة وتوسعوا فيها.

وفي اللغات الحديثة، هنالك أثر للاعتقاد القديم بعلاقة طمث المرأة بدورة القمر. ففي اللغة الإنكليزية نجد أن كلمة Menstruation الدالة على الطمث، إذا ما أُرجعت إلى جذورها، تعني «التغير القمري». وفي الفرنسية من الشائع أن يُشار إلى الحيض على أنه «وقت القمر». وفي ألمانيا يطلق الفلاحون في بعض المناطق على فترة الطمث اسم «القمر». وفي الكونغو يستعمل الأهالي كلمة واحدة للدلالة على الطمث وعلى القمر، وكذلك في بعض مناطق الهند. وكثير من اللغات البدائية تستعمل تعبير «المرض القمري» للدلالة على الطمث.

ولعل اقتران المرأة بالقمر له ما يبرره في نظر الإنسان؛ فكلاهما ينتميان إلى المبدأ السالب في الطبيعة والكون، ذلك المبدأ الذي أطلق عليه الفكر الصيني القديم اسم الـ «ين»، ويقابله المبدأ الموجب الذي أطلق عليه اسم الـ «يانغ»، والذي ينتمي إليه كل من الذكر والشمس. من تفاعل هذين المبدأين أو القوتين المتكافئتين تستمر حركة العالم، ومكوناته التي تتداخل فيها القوتان فتتعادلان أحيانًا وتغلب إحداهما الأخرى أحيانًا، دون أن تلغي الواحدة نظيرتها. ففي السماء يسود اليانغ، وفي الأرض الين؛ في الماء يسود الين وفي النار يسود اليانغ. في المرأة يسود الين وفي الرجل يسود اليانغ، في الشمس يسود اليانغ وفي القمر يسود الين. فالين هو العتمة والظل والرطوبة والغموض، وما إليها؛ واليانغ هو النور والحرارة والجفاف والقوة والإنجاز، والوضوح. أما الفكر اليوناني فقد أطلق على المبدأ السالب اسم الإيروس، وعلى المبدأ الموجب اسم اللوغوس. فالإيروس هو عالم الطبيعة والرغبات والغرائز وخفايا النفس، أما اللوغوس فهو التسلط على الطبيعة والمنطق والتفكير المنظم البارد. إلى الإيروس تنتمي المرأة وإلى اللوغوس ينتمي الرجل.

وكما يحكم إيقاع القمر حياة المرأة، فإن حياة الرجل يحكمها إيقاع الشمس. فالشمس هي مصدر منتظم للنور والحرارة، تخضع في شروقها وغروبها لنظام دقيق، فهي تشع في النهار وتختفي في الليل لتظهر ثانيةً في الصباح، دون أن يشك أحد في شروقها التالي. أما القمر فنوره متبدل متغير، فهو يشرق في الليل ولكن شروقه لا يتواقت مع ابتداء الليل مثلما يتواقت شروق الشمس مع ابتداء النهار، بل يبدو أن شروقه تابع لمزاجه الخاص. فقد نراه هلالاً عقب مغيب الشمس، ثم يغوص بعد ذلك في الغرب؛ وقد يطلع من الشرق في أوائل الليل، وقد يطلع في أواسطه أو أواخره، أو لا يطلع أبدًا تاركًا السماء في ظلام؛ وقد يظهر في أوقات النهار سابحًا في السماء المملوءة بنور الشمس. إنه الأنثى المتقلبة المزاج، الغامضة الأطوار، التي تستلهم في سلوكها خصائص الطبيعة لا قوانين التنظيمات الاجتماعية. أما الشمس فهي الذكر، واضع القوانين وعبْدُها، يصوغ الغايات والأهداف المتعالية على نظام الطبيعة. الرجل نظام المجتمع، ينظر دومًا نحو الأعلى، نحو مزيد من الإنجاز وتحقيق عظائم الأمور؛ أما المرأة فهي حكمة الطبيعة، تنظر دومًا نحو الأرض، تنشد السعادة التي تحققها حركة الجسد في إيقاعه الطبيعي، لا حركة الذهن في إيقاعه المجرد.

يتبع الرجل في حياته منحىً ثابتًا لا يكاد يتغير، تمامًا كمنحى الشمس؛ أما المرأة فحياتها مليئة بالتغيرات الجذرية التي تبدل كيانها، وبالمنعطفات الحاسمة التي تحمل لها تحولات أساسية لا تستطيع لها تبديلاً أو عنها رجوعًا. إن التغيرات التي تطرأ على جسد المرأة وروحها عند البلوغ لا تُقارن كمًا ونوعًا بالتغيرات التي تطرأ على الرجل. وفعل الحب الأول في حياة المرأة ليس كفعل الحب الأول في حياة الرجل، فهو يجعل من المرأة مخلوقًا جديدًا من الناحية الجسدية والنفسية، بينما لا يكاد يترك في نفس الرجل وفي جسده أثرًا أو علامة، يتجاوزه بثبات دون أن ينظر إلى الوراء. والمرأة قبل الحيض هي غيرها أثناءه وغيرها بعده. وهي قبل الحمل غيرها بعد الحمل وبعد الولادة. يُقبل الرجل على فعل الجنس مثلما يُقبل على أي نشاط آخر من نشاطات الحياة، أما المرأة فهي دومًا عذراء قبل الجنس وأما بعده، تَهَب نفسها في كل مرة وكأنها المرة الأولى.

منذ أن رأى الإنسان في القمر تجسيدًا للأم الكبرى، ربط ذهنه رمزيًا بين قرون البقر وقرني الهلال، وصوَّر في خياله الأم الكبرى على هيئة بقرة سماوية يرسم قرناها هلالاً في السماء. وقد انتقلت هذه الصورة من العصور الحجرية إلى عصور الكتابة؛ فعندما لا تظهر الأم الكبرى أو وريثاتها، في الأعمال التشكيلية، على هيئة بقرة كاملة فإنها تظهر برأس البقرة أو بقرون بقرة. فالإلهة نوت المصرية، التي هي قبة السماء، كانت تُصوَّر على هيئة بقرة كاملة؛ والإلهة المصرية هاتور كانت تظهر دومًا برأس بقرة، ومثلها إيزيس التي تظهر أحيانًا برأس بقرة، وتكتفي في معظم الأحيان بقرني البقرة. وتظهر عشتار البابلية على الأختام وهي ترتدي تاجًا مزينًا بقرنين، وكذلك الإلهة عشيرة والإلهة عناة في أوغاريت.

ومن ناحية أخرى فإن بعض ألقاب الأم الكبرى التي عُرفت بها في عصور الكتابة تُظهر صلتها بذلك التصور القديم للبقرة السماوية. فالإلهة المصرية نيت كانت تدعى بالبقرة السماوية، وكذلك إنانا السومرية التي تناجيها إحدى التراتيل بقولها: «أيتها البقرة البرية الجموح، أنت أعظم من كبير الآلهة آن». وفي نصوص أوغاريت تحمل الإلهة عناة لقب العجلة؛ وفي صورة العجلة يضاجعها الإله بعل وينجب منها قبل أن يهبط إلى العالم الأسفل. وفي ملحمة جلجامش تدعى الإلهة ننسون بالبقرة الوحشية، حيث نقرأ في خطاب إنكيدو لجلجامش بعد الصراع الذي وقع بينهما: «نادى إنكيدو جلجامش قائلاً: مخلوق فريد أنت. أمك سيدة المدن الحصينة، البقرة الوحشية ننسون قد حملت بك».

هذا وقد بقي لقب البقرة أو العجلة يطلق على الأم الكبرى ووريثاتها وصولاً إلى السيدة مريم العذراء: نقرأ في طقوس عيد تقدمة مريم إلى الهيكل: «إن والدة الإله بالجسد لما قدموها للرب عجلة ذات ثلاث سنين، تقبلها زخريا كاهن الله ووضعها في الهيكل». وفي التراتيل البيزنطية التي تتلى يوم الجمعة الحزينة نقرأ: «لما رأت العجلة ابنها معلقًا على الصليب ناحت وأعولت». وأيضًا: «أنت الآن في باطن الأرض أيها المخلِّص، والقمر الذي أنجبك يتلاشى حسرة لغيابك».

وقد وجد الإنسان القديم علاقة بين القمر وخصب الأرض ونمو الزرع. فضوء القمر اللين الأصفر، وطراوة الليل الذي تترك أردانُه قبل أن ينجلي ندىً يمد أوراق النبات بالحياة، ورطوبة تنعش الأرض، كانت في تصور الإنسان أكثر ملاءمة لحياة الخضرة من أشعة الشمس الحارقة ونور النهار الساطع. ومن ناحية أخرى، فقد لاحظ الإنسان أن تتابع الفصول هو الذي يهيئ الشروط اللازمة لاستكمال دورة الحياة الزراعية، وأن تتابع الفصول بدوره هو نتاج لدورة القمر الشهرية التي تضع علامات للزمن، فكان القمر بالنسبة إليه هو صانع الزمن وسيده، ورب الفصول التي تتوج حركتها بفصل الربيع الذي يحيي الأرض بعد سباتها.

إن مسؤولية القمر عن نفخ الحياة في البذور الجامدة، وإرسال المطر، وتوزيع الندى وتفجير الينابيع، هي فكرة ميثولوجية شائعة نستطيع تتبعها في العديد من الثقافات البدائية. ففي كولومبيا يرسم الأهالي الأصليون صورة القمر وقد عُلقت على أطرفه أباريق ينسكب منها الماء على الأرض. ويعتقد الهنود الحمر في أميركا الشمالية بأن القمر مسؤول عن هطول الأمطار وعن الإنبات ويدعونه بأم الذرة، وهي محصولهم الرئيسي. وفي البرازيل تدعو القبائل الأصلية القمر بأم المحاصيل. وفي بعض أنحاء الهند يدعون القمر بحامل البذور وحامل النباتات. وفي الأسكيمو يعتقد الأهالي بأن القمر هو الذي يرسل الثلج.

بعد هذه الجولة في نظرة الثقافات القديمة والبدائية الحديثة إلى القمر، نعود إلى أسطورة إنانا السومرية التي ترجع في أصولها الشفهية إلى الفترة الانتقالية من العصر الحجري الحديث إلى فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، لنجد في ملامحها العامة آثارًا واضحة من الأسطورة القمرية الرئيسية للعصور الحجرية. فالأم الكبرى للعصر الحجري، التي كان القمر بمثابة تجسيد لها، تهبط إلى العالم الأسفل في كل شهر أربع عشرة درجة هي أيام النصف الثاني من الشهر القمري قبل غياب القمر تماما عن السماء. وكان الهدف الأساسي من هبوطها هو تجديد قواها بالموت الكامل والانبعاث الجديد في اليوم الثالث لغيابها. وقد تحولت هذه الدرجات الأربع عشرة في أسطورة إنانا إلى بوابات العالم الأسفل السبع، التي تعبِّر عن الربع القمري الأخير الذي يفقد فيه القمر أجزاءه الكبرى الرئيسية، والتي تعادل أصناف الزينة التي تنزعها إنانا عن جسدها كلما عبرت إحدى البوابات، ثم تستردها ثانية في رحلة العودة واحدة إثر أخرى، حتى يكتمل القمر ثانيةً ويتوسط كبد السماء بدرًا كاملاً.

2007-09-16

*** *** ***

ألف لحرية الكشف في الإنسان والكتابة

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني