الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

جوهر الحكمة الإلهية 2

 

تشارلز ويبستر ليدبيتر

 

4- مبادئ عامة

إنني أرغب في جعل هذا الكتاب واضحًا وسهل الفهم قدر الإمكان، ولهذا السبب سأُقدِّم عن كل مسألة مبادئها العامة فقط، مُحيلاً الراغبين بمعلومات تفصيلية إلى كتب أكبر حجمًا، أو إلى دراسات متخصصة حول مواضيع محددة. وآمل أن أعطي في نهايـة كل فصل من هذه الدراسة الموجزة قائمة بمثل هذه الكتب التي يتوجب الاسترشاد بها من قبل الراغبين في المزيد من التعمق في هذه المعرفة الشيِّقة.

سأبدأ بعد ذلك بعرض الأكثر شيوعًا من المبادئ العامة التي ظهرت كحصيلة لدراسات الحكمة الإلهية. وقد يجد أُناسٌ ههنا مادة عصيَّة على التصديق، أو مسائل مناقضة تمامًا لأفكارهم المسبقة. فإذا حصل ذلك، سأطلب منهم أن يتذكروا بأنني لا أطرح هذه المادة بوصفها نظرية - كتأمُّلات خيالية أو مُعتقد ديني خاص بي - بل كحقيقة علمية مؤكَّدة تم إثباتها وفحصها مرارًا وتكرارًا، ليس من قبلي فحسب، بل كذلك من كثيرين غيري.

علاوة على ذلك، أزعم أنها حقيقة يمكن إثباتها من المصدر من قبل أي شخص مستعد لتكريس الوقت والجهد الضروري لتأهيل نفسه لمثل هذا المسعى. إنني لا أعرض على القارئ معتقدات سهلة الهضم؛ بل أحاول أن أضع أمامه منهجًا يدرسه، وأهم من ذلك، حياةً يعيشها. أنا لا أسأله إيمانًا أعمى، بل اقترح عليه ببساطة النظر إلى تعاليم الحكمة الإلهية بوصفها فرضيات، رغم أنها بالنسبة لي ليست كذلك، بل هي حقائق حيَّة.

فإذا وجدها أكثر إرضاءً من الأخريات التي عُرضت عليه، وظهر له إنها تحل المزيد من مشاكـل الحياة، وتجيب عن عدد أكبر من الأسئلة التي تطرح نفسها حتمًا على الإنسان المفكر، عندها سيتابع دراستها، وسيجد فيها مثلي، كما آمل وأعتقد، ذات الرضا والسرور المتناميين.

وإذا أعتقد، من ناحية أخرى، بأفضلية منهج آخر، فلا ضرر في ذلك؛ فلقد تعرَّف على مُعتقدات جماعة من البشر لا يزال غير قادر بعد على التوافق معهم حولها. وثقتي التامة بالحكمة الإلهية تدفعني للاعتقاد بأنه، عاجلاً أم آجلاً، سيحين الوقت الذي سيتفق فيه معهم - وعندئذ سيدرك هو أيضًا ما سبق أن أدركوه.

5- الحقائق العظمى الثلاث

ذُكر في أحد أوائل كتب الحكمة الإلهية بان هنـاك ثلاث حقائق مطلقة لا يمكن أن تندثر، غير أنها مع ذلك قد تبقى طي الكتمان لانعدام الكلام عنها. إنها عظيمة كالحياة نفسها، مع كونها سهلة وتناسب عقـل أكثر الناس بساطة. وأفضل ما أستطيعه هو إعادة صياغتها لتكون على شكل مبادئ عامة.

كذلك سأورد بعض الحقائق التي تنبع منها بشكل طبيعي، ثم أقدم في المرحلة الثالثة النتائج المهمة بالغة النفع والتي تُستخلص من هذه المعرفة الأكيدة. وبعد تحديد المسألة على شكل نقاط، سأتناولها واحدة بعد الأخرى، وأحاول تقديم شروح أولية تتماشى مع مجال هذا الكتاب التمهيدي الصغير.

الحقائق العظمى

-       أولاً: الإله موجود، وهو خيِّر. إنه المانح العظيم للحياة، الذي يسري فينا وفيما حولنا، وهو لا يفنى ورحمته أبدية. كما أنه لا يُسمع ولا يُرى ولا يُلمس، ورغم ذلك يُدركُه الإنسان الذي يرغب في إدراكه.

-       ثانيًا: الإنسان خالد، ولا حدود لعظمة وإشراق مستقبله.

-       ثالثًا: يُسيِّر العالم قانون إلهي مطلق العدالة، بحيث أن كل إنسان هو في الحقيقة حاكمٌ لنفسه، يمنحها السعادة أو التعاسة، وهو صاحب القرار في حياته وثوابه وعقابه.

ويرتبط بكل واحدة من هذه الحقائق العظمى مسائل أخرى فرعية، تفسيرية ومحددة.

فمن الحقيقة الأولى يتبع ما يلي:

1.    إن كل شيء، رغم المظاهر، يتضافر معًا بشكل عقلاني وأكيد نحو غاية خيِّرة؛ ومهما بدت كل الظروف غير مواتية، فإنها في الحقيقة ما نحتاجه بالضبط؛ وان كل ما حولنا، إن فهمناه فحسب، يعمل لمساعدتنا، وليس لإعاقة مساعينا.

2.    بما أن كل المنظومة تعمل هكذا لمنفعة الإنسان، فمن واجبه دون شك أن يجتهد في فهمها.

3.    وعندما يفهمها، فإن من واجبه كذلك المشاركة فيها.

ويتبع من الحقيقة العظمى الثانية ما يلي:

1.    إن الإنسان الحقيقي هو ذات، وإن هذا الجسد مجرد مسكن.

2.    لذا فعليه تقدير كل شيء من وجهة نظر الذات، وفي كل مرة ينشأ صراع داخلي عليه أن يدرك إن هويَّته تكمن في الأعلى وليس في الأدنى.

3.    إن ما نطلق عليه عمومًا حياته إنما هي يوم واحد في حياته الحقيقية الشاملة.

4.    إن الموت أقل أهمية بكثير مما يُفتَرَضُ عادة، بما أنه ليس نهاية الحياة مطلقًا، بل مجرد انتقال من مرحلة إلى أخرى منها.

5.    لقد مرَّ الإنسان بتطور هائل في الماضي، ودراسة هذا التطور هي الأكثر تشويقًا ومتعة وفائدة.

6.    وأنه سيحظى كذلك بتطور هائل في المستقبل، ستكون دراسـته أكثر من ذلك تشويقًا ومنفعة.

7.    إن كل ذات بشرية ستحقق بكل تأكيد هدفها النهائي، مهما بدا أنها قد ضلَّت بعيدًا عن مسار التطور.

ويتبع من الحقيقة العظمى الثالثة ما يلي:

1.    إن كل فكرة، فعل، أو كلمة تُحدث أثرها المحدد - ليس ثوابًا أو عقابًا مفروضًا من الخارج، بل نتيجةٌ ملازمة للفعل ذاته، ومرتبطة به حتمًا ارتباط النتيجة بالسبب، وهما في الحقيقة جزآن متصلان من كلٍّ واحد.

2.    إن من واجب الإنسان، ولمصلحته كذلك، دراسة هذا القانون الإلهي بعناية، حتى يتمكَّن من التأقلم معه والانتفاع به، كما نستفيد من قوانين الطبيعة الأُخرى.

3.    إن من الضروري للإنسان تحقيق السيطرة التامة على نفسه، حتى يوجِّه بتعقُّل حياته انسجاما مع هذا القانون.

6- الفوائد المكتسبة من هذه المعرفة

عندما يتم استيعاب هذه المعرفة بتمامها، فإنها ستغير شكل الحياة كليًا، بحيث يصبح من المستحيل تعداد كل المنافع الناجمة عنها. استطيع فقط أن أذكر بعض الخطوط العريضة التي يحدث هذا التغيير ضمن إطارها، وسيكتشف عقل القارئ، دون شك، بعضًا من النتائج الكثيرة التي تتفرع عنها بشكل حتمي.

لابد أن نفهم أن المعرفة المبهمة لا تكفي. وأن نوع الإيمان الذي يكنُّه معظم الناس تجاه معتقدات أديانهم عديـم الجدوى، بما أنه لا يُحدث تأثيرات عملـية في حياتهم. لكننا لو أيقنَّا بحقائق الحكمة الإلهية مثلما نفعل مع قوانين الطبيعة الأخرى - كما نؤمن بأن النار تُحرق والماء يُغرق - عندها سيكون التأثير الذي تُحقِّقه في حياتنا هائلاً.

ذلك أن إيماننا بقوانين الطبيعة واقعي بما يكفي لحثنا على تنظيم حياتنا وفقا لها. فنحن نتخذ كل التدابير الاحتياطية لتجنب النار، لأننا نعرف أنها تُحرق؛ ولا ننزل في مياه عميقة ما لم نكن نجيد السباحة.

إذن فهذه المعتقدات حقيقية وأكيدة بالنسبة لنا إلى حـد بعـيد لأنها مؤسسة على معرفة ومدعومـة بتجارب يومية. ومعتقدات طالـب الحكمة الإلهية هي بالمثل حقيقية وأكيدة بالنسبة له للسبب ذاته. لذا نجد أن هذه المعتقدات تحقق النتائج التي سنسردها الآن:

1.    إن الحكمة الإلهية تُكسبنا فهمًا عقلانيًا للحياة - إذ نعلم كيف يجب أن نعيش ولماذا، ونعلم أن الحياة تستحق العيش عندما نفهمها حقًّا.

2.    نتعلم منها كيف نسيطر على أنفسنا، وبالتالي كيف نطورها.

3.    نتعلم كيف نساعد من نحبهم على أفضل وجه، وكيف نجعل أنفسنا نافعين لكل من نتصل بهم، وللجنس البشري بأكمله في نهاية المطاف.

4.    نتعلم كيف نرى كـل شيء من وجهة النظر الفلسفية الأكثر شمولاً - وليس أبدًا من مجرَّد منظور شخصي ضيِّق الأفق.

وبناءً على ذلك:

1.    لن تكون مشاكل الحياة بعد الآن شديدة العسر علينا.

2.    وسينتهي من أنفسنا إحساس الظلم فيما يخصُّ ظروفنا وقدرنا.

3.    وسنتحرر جميعًا من خوف الموت.

4.    وسيخِفُّ إلى حد كبير حُزنُنا لموت أحبائنا.

5.    سنكتسب وجهة نظر مختلفة تمامًا عن الحياة بعد الموت، وسنفهم دورها في تطورنا.

6.    وسنتحرر جميعًا من مخاوفنا وهمومنا الدينية – مثل المخاوف المتعلقة بخلاصنا الروحي.

7.    ولن تُقلقنا الشكوك بعد الآن حول مصيرنا في المستقبل، بل سنعيش في سكينة تامة وطمأنينة كاملة.

لنتناول الآن هذه النقاط واحدة بعد الأخرى، ونحاول شرحها بإيجاز.

7- العقل المُدبِّر[1]

عندما نضعُ وجود الإله كأول وأعظم مبادئنا، يصبح من الضروري تحديد المعنى الذي ننسبه لهذه الكلمة الجليلة، والتي تعرضت كثيرًا لإساءة الاستخدام. إننا نحاول أن نحرِّرها من الحدود الضيقة المفروضة عليها بسبب جهل الناس غير المتطورين، وأن نعيد لها التصور الرائع - وهو دون مستوى حقيقتها إلى أبعد الحدود، رغم أنه رائع - الذي أسبغه عليها مؤسِّسو الأديان. فنحن نميِّزُ بين الإله كوجود مطلق، وبين تجلِّي هذا الوجود الأسمى كعقل مُدبَّر كونيٍّ مُتَجسِّد، يتطوَّر ويوجِّه الكون.

وعلى هذا التجسد المحدود فحسب ينطبق وصف العقل المدبر. فالإله في حد ذاته أسمى من ذلك، وهو في كل شيء وفي كل مكان، وهو حقًا الكل في الكل؛ ولا نستطيع أن نقول عن هذا اللامحدود، المطلق والكُلّي، سوى (إنَّهُ هو ذاته).

ولأسباب عملية تمامًا لا نحتاج لتناول من هو أبعد من ذلك التجسد الرائع والجليل (والذي يكاد أن يـكون فوق مستوى إدراكنا كليًا). إنه القوة العظمى المُوجِّهَة لمجموعتنا الشمسية، ويسميه الفلاسفة العقل المُدبِّر الشمسي. ويَصدُقُ عليه كل ما سمعناه من تكهُنات عن روح القدس - كل ما هو خير، ولا تنطبق عليه الأفكار التدنيسية التي تظهر أحيانًا، وتنسب إليه عيوبًا بشرية.

غير أن كل ما قيل عن المحبة والحكمة، القوة والصبر والرحمة، العلم الكلِّي، الحضور الكلِّي، والقدرة الكلِّية - كل ذلك، وأكثر منه بكثير، ينطبق على العقل المُدبِّر لمنظومتنا الشمسية. حقًا إننا نعيش ونتحرك في كيانه ومنه نكتسب وجودنا، وليس ذلك تعبيرًا شعريًا، بل هو حقيقة علمية مؤكدة (رغم أنها قد تبدو غريبة). وهكذا فعندما نتحدث عن الملأ الأعلى فإن أول ما يتبادر لأذهاننا طبعًا هو العقل المُدبِّر.

نحن لا نأمل بطريقة غامضة بأنه ربما يكون موجودًا، وليس اعتقادنا بوجوده مسألة إيمانية؛ بل إننا نعلم وجوده بوضوح كما نعلم أن الشمس تشرق. ذلك أن هذا الكائن الهائل بالنسبة للباحث المستبصر، المُدرَّب والمتطور، هو حقيقة مؤكدة. ولا يعني ذلك أن أي تقدم علمي بشري سيُمكننا من رؤيـته مباشرةً، لكن الأدلة الجليـة على نشاطه وغايته تحيط بنا من كل جانب خلال دراستنا للحياة في العوالم الخفية، والتي هي في الحقيقة الأجزاء الراقية فحسب من هذا الوجود.

هنا نجد تفسيرًا لعقيدة شائعة في معظم الأديان - تلك هي عقيدة الثالوث. وقد تبدو العديد من التصريحات حول هذا الموضوع في مذاهبنا غير مفهومة للقارئ العادي، إلا أنها تصبح مهمة وتلقي عليه المزيـد من الضوء عندمـا يتم فَهمُ الحقيقة. فالعقل المُدَبِّر للنظام الشمسي، كما يكشف لنا عن نفسه من خلال نشاطه، هو بلا شك ثالوث - ثلاثة لكنه واحد، كما أخبرنا الدين منذ زمن بعيد. وفي الكتب الوارد ذكرها عما قريب سنجد لهذا اللغز الواضح العديد من التفسيرات التي يستطيع أن يستوعبها تفكير الإنسان في مستواه الراهن.

إن وجود المدبر في أعماق نفوسنا وفي عالمنا الخارجي، أو بعبارة أخرى، إن كون الإنسان في جوهره ربَّاني، هي حقيقة عظمى أُخرى تحظى بيقين مطلق من طالب الجانب الأسمى للحياة، على الرغم من أن أولئك الذين لا يرون سوى العالم الخارجي الأدنى لا يزالون يجادلون فيها. وسنتكلم عن حقيقة وتركيب ذات الإنسان وأجساده المختلفة في الفصل المخصص للحقيقة الثانية؛ أما الآن فيكفي أن نذكر أن الربانيَّة صفة أصيلة في الإنسان، وفي ذلك يكمن الضمان لكل كائن بشري في العودة الختامية إلى المستوى الرباني.

8- مُخطَّط العقل المُدبِّر

إن أيًّا من فرضياتنا لن تكون في الغالب أكثر صعوبة على العقل العادي من النتيجة الأولى المستخلصة من الحقيقة العظمى الأولى. فعندما ننظر حولنا في حياتنا اليومية فإننا نرى الكثير من الاضطرابات، والحزن والمعاناة، إلى الحدِّ الذي يبدو فيه أن الشرَّ قد انتصر على الخير، ويبدو من المستحيل الافتراض بان كل هذه الفوضى الظاهرة هي في الواقع جزء من عملية منظمة. رغم ذلك فهذه هي الحقيقة، ويمكن إدراكها حالما نتخلَّص من سحابة الغبار الناتجة عن كفاحنا في العالم الخارجي، ورؤية كل شيء من مستوى المعرفة الكاملة والسلام الداخلي.

عندئذٍ تُصبح واضحةً الحركة الحقيقية للآلة المُعقَّدة. وسنرى حينها أن ما كان يبدو تياراتُ شرٍّ معاكسة تتغلب على مجرى التقدم هي مجرد دوامات تافهة، يمكن أن تُزيح لبرهة القليل من الماء جانبًا، أو تقلبات بسيطة على السطح، يبدو فيها قسم من الماء وهو يسير لوهلة عكس التيار.

لكن النهر العظيم يندفع طوال الوقت بثبات في وجهته المحددة، حاملاً معه الدوامات السطحية. وعلى هذا النحو يمضي بتوازن في طريقه تيارُ التطور العظيم، وما يبدو لنا أنها عاصفة رهيبة ليس سوى تَموّجٍ بسيط على سطحه.

إن العدالة المُطلقة تُطبَّق على الجميع فعلاً، كما تُخبِرُنا حقيقتنا العظمى الثالثة، وبالتالي فإن أية ظروف يجد الإنسان نفسه في خِضمِّها، لابد أن يعلم أنه هو وحده وليس أحد غيره من أوجدها، ويمكنه أن يعلم أكثر من هذا بكثير. وعليه الاطمئنان إلى أن شؤونه في ظل نشاط قانون الارتقاء مُنظَّمة بحيث تمنحه أفضل الفرص الممكنة كي يُطوِّر في ذاته الخصال التي هو في أَمسِّ الحاجة إليها.

إن ظروفه ليست بالضرورة تلك التي كان سيختارها لنفسه على الإطلاق، لكنها ما يستحقه بالضبط. إنها الأكثر ملائمة لتطوره، وهي لا تخضع إلا لاعتبارات متعلقة باستحقاقاته (وهي استحقاقات تفرض عليه دومًا قيودًا جدية). وقد تبتليه بكل أنواع المصاعب، حتى يتعلم التغلَّب عليها لا غير، وبذلك يُنمِّي في نفسه الشجاعة، والعزيمة، والصبر، والمثابرة، أو أية صفات أخرى يفتقر إليها. إن الناس يتحدثون في الغالب عن قوى الطبيعة وكأنها تتآمر ضدهم، بينما تقضي الحقيقة، لو فهموها فحسب، بأن كل ما يتعلق بهم مُحسوب بعناية لمساعدتهم في طريق تقدمهم.

ونظرًا لوجود خطة للعقل المدبر، فافتراض أن دور الإنسان يكمن في محاولة فهمها هو أمر لا يحتاج إلى جدال. فحتى لو كان بدافع المصلحة الشخصية، فإن المضطرين للعيش تحت وطأة ظروف معينة يُحسنون صُنعًا إذا تعرَّفوا على هذه الظروف. وعندما يصبح هدف الإنسان في الحياة مساعدة الآخرين فإن الفهم سيبقى أمرًا ضروريًا له وبدرجة أكبر، حتى يتمكن من تقديم المساعدة بشكل أكثر فاعلية.

وكجزء أكيد من هذه الخطة المُعـدَّة لتطور الإنسان فإن عليه المشاركة فيها بذكاء حالما يكون قد طوَّر وَعيًا كافيًا لاستيعابها وأحاسيس نبيلة تكفي لجعله يرغب بمساندتها. غير أن هذه الخطة المقدسة هي في الحقيقة رائعة وبديعة بحيث لا يبقى لدى الإنسان، ما أن يدركها، سوى أن يسعى بكل طاقته ليصبح مشاركًا فيها، مهما كان متواضعًا الدور الذي سيؤديه.

وللمزيد من المعلومات حول مواضيع هذا الفصل يستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب آني بيسنت المسيحية الباطنية وكتابها الحكمة العريقة، وإلى كتابي الصغير حول العقيدة المسيحية. وقد تمَّ تسليط المزيد من الضوء حول هذه المفاهيم من وجهة نظر إغريقية في كتاب المؤلف ميد اورفيوس، ومن وجهة نظر المسيحية العرفانية في كتابه شذرات من عقيدة مندثرة.

9- تركيب الإنسان

إنَّ المادية العملية العجيبة التي انتهينا إليها في هذا البلد (انكلترة) نادرًا ما تتكشَّف بمزيد من الوضوح إلا من خلال التعابير المستخدمة في الحياة اليومية. فنحن نتكلم بشكل عادي عن الإنسان بوصفه يمتلك نفسًا، وعن "خلاص" أنفسنا، وما شابه ذلك، مُعتقدين بجلاء أن الجسم المادي هو الإنسان الحقيقي وأن النفس مجرد ملحق، شيء غامض يُعدُّ من ممتلكات هذا الجسم.

ومع فكرة مُهلهلة كهذه، فليس من المدهش أن يذهب معظم الناس أبعد من ذلك بقليل في الاتجاه ذاته، ويشكِّكون في وجود النفس أصلاً. وهكذا يبدو أن الإنسان العادي غير مُتيقن في كثير من الأحيان أن له نفسًا؛ بل هو لا يعلم أن النفس خالدة. وبقائه في هذه الحالة المُزريـة من الجهل يبدو أمرًا غريبًا، فهناك الكثير من الأدلة المُتوفرة حتى في العالم الخارجي، وهي تكشف أن للإنسان كيان منفصل تمامًا عن جسده، قادر على الحياة بعيدًا عنه وهو حي، وعلى الاستمرار بدونه عندما يموت.

وإلى أن نُحرِّر أنفسنا بالكامل من هذا الوهم الغريب بأن الجسد هو الإنسان، فمن المستحيل علينا تمامًا تقييم الحقائق الفعلية لهذه المسألة. وسيكشف لنا بحثٌ بسيطٌ في الحال أن الجسم مجرد وسيلة يتجلَّى بها الإنسان ليتعامل بواسطتها مع هذا النوع المحدد من المادة الصلبة التي منها يتَشكَّل عالمنا الظاهري.

إضافة إلى ذلك، سَيكشِفُ البحث أن هناك أنواعًا أخرى من المادة أكثر شفافية، ليس الأثير الذي يتخلل كل المواد المعروفة، وقد اعترف العلم الحديث بوجوده، بل أنواعًا أخرى من المادة تتخلل الأثير بدوره، ولطافتها بالنسبة للأثير هي بقدر لطافته بالنسبة للمادة الصلبة. والسؤال الذي يطرح نفسه على القارئ هو كيف يمكن للإنسان أن يصبح واعيًا لوجود أنواع من المادة بهذه الرهافة المذهلة، وبهذا التقسيم الدقيق. والجواب هو أنه يستطيع أن يُدركها بالطريقة ذاتها التي أدرك بها المادة الصلبة، وهي أن يستقبل منها ذبذبات.

وهو يستطيع أن يستلم منها ذبذبات لأنه يمتلك كجزء منه مكونات تماثل مكونات مادة هذه الأنواع الشفافة، ومثلما يُمثِّلُ جسمه المادي وسيلته لإدراك العالم المادي والتواصل معه، فإن المكونات الشفافة تُشكِّل بداخله جسدًا يستطيع من خلاله إدراك عالم المادة الشفافة والتواصل معه، والذي هو غير مرئي بالنسبة للحواس المادية.

إن هذه ليست على الإطلاق فكرة جديدة. فنحن نتذكر أن القديس بولص[2] قد لاحظ أن "هناك جسد طبيعي، وهناك جسد روحي"، وأشار علاوة على ذلك إلى الذات والروح في الإنسان، ولم يستخدم المفردتين بالمعنى ذاته إطلاقًا، الأمر الذي يحصل عن جهل كثيرًا هذه الأيام. إن الإنسان كائن أكثر تعقيدًا بكثير مما يفترضه الناس عادة، وهي حقيقة بدأت تتكشف بشكل مُتسارع، وإنه ليس فحسب روحًا ضمن ذات بل إن هذه الذات تمتلك مركبات متنوعة ذات درجات مختلفة من الكثافة، والجسم المادي هو إحداها فقط، وأدناها في الترتيب.

هالات الأجساد السبعة للإنسان

ويمكن أن توصف هذه المركبات جميعًا بأنها أجساد ضمن علاقاتها بمستويات المادة المرتبطة معها. كما يمكن القول إن هناك سلسلة من العوالم حولنا يقع أحدها ضمن الآخر (مُتداخلة)، وإن الإنسان يمتلك جسدًا لكل واحدٍ من هذه العوالم، وبواسطته يستطيع ملاحظة هذا العالم والعيش فيه. وهو يتعلم تدريجيًا كيف يستخدم هذه الأجساد المختلفة، وبهذه الطريقة يكوِّن فكرة أكثر تكاملاً عن الكون المُعقَّد الهائل الذي يعيش فيه؛ لأن جميع هذه العوالم الباطنية الأخرى هي في الحقيقة أجزاء من هذا الكون.

بهذه الطريقة أخذ الإنسان يفهم الكثير من الأمور التي كانت تبدو له غامضة من قبل؛ فتوقف عن تحديد هويته من خلال أجساده، وعرف أنها مجرد أغطية يستطيع أن ينزعها ويلبسها ويُغيِّرها دون أن يتأثر هو نهائيًا من جرَّاء ذلك. ولابد أن نكرر مجددًا أن كل ما ورد ذِكرُهُ ليس على الإطلاق تكهنات غيبية أو آراء دينية، بل حقائق علمية مُؤكَّدة ومعروفة تجريبيًا بشكل كامل لأولئك الذين درسوا الحكمة الإلهية.

وقد يبدو الأمر غريبًا للكثيرين أن يجدوا تأكيدات دقيقة تحلُّ محل الفرضيات بشأن مسائل كهذه. إننا نتحدث هنا عن أمور عُرفت عن طريق الملاحظة المباشرة والمتكررة من قبل عدد كبير من الطلاب. ونحن نعلم بالتأكيد عن أي شيء نتكلم، ليس عن إيمان بل عن تجربة، ولهذا السبب نتكلم بثقة. وقد جرت العادة أن نسمِّي هذه العوالم الباطنية أو المستويات المختلفة للطبيعة بالمجالات. فالعالم المرئي نسميه "المجال المادي"، مع إننا نضع تحت هذا الاسم أيضًا الغازات ومختلف درجات الأثير.

ترجمة: حكيم رشيد

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  العقل المدبر: هو الروح أو الملاك المسؤول عن تكوين المجموعة الشمسية، وإدارة شؤونها، والإشراف على تطور مكوناتها وكائناتها. كذلك يسمى العقل المدبر الشمسي أو المدبر الشمسي.

[2]  القديس بولص: وُلد القديس بولص في السنة الخامسة من القرن الميلادي الأول وتوفي في سنة  67 منه؛ ويُعدُّ الأكثر تأثيرًا بين مُبشِّري المسيحية الأوائل. والكتابات التي تُعزى إليه تُشكل جزءًا مهمًا من العهد الجديد. وقد كان للرسائل الإنجيلية المنسوبة إليه تأثيرًا مهمًا على الفكر المسيحي.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني