مختارات من كتاب "نضال عنفي أو لاعنفي"

 

كوستي بندلي

 

الفصل الثاني

مبررات النضال اللاعنفي

أولاً: على الصعيد المعنوي:

-       التجانس بين الوسيلة والغاية.

ثانيًا: على الصعيد الاستراتيجي

1. النضال اللاعنفي يسمح بمواجهة تفوُّق الخصم بالسلاح.

2. النضال اللاعنفي يسمح بأوسع مشاركة للشعب في عملية تحريره.

النضال اللاعنفي ينبغي بشأنه التمييز بين مستويين: فالمستوى الأعمق وهو مستوى الموقف الروحي اللاعنفي، موقف صعب المنال لأنه يفرض استعداد المرء لأن يحتمل القتل دون أن يقدم من جهته على قتل خصمه. لذا فإنه موقف يقتصر على نخبة تتلقى التدريب الطويل كي يتسنَّى لها أن تقوم بقيادة هذا النمط من النضال. ولكن هناك، إلى جانب الموقف الروحي اللاعنفي، خطة نضالية لاعنفية، يستطيع أن يشارك فيها الجميع حتى إذا لم يبلغوا بعد إلى المستوى الروحي.

يقول أدولفو بيريز اسكويفل، وهو من قادة هذا النضال:

...اللاعنف هو قوة الناس الذين لا حول لهم، إنه سلاح الفقراء. لذا فهو في جوهره شعبي وشراكي. إنه ليس نضالاً تخوضه نخبة...

...من هنا نرى أن هذا الخيار أقرب إلى الديمقراطية، أنه يحترم القاعدة الشعبية، أنه يستند إلى قدرة البسطاء على الإبداع، وخاصة أنه أكثر فعالية لأنه يدرج عددًا أكبر من الأشخاص في دينامية التحرير التاريخية.

إن أدهى ما تعاني منه الجماعات المغلوبة على أمرها هو شعورها بالعجز والانتقاص، وهي بسبب من ذلك تتبنَّى رأي المتسلطين بها وحكمهم عليها بالدونية، ذلك الحكم الذي يبررون به تسلطهم من جهة ويدعمونه من جهة أخرى إذ يوهمون الخاضعين لهم بصحته فيعطلون بذلك قدرتهم على الانتفاض والمقاومة، والمقهورون موضوع قابل، كما رأينا لتقبل هذا الوهم نظرًا للوضع الدوني الذي يعانون منه ولاستعدادهم لقبول ما يصدر عن القوي من أحكام... أما النضال اللاعنفي فإنه على قدر مشاركة الجماهير العريضة فيه، يعيد لتلك الجماهير – وليس لمن يناضلون باسمها فحسب – الشعور بقيمتها وقدراتها.

يقول مارتن لوتر كينغ إن النضال اللاعنفي يحوِّل قلوب الذين يلتزمونه ونفوسهم إذ

يمنحهم احترامًا جديدًا لأنفسهم ويستدعي فيهم أرصدة من القوة والشجاعة لم يكونوا يدرون أنهم يمتلكونها.

تلك الثقة بالنفس وذلك الشعور بالمسؤولية اللذان تكتسبهما الجماهير عبر نضالها اللاعنفي المباشر، من شأنهما لا أن يحرراها من التسلط الحاضر الذي تنوء تحته وحسب، بل وأن يجنباها أيضًا خطر الوقوع تحت نير أي تسلط جديد، حتى ولو شاء البعض أن يفرضوه عليها باسم شعارات التحرير عينها.

3. النضال اللاعنفي ينزع من المتسلطين ذريعة القمع ويثير الانقسام في صفوفهم

طبيعة النضال اللاعنفي تفضح ظلم الظالمين وتحرجهم. من هنا حرص هؤلاء على استدراج المناضلين إلى العنف، الذي هو مجال الظالمين الطبيعي والذين يشعرون أنهم فيه متفوقون. هكذا نفهم هذه الملاحظة التي أبداها سكرتير الجنرال سمطس لغاندي عندما كان هذا يناضل عن حقوق الهنود في أفريقيا الجنوبية، إذ قال له:

كثيرًا ما أتمنى أن تلجأ إلى العنف كما يفعل المضربون الإنكليز. فلو حصل ذلك لعرفت حالاً كيف أقضي عليك.

من الجدير بالذكر أن الفئة التي تتمتع بامتيازات ظالمة قد تتشنج في التشبث بسلطتها وفي الدفاع عنها بشتى الوسائل إذا ما شعرت بأن المظلومين، في حال تسلمهم الحكم، سوف ينتقمون منها شرَّ انتقام ويسعون إلى تحطيمها جسديًا ومعنويًا. هذا يحصل خاصة إذا كانت هذه الفئة الحاكمة تشكل أقلية بالنسبة لجماهير المحرومين. وقد يدفعها الخوف، خاصة في هذه الحال إلى رصِّ صفوفها، بحيث يضطر الذين يحالفون الظلم في تلك الصفوف إلى التخلي عن معارضتهم والتكتل مع جماعتهم للدفاع عن وجودها المهدد بالزوال، أما النضال اللاعنفي، فإنه إذا مورس على حقيقته، يوحي للخصوم بأنه إنما يسعى إلى إزالة الظلم لا إلى تدمير الظالمين، وأنه خالٍ من روح التشفي والانتقام، وأن القائمين به، إذا ما وصلوا إلى تسلُّم الحكم فإنهم سوف يمارسونه بهدف إنصاف ظالمي ومظلومي الأمس على حد سواء.

لقد أكد النضال اللاعنفي من خلال إخماده للخصم ذريعة الدفاع عن النفس وبتوجهه القوي الصادم إلى عقله وقلبه وضميره وجعله يتناسى البزَّة العسكرية وما تمثله من خضوع أعمى للأوامر ويتصرف ببساطة بموجب الفطرة البشرية السليمة.

إن النضال اللاعنفي يفترض رأي أحد الشاهدين الجمع بين الصلابة وبين احترام الخصم والمراهنة على الإنسانية الكامنة فيه والتي ينبغي العمل على إيقاظها.

الفصل الثالث

أساليب النضال اللاعنفي

كتب غاندي:

... إن الإمكانات الهائلة التي تحويها (شريعة اللاعنف) لم تُستكشف بعد.

أولاً- تحليل الأوضاع

من الأهمية بمكان أن ينطلق النضال اللاعنفي من معرفة صحيحة لأوضاع الجور التي يقوم للتصدي لها. فعلى صدق التحليل تتوقف مصداقية النضال. من هنا أهمية تحليل الأمور بعقلانية وموضوعية.

فإذا حرص قادة الحركة النضالية على عدم تأكيد أي أمر ما لم تتوفر لديهم الحجج الكافية لدعمه وتبريره، فإنهم بذلك يدعمون مواقعهم دعمًا قويًا في الصراع الذي يتأهبون لخوضه.

ثانيًا: اختيار الهدف

على الهدف أن يتمتع بالصفات الثلاثة التالية: أن يكون واضحًا ومحدودًا وممكنًا ولابد بهذا الصدد من التمييز بين المرغوب والممكن فإنه من الأهمية بمكان أن تنجح الحركة في بلوغ هدفها، وذلك كي يتسنَّى للذين كانوا حتى ذلك الحين راضخين للقهر المتحكم بهم، أن يعوا قدراتهم ويستعيدوا ثقتهم بأنفسهم.

ومن الجدير بالذكر أن النضال اللاعنفي لا يعتمد قاعدة المطالبة بالمستحيل للحصول على الممكن. إنه لا يتبع خط المساومات إنه يطلب الحد الأدنى الذي تسمح به الأوضاع الراهنة ولكنه يتشبث بتحقيقه ولا يرتضي عنه أيَّ تنازل. حتى إذا ما ناله أقدم على خطوة أخرى أكثر طموحًا من الأولى، وهكذا دواليك.

والمثال على ذلك ما قام به غاندي وهو التركيز على موضوع احتكار الملح من قبل السلطات المستعمِرَة، فقام بمسيرة الملح الشهيرة. من هنا التجاوب العارم الذي أبداه الشعب الهندي مع الحملة التي نظمها غاندي والتي شكَّلت لهذا السبب حلقة هامة من حلقات كفاح الهند من أجل استقلالها.

ثالثًا: المفاوضات الأولى

ينبغي لهذا الغرض أن يتمَّ إبلاغ ممثلي الخصم نتيجة تحليل الأوضاع إلى جانب إطلاعهم على مطالب الحركة أن يُعطوا علمًا بالهدف الذي تقرَّر السعي إليه. وهذا ينبغي، منذ تلك المرحلة تحاشي كل موقف ينمُّ عن حقد على الخصم أو احتقار له. فإن كلَّ تشنُّج في مواجهته من شأنه أن يزيد من حدة الصراع وأن يدفع الخصم إلى مزيد من التصلُّب وأن يجعل الحلُّ أعسر منالاً. على العكس ينبغي محاولة إفهام الخصم بأن الحلَّ المنشود إنما هو لصالحه أيضًا لأن من شأنه أن يعالج التأزم الراهن الذي لا يستفيد منه أحد وأن يشيع جوًا من التفاهم يرتاح إليه الجميع. إلا أن الكياسة الواجبة حيال الخصم لا تعني بحال من الأحوال تذبذبًا في الموقف حياله، إذ لابد لهذا الموقف أن يتسم، منذ مرحلة المفاوضات الأولى بأكبر قسط ممكن من الصلابة والتصميم.

إنما ينبغي أن لا يُكتفى بحال من الأحوال بالعبارات الجميلة أو الوعود، فالمطلوب قرارات كفيلة وحدها بأن تدفع قادة التحرك اللاعنفي إلى تعليق التحرك الذي ينوون إطلاقه. وحدها هذه القرارات تعطي لعبارات الخصم ووعوده المصداقية التي تجعل منها موضوع ثقة لا تشوبها شائبة. وإذا ما وصلت المفاوضات الأولى إلى طريق مسدود – وهذا ما يحصل في غالب الأحيان – فينبغي لقادة الحركة النضالية أن يعلقوها لا أن يقطعوها نهائيًا، إذ إن التحرك نفسه إنما يهدف، في منظور النضال اللاعنفي، إلى الضغط على الخصم بغية حمله إلى العودة إلى التفاوض من هنا فائدة الحرص على أن تبقى الصلة مع الخصم قائمة قدر الإمكان طوال امتداد مرحلة الصراع.

رابعًا: التوجه إلى الرأي العام

بعد فشل المفاوضات الأولى، ينبغي رفع الخلاف إلى الرأي العام لتوعيته إلى المظالم القائمة ووضعه أمام مسؤولياته حيالها. هذه التعبئة للرأي العام تتم عن طريق وسائل متنوعة.

1.    الإعلانات والاتصالات

-       منبر الصحافة

-       الاتصال بالهيئات والشخصيات

-       النشرات والملصقات والكتابات الجدرانية

2.    التظاهرات

من الأهمية بمكان أن يشارك في هذه التظاهرات من هم الضحايا المباشرة للظلم المستهدَف، بحيث تتاح لهؤلاء فرصة إدراك قدرتهم والتغلب على مخاوفهم وتنمية إرادتهم النضالية.

3.    العرائض

4.    المسيرات

5.    الإضراب المحدود عن الطعام

هذا النمط من الإضراب عن الطعام يمتد على فترة تتراوح بين 3 و20 يومًا ينبغي الاستعداد لها نفسيًا وجسديًا. ومن باب هذا الاستعداد الامتناع قبل عدة أيام، عن كل تعاطٍ للكحول واللحم والتبغ والقهوة. كما أنه ينبغي الاكتفاء بتناول كمية قليلة جدًا من الطعام قبل بدء الإضراب وبعد انتهائه وأن يقتصر هذا الطعام خاصة على الفواكه والحبوب. هذا وينبغي للمضرب عن الطعام أن يشرب ماءً عدة مرات في كلِّ يوم.

خامسًا: توجيه الإنذار الأخير إلى الخصم.

سادسًا: العمل المباشر.

1.    منطلق هذا العمل: مبدأ رفض التعاون مع السلطة المباشرة

رفض التعاون هذا ينبع من القناعة بأن عنف الظالِم لا يمكنه الاستمرار لولا تعاون الضحايا معه. قال غاندي:

إنني مقتنع تمامًا بأن لا أحد يفقد حريته إلا بسبب ضعفه الذاتي

وأيضًا:

مستحيل على أية حكومة، حتى إذا كانت أكثر الحكومات استبدادًا، أن تبقى في الحكم إلا بموافقة المحكومين. صحيح أن المستبد كثيرًا ما ينتزع لنفسه بالقوة موافقة الشعب. لكن، حالما يتجاوز المحكومون خوفهم من الطاغية، ينهار حكم هذا الأخير.

وقد أكد أحد المعارضين السوفيات خطورة الرضوخ في تثبيت الحكم الجائر بقوله:

لقد فهمنا حقيقة كبرى، ألا وهي أن ما ينشئ الحكم ليس هو البندقية وليست هي الدبابات، وليست هي القنبلة الذرية، فالحكم لا يقوم على هذه كلها. الحكم ينشأ من مطاوعة الإنسان من كونه يقبل أن يطيع.

كما يذكر أحدهم ما يلي:

ليس المقصود هو التخفيف من مسؤولية المضطهِد بل أن نعي أيضًا مسؤولية الضحايا. إن عنف المضطهِد وتعاون الضحايا سواء أكان ناشطًا أو فاترًا، طوعيًا أو كرهيًا، إنما هما العنصران اللذان لا مناص منهما لإنشاء وضع تسلُّط.

2.    أشكال هذا العمل:

رفض التعاون هذا مع السلطة الجائرة قد يتخذ شكلاً سلبيًا إذ يقتصِر على مجرد الإحجام عن أعمال يحتاج إليها الخصم ليتسنى له الاستمرار في ظلمه دون عائق. هذا ما نسميه "أعمال المقاطعة" وهناك شكل أقرب إلى التحرك الناشط، يتضمن المواجهة المباشرة للخصم بالإقدام على أعمال محرجة له. هذا ما نسميه "أعمال المبادرة".

1.    أعمال المقاطعة

أ-شل كل نشاط جماعي: لقد لجأ غاندي عدة مرات إلى هذا الأسلوب الذي يسمى بالسنسكريتية "هرتال" وهو عبارة عن يوم إضراب شامل يُطلَب من جميع السكان أن يقاطعوا فيه أماكن العمل والشوارع وأماكن اللهو وأن يلبثوا في منازلهم. وقد يُعتمَد الـ"هرتال" لافتتاح حملة من العمل المباشر، فيكون عند ذلك تعبيرًا عن تصميم الناس على متابعة النضال حتى الاعتراف بحقوقهم واحترامها، كما أنه يترجم وحدتهم وقدرتهم على الانضباط الطوعي.

ب- إعادة الألقاب والأوسمة: إن إعادة الألقاب والأوسمة إلى السلطة التي منحتها، تعبيرًا عن رفض التعاون مع سياستها الجائرة، هذا العمل لا يؤثر مباشرة في ميزان القوى المتجابهة. إنه، أساسًا، عمل رمزي، ولكنه بهذه الصفة بالضبط قد يكون له وقع كبير على الرأي العام.

ج- الإضراب: ومن أبلغ الشواهد على فاعلية الإضراب اللاعنفي، ذلك الإضراب الذي قام به عمال معمل الترابة في بيروس بالبرازيل. هذا، وللتعبير عن روحية كفاح هؤلاء العمال، ليس أبلغ من ذكر هذا المقطع من رسالة وجهوها إلى رفاقهم العمال:

علينا أن نبيَّن أنه يمكن للمرء، بعيدًا عن الحقد والمناورات الخبيثة، أن ينمو من الداخل، أن يصبح أكثر إنسانية. أن يصبح أكثر إنسانية بدفاعه عن الحق والعدل. أن يصبح أكثر إنسانية بتعلمه التمييز بين الشخص وأعماله. وكما أن المرء يلقِّن أحيانًا لأولاده درسًا لأنه يحبهم ويريدهم أن يسيروا في الدرب المستقيم. هكذا فنحن لا نريد شرًا (لربِّ العمل). إن له أيضًا أسرته التي تستحق احترامنا. إن كان قد عوقب حسب المقتضى، فلسوف يحفظ الدرس ويصبح أفضل مما كان. هذا ما نريده. نريد أن يصبح كلُّ إنسان أفضل مما كان. يومًا بعد يوم، ببطء ناميًا من الداخل، دون أن يتزلف لأحد" كلنا أخوة، بالأمس، واليوم، وغدًا. نحن نعلم أننا لن نجد السلام إلا حيث تسود العدالة، أي احترام كلِّ البشر، الذين لهم الحق في حياة لائقة لهم ولأسرتهم.

د- مقاطعة السلع والخدمات:

- مثال مقاطعة المنسوجات البريطانية بقيادة غاندي

- مقال مقاطعة أوتوبيسات مونتغومري بقيادة مارتن لوثر كينغ

- مقاطعة العنب بقيادة قيصر شافيز

هـ - الرفض الجماعي لتسديد الضرائب:

-التصدي لضريبة ظالمة

-الاحتجاج على سياسة جائرة

2-أعمال المبادرة:

أ-الاعتصام: الاعتصام ويُدعَى بالإنكليزية "sit-in" وهي عبارة ترجمتها الحرفية "الجلوس في" هو احتلال الأماكن التي هي ملك الخصم والجلوس فيها بغية فرض الذات عليه كطرف لابد من التفاوض معه، ومن أجل إرغامه على الاعتراف بالحقوق التي رفض حتى ذلك الحين أخذها بعين الاعتبار.

وقد يتخذ الاعتصام شكل إعاقة المرور أو النشاطات بغية عرقلة أعمال السلطة الجائرة. وقد استعملت هذه الطريقة في إطار الإضرابات العمالية بحيث يقطع العمال المضربون الطريق بأجسادهم فيحولون دون وصول غير المضربين إلى مكان العمل.

ب-العصيان المدني: العصيان المدني هو عبارة عن تعمُّد خرق القوانين الجائرة التي تفرضها السلطة، وذلك بقصد إبطال مفعول هذه القوانين من جراء عدم تنفيذها. ينطلق العصيان المدني من هذا المبدأ أن القانون جدير بالاحترام طالما أنه في خدمة العدالة وطالما أنه يحمي حقوق أفقر الناس حيال المقتدرين. أما إذا استخدم القانون تغطية الظلم وتبريرًا له، فالمواطن المخلص يشعر بأنه لم يعد يحق له أن يذعن له، وبأن نفس احترامه للقانون يعطيه الحق، لا بل يفرض عليه الواجب، بأن يخالف تلك القوانين الممسوخة التي تخون فحوى القانون الأصيل وروحه.

الخلاصة

-       النضال اللاعنفي يبدو الصيغة الأفضل لأنه يحقق الانسجام بين الهدف والوسائل ويستبق تحقيق الهدف عبر الوسائل عينها. إذ إن وسائله تتَّسم بقدر ما تسمح به ضرورات الصراع الذي لا يأنف النضال اللاعنفي من خوضه كما أشرنا – بطابع الهدف التي تسعى إليه، ألا وهو الإخاء وانتفاء العدوان.

-       مع ذلك لا يجوز إضفاء صفة الإطلاق على النضال اللاعنفي بحيث يُنتفَى مبدئيًا وقطعيًا كلُّ سبيل عنفي للنضال.

-       إن الخيار بين الأساليب العنيفة أو اللاعنفية للنضال لا يمكن إذًا أن يقوم على مجرد الموقف المبدئي، بل ينبغي أن يراعي أيضًا ضرورات الواقع.

-       يبقى أن قيام تيارات النضال اللاعنفي وانتشارها في عالم اليوم له أهمية بالغة من حيث تأثير هذه التيارات على مجمل حركة النضال من أجل العدالة.

*

ملحق

مثال يسوع

لقد كان سلوك يسوع نموذجيًا بالفعل من حيث توفيقه بين محبة الأعداء من جهة ومكافحة الشرِّ الساحق للإنسان من جهة أخرى.

السبب التاريخي لموت يسوع إنما كان تصدِّيه بجرأة بالغة للحكم الديني في عهده، ذلك الحكم الذي كان يتخذ من الله ذريعة لسحق الناس وإذلالهم. حيث نرى يسوع يفضح موقف الحكم الديني الذي شوَّه وصية السبت خدمة لأهدافه التسلطية اللاإنسانية، محولاً إياها من تعبير عن رحمة الله للإنسان ورغبته في تحريره من عبودية العمل والكسب، إلى قيد يحول دون مدِّ يد المساعدة لمن هو بحاجة إليها في يوم السبت. يسوع تصدى بجرأة نادرة لهذا المفهوم التسلطي للدين، الذي يجعله عدوًا للحياة وحاجزًا بين الإنسان وأخيه. وإذا بالفريسيين، أصحاب النفوذ الديني، يتآمرون مع الهيرودوسيين، أنصار الحكم المدني الجائر، ليقضوا على ذلك الذي كان يعلن بالقول والعمل وجوب تسخير الشريعة والحكم لخير الإنسان، لا تسخير الإنسان لتوطيد سلطان المقيمين على الشريعة وأرباب الحكم.

تصدِّي يسوع لمستغلِّي سلطانهم الديني اتخذ أحيانًا شكلاً حادًا: مثلاً طرد الباعة الذين حولوا بالتواطؤ مع الأحبار بيت الله إلى بيت للتجارة. أو عند توبيخه العلني للكتبة والفريسيين: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون...". إلا أن صراع يسوع ضد هؤلاء لم يتخذ فقط شكل التشفِّي والانتقام والحقد والاحتقار. بل كان يسوع يسعى حتى النهاية إلى توعية ضمائرهم النائمة، ولم يكن تعنيفه لهم سوى تعبير عن محبة تقصد إحداث صدمة فيهم تؤول إلى تنبيههم عن غفلة الاكتفاء بأنفسهم.

ولما صمَّم خصوم يسوع على قتله ذهب في محبة الأعداء إلى أبعد الحدود، فلم يرتضِ أن يعامل أعداءه كما كانوا مزمعين أن يعاملوه. وهكذا تحققت فيه ما قالته المفكرة الفرنسية سيمون فايل التي فهمت وعاشت المسيحية بعمق مدهش بعد أن اهتدت إليها آتية من الإلحاد:

من يتسلَّح بالسيف يهلك بالسيف. أما الذي لا يتسلَّح به فإنه يهلك على الصليب.

ولما بلغ الخصوم منه مأربهم وعلقوه على الصليب، عبَّر، فيما كان يعاني آلامًا مبرحة، عن غفرانه لقاتليه: "يا أبتِ إغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون"، هكذا صارع يسوع الشرَّ دون أن يدع له أي مجال للتسرب إليه، لأنه ميَّز حتى اللحظة الأخيرة بين الإنسان وبين الشرِّ الذي يرتكبه. وبقي حتى النهاية موليًا محبته ورجاءه لذلك الإنسان. هكذا فلم يكن لغير الحياة مكان في حياته ولم يجد فيه الشرُّ عدوُّ الحياة أيَّ تواطؤ.

وإنما قيامة يسوع أعلنت انتصار الحياة النهائي على الشرِّ والموت. وأعطت لكلِّ صراع مع الشرِّ والظلم يقين الانتصار النهائي شرط أن يترفع من يخوض هذا الصراع كما ترفع يسوع عن كلِّ تواطؤ مع الشرِّ وانحياز إلى منطقه.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني