مسامرات مع الشيطان 5

 

كاري الجويني

 

حبست أنفاسي، ها هو يتطرق لما حدث في ذلك اليوم المشهود.. واستيقظت في عروقي كل دمائي الآدمية فجأة. لم أنسَ بعد أنه لم يسجد يومها ولن أسمح له بالإنكار تحت أية ذريعة.

"حين نفخ الرب من روحه في آدم جعل منه سدرة المنتهى متى أدرك أنه قطرة المحيط... منها ينشأ وفيها ينتهي، وأنه متى تأمل في مركزه رأى الكل منه وفيه انعكاسات له في شتى الاتجاهات والأشكال والأماكن والزوايا... فهو ليس بأفضل من ظلٍّ باهت ولا أسوأ من شعاع منير. إلا أن آدم يومها كان تحت خيلاء أناه الذي أعماه عن حقيقة الموقف وخُيِّل له بزهو أنه السيد وكل المخلوقات عبيد".

أوشكت أن أنطق حين اختطف الكلام من فمي: "نعم لهذا رفضت السجود له يومها. لن أسجد لمن غيَّبه الزيف عن الحقيقة..".

"لكنك قلت سابقًا إن أناك كان وراء رفضك حينها" انبريت في تحدٍّ أذكِّره.

"لن أنكر.. لوهلة كان كبريائي لا يسمح لي. لكن لحظة ابتسم الرب بعتب من يعلم أن تلميذه النجيب تفلت منه الحكمة لثوان قائلاً "كيف تتكبر يا إبليس؟"، أدركت أنه يريد مني أن لا أكرر خطأ آدم حينها. وانتبهت لذلك لكنني لم أتراجع. قلت له: "إنني لن أسجد له وهو في غفلة. إنني أمجد الزيف الذي يعمي بصيرته حينها". قال لي: "أتركه لمصيره سيعلم يومًا ما أن خيلائه بوحدانيته خادعة". قلت له: "سيتوه طويلاً حتى يعلم هذا، انظرني أن أنبهه". قال لي: "إنه لن يسمعك قبل أن يجرب كل دروبه وتحفى أقدامه في مسالكها ويدميه شوك عناده". قلت: "سيأتي جيل من ذريته تفلس معه أفكار آدم الأب ويتسائل أين الخطأ. دعني أكن مرشدًا لهم. وساجدًا عند أقدامهم بكل فخر. فأنظرني لذلك النزر والحين"".

غمرني صمت كثيف قبل أن أجد نفسي أنطق من جديد: "كدنا ننسى الشجرة حدثني عنها".

"إنها ثابتة المظهر لكنها ليست بجامدة، فهي ممتدة الأطراف متحركة لا تهدأ ولا تكل. إن كل زائر لها يترك منه فيها أثره لذلك يصبح منها وفيها، لذلك إنْ رحل فهو باق في أعماقها ولا يوجعها فراقه. وهو يحمل منها في رحلته لكل مكان شيئًا منها يتماهى مع الطبيعة ويمنح الحياة أينما كان. إنها تعلم أن كل الكون يتحرك من حولها بعد أن شهدت تحركه في أعماق جذورها. أحست وشعرت بسريان قشعريرة التغيرات تغمر شعيرات جذورها وباركتها مياهها المتدفقة في عروقها لتجعل منها حقيقة تعلمها جذوعها العليا قبل أن تراها بعين أوراقها.

إنها تدرك أنها لامتناهية الخلايا لكنها في اتصال ووعي وإدراك تام لكامل جزيئاتها، لا تغفل لحظة عن الإنصات إلى أدنى شعيرة في تخوم الأرض، ولا التهليل لتصفيق ورقة في أخمص جذع صغير في أعالي السماء. إنها تدرك أنها خلية حياة كبيرة ضمن لانهاية من الخلايا الحية في الكون لكن لا يزيغ بصرها لحظة عن استشعار طاقة الحياة فيها مهما تعددت الإغراءات. وباتصالها الدائم مع ذاتها تعلم أنها قادرة على شفاء كل أسقامها والتجدد في كل آن وحين. وتدير مملكة أثوابها التي تخلعها بتوالي العصور غير آبهة لما يسميه البشر وقع الدهر والسنون، فهي غافلة عن متابعة تقويم الزمن، فهي متابعة وفية لكل تقمصاتها النابضة بالحياة، مستمتعة باندهاش أنها قادرة على الخلق والإبداع والاستمرار بشكل أجمل وأجمل خلقًا بعد خلق، لذلك هي لا تسأم من خلودها ولا من تعميرها..".

لمعت في عيناه سخرية لفكرة راودتني للحين.. "أظنني أدرك الآن لماذا لم يرتح آدم كثيرًا في الجنة" وانفجر كلانا ضحكًا بصفاء.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني