ثقافة الوكيل

 

لويسيانو فلوريدي

ترجمة: ديالا القاموع

 

نحن لا نبحث عن فندق بشكل شخصي، بل نعتمد على موقع خدمة "تريب أدفايسر TripAdvisor". وقد لا نلتقي بشخص أبدًا رغم أنه أحد أصدقائنا في عالم الفيس بوك. وقد نضع "أعجبني" كنوع من الدَّعم في العالم الافتراضي الذي ليس له في الغالب أثر واقعي ملموس. وليس ثمة مشكلة في ألّا تمتلك دليلًا للوصول إلى مكانٍ ما في وسط المدينة ما دامت خرائط غوغل متاحة لك وتعطيك الإرشادات. وقد تكون النجوم الخمسة التي تضعها شركة أمازون على منتج معيَّن كافية لإقناعنا بجودة هذا المنتج حتى لو لم نجرِّبه بأنفسنا. وأن تكون أفضل بائع في قائمة "أفضل البائعين best seller لدى نيويورك تايمز" فتلك نبوءة ذاتية التحقق عادةً.

في جميع هذه الحالات هناك شيء يدعى "الدال" يشير إلى شيء آخر هو "المدلول" ومثل هذه الدلالة هي في قلب كل عملية دلالية وسيميائية. إنها العلاقة البالغة الأهمية للتمثيل ولا يوجد أي إدراك أو صلة أو معنى من دونها. على هذه الشاكلة ساعدنا أنفسنا دائمًا بواسطة أنواع مختلفة من وسائل الدلالة من أجل التفاعل مع بعضنا بعضًا ومع العالم من أجل خلق معنى لكلينا. فنحن، البشر، النوع الحي الرمزي بعد كل شيء، ويمكن قراءة فلسفة القرن العشرين بسهولة من ناحية نظرية الدلالة سواء أكانت موجهة بشكل تأويلي أو مرتكزة على فلسفة اللغة. النقطة هنا هي أن ثقافتنا الخاصة – الثقافة التي تميز مجتمع المعلومات الناضج – تتطور حاليًا من كونها ثقافة علامات ومضمون إلى ثقافة وكلاء وتفاعل.

ما الفرق؟ ماذا يحدث اليوم؟ ماهي الآثار المترتبة على مثل هذا التحول المهمِّ؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يحتاج المرء إلى فهم أفضل لمعنى الوكيل والوكلاء "المنقوصين".

لنبدأ من فكرة الوكيل، ففي الكنيسة الكاثوليكية يمثل القس عادةً نائب المطران.. الاعتياد الطويل لهذا الدور يقودنا إلى فكرة "البديل" الذي هو عبارة عن شيء يُفعل من أجل شيء آخر وبالتالي يكون مفوضًا عنه. إن فكرة الوكيل مشابهة مع فارق جوهري أن جذورها سياسية وليست دينية، وهي ترخيم من اللفظة الإنكليزية الوسيطة procuracy التي تعني "عمل مشروع يؤدَّى بالنيابة عن شيء آخر ضمن سياق الحكومة أو بنية اجتماعية سياسية، على سبيل المثال: عندما يُزوَّج شخص عن طريق وكيله.

اليوم ، وبتعبير أشد تأثرًا بتكنولوجيا المعلومات من الأفكار السياسية أو الدينية فإن مصطلح "الوكيل proxy" يمكنه أن يستدعي أفكارًا بشأن نُظُمٍ مثل الإنترنت، وبالتالي فإن المعنى والعبارة الضمنية متشابهان جدًا "vicariously" أو "by proxy" كلاهما يخوِّلان الأفعال الممكنة لشيء يمثل شيء آخر ويستبدله، أي: يتصرف عنه أو بدلًا منه.

ولننظر في فكرة "الوكيل المنقوص"، ولسوء الحظ اكتسبت كلمة "منقوص degenerate" معنى تقويميًا سلبيًا ليس بالضرورة أن توحي به بحد ذاتها، ففي هذا السياق أعتزم استخدامها بالمعنى الرياضي المحض للحالة المنقوصة التي تكون حالة حدِّية تمكِّن العنصر من تغيير طبيعته والانتماء إلى أخرى غالبًا ما تكون أكثر بساطة. (مثال: النقطة هي حيز منقوص، حجمه معدوم يتم استخراجه عندما يصل قطر الكرة إلى الصفر). يمكن أن يتبنَّى المرء هذه البنية الخيالية ليخلق معنى الوكلاء المنقوصين.

ندعو P وكيلًا لـ   Rفقط إذا كان P بديلًا لـ R ويمكنه أن ينوب عنه. لندعو هذه العلاقة المضاعفة علاقة البديل. إذا كان  Pيمتلك علاقة البديل مع R (أي أنه وكيل له) مع مقدرة معدومة على تمثيله فإن P هو وكيل منقوص يمكنه تمثيل R لكن لا يمكنه أن يعمل مكانه أو يتصرف بالنيابة عنه، مثل هؤلاء الوكلاء المنقوصين هم علامات.

بالمثل، إذا كان P يمتلك علاقة بديل مع R مع مقدرة معدومة لتمثيل R فإن P هو نوع من أنواع الوكلاء المنقوصين بحيث يمكن فقط أن يعمل مكان R أو يتصرف بالنيابة عنه لكن من دون أن يشير إليه. مثل هؤلاء الوكلاء المنقوصين هم: بدائل. لأفصِّل الأمر:

وفقًا للتحليل الكلاسيكي لـ تشارلز ساندرز بيرس، يمكن للمرء أن يميز بين ثلاثة أنواع من العلامات:

الأولى: الأيقونة icon، وهي علامات تشبه ما تمثله. (مثال: الصورة الفوتوغرافية لغيوم لسوداء هي أيقونة).

الثانية: المؤشرات indexes، وهي علامات تربط ما تمثله بشيء آخر. (مثال: الغيوم السوداء هي مؤشر على مطر وشيك).

الثالثة: الرموز symbols، وهي علامات تدل على ما تمثله بفضل بعض الأعراف. (مثال: كلمة "غيمة" هي علامة تدل على ظاهرة أرصاد جوية محددة).

في كل حالة من الحالات السابقة تمتلك الدالات (الصورة الفوتوغرافية – الغيوم السوداء - كلمة "غيمة") علاقة تمثيل أكثر أو أقل تعقيدًا مع أخذ دلالاتهم بعين الاعتبار وتجمعها حقيقة واحدة كون لا أحد منهم يمكنه أن يتصرف أو ينوب عن ما يدلُّ عليه. بكلمة أخرى: إنهم وكلاء منقوصين يمتلكون علاقة من المرتبة صفر مع ما يمثلونه رغم أخذ ما يمثلونه بعين الاعتبار. يبدو أن هناك مرحل عالمية في أي ثقافة يتم إبانها اعتبار الوكلاء المنقوصين وكلاء بشكل خاطئ من خلال التفسير السحري للعلامات. فالأيقونات والمؤشرات والرموز تمتلك، في هذه المرحلة قوة التمثيل لما تجسدِّهُ، وبالتالي تُعامل بصفة الوكلاء. على سبيل المثال: ما يفعله أحدهم للصورة الفوتوغرافية (أيقونة) لشخص آخر من المفترض أن يؤثر بذلك الشخص، وتدميه. وحتى في الحالة النادرة عندما نفعل شيئًا مماثلًا بسبب ارتفاع ضغط الدم (مؤشر) الناجم عن مرض الكلى المزمن يُفترض أن يعالج هذا التصرف المرض. كذلك إن صب اللعنات على اسم الشخص (رمز) يُفترَض أن يكون وسيلة لإيذاء ذلك الشخص.

إن الجدل اللاهوتي حول الاستحالة transubstantiation – تحويل الخبز والخمر كرمز لجسد المسيح ودمه في طقوس القربان المقدَّس - يناقش لجهة إن كان الخبز والخمر وكيلين حقيقيين أم مجرد وكيلين منقوصين للحضور الجسدي للمسيح؟ (أي: علامات).

وجدنا أنه لدينا نوع مختلف من الوكلاء المنقوصين، فعندما تمتلك علاقة البدلاء مقدرة معدومة على التمثيل يتحول الوكيل إلى بديل.

لنأخذ قهوة الهندباء على سبيل المثال، إنها قهوة كلاسيكية بديلة لا تحتوي على مادة الكافيين، لكنها تُستَخدم في تقليد القهوة والاستعاضة عنها.

قهوة الهندباء لا تمتلك علاقة سيميائية لتمثيل القهوة الحقيقية وهي ليست علامة للقهوة، بالطريقة التي هي عليها الصورة الفوتوغرافية (الأيقونة) أو الرائحة (المؤشر) أو الاسم (الرمز) للقهوة، لكنها تمتلك علاقة لتمثيل القهوة لأنه يمكنك فعليًا أخذ قهوة الهندباء كبديل للقهوة الحقيقية من الناحية النظرية من دون حتى أن تعرف أن هناك شيء آخر تمثل قهوة الهندباء بديلًا منه.

للتلخيص: الوكلاء من الناحية العملية أكثر من إشارات لأنهم دوال تنوب عن مدلولاتها وبالتالي يمكنك أن تتفاعل معهم بدلًا من التفاعل مع مدلولاتهم، وهم من الناحية المعرفية أكثر من بدائل لأنهم دوال يمكن أن تتفاعل مع ما يشيرون إليه من مدلولات تنوب عنها وبالتالي يمكنك إدراك الفرق.

لم نكن سحريين أبدًا لأن الإشارات عبارة عن وكلاء منقوصين مادام السحر هو تمامًا ما قد نغدو عليه بسبب ثقافة الوكيل.

وهذه مجازفة لأولئك الذين يرتكبون أخطاءً سحرية النتائج - من حيث إمكانية التفاعل مع الوكلاء - لغايات سحرية أو تفسيرات خارقة وفوق الطبيعة.. إلخ.

يترتب على ذلك أيضًا أن السيميائية والفرع المعرفي الذي يدرس العلامات هي حقًا دراسة لنوع واحد من الوكلاء المنقوصين الذي هو بحد ذاته فرع من فروع علم الوكلاء proxiology.

بعد أن تم تطوير الضوابط التي تدرس حقل الوكلاء بما فيه الوكلاء المنقوصين مثل الإشارات والبدائل بالإضافة إلى استخدام الوكلاء في السياق الاجتماعي.

(مثال: استراتيجيات الإشارات) وبما أن الإشارات وكلاء منقوصون فإنها تصنع معنى لرؤيا ثقافة الوكيل كتطور مباشر للثقافة السيميائية أو الرمزية أو المرتكزة على الإشارة والمعززة من قبل وسائل الإعلام في الماضي القريب.

الفارق هو أنه في عالم النيوتونية للاستهلاك بدون اتصال offline حيث يتم شراء وامتلاك البضائع المادية على نطاق واسع، كان تطوير الوكلاء صعبًا وهو أقل أهمية من أجل التفاعل مع البيئة.

لكننا نعيش اليوم في ظل شبكات الاتصال online في مناخ معلوماتي منغمس بشكل كامل في بحر لا قرار له من البيانات حيث أن تقديم الخدمات والحصول عليها مهم كامتلاك البضائع. وبالتالي يسهل استنباط الوكلاء واستخدامهم لأنهم يشاركون في البيئة الرقمية مع مدلولاتهم.

من البساطة امتلاك بنية معلوماتية تمثل بنية معلوماتية أخرى وتنوب عنها. وكذلك امتلاك مادة رقمية تعمل كبرمجيات وبيانات للبرمجيات. هذا التوحيد سهَّل ظهور ثقافة الوكيل وجعلها حيوية في تقديم حل لمشكلة خلقتها هذه الثقافة، أي التعزيز ذاتي.

تشير التقديرات إلى أن الإنسانية شغَّلت أقل من 1 زيتا بايت من البيانات في مضمار تاريخها الكلي حتى عام 2009 لكن هذا الرقم قد وصل للتو إلى 8 زيتا بايت هذا العام ومن المتوقَّع أن يصل إلى 35 زيتابايت بحلول عام 2020.

باعتراف الجميع، الكثير من البيانات المحيطة بنا قد تكون تمامًا بلا معنى أو قيمة، لكن ما يزال ثمة تردد في العقل وكمية متزايدة من المعلومات باستمرار متاحة اليوم حول أي موضوع أو أي وجه من وجوهه.

هذا معناه أن الانتقال في الفضاء المعلوماتي يزداد صعوبة في غياب الوكلاء، بالوقت نفسه ليس الوكلاء حلًا وإنما جزء من المشكلة أيضًا يُقدَّم على أنه مصدر للمزيد من البيانات التي تتطلب بدورها المزيد من الوكلاء.

والنتيجة هي أن المسافة بيننا وبين حقائق المدلولات تنمو بسرعة وبالتالي تزداد حاجتنا إلى اختزالها بواسطة الدوال التي يمكن التفاعل من خلالها على نحو إيجابي وفعَّال.

العلامات والدلالة هي ظواهر مهمة في كل ثقافة، لكن ما لدينا الآن هو ثقافة الوكيل التي تمتلك كمية تُحدِثُ فرقًا مهمًا في النوعية في حين أن التكنولوجيا صنعت علامات حقيقية محتملة لتمثيل شيء آخر.

هناك حتمًا بعض المخاطر في كل هذا كما أشرتُ أعلاه، فقد نسيء فهم علامات الوكلاء ونقع في نوع من أنواع السحر والتنجيم، أو قد نسيء فهم بدائل الوكلاء ونحتضن بعض أنواع الضحالة.

بالطريقة نفسها، كما تكون ثقافة الإشارات ثقافة ذاتية المرجع حيث أن الكلمات فيها تشير فقط إلى كلمات أخرى بشكل متكرر ولا تصل إلى العالم أو إلى مراجعها غير الدلالية، بالمثل، فإن ثقافة الوكيل قد تصبح ثقافة شيء صنعي وبالتالي يصبح الوكلاء مجرد بدائل لا تخفي المراجع الأصلية (مثال : القهوة الحقيقية) ولكن تجعل الوصول إليها صعبًا وربما مستحيلًا لأنها تحل بالكامل مكانها من دون أن تترك أي صلة متبقية بواقع بديل.

إن عالمًا لا توجد فيه قهوة الهندباء ليس عالمًا أفضل، ولكن عالمًا لا يوجد فيه سوى قهوة الهندباء هو عالم أسوأ وأكثر ضحالة. وفي الوقت نفسه يمكن أن تكون ثقافة الوكيل ثقافة مضافة تقدم فرصًا أكثر وأفضل من أجل ازدهارنا لأن الوكلاء بحد ذاتهم لديهم احتمالية التمكين المسبَق الذي لا يمكن السيطرة عليه حتى أن التجارب والتفاعلات تكون مستحيلة (مثال: كل من شركتي إستي وأمازون جعلت من الممكن بيع وشراء بضائع يدوية الصنع أونلاين وعلى مستوى العالم وليس فقط أوف لاين وموضعيًا).

وخير شاهد أن الوكيل، في الإحصاءات، غير ذي صلة بحد ذاته لأنه متغير بل إنه يخدم في مكان متغير آخر غير قابل للرصد أو القياس.

إذا تمكن الوكلاء من الخدمة مثل جسور إلى ناحية أخرى يصعب النفاذ إليها أو إلى أماكن من التجارب يتعذر الوصول إليها، بعدها سوف تصبح ثقافتنا بشأن الوكيل أفضل وأكثر تعزيزًا.

نحن الجيل البرمائي الذي ينتقل ليعيش في البيئة الرقمية، لم يتواجد جيل في الماضي أُجبر على التكيف بشكل كبير جدًا مع تغييرات عميقة مثل هذه في مثل هذا الوقت القصير.

سيكون جزء من تطورنا أيضًا مرتبطًا بكيفية تصميم الوكلاء الذين من شأنهم ملء حيزنا المعلوماتي المكتظ والتوسط في تجاربنا، وبكيفية تعلُّم التفاعل معهم بشكل صحي وسليم وكيفية التحكم بمن هو مسؤول عنهم.

هل ستكون ثقافة الوكيل ثقافة إضافية أم تتحول إلى ثقافة صنعية بديلة، ذلك أحد التحديات المفتوحة التي تواجه اليوم مجتمع معلومات ناضج.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني