التربية على المواطَنة
جان-ماري مولِّر
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
التعليم
المدرسي موجَّه إلى أطفال لم يختاروا، للوهلة الأولى، المجيءَ [إلى
المدْرسة]، وهم هنا، بمعنىً ما، "مُكرَهين ومجبَرين". مُذْ ذاك، تكاد
الحياة المدرسية أن يعيشها التلميذُ كـ "عنف" يكابده وكنظام يجب عليه
الخضوع له. التلميذ موجود هنا لـ "يتعلم"
"apprendre"،
أيْ لـ "يأخذَ" "prendre"
معرفةً تُعطى له. وعلى الطفل، حتى يكون "تلميذًا جيدًا"، أن "يتعلَّم
دروسَه" و"يؤديَ فروضَه". تُفرَض على التلميذ "فروضٌ لتحصيل "نتائج"
قلَّما تُفرَض على الراشدين. فلكي "ينجح" الطفلُ، ينبغي عليه أن
"يكدح"، أيْ أن "يبذل جهودًا" و"يتكبد مشقة". وهذا يعني أنه ينبغي عليه
أن "يتألم".
وهو يعلم أنه إذا لم يَحْصلْ على نتائجَ جيدةٍ فسوف يعاقَب. ليس
الطفلُ، إذنْ، "مُجبَرًا" على التعلم والعمل فحسب، بل مُلزَم بأن ينجح
أيضًا. ألا يريد الأساتذةُ أن "يُلقِّنوه" معارفَ نسمّيها "موادَّ"؟
وعليه، فإن التلقين inculquer
[الترسيخ في الذهن] يعني "الإقحام"، ويعني بدقة أكبر "الإدخال بالدك
بعَقِب القدم" (من الفعل اللاتيني
inculcare،
المشتق من calx
وcalcis
عقِب القَدم). إن هذا التعليم، في جزء منه لا يُختزَل، يعيشه الطفلُ
على شكل إكراه.
لقد أدان ميشيل دو مونتيني Michel de
Montaigne
بشدة مناهجَ التعليم المكثَّفة التي لا مناصَ من أن يكابدَها التلاميذ.
فاستثار قائلاً: "لا يفتأون يصرخون في آذاننا دائبين كمن يسكب في
قِمْع، وليست مهمتنا الملقاةُ علينا سوى تردادِ ما قيل لنا."
ويرى أن المربي لا يقوم بمهمته إذا كان هدفُه فقط تعليمَ الطفل دروسًا
عليه أن يتلوَها عن ظهر قلب. فالمربي لا ينبغي عليه أن يمرِّن ذاكرةَ
تلميذه بمقدار ما ينبغي عليه استدعاء فطنته: "المعرفة بالتلقين ليست
معرفة: إنها حفظ ما استُودِع في ذاكرة الطفل. ما يعرفه التلميذ حرفيًا
يردده دون أن يلتفت إلى كتابه."
ينبغي ألاَّ يكون طموحُ المربي تعليمَ الطفل فحسب، بل تربيته:
ينبغي ألاَّ يطلبَ إلى الطفل أن ينظر إلى كلمات درسه فحسب، بل إلى معنى
الكلمات وفحواها، وينبغي أن يُقدِّر الفائدةَ التي جناها ليس عن طريق
الاستشهاد من ذاكرته بل من حياته.
"التلميذ الضعيف":
إن "التلميذ الضعيف" الذي يعاني حالةَ الإخفاق المدرسي سيعيش ضغطَ
المدرسة بطريقة سيئة، وسيغذي هذا الضغطُ في دخيلته شعورًا عميقًا
بالظلم. فالتعامل مع الطفل على أنه "تلميذ ضعيف" يعني نعته بأنه "طفل
سيء". يشير برنار لومـﭙير Bernard
Lempert
إلى أن هذه الخلفية الأنثروبولوجية
القوية تشير إلى من هو في مأزق، إلى من يعاني، وكأنه حامل للشر.
إن معاملة الطفل بهذه الطريقة يعني إطلاق حُكْم تقييمي عليه يحبسه في
صورة سلبية عن نفسه تهينه وتضعه في قفص الاتهام. كذلك، فإن برنار
لومـﭙير يدين الالتباس الحاصل بين الغلط
erreur
[خطأ السهو] وبين الخطأ faute
[غلط العمد]. لماذا نتكلم، في الواقع، عن "خطأ إملائي"، في حين أن
الأمر لا يتعدى غلطًا فنيًا لا تترتب عليه أية نتيجة؟ فالطفل الذي لم
يعرف كتابةَ كلمةٍ كما يريد الكبارُ أن تُكتَب ليس "خاطئًا" في شيء.
فهو لم يفعل شيئًا سوى أنه خالفَ قاعدةً نحوية ولم ينتهك أيةَ قاعدة
أخلاقية. يمكن تصويب الغلط، ولكنْ ينبغي عدمُ لوم التلميذ. فإذا كان
هناك من مكان ينبغي فيه الاعتراف بـ "الحق في الغلط"، فلا بد أن يكون
هذا المكان هو المدرسة. يشير آلان
Alain
إلى أنه: "هنا، نخطئ ونعيد الكَرَّة؛ فالإضافاتُ الخاطئة لا تدمِّر
أحدًا هنا."
إن التعليم يعني تصويبَ الأغلاط.
"Errare humanum est"
"الغلط إنساني".
وهذا لا يعني أن الغلط إنساني فحسب، بل يعني أنه "مؤنسِن" أيضًا: إذْ
بتصحيح أغلاطه يتأنسنُ الإنسان. إن فهم الغلط ينير الفطنة ويَبْنيها.
فالمعاقبة على الغلط يعني تعَدٍّ على الحق وتنكُّر للعدالة. ولا سيما
عندما تُعطى العلامة التأديبية السيئة علنًا على مرأى جميع التلاميذ
الآخرين ومسمعهم. كذلك، فإن من حق الطفل ألاَّ يفهم. فعدمُ الفهم عند
التلميذ ينبِّهُ إلى وجوب تزويده بشرح أفضل. يعلِّق آلان أيضًا بقوله:
"من الأسهل طبعًا الاكتفاء بهذا الحكم الجزئي: "هذا الصبي ليس ذكيًا".
لكن ذلك غير مسموح. على العكس من ذلك، إن هذا هو الخطأ القاتل بحق
الإنسان والظلمُ الأساسي."
إن المدرسةَ، التي من المفترض فيها أن تكون مكانَ التمرُّس الاجتماعي
socialisation
بامتياز، تساهم هي نفسُها، من خلال الإخفاق المدرسي، في الإقصاء
الاجتماعي. فالاصطفاء الذي يجري في المدرسة هو أحد أقوى عوامل التصدُّع
الاجتماعي.
إن التحديَ الذي يجد المدرِّسُ نفسَه أمامه هو إفهام الطفل أن عملاً
كهذا "يستحق العناء" وتحريك "رغبة التعلم" بقصد أن يحوز على ما يُعطى
له وأن يختبرَ، في المحصلة، "لذةَ الفهم" ويشعر بالفرحة العارمة بأن
يصبح "فطِنًا". فالطفل، في الواقع، يمكنه أن يعيَ جيدًا أن نقل الراشد
للمعارف مرحلةٌ أساسية في بناء شخصيته. وهكذا، يكون في الإمكان التخفيف
من حدة "العنف المؤسساتي" الذي تُنزِله المدرسةُ بالتلميذ.
التعليم والتربية:
يتمفصل المشروع التربوي إجمالاً حول قطبين: التعليم والتربية. فالتعليم
هو نقلُ معارفَ تشكِّل معرفةً. هذه المعرفةُ تتعلق بوقائعَ وتلتمس
الموضوعية. التعليم إخبار: يعطي معلومةً علمية أو تقنية. يهدف التعليم،
بصورة أساسية، إلى النافع. فهو نفعي. ينقل معرفةً تتيح مهارة. ولكنْ
مهما بلغَت منفعةُ العلوم التقنية فإنها تبقى غريبةً عن القيم التي
تضفي على الحياة معنى. فالعلم لا يتيح التفكر في العنف ولا في الألم
ولا في الموت. كما أن العلم لا يساعد على التفكير في اللاعنف ولا في
الطيبة ولا في السعادة. في المحصلة، لا يفيد العلم البتةَ في التفكير
في الحياة.
يعني الفعل ربَّى éduquer،
بحسب معناه الاشتقاقي، قاد إلى الخارج (e-ducare
من ducere
قاد). ففي اليونان القديمة، كان المربِّي
pédagogue
هو العبد الذي يقود الطفلَ من منزل الأسرة إلى مدرسة المدينة (من
اليونانية paidogôgos،
من pais
أو pedos
"طفل" وagein
"قادَ"). إن هذه الخطوة "التهذيبية"
"éducative"
وذاك السَّـفَر "التربوي"
"pédagogique"
الذي يقود الطفلَ خارج أسرته لإيصاله إلى المدرسة يُعبِّر جيدًا عن أن
غاية التربية هي أن تنقل إلى التلميذ القيمَ الأخلاقية التي ستجعل منه
مواطنًا صالحًا.
المدرسة حَيِّـزٌ وسيط ومكان انتقالي بين حلقة الأُسْرة وبين العالم
الرحب. فبعد أن تؤمِّن الأسرةُ للطفل، قدرَ المستطاع، أمانًا عاطفيًا،
تكون إحدى مهمات المدْرسة جعله يكتشف مجتمعَ الآخرين وإتاحة الفرصة له
لكي "يعيش عيشًا مشتركًا" معهم. وهكذا، تكون المدرسةُ المكانَ الأمثل
للتمرُّس الاجتماعي socialisation
السياسي والمواطَني. ليست المدْرسة هي العالم، ولكنْ ينبغي على التربية
أن تهيِّئ الطفلَ للعيش في العالم. ينبغي عليها، كخطوة أولى، حماية
الطفل من العالم.
ينبغي على التربية أن يكون طموحها الرئيسي إعداد الأطفال ليصبحوا
فلاسفةً ومواطنين. وسيكون لديهم فيما بعد الوقت كله لتحصيل المعرفة
المهنية التي تتيح لهم أن يصبحوا عاملين. ربَّى يعني نقلَ
قيمًا تحمل معنىً. ينبغي هنا عدمُ الخوف من الكلمات ولا بد من القول
بجرأة: ربَّى يعني أتاح للطفل بناءَ إنسانيته. يقول آلان
Alain:
"إن عند الطفل ذلك الطموحَ في أن يصبح رجلاً؛ وينبغي ألاَّ نخدعَه."
إن الطريقة الوحيدة لعدم خداعه هي إتاحة الفرصة له لبلوغ الحرية.
ربَّى يعني، بصورة رئيسية، ربَّى على الحرية. ينبغي
الاعترافُ بأن الصعوبة بالغة. وهذه هي المفارقة الكبرى للتربية: تربيةُ
صغير الإنسان على الحرية ليس فقط بوضعه تحت التأثير بل تحت الإكراه
أيضًا. لأن التربية إكراه. والحريةُ لا تُكتسَب، بالتأكيد، بمكابدة
الإكراه، بل بالتغلب عليه. وهكذا، فإن سانت-إيكزوﭙيري
Saint-Exupéry
يقول على لسان سيد القلعة: "لم أفهم أنهم يميزون متطلبات الحرية. (...)
هل تسمِّي حقَّ التيه في الفراغ حريةً؟ (...) يطالب الطفلُ الحزين أولَ
ما يطالب، عندما يرى الآخرين يلعبون، أن تُفرَض عليه هو الآخر قواعدَ
اللعب التي تحدد وحدها شخصه النهائي."
إلا أنه لا يكفي القولُ بأن كلَّ إكراه ليس عنفًا، ينبغي التأكيد أنه
ما من إكراه تربوي إلا ويكون لاعنفيًا.
إذا كان التعليم يعلِّم "فنَّ الصنع"، فإن التربية تنقل "فنَّ العيش".
وإذا كانت "المعرفة" مهمة من أجل "المهارة"، فإن "آداب السلوك" أمر
أساسي. إن المدرسة هي المكان الذي ينبغي فيه على الأطفال أن يتدربوا
على فن "العيش معًا". ربَّى يعني علَّم قواعدَ الحياة. في
التعليم، يكون دور المتعلِّم منفعلاً بصورة خاصة: ينبغي عليه الاكتفاء
بـ "متابعة" درسٍ "يُعطى" له وبتسجيل المفاهيم التي يلقنونه إياها
وحِفْظها [عن ظهر قلب]. من حيث المبدأ، ليس لدى المعلِّم شيء يعيد
قولَه في هذا الصدد إلا إذا أخطأ. ينبغي أن يكتفيَ بالتكرار. المعلِّم
معيد. في التربية، للمتعلِّم دور فاعل. عنده كلمته ينبغي أن يقولها.
تقوم التربية على علاقة تفاعلية بين الأستاذ والتلميذ. فالتعليم
يُحبِّذ تعليمَ المعارف؛ والتربية تُحبِّذ العلاقةَ مع المتعلِّم.
يتكلم المعلِّم مع التلاميذ؛ وكذلك المربِّي، ولكنه يأخذ وقتًا ليتكلم
مع التلاميذ ويستمع إليهم.
إذا كان من المستحسن التمييز بين التعليم والتربية، فلا ينبغي قطعًا
الفصل بينهما ولا جعلهما متعارضَين. فالمعلِّم الجيد هو أصلاً مُرَبٍّ
والمربِّي الجيد هو أيضًا معلِّم. لا يجوز للمدرِّس، خاصةً في مجال
الفلسفة والأدب والتاريخ، أن يكتفيَ بالتعليم بنقل معرفة موضوعية. إن
المسألة، إذنْ، وإن ما يجب مناقشته مع التلاميذ هو معنى الوجود البشري.
يُستحسَن التشديدُ على أهمية تعليم الرياضيات في التكوين الفكري
للأطفال. فتعليم الرياضيات يساهم مباشرةً في تربية الفطنة. إن علم
الرياضيات القائم على منطق عدم التناقض ومبدأ الاستنباط يُعلِّم دقةَ
المحاكمة الضرورية للتفكير. فعندما يأخذ ديكارت "بتقييم التمارين التي
يهتمون بها في المدارس"، يقول: "أهتم بصورة خاصة بالرياضيات بسبب
يقينية أدلتها ووضوحها."
ويشير إلى أنه يأمل في أن تُعَـوِّدَ "الأدلَّةُ اليقينية والبديهية"
التي تمكَّنَ الرياضيون من إيجادها من خلال براهينهم ذهنَـ[ـه] على
التغذي بالحقيقة وعدم الاكتفاء بأدلة باطلة".
ويصل من هنا إلى التفكير بأن منهج الرياضيات لا ينبغي أن يفيد في
"الفنون الآلية" فحسب، بل أن يكون مفيدًا جدًا في اكتشاف "جميع الأشياء
التي يمكنها أن تقع تحت معرفة البشر.
يأسف ميشيل دو مونتيني Michel de
Montaigne
أسفًا شديدًا لفقدان الفلسفة مكانتَها ولعدم تعليمها للأطفال: فيؤكد:
"إنه لَمِن المستفحِلِ أنْ تصل الأمورُ إلى هذه الدرجة في عصرنا وأن
تكون الفلسفة في أذهان الناس اسمًا لا معنى له وغريبًا لا استخدام له
ولا قيمة. (...) نخطئ كثيرًا عندما نتصورها عصيةً على أفهام الأطفال."
يرى مونتيني أن من بين جميع الفنون التي يجب تعليمها للطفل ينبغي إعطاء
المكانة الأولى لفن العيش الصحيح: يقول: "لأنه يبدو لي أن الخطابات
الأولى التي ينبغي أن نغذِّيَ بها إدراكَه يجب أن تكون الخطاباتِ التي
تنظم أخلاقَه وحسَّه وتُعلِّمه أن يتعرف إلى نفسه ويعرف كيف يموت كما
ينبغي ويحيا كما ينبغي."
وبما أن الفلسفة هي التي تعلِّمنا "كيف نعيش"، ينبغي نقلها إلى الطفل.
ثم إنه بعد ذلك يأتي الوقت لتعليمه العلوم: "بعد أن نكون قد قلنا له ما
يفيد في جعله أعقل وأفضل، نزوِّده بشيء من المنطق والفيزياء والهندسة
والبلاغة."
يحتل التعليم مكانًا أكبر بكثير من التربية في مفهوم النظام المدرسي
السائد عمومًا في المجتمعات التي تسمَّى "حديثة". فالهدف المنشود هو
قبل كل شيء إتاحة الفرصة للشباب للوصول إلى سوق العمل بتأهيل تقني
مطلوب ليحصلوا على فرص أفضل في إيجاد عمل. من جرَّاء ذلك، هناك تواطؤ
وثيق [ضارّ] بين النظام التربوي والنظام الاقتصادي. لا شك في أنه ينبغي
على المدْرسة أن تتيح للشبان اكتسابَ تأهيل مهني يمكنهم بفضله أن يجدوا
عملاً عندما لا يتمكنون من اختيار المهنة التي تتطابق وكفاءاتهم. خلاصة
القول أن طلب العائلات نفعي بالدرجة الأولى: فهي تهتم قبل كل شيء بـ
"النجاح المدرسي" لطفلها بحيث يتمكن بسهولة من الاندماج في سوق العمل.
وهذا مفهوم تمامًا. مع ذلك، ليس الأهلُ، في الديموقراطية، زبائنَ
للمدْرسة وليس لهم أن يقرروا أيَّ تعليم ينبغي إعطاؤه للأطفال. ولا
يجوز التفاوض مع الأهل في مهمة المدْرسة التي تنطوي على نقل القيم
المؤسِّسة للثقافة والحضارة والديموقراطية. فلا يمكن لهؤلاء الأهل أن
يدَّعوا وضع المدْرسة تحت وصايتهم، ولكن هذا لا يعني أنه ينبغي عليهم
أن يبقوا خارج العملية التربوية. على العكس من ذلك، ينبغي عليهم أن
يشتركوا فيها بأكبر قدر ممكن من المعلومات وبتشاور مع ممثليهم إذا كان
ذلك مفيدًا. فضلاً عن ذلك، يميل المدرِّس إلى اعتبار نفسه معلِّمًا لا
مربِّيًا. تقول حكمة الأمم: "لكل امرئ مهنته"، وتضيف: "من يتعاطى مهنة
الآخرين يحلب بقرته في السلة". ومهنة المدرِّس هي نقل معرفة ومادة
واختصاص. مع ذلك، لا يجوز للمدْرسة أن تَختزِلَ دورَها في تلقين
التلاميذ معرفةً، وذلك تحت طائلة خيانة مهمتها. ينبغي أن تطمح إلى
تربية الأطفال. في رواية القلعة لـ
"سانت-إيكزوﭙيري"،
يستدعي السيدُ مربِّيْه ويقول لهم: "لستم مكلَّفين بقتل الإنسان في
صِغار الإنسان ولا بتحويلهم نملاً من أجل حياة في منْمَلة. (...) إن ما
يهمني هو أن يكون [الإنسان] إنسانًا إلى حد ما."
وهذا هو، في المحصلة، ما ينبغي على المدرِّس.
تقول بلاندين بارِّيه-كريجيل
Blandine Barret-Kriegel:
"تحتاج الجمهوريةُ إلى رجال ونساء يفضِّلون الفضيلة."
ولكن إذا كان النساء والرجال الفاضلون هم الذين يصنعون الجمهورية، فمن
يربِّي أطفالَ الجمهورية على الفضيلة ومن يعلِّمهم الفرائضَ الفلسفية
والأخلاقية التي ينبغي أن تكون أساس المواطَنة إن لم تكن المدْرسةُ
بصورة أساسية؟ لا شك في أن المجتمع الديموقراطي لا يمكن إلا أن يكون
عَلمانيًا، ولكن العَلمنة لا يمكن فقط أن تتحدد بصورة سالبة من خلال
رفض أي تأثير ديني وإيديولوجي. ينبغي قبل كل شيء أن تتحدد بطريقة
إيجابية، ليس فقط من خلال احترام المعتقدات الدينية لكل فرد، بل أيضًا
من خلال تعليم فلسفة أخلاقية وسياسية تؤسِّس لحقوق الإنسان والمواطن
العالمية وواجباته. إن النموذج العَلماني الذي يفيد كمرجع في تخطيط
التربية يعاني في أغلب الأحيان من عجز فلسفي خطير. فبحسب التصور
الديموقراطي للعلمنة، ليس صحيحًا أنَّ "جميع الأفكار محترمة". فالأفكار
التي تنال من القيم التي تؤسس الإعلانَ العالمي لحقوق الإنسان لا ينبغي
فقط عدم احترامها، بل ينبغي الطعن فيها ومحاربتها. تؤكد اللجنةُ
الوطنية لمكافحة العنف في المدْرسة والتي أنشأها وزير التربية الوطنية
الفرنسي وذلك في نص بعنوان "ضد العنف" أن السياسة التربوية للمؤسسات
المدرسية ينبغي أن ترتكز على "أخلاق عالمية قائمة على احترام الكرامة
الشخصية التي تجعل كلَّ شخص يحس بأنه عضو في جماعة إنسانية ويُعهَد
إليه لأجل هذا بواجباتٍ كأنْ يرفض في جميع الظروف العنفَ أو العنصرية
أو الإهانة وكذلك أنظمةَ التفكير التي تقود إلى ذلك".
إذا كان العنف هو الانحراف الأساسي لإنسانية الإنسان فإن على التربية
إذنْ أن تهدف إلى استئصال العنف. يقول فيليپ ميريو
Philippe Meirieu:
إن التربية بهذا المعنى، وفي المدْرسة بصورة خاصة، هي التمسكُ إذَنْ
تمسكًا دقيقًا بكل ما يمكنه أن يحرر الإنسانَ من العنف وتعليمُه شغفَ
المعرفة وصبر الفهم. إنها أيضًا نقل أدوات له من شأنها أن تتيح له
التخلصَ من كل أشكال العنف الاجتماعي والفكري التي تمارَس عليه – بما
فيها عنف المؤسسة المدرسية التي تربِّيه -، والتخلصَ من كل ما يحمله
إذًا على ممارسة العنف بنفسه على الآخرين.
وضع القواعد معًا:
لم يخترْ تلاميذُ الصف العيشَ معًا. فهم ليسوا متطوعين إنما جمعتْهم
المصادفة. كما أنهم لم يختاروا أن يضعوا أنفسهم تحت سلطة المدرسين.
ليست المدْرسةُ جماعةً، بل مجتمع، وبتعبير أدق مجتمع يجب بناؤه. ينبغي،
إذَنْ، منذ اليوم الأول للمدْرسة، تنظيمُ "العيش معًا" للتلاميذ
والمدرسين. إن كل حياة في مجتمع تنطوي على وجود قوانين. عندما يعيش
الأفراد مع بعضهم ضمن جماعة واحدة، ينبغي عليهم وضع قواعد، فلا يكون
العيش المشترك ممكنًا إلا إذا احترم كلُّ فرد هذه القواعد. قد يكون من
العبث إذَنْ، باسم مثال مجرد عن اللاعنف المطْلق، تصورُ مجتمع يمكن فيه
أن يؤمِّن التعاونُ الحر لكل فرد العدلَ والنظامَ دون أن يكون هناك
حاجة إلى اللجوء إلى التزامات يفرضها القانون. فالقانون يؤدي وظيفةً
اجتماعية لا يجوز لنا إنكارها: وظيفة إلزام المواطنين بسلوك معقول بحيث
لا يمكن للتعسف ولا للعنف أن يُطلَق لهما العنان. قد لا يكون صحيحًا
إذًا النظر إلى الإكراهات التي يمارسها القانونُ على أنها مجرد قيود
للحرية، فهي قبل كل شيء ضمانات لها. القوانين العادلة هي الأساس نفسه
لدولة القانون. في المدْرسة، ينبغي على القواعد أن تعلِّم الأطفالَ على
العيش معًا ضمن إطار احترام بعضهم البعض. إن إحدى المهام الرئيسية
للمربِّين هي تطوير ثقافةٍ للاحترام في المدْرسة والتي يمكنها وحدها
إقصاء ثقافة العنف التي تكاد تكون سائدة.
لا ينبغي أن تشكِّل "التربيةُ المدنية" للأطفال تعليمًا مستقلاً،
هامشيًا بمعنىً ما، بل ينبغي، على العكس، أن تكون في محور المشروع
التربوي. ينبغي، إذَنْ، ألا تصبح المواطَنةُ موضوعَ دراسة اختصاصية
شأنُها شأن المواد الأخرى. ينبغي، لتدريب الأطفال على المواطَنة،
تعليمُهم حسن استخدام القانون. ليست الطاعة المطلوبة من المواطنين
خضوعًا سلبيًا وغير مشروط لنظام سلطة عليا، بل انضمام مفكَّر فيه
وموافَقٌ عليه لقاعدة يعترفون هم بصحتها. ينبغي على القواعد الاجتماعية
المفروضة على التلاميذ لبناء عيش مشترك أن تطابِق قواعد أخلاقية يمكنهم
حيازتها. ضمن هذا المنظور، لا بد أن يكون البعد الأساسي للتربية هو
إشراك الأطفال في وضع قواعد جماعية ينبغي عليهم الامتثال لها بجعلهم
يختبرون ضرورتها لكي يتمكنوا من العيش معًا ضمن إطار احترام الجميع
واحترام كل فرد. "إن مهمة المربِّي هي إعطاء الأطفال والشباب القدرةَ
على تحديد قواعدَ فيما بينهم أو على التفاوض مع الراشد في بعض الحقوق
في المبادرة. (...) إن جعل الأطفال كائناتٍ مستقلةً يعني إتاحة الفرصة
لهم للقيام بثلاثة أمور لتنظيم الحياة الجماعية: تحديد القواعد، جعلهم
يطبقونها، الاعتراف بالحق."
ليس المقصود اللجوء إلى التصويت، بل التوصل إلى وفاق. علاوةً على ذلك،
ينبغي مباشرةً تحديد ما ليس "قابلاً للتفاوض" وما هو قابل للتفاوض. ولا
يجوز اتخاذ قرار في أية قاعدة دون موافقة المدرِّس. لكن من المسَلَّم
به أن القواعد تُلزِم المدرِّسين بقدر ما تُلزِم الأطفال. إن قوة
القانون تقف حائلاً أمام قدرة الراشدين الكلية. من حيث المبدأ، القانون
يتطور ويمكن تعديله ليتطابق أفضل ما يمكن مع متطلبات الحياة المشتركة.
ينبغي على هذه القواعد، بتجسيدها قوانينَ المجتمع، أن تحدد حقوقَ كل
فرد وواجباتِه حيال الآخرين بسعيها إلى لاشرعنة العنف. ينبغي على هذه
القوانين أن تحدد موادَّ "عقد" يربط أعضاءَ الجماعة المدرسية بعضَهم
ببعض. وينبغي عليها أن تفرض واجباتٍ ونواهيَ تضع حدودًا على الأطفال.
فالطفل يحتاج إلى مواجهة إكراه القانون لكي يُهيكِلَ شخصيتَه.
وهكذا، ليس "مسموحًا النهي" فحسب، بل "يَلزَم النهي" أيضًا. إن النهي
الأول، النهي الرئيسي، النهيَ المؤِّسسَ للثقافة والحضارة هو نهي
العنف، ذلك النهي الذي يتجلى بفريضة اللاعنف.
*** *** ***
[8]
جاء في الحديث: (كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّـاءٌ، وخيرُ الخَطَّـائين
التوَّابون.) رواه الترمذيُّ وابنُ ماجةَ والحاكمُ من رواية
علي بن مسعدة عن أنس. يُفهَم من الحديث أنَّ خاصَّةَ الكائنِ
الإنسانيِّ [كلُّ ابنِ آدمَ] هي ارتكابُه الغلطَ [خَطَّاءٌ]،
أي أن "الغلط إنساني"
"Errare humanum
est"،
ولكنَّ الغلطانَ الإيجابيَّ [خيرُ الخَطَّائينَ] هو من يتعلم
من غلطه [التوَّابون]، أي أن "الغلط مؤنسِن". (المترجِم)