الهايكو والهايكو العربي

 

سامر زكريا*

 

الشِّعر ذروةُ الأدب، والهايكو ذروةُ الشِّعر. يقول آينشتاين إنَّ "القمَر سيبقى موجودًا ولو لم يرَه أحد" لكنّه سيحارُ جوابًا حين يُسأل: كيف تأكَّدتَ؟

الكونُ هو كوننا، هوَ ما نعيهِ، والعلمُ عاجزٌ عن "تفسيره" (يقول أحد الفلاسفة ممازحًا: يجب أن يُمنَع تداول كلمة "تفسير")، فالعلم أداةُ العقل البشريِّ، ومحدودٌ به، وتبدو مقولة الفيزيائيين النظريين: "في النهاية، سيفسِّرُ العلمُ كلَّ شيء" بلا معنى للمُبدعين والصُّوفيين ومن يقاربون الوجود بكيانهم لا بذهنهم؛ فكيفَ سيفهم كائنٌ ذو بعدَين عالمًا ثلاثيَّ الأبعاد؟ كيف يمكنُ أن تشرحَ جمال زهرةٍ ساقطة للتوِّ، أو هبوبَ ريحِ الخريفِ الناعمة (مهلاً، هل هيَ ناعمةٌ فحسب؟ حاول أن تصفَها، الآن، جرِّب كلَّ ما بحوزتك من مفرداتٍ تعلَّمتها - فأصبحتْ من الماضي-: دافئة؟ لطيفة؟ عطِرة؟ هل هذا كلُّ شيء؟ هل وصفتها حقًا؟ بل هل وصفتَ منها شيئًا؟) على وجهك، بمعادلاتٍ وأرقام وقوانين؟

لهذا إذًا كانَت الإبداعاتُ والفُنون البشرية: محاولاتٍ للسيرِ في هذه المسافة بين المجهول والمعلوم؛ المجهول منشأُ الإبداع، حينَ يتوقفُ الذهنُ عن التفكير ويُفتحُ الكيانُ على الحقيقة، الجديدة أبدًا.

والهايكو واحدٌ من هذه الإبداعات التي نشأت في اليابان وانتشرت في العالم، بفضل خاصيَّته الأصيلة: إنَّه جديدٌ ما دامت الحياةُ جديدة، لا ينضب.

وهو ينشأُ تلقائيًا في لحظةُ الانتباه، التأمُّل الحرُّ من القيود والإشراطات الذهنيَّة، شأنه شأن الإبداعات الأصيلة، دونَ تأليفٍ عقليٍّ مقصود، دون "إرادة التأليف"؛ الهايكو نتيجةٌ تلقائيةٌ تشبه هطول المطر من غيمةٍ ناضجة جاهزة، يتدخلُ العقل و"الذاكرة - الخبرة" في صياغته، كما تدخَّل عقلُ بيتهوڤن في كتابة النوتات الموسيقية لسيمفونياته التسع، وكما تدخلت خبرة داڤنشي اللونية البصرية في إنهاء لوحاته، لكن هل كان منشأ إبداع بيتهوڤن وداڤنشي هو لعقل والخبرة والذاكرة والمهارة، أم تجلٍّ العقل الكلِّي، منشأ كلِّ خلقٍ وإبداع، عبر كيانيهما في لحظات؟ هكذا يكتبُ الهايجن (كاتبُ الهايكو) ذو "الخبرة" هايكو بصياغة ممتازة، لكن لحظةَ الهايكو ليست مرتَّبة ولا مقصودة ولا مصدرُها الذِّهنُ والفكر، بل لحظة الانتباه والتجلِّي والحريَّة، لحظة التحرُّر من الصيغ والنماذج والبنى الفكرية التي يصنعها ذهن الإنسان.

ما الذي يسمُ الهايكو فيميِّزه عن قصيدة نثرٍ قصيرة أو شذرة أو سواها؟

المشهد، الهايكو يوحي به مشهدٌ في لحظة الهايكو المشار إليها أعلاه، دون سردٍ وتعاقبٍ للأحداث، فهو ليس قصةً قصيرة ببدايةٍ ونهاية، بل لحظةُ انتباه، انتباهٍ لما هوَ موجود، الآن.

لقد تجاوز الزمنُ التساؤلَ: هل ثمَّةَ هايكو عربي؟ فالهايكو العربي - بغثِّه وسَمينه - يُترِعُ الفضاء الافتراضي، وذلك ضمن الحيثيات الآتية:

-       قدرة الهايكو على التكثيف والتعبير في حدوده القصوى بأقلِّ عدد ممكن من المفردات، وهو ما يُدعى أساسًا "شيبومي" حيثُ يتمّ الاستغناء عن المفردات التي لا تؤثر على المعنى فيصبح الهايكو متماسكًا ورشيقًا، وهذا ساعد على اتِّساع جمهور قرَّائه ومحاولي كتابته في "عصر السُّرعة" (بينما لم يتطور نقدُه بنفس الدرجة والتواتر لأنَّ النقد في الظاهر تتطلب كتابته وقراءته جهدًا أكبر ووقتًا أطول، وفي هذا نوعٌ من المفارقة، فالهايكو يعلِّمنا الانتباه، الهايكو الأصيل يشبه قول الزنِّ "الأمرُ ليسَ سهلاً، الأمرُ ليسَ صعبًا"، وهكذا أدَّت السهولة الظاهرية لقراءة الهايكو وكتابته إلى اتِّساع جمهوره، ومن هذا الجمهور برزت أقلام ونصوص اختارت النصَّ الأصيل، الصعب - السَّهل في آنٍ معًا، مما أخضع الهايكو العربي لما يشبه الاصطفاء الطبيعي، فنتج عن التفاعل الواسع في الفضاء الافتراضي بين الكتاب والقراء والنقاد والمهتمين، والمناقشات والتعليقات المتبادلة بينهم، أنْ بقيت النصوص الجيدة في التداول وتحسَّنَ مستوى الهايكو العربي أفقيًا (كمًا) وعموديًا (نوعًا).

-       القدرة الهائلة للغة العربية على التعبير، وهي الأولى في العالَم، وهكذا كان لا بدَّ أن ينشأ من تفاعل هذه اللغة مع الهايكو العالمي هايكو عربي بخصائص فريدة تسمُ التجارب الجديَّة من حيث حفاظها على سمات الهايكو الأساسية (المشهديَّة المشار إليها أعلاه، والدَّهشة، وهي دهشة الحاضر الجديد أبدًا في لحظة الانتباه، ووصف الحاضر في إطار تفاعل الذات مع الموضوع إلى حدٍّ تغيبُ فيه الأولى في أحيانٍ كثيرة) مع الولوج عمقًا في البيئة والحضارة العربية (مجازًا، حيث يجمع كتابَ الهايكو بالعربيَّة لغةُ الكتابة والحاضنُ الثقافي - البيئي لهم ولو كانوا أمازيغ أو كُردًا أو آشوريين).

مستقبل الهايكو العربي:

قطار الهايكو العربي وُضع على السكَّة، وانطلق، والسنوات القليلة القادمة ستبلوِرُ المزيد من ملامحه مُبقيةً على الخصائص التي تميِّزه عن بقية ضروب النثر القصير مع شيء من التجريب والتجديد سينتج عنه هايكو عربي يتنوع بين الكلاسيكي (الصارم المشهدية وعدم استخدام المجاز والأنسنة) وغير الكلاسيكي، وما بينهما.

***

نصوص هايكو – سامر زكريا

الألوانُ ذاتُها
وِشاحُها
وَغُرُوبُ حلُمِ الأمس.

*

أَبَدًا
على أُهبَةِ اللَدْغ
العقرَبُ المُحَنَّط.

*

عَيناها في الزِّحام
بينَ رَوائحِ السُّوق
عَبَقُ البُنّ.

*

صَباحٌ بارِد
اقتراحُ الفيسبوك
ابنُ خالَتي الشّهيد.

*

قمَرُ الرَّبيع
على نَدى الإسفَلْت
خُطىً مِن فِضَّة.

*

كسّارُ الزّبادي
والسّماء
هباءٌ في هباء.

*

عامٌ آخر
جفَّ الماءُ
ولم يجفَّ الضَّباب.

*

لَوْحَةٌ شِتائيّة
الوِشاحُ النّارِيُّ
يَشتَعِل.

*

قَوسُ قُزَح
سبعةُ ألوانٍ
للعدَم.

*

أصابِعُ الغَرِيبَة
على وَجهِي
أُولى قطراتِ المطَر.

*

دَربٌ وَعرة
في غَفلَةٍ
أتعَثَّر بحُزمَةِ ضَوء.

*

هذا الصَّباح
طفلَتي زَنبَقة
بِعَينَين.

*

سُكونُ العاصِمة
الشَّمسُ الأُولى
لمُنَقِّبي القُمامة.

 

مقال مشترك مع مجلة مدى الثقافية

*** *** ***


 

horizontal rule

*  طبيب أسنان سوري، مؤسِّس مجموعة "الهايكو سوريا"، أكبر تجمع للهايكو في العالم، على فيسبوك عام 2013.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني