"لا أنتمي إلى قصيدة التسعينات الغارقة في التفاصيل اليومية"

سوزان عليوان: "المكانُ غائبٌ عن حياتي وشعري"

 

حوار مع سوزان عليوان

 

سوزان عليوان من الجيل الشعري الجديد. عرفتْ كيف تصوغ عالمَها عبر جملة من المجموعات التي أفردتْ لها مكانًا شعريًّا خاصًّا. حول كتابها الأخير، مصباح كفيف، كما حول الشعر وقضاياه، كان هذا الحوار.

***

مصباح كفيف عنوان مجموعتك السابعة. سبعة كتب في مدة قصيرة زمنيًّا! كيف تفسِّرين ذلك – مع العلم أنَّك لا تعترفين بأول ثلاث مجموعات، وكأنك، هنا، تشيرين إلى استعجال ما، إلى مرحلة، وكأنَّها أصبحت بعيدة؟

تَلاحُق إصداراتي يأتي من إيماني بمشروعٍ شعري، وليس بقصيدة أو بديوان. فسؤالي الشعري يُطرَح من خلال هذه الإصدارات؛ إذ إنَّها النشاط الوحيد الذي أقوم به ثقافيًّا. فأنا لا أشارك في أمسيات أو ندوات، ولا أحضر مهرجانات شعرية، ونادرًا ما أنشر قصائدي في الصحافة. أكتب في عزلة؛ وكلما اكتملتْ لديَّ مجموعة أخرجُ بها إلى النور. عمومًا، مجموعاتي تصدر في طبعات خاصة ومحدودة؛ أي إن المجموعة تخرج من عندي إلى المطبعة، إلى الأصدقاء والصديقات. لا أنشرها أو أوزِّعها بالشكل التقليدي.

أما بالنسبة إلى المجموعات الثلاث الأولى فأنا لا أنكرها؛ هي تحمل بذور تجربتي الشعرية. لكنني لست راضية عنها شعريًّا.

على الرغم من عدم المشاركة في الأمسيات، إلخ، إلا أن ذلك لا يمنع، أحيانًا، إعادة طرح الأسئلة على كلِّ ما يُكتَب. كيف تحاكمين اليوم هذه التجربة الشعرية، كيف تنظرين إليها؟ ثانيًا، ما هو هذا المشروع الشعري الذي تؤمنين به؟

لا يمكنني أن أحاكم تجربتي، أو أحكم عليها، لأنها مازالت تتشكَّل فيَّ وفي العالم، ومازلتُ أتشكَّل من خلالها. لكنَّني ألمس، في السنوات الأخيرة، إنجازًا على مستوى الروح. إذ إنني تمكَّنتُ من الخروج من الذات إلى السؤال الأكثر اتِّساعًا وسموًّا، وهو سؤال الإنسان – وهو المشروع الذي أؤمن به، في الشعر كما في الحياة.

كثيرًا ما أشعر بأن قصيدة النثر، تحديدًا في تجارب أبناء وبنات جيلي، لا تتجاوز التفاصيل والهموم اليومية والذاتية؛ وأرى في ذلك مأزقًا كبيرًا للروح والشعر. فلقصيدة النثر إمكانات هائلة لكتابة الإنسان وطَرْحُ سؤاله في العالم، لم نُلامِس حدودَها بعد.

الجيل التسعيني

ما تقولينه يبدو، من ناحية، صحيحًا؛ بمعنى خروج قصيدتك من دائرة انغلاقها الذاتي، كما تبدَّى في الكتابات الأولى – وإن كان عمقُها، كما أجد، يبقى الإنسان. لكن قبل أن أعود إلى هذه النقطة، أحب أن أحدِّد أمرًا للتحدُّث عنه، وهو تجارب جيلك. أوَّلاً، إلى أيِّ جيل تعتبرين أنك تنتمين؟ وثانيًا، أعتقد أن نظرتك فيها بعض التجنِّي، حين تقولين إن قصيدتهم لم تتجاوز التفاصيل والهموم اليومية والذاتية. مَن تقصدين بذلك، إذا جاز لي السؤال؟

الجيل الذي أُنسَبُ إليه هو الجيل "التسعيني"، كما يُطلَقُ عليه، والذي لا أشعر بأنني أنتمي إليه، سواء في روحي أو في نصِّي. ولا أعتقد أنَّني أتجنَّى على التجربة التسعينيَّة حين أقول إنَّها غارقة في التفاصيل الذاتية، واليومية، والهامشية، وإنَّها نادرًا ما تُلامِس قلب الحياة أو حدود السؤال الإنساني. هنالك ضعفٌ في الأرواح وسؤالها الشعري؛ ونتاجها لا يمكن إنكاره.

لننظر إلى ما يُسمَّى بـ"القصيدة النسوية"، مثلاً، سواء كانت كاتبتُها من جيلي أو من الأجيال السابقة. سنجد أنفسنا، بشكل عام، أمام خواطر شعرية، لا تتجاوز الفرح الذاتي والحزن الذاتي.

شاعرة مثل فيسوافا شيمبورِسكا – هل توجد لدينا روح في حجمها، ونقائها، وألمها الإنساني الصادق العميق؟ هل من نصٍّ لشاعرة عربية يوازي نصَّ شيمبورِسكا؟

لا أقصد الإساءة إلى الجيل التسعيني، أو إلى الشاعرات العربيات، من خلال هذه الإجابة؛ أهدف فقط إلى طرح سؤال: أين أرواحُنا ونصوصُنا من سؤال الإنسان؟ وهل يجوز أن نغرق في الذاتية المغلقة على ذاتها وسط كلِّ ما يحدث للإنسان، حولنا وفينا؟ هل يجوز أن نعصم كلَّ حواسنا عن الرؤية، والتفاعل مع الإنسان، والكتابة بألمه، الذي هو أيضا ألمنا؟!

أحوال الشعر

ثمة خطورة ما في هذا الكلام. تضعين نفسك في جهة واحدة من الكتابة: النص النسائي أو النسوي أو الأنثوي – كما تريدين. هنالك أيضا شعراء ذكور، لم يخرجوا قط من مستوى الخاطرة الشعرية، ولم ينجحوا في الوصول إلى القصيدة الإنسانية. أعتقد أنَّ السؤال مطروح على الشعر بأسره.

اتخذتُ التجربة التسعينية والقصيدة النسوية كمثالين على الاضمحلال الذي تعاني منه الأرواحُ والنصوص، وذلك لأنني شاعرة، وأُحسَبُ على الجيل التسعيني. لكنني أتفق معك تمامًا في أن الفادحة لا تقتصر على جنس أو جيل شعريٍّ معيَّن. ما ذكرتُه عن التجربة التسعينية والقصيدة النسوية ينطبق على العديد من الشعراء طبعًا، ومن مختلف الأجيال، ومن كلِّ مكان من العالم العربي. ويبدو أنك، رغم اتهامك لي بالتجنِّي على الجيل التسعيني في سؤال سابق، تتفق معي حول تردِّي حال الشعر في نهاية الأمر.

لأن المسألة ليست مسالة جيل فقط، وإنما هي مسألة الشعر أو سؤاله. هذا ما أرغب في الوصول إليه. بشكل آخر، هل تعتقدين أن المشكلة قائمة فقط عند الجيل التسعيني؟ لو أخذنا كلَّ تاريخ الحداثة العربية لوجدنا ما تتحدثين عنه حاضرًا في قلب عملية الكتابة.

تحدثتُ عن الجيل الذي أنتمي إليه لأنه الأقرب إليَّ، من حيث السنِّ والخبرة في الحياة والكتابة، ولأنه أيضا شكَّل (زمنيًّا) آخر مراحل الحداثة العربية – إن جاز أن نسميها "حداثة".

لكنني أرى أن غياب سؤال الشعر وسؤال الإنسان يشمل شعراء وشاعرات من جميع الأجيال؛ بل هو واقع المشهد الثقافي العربي بشكل عام. وهذا يُحيلنا إلى سؤال آخر: هل من وجود لسؤال الإنسان في المشهد العربي اليوم؟

على الرغم من كلِّ الشعارات والخطابات والإيديولوجيات التي تتخذ الإنسان رمزًا logo لها، نجد سؤال الإنسان مهمَّشًا، ومغيَّبًا، ولا أثر له، في الحياة كما في الشعر.

فحين يغيب المعنى عن العالم، وينعكس هذا الغياب على النصِّ الشعري، فهذا يعني أنَّ الشاعر ليس أكثر من مرآة – مجرَّد مترجم أعمى للظلام. وفي هذا هزيمة كبرى للشاعر والشعر. على الشاعر أن يكون رائيًا ومسؤولاً عن الإنسانية، كما قال رامبو في رسالة الرائي، وعلى نصِّه أن يكون مؤرقًا بأسئلة الوجود والإنسان.

أعتقد أنك أجبتِ الآن عن سؤالي السابق حول مشروعك الشعري. على كلِّ حال، سأعود أيضًا إلى السؤال السابق المتعلِّق بقصيدتك: الملاحَظ أنها لم تخرج فقط من انغلاقها الذاتي نحو الإنساني، وإنما خرجتْ أيضًا من أسلوبها؛ أقصد، مع كلِّ كتاب، ثمة محاولة للبحث أيضا عن أسلوب يبدو مختلفًا عن الذي سبقه. ماذا تقولين؟

تؤرقني دائما فكرةُ الخروج عن الذات ومنها، تجاوزها إلى ما هو أبعد وأعلى، وذلك على مستوى المضمون والشكل أيضًا. حين أكتب، أشعر بأنني أصعد سلَّمًا في الروح، في اللغة، وفي رؤيتي للذات والآخر والعالم. أندهش كثيرًا من الشعراء والشاعرات الذين يكرِّرون أنفسهم؛ وأعتقد أنَّني إذا شعرت، في يوم من الأيام، بأنني أكرِّر نفسي فسأختار الصمت.

أمكنة

تظهر كتبُك الأولى وكأنها تقع على صلة مع الشعر المصري، لا اللبناني. لا أتحدث هنا عن تمييز ما بين البلدان العربية، وإنما كانت القصيدة أبعد عما كتب في لبنان. هل كان لإقامتك المصرية أيُّ أثر في ذلك؟ ثانيًا، تنقَّلتِ في العيش في عدة بلدان. أيُّ دور لعبه المكان في حياتك ونصِّك – وإن كنتُ أجد أن مكانك الوحيد هو مكان معزول، أو، كما تقولين، "خرافة الوطن"؟

شعري متأثِّر بالشعر المصري، وذلك لتأثُّري بالقاهرة، مكانًا وحالة. القاهرة مدينة تتسلَّل إلى الروح، عبر نورها وغبارها. هي مدينة ساحرة؛ مدينة لها سحرها الخاص. بحكم إقامتي فترة طويلة من حياتي في القاهرة كنت أكثر اطِّلاعًا على نصوص وتجارب الشعراء المصريين، وتَلامَسَتْ تجربتي، في الشكل واللغة، مع تجاربهم أحيانًا. يسعدني ذلك؛ ولست مؤرقة بهويَّتي اللبنانية على الإطلاق! أنا صوت إنساني، لا لبناني ولا مصري ولا ينتمي إلى جماعة معيَّنة أو إلى مكان محدَّد.

عمومًا، لا يؤرقني المكان، حاضرًا كان أم غائبًا؛ وهو دائمًا، في حياتي كما في شعري، "الغائب". أؤمن بأن الروح هي الوطن؛ وليس الوطن مكانًا جغرافيًّا رسم حدودَه آخرون، وأسْمَوْه "الوطن".

تكاد مجموعتُك الشعرية الأخيرة لا تخلو من ارتباطها بحداثة "التقنيات"، إذا جاز التعبير، وبخاصة الكومبيوتر والإنترنت. ماذا تريدين من ذلك؟ ثانيًا، هنالك دائمًا سَعْيٌ ما إلى كتابة القصيدة والبحث عن علاقة لها مع اللوحة والصورة. لماذا؟

في مصباح كفيف المكانُ الذي تدور في فضائه القصائد هو الفضاء الافتراضي؛ وبالتالي، كان طبيعيًّا أن تدخل إلى لغته وشكله كائناتٌ من عالم الإنترنت.

أما بالنسبة للَّوحة المرادفة للقصيدة، فالتجربة الوحيدة التي تضمنَّتْ هذه الحالة–المحاولة هي كائن اسمه الحب، حيث فَرَضَ عناقُ الحرف واللون نفسه على التجربة. عمومًا، الشعر والرسم، برأيي، جدولان لنبع واحد، ويصبَّان في بحر واحد.

*** *** ***

حاوَرَها: اسكندر حبش

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود