"المسافر" پاولو كويليو حكيمًا في

مكتوب

كتاب يضمُّ نصوصًا تتراوح بين الأمثولة والحكاية والحلم

 

عبده وازن

 

خلال سنوات قليلة، وعِبْرَ بضع روايات، أشهرها الخيميائي، أضحى البرازيلي پاولو كويليو من أكثر الكتَّاب مبيعًا في العالم! لكن صعوده السريع قد لا ينبئ حتمًا باستمراره الدائم كواحد من الكتَّاب "الكلاسيكيين" في العالم الذين يرجع القرار إليهم. فأدب كويليو لا يُقرَأ إلا مرة واحدة، و"المتعة" التي يجنيها القارئ من رواياته لا تدوم طويلاً، بل سرعان ما تزول لدى الانتهاء من الرواية نفسها.

"النجم" پاولو كويليو: بلا تعليق!

وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي حَصَدَها كويليو، ومما جلبت له من ثروة، فهو يظل "نجمًا" – لكنْ خارج الحركة الروائية العالمية وبمنأى عن "الخالدين" الذين صنعوا مجد الرواية في العالم. فرواياته يصعب إدراجُها في سياق الفن الروائي بما يفترض من معايير وشروط؛ ومعظم النقَّاد في العالم لا يصنِّفون كويليو كروائي مجدِّد ومحدث، ولا يعدُّون كتبَه أعمالاً روائية "حقيقية": فغالبًا ما يُنعَت أدبُه بـ"الشعبي" ورواياتُه بالـbest sellers والحكايات المسلِّية – ليس إلا. إنها فعلاً "حكايات"، تهدف إلى الترويح عن القارئ وإثارة خياله وبعض أحاسيسه؛ حكايات فيها من الأسطورة والتخييل بقدر ما فيها من الوعظ والنصح والإرشاد.

وقد تكون رواية الخيميائي[1] أجمل أعمال كويليو. فهو، حين كتَبَها، لم يكن قد عرف بعدُ "نعمة" الرواج والمجد، فحملتْ طابَعَ الحكاية الأسطورية والبُعد الميتافيزيقي. وقد اعتمد كويليو في كتابتها نَفَسًا شعريًّا غنائيًّا ولغةً سرديةً عذبة؛ ولم يخلُ مضمونُها من طابَع السر والأحجية واللغز، ما يذكِّر ببعض الأعمال الروائية "الفنطاسية" fantastique. إلا أن رواياته الأخرى نَحَتِ المنحى نفسه، لكنها لم تنجح كلها في نسج اللغة الحكائية وترسيخ الجو الغرائبي؛ وبدت بضع روايات على مقدار من التعجل والاستسهال، مستغلةً التاريخ استغلالاً سطحيًّا. وروايته إحدى عشرة دقيقة[2]، التي حاولت أن تبتعد عن المنبت الخيالي والحكائي، كانت من أضعف أعماله، وبدت مصطنعة جدًّا في مضمونها السردي وفي شخصياتها وبنائها؛ ولكنها راجت حتمًا، كمثل سائر أعمال كويليو.

من أحدث إصدارات پاولو كويليو كتاب يحمل عنوانًا عربيًّا هو مكتوب. وقد صدرت ترجمتُه الفرنسية[3] بسرعة، سابقةً الترجمات الأخرى[4]. لكن الكتاب ليس رواية ولا حكاية، بل مجموعة نصوص كان دأبَ كويليو على كتابتها تباعًا لجريدة La Folha de São Paulo البرازيلية بين العامين 1993 و1994. وقد استبق الكاتبُ "حُكْم" القارئ على النصوص، قائلاً إنها ليست "مجموعة نصائح" بقدر ما هي "تجارب متبادلة".

لكنَّ مثل هذا الوصف لا ينطبق على النصوص كلِّها: إذ ثمة نصوص بديعة حقًّا، وثمة نصوص تعليمية صرف وذات بُعد أخلاقي مباشر، إضافة إلى احتوائها على الوعظ والحكمة، المضمَرين حينًا والمكشوفين حينًا آخر. وتمثل هذه النصوص ما يشبه "خارطة طريق" ثقافية وروحية تقوم وسعها تجربةُ هذا الكاتب. فمشاربه تمتد شرقًا وغربًا، في التاريخ والحداثة، في التراث الروحي العالمي وفي الفكر المعاصر. ولا يضير نصوصَه أن تلتقي فيها المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية والزِنْ والصوفية والفلسفة، وأن تتحاور جميعًا وتتداخل في مناخ من التآخي والانسجام، متخطيةً المتناقضات التاريخية والعقائدية: ليس من المستهجن لديه أن يتحاور "المسافر" مع "المعلِّم" ومريديه، ونيتشه مع آباء الكنيسة والمتصوفة، وشوپنهاور مع تِريزا الأفيلية ويوحنا الصليبي وطاغور، وجون كيتس مع ماتشادو وميكِلانجِلو وإليوت، والراعي مع الناسك والمتسول والطبيب النفسي والمهرِّج، إلخ. مثل هؤلاء الأشخاص يملأون هذه النصوص التي تتمتع بحرية كبيرة في كسر النوع الأدبي والتحول من اللون الحكمي إلى اللون السردي، فالحكائي والحلمي والوهمي والتعليمي، إلخ.

أما الأمكنة التي تتحرك وسعها حركةُ السرد والتأمل والكتابة، فهي كثيرة بدورها: نيويورك، الپيرينيه، إسبانيا، براغ، سيدني، الصحراء، الجبال، روما القديمة، إلخ. وأما عنوان الكتاب فقد اختاره من العربية في معناه القَدَري ("مكتوب")، مشيرًا إلى أن الله "رحمن رحيم" وخير معين للإنسان؛ وهو يفسِّر كلمة "مكتوب" بـ"قد كُتِب".

تبرز في نصوص مكتوب شخصيتان رئيستان هما المسافر والمعلِّم: "المسافر" يمثل رمز الإنسان الذي ترك كلَّ شيء وهاجر مفتشًا عن الحكمة. لكنه هنا ليس مجرد شخص أو شخصية محددة الملامح: فهو يخترق جدار المكان والزمان ليصبح كائنًا مطلقًا يحمل مواصفات "الحاج" الذي قد يصل إلى "كعبته" أو لا يصل. أما "المعلِّم" فهو مرشد الخاطئين والضالين والتائهين في ليل العالم، يلتقي المريدون من حوله تارةً، ويكون وحيدًا تارةً أخرى؛ وغالبًا ما يورد الكاتبُ كلامَه في مطلع الكثير من النصوص في صيغة "قال المعلِّم".

ثمة حكاياتٌ صغيرة وعِبَرٌ وتأملات وأمثولات وحِكَم تفيض بها النصوص التي تشبه، من بعض النواحي، حكايات جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وجبران خليل جبران وبعض المتصوفة الغربيين الذين اعتمدوا الترميز في الكتابة، كالأب أنتوني دِهْ مِلُّو[5]. فالنصوص، في معظمها، لا تخلو من البعد الروحي ومن المجاز والمكابدة النفسية في أحيان، ومن التأمل والتأويل و"الشطح" الصوفي والفلسفة والسرد في أحيان أخرى. لكن "المعلِّم" الذي "يقول" حينًا تلو آخر هو شخص قديم ومعاصر في الحين عينه، "معلِّم" يملك حكمة الماضي وعِبْرة العصر؛ هو طيف تارةً، وشخص من لحم ودم طورًا، لكنه دومًا، وقبل كلِّ شيء، "المعلِّم الداخلي" المقيم في سريرة كلِّ إنسان.

پاولو كويليو: "المسافر" عِبْرَ الثقافات

قد يكون الكاتب هو "المسافر" و"المعلِّم" في آنٍ معًا، في ما يشبه لعبة المرايا المتقابلة. لكنه حتمًا الراوية الذي يسرد ويتكلم ويقص الحكايات: "المسافر جالس في الغابة وعلى ركبتيه كوم من الأوراق..."، يقول؛ أو: "المسافر يشعل سيجارة ويدخنها في صمت." وفي نص آخر يقول: "وإذ يشاهد المسافر الأوراق على ركبتيه، يتذكر ماضيه." وهنا يبدأ الكاتب في سرد تفاصيل من حياته، وهي التفاصيل التي ستؤلِّف مادةَ الكتاب: المواقف التي عاشها، منتخبات من كتب لم ينسَها، تعاليم معلِّمه، حكايات قصَّها عليه أصدقاؤه، إلخ، علاوة على تأملاته في عصره وفي أحلام جيله. هكذا ينقل عن طاغور قوله:

ليست المطرقة هي التي جعلت الحجارة في هذا الكمال، بل الماء برقَّته، برقصه وغنائه. حيثما لا تفعل القسوة سوى التدمير، تُوفَّق الرقةُ إلى النحت.

تحفل النصوص بالكثير من الحِكَم والأمثال والعِبَر. وهي غالبًا ما تَرِدُ على لسان المعلِّم، وفي بعض الأحيان على ألسنة حكماء وأدباء وفلاسفة وأناس عاديين. يسأل المريد معلِّمَه في أحد النصوص: "المعلمون جميعًا يؤكدون أن الكنز الروحي هو اكتشاف فردي، فلماذا نحن معًا؟ يجيبه المعلِّم: "نحن معًا لأن الغابة دومًا أقوى من شجرة معزولة." ويقول المعلِّم أيضًا: "إذا اتبعتم طريق أحلامكم، الزَموا هذا الطريق حقًّا." أما "المهرج" – وهو شخص "نمطي بدئي" archétypal فيقول للمسافر: "الموت هو بقاؤك أبدًا في الوضع نفسه. إذا كنت هادئًا جدًّا فأنت لست حيًّا." ويقول الراوية/المؤلِّف/المسافر مادحًا وقت "الغروب":

ثمة وقت خلال النهار تكون فيه رؤيتُنا مبهمة: إنه الغروب. الضوء والعتمة يندغمان، وليس من نور كلِّي ولا ظلام كلِّي.

ثم يشير إلى أن الغروب يُعَد مقدسًا في معظم المنقولات الروحية.

هي حِكَم وخواطر وحكايات، إذن، تسعى إلى تفسير بعض أسرار الحياة وإلى توجيه القارئ (العادي ربما، وليس المثقف) إلى طريق الحق والنور والحياة، ضاربةً له أمثالاً وساردةً قصصًا ومقدِّمةً العِبَر. لكن ما يميزها هو عدمُ وقوعها في المباشرة والادعاء: فهي تبدو كأنها سليلة تجارب خاضها الكاتبُ نفسه، مثلما خاضَها الأشخاصُ الذين أخذ عنهم، فلاسفة وكتَّابًا ورجال دين وقديسين وحكماء. ومن ضمن الحِكَم دعوةٌ صريحة إلى الاعتراف بالآخر وبحقِّه في الوجود، وكذلك إلى المحبة والتسامح والغفران. ومن الحِكَم الجميلة في الكتاب حكمة تمتدح الكلمة امتداحًا مجازيًّا: "الكلمة تستطيع أن تدمِّر من غير أن تترك أثرًا."

* * *

 

مختارات من مكتوب[6]

 

اليسروع... فراشة

تخيلوا يسروعًا. إنه يمضي الشطر الأكبر من حياته ينظر من الأسفل إلى العصافير التي تحلِّق، ساخطًا على قَدَره هو وعلى هيئته. "إنني الأكثر احتقارًا بين المخلوقات"، يفكر، "قبيح أنا، كريه، ومقضيٌّ عليَّ بأن أزحف على الأرض."

غير أن الطبيعة طلبت منه ذات يوم أن ينسج شرنقة. فوجئ اليسروع: فهو لم ينسج أبدًا شرنقة. وإذ ظن أنه يبني قبرَه راح يتهيأ للموت. ونظرًا إلى بؤس مصيره حتى ئذٍ، جعل يشكو أيضًا إلى بارئه: "في اللحظة التي اعتدت عليها أخيرًا، تأخذ مني، يا رب، القليل الذي أملك!" ويائسًا، انغلق على نفسه في الشرنقة منتظرًا النهاية.

بعد بضعة أيام، لحظ أنه استحال فراشة بديعة: يمكن له أن يطير في السماء، والناس يعجبون به. وأدهشَه معنى الحياة وتدبير الله.

 

الإشراق والشمس

دنا المريد من معلِّمه:

-       "طوال سنوات، بحثت عن الإشراق، وأشعر أني على وشك أن ألقاه. أريد أن أعرف ما هي المرحلة المقبلة."

-       "كيف توفر معيشك؟" سأل المعلِّم.

-       "لم أتلقن كيف أوفر معيشي. والدي ووالدتي هما اللذان يرعيانني. لكن هذا ليس سوى تفصيل!"

-       "المرحلة المقبلة هي أن تحدِّق في الشمس نصف دقيقة"، أجاب المعلِّم.

امتثل المريد.

طلب المعلِّم منه من بعدُ أن يصف الحقل الذي يحيط بهما.

-       "لا أراه! شعاع الشمس كدَّر رؤيتي."

-       "إن رجلاً لا يبحث إلا عن النور ويتهرب من مسؤولياته لا يحظى بالإشراق أبدًا. ورجل يدع عينيه مسمَّرتين في الشمس يصبح لا محالة أعمى"، شرح المعلِّم.

 

كما يبكي الطفل!

قال المعلِّم: "إذا اضطررت أن تبكي فابكِ مثل طفل. فأنت كنت طفلاً في ما مضى، والبكاء هو أول ما تعلَّمت من أمور. ثم إن البكاء هو من مكامن الحياة. ولا تنسَ أبدًا أنك حرٌّ وأنه ليس من العيب أنْ تعبِّر عن مشاعرك. اصرخْ، اشهقْ عاليًا كما يحلو لك، لأنه هكذا يبكي الأطفال ويعرفون كيف يواسون القلب بسرعة.

"هل لحظت كيف يتوقف الأطفال عن البكاء؟ أمرٌ ما يلهيهم، يلفت انتباههم إلى مغامرة جديدة. يكفُّ الأطفال عن البكاء سريعًا.

"وهذا ما يحصل لك، ولكن فقط إذا بكيتَ كما يبكي الطفل."

 

الكفيف

أحد أصدقاء حسن أوصله إلى صحن مسجد، حيث كان رجل كفيف يستعطي.

-       "هذا الكفيف"، قال الصديق، "هو الرجل الأوفر حكمةً في بلادنا."

-       "منذ متى وأنت ضرير؟" سأل حسن الرجل.

-       "منذ مولدي."

-       "أهذا ما جعل منك حكيمًا؟"

-       "نظرًا إلى أنني لم أسلِّم بعماي، أردت أن أصبح فلكيًّا"، أجاب الرجل. "وبما أنني لا أستطيع أن أرى السماوات، كنت مجبرًا أن أتخيل النجوم والشمس والكواكب. وبقدر ما كنت أقترب من أعمال البارئ كنت أقترب من حكمته."

 

"من أنت؟"

كان الفيلسوف الألماني شوپنهاور يتنزه في أحد أحياء مدينة دريسدن باحثًا عن أجوبة عن الأسئلة التي كانت تقضُّ مضجعه. وبينما هو مارٌّ أمام حديقة، قرر للحين أن يبقى هناك بضع ساعات يتأمل الزهور.

وإذ ألفى أحد القاطنين في الجوار سلوكَ هذا الرجل غريبًا، اتصل بالشرطة. وبعد دقائق قليلة اقترب شرطي من شوپنهاور.

-       "من أنت؟" سأله بلهجة قاسية.

نظر شوپنهاور إلى الرجل الواقف أمامه من رأسه حتى قدميه.

-       "إذا كنت تعرف أن تجيب عن هذا السؤال"، قال له، "سأظل ممتنًّا لك إلى الأبد!"

 

سهولة وصعوبة

ما أسهل أن يكون المرء صعبًا!‍

حسبنا أن نبقى بمنأى عن الآخرين! فهكذا لا نتألم أبدًا، ولا نجازف بأن نحب ونخيب وبأن نرى أحلامنا تخيب بدورها.

ما أسهل أن يكون المرء صعبًا! هكذا لا يكون لنا أن نكترث باتصالات هاتفية نقوم بها، ولا بأناس يسألوننا العون، أو بالصدقات التي يجب أن نوزعها.

ما أسهل أن يكون المرء صعبًا! حسبنا أن نتظاهر بأننا جالسون في برج عاجيٍّ وألا نذرف أبدًا أية دمعة. حسبنا أن نقضي ما بقي من حياتنا وكأننا نمثل دورًا.

ما أسهل أن يكون المرء صعبًا! حسبنا أن نرفض أفضل ما تمنحه الحياة.

 

التفاحة

كانت حواء تتنزه في جنة عدن عندما اقتربت الحيةُ منها.

-       "كلي هذه التفاحة"، قالت لها.

حواء، التي علَّمها البارئ، أبتْ.

-       "كلي هذه التفاحة"، أصرت الحية. "يجب أن تكوني أجمل في عيني رجلك!"

-       "لا حاجة لي إلى هذا"، أجابت، "فهو لا امرأة له سواي."

ضحكت الحية:

-       "أجل، طبعًا!"

وإذ لم تصدِّق حواء، قادتْها الحية إلى أعلى الرابية حيث توجد بئر.

-       "إنها هنا، في الأسفل... هنا خبَّأها آدم."

انحنت حواء، فرأت على صفحة ماء البئر صورةَ امرأة جميلة. حينذاك، ومن غير ما تردد، نهشت التفاحة التي أهدتْها الحيةُ إليها.

 

العنكبوت

مات رجل شرير، وعلى باب الجحيم صادف ملاكًا. فقال له الأخير:

-       "حسبك أن تكون قمت بعمل خيِّر واحد خلال حياتك – فهذا ينجِّيك." أجاب الرجل:

-       "لم أصنع خيرًا أبدًا في تلك الحياة."

-       "فكر جيدًا"، ألح الملاك.

تذكر الرجل إذ ذاك أنه، فيما كان يمشي في الغابة ذات يوم، أبصر على الدرب عنكبوتًا، فانعطف لئلا يسحقها.

ابتسم الملاك، فسقط من السماء نسيج عنكبوت يتيح للرجل أن يصعد إلى الفردوس. وقد أفاد محكومون آخرون منه ليتسلقوا معه. لكن الرجل التفت، وراح يدفعهم إلى الأسفل خشية أن تنقطع الخيوط.

لكن الخيوط انقطعت في تلك اللحظة، وهوى الرجل في الجحيم من جديد.

-       "يا للأسف"، قال له الملاك، "الصنيع الجيد الوحيد الذي قمت به جعلتْه أنانيتُك سيئًا."

 

الموت

قال المعلِّم: "في معظم الحضارات البدائية جَرَتِ العادةُ أن يُدفَنَ الموتى في وضع جنيني: "سيولد في حياة جديدة. يجب إذًا أن ندعه في الوضع الذي كان عليه عندما جاء إلى هذا العالم"، كانوا يفكرون. في نظر هذه الحضارات لم يكن الموت سوى خطوة أخرى على الطريق الطويل للكون.

"لكن العالم راح يفقد شيئًا فشيئًا هذه النظرة الهادئة إلى الموت. ولكن لا يهم ما نفكر فيه، وما نعمله، وما نعتقد به: سنموت جميعًا ذات يوم! من الأفضل أن يكون الموت لنا بمثابة ناصح، على غرار هنود الياكي[7] القدامى، وأن نسأل دومًا أنفسنا: بما أنني سأموت، ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟"

 

معرفة القلب

سمع رجل يعيش في تركيا كلامًا عن معلِّم يقطن في بلاد فارس. ومن غير تردد، باع كلَّ ما يملك واستأذن أسرته وانطلق طلبًا للحكمة. بعد سفر أشهر، وجد أخيرًا الكوخ الذي يعيش فيه المعلِّم الكبير. اقترب، مملوءًا رهبةً واحترامًا، وطرق الباب. فتح المعلِّم.

-       "جئت من تركيا"، قال له الرجل، "وخضت هذا السفر الطويل بغية أن أطرح عليك سؤالاً واحدًا."

نظر الشيخ إليه مدهوشًا:

-       "طيب. تستطيع أن تسألني سؤالاً واحدًا."

-       "عليَّ أن أعبِّر في وضوح عما أريد أن أسألك إياه. فهل أستطيع طرح سؤالي بالتركية؟"

-       "تستطيع"، أجاب الحكيم. "وقد أجبتُ عن سؤالك الوحيد. وكل ما تريد أن تعرفه أيضًا فاستنطقْ قلبك عنه، وهو يمنحك الجواب."

وأغلق بابه.

 

اكتبوا!

قال المعلِّم: "اكتبوا! رسالة، يوميات، أو دوِّنوا بضع ملاحظات على الورق عندما تتحدثون على الهاتف. ولكن اكتبوا! الكتابة تُدنينا من البارئ ومن قريبنا. إذا أردتم أن تفهموا أفضل دورَكم في هذا العالم، اكتبوا.

"اجتهدوا أن تعبِّروا عن روحكم كتابةً، حتى وإنْ كان لا يقرأ لكم أحد، – أو، أسوأ أيضًا، – إذا تمكن أحد ما من قراءة ما أردتم أن تحفظوه سرًّا. مجرد فعل الكتابة يساعدنا على تنظيم فكرنا وعلى تبيان ما يدور من حولنا. ورقة وقلم يجترحان المعجزات – إنهما يعالجان الآلام، يحققان الأحلام، يسترجعان الأمل الضائع. للكلمات سلطان."

 

المرة الأولى

رهبان زِنْ، عندما يبغون أن يتأملوا، يجلسون أمام صخرة: "الآن سأنتظر أن تكبر هذه الصخرة قليلاً"، يفكر الواحد منهم.

يقول المعلِّم: "كلُّ ما حولنا يتغير باستمرار. كل يوم تنير الشمسُ عالمًا جديدًا. وما نسمِّيه "رتابة" مفعم بمناسبات جديدة، ولكننا لا نعرف أن نرى أن كلَّ يوم يختلف عن سابقه.

"الآن، في ناحية ما، ينتظرك كنز: قد يكون ابتسامة صغيرة، وقد يكون انتصارًا كبيرًا – لا فرق. الحياة مصنوعة من معجزات صغيرة وكبيرة. لا شيء ممل؛ فكلُّ شيء يتغير دومًا. السأم ليس في العالم، بل في الطريقة التي ننظر إلى العالم بها. فكما كتب الشاعر ت.س. إليوت: "أن تجوب الدروب/ وتدخل المنزل/ وأن ترى كلَّ شيء كما لو للمرة الأولى"."

*** *** ***

ترجمة: عبده وازن

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[1] بين الترجمات العربية لهذه الرواية نشير إلى الطبعة الصادرة عن "شركة المطبوعات"، بترجمة جواد صيداوي وروحي طعمة، بيروت 2001. راجع قراءةً لها في إصدار سابق من معابر بقلم يوسف سامي اليوسف. (المحرِّر)

[2] راجع قراءةً لهذه الرواية في إصدار سابق من معابر بقلم فيصل قرقطي. (المحرِّر)

[3] Paulo Coelho, Maktub, Anne Carrière, Paris, 2004.

[4] صدرت طبعةٌ عربية للكتاب عن "دار ورد"، بترجمة روز مخلوف عن الفرنسية، دمشق 2004. (المحرِّر)

[5] صاحب كتب سادهانا: الطريق إلى الله وأغنية الطائر ودقيقة حكمة، الذي اعتمد قصص التراث الروحي العالمي وسيلةً لنقل تعاليمه. للاطلاع على ثاني هذه الكتب راجع مكتبة معابر. (المحرِّر)

[6] عناوين النصوص من وضع المترجم.

[7] إشارة إلى تأثر كويليو بكتابات الأنثروپولوجي الأمريكي كارلوس كاستانيدا، الذي اتصل ببعض حكماء الياكي في المكسيك وأخذ عنهم حكمتهم فأودعها في عدة كتب لافتة، ولاسيما كتابه الأول تعاليم دون خوان: طريق الياكي إلى المعرفة. (المحرِّر)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود