|
فـي ظـلال العـدد: إيقاعـات الوجـود 1
كان اكتشافُ الأعداد، ولا ريب، فتحًا مبينًا في معرفة النظام الكوني وأسرار الوجود وحياة الإنسان ضمن منظومة من العلاقات المتشابكة. وفي هذا السياق، يحاول الباحث كمال القنطار أن يبين أهمية الأعداد و"ظلالها" في الفكر الأسطوري والديني والفلسفي والأدبي والتراث الشعبي والعلمي في كتابه القيم في ظلال العدد: إيقاعات الوجود[*].
يختار القنطار العدد 7 ليبدأ به كتابه، كون العدد 7 مقدسًا وذا تأثير كبير في الفكر الإنساني منذ أن وُجد الإنسان على وجه الأرض. فمافتئت هالةٌ من السحر والقدسية تلف هذا العدد الذي حار فيه الحكماءُ والفلاسفةُ وأساطينُ الثقافة القديمة، ولا تزال الحيرة والشكوك والأسئلة تدور حوله. تتسع دائرة العدد المقدس 7 اتساعًا مطردًا لتشمل الأسطورة البابلية والسومرية والمصرية والعبرية والمعتقدات القديمة والأديان السماوية، وحتى الأمثال الشعبية والآداب، قديمها وحديثها. فما من عدد أجهد العلماءَ والفلاسفةَ مثل العدد 7: فهو يستقر في أساس خلق الكون، إذ إن السموات والأرض أُكمِلَت عشية اليوم السابع، بحسب التوراة، والله تعالى خلق النار سبع طبقات، إلخ. إلا أن العدد 7 لا يفقد قدسيته عندما يقوم بفعل التغريم في النواميس الإلهية العبرية؛ فالتغريم يشمل السبعة، لا أقل ولا أكثر: "سبعة ثيران وسبعة أكباش". وللموروث الشعبي "سبعاته" الشهيرة أيضًا؛ فمثلاً، يقول المثل: "آذار الغدار فيه سبع ثلجات كبار، ماعدا الصغار"، وكذلك: "أوصى الله بالجار لسابع دار". إلا أن قدسية العدد 7 توجد في قوة في المنظومات الفكرية الإسلامية. ففي سورة البقرة جاء: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن سبع سمواتٍ وهو بكلِّ شيء عليمٌ. (الآية 29) ويبدأ الحجَّاج أداء مناسكهم في المسجد الحرام بالطواف حول الكعبة سبع مرات، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ويرمي إبليس بسبع حصوات. وهكذا يتكرر العدد المقدس 7 في الديانة الإسلامية، على اختلاف فِرَقها ومذاهبها. فإخوان الصفا، مثلاً، يفسرون العدد 7 ويستلهمون دلالاته ومعانيه معتمدين على الثقافة الإغريقية، ولاسيما الفلسفة الفيثاغورية المتشحة برداء إسلامي. لكن الإنسان، إبان تجربته الطويلة، لم يغفل عن دور الأعداد الأخرى التي تشكل أيضًا منظومةً عدديةً متكاملةً في الفكر وتبين للإنسان أن العالم لا يرقص على نغم واحد؛ فلا يمكن للعالم أن يُبنى على هذا العدد فقط، بل لا بدَّ من تنويعات إيقاعية على خلفية العدد. إذا كان الإيقاع السباعي مرتبطًا بالأسطورة أكثر منه بالتفكير العملي والتجربة العلمية، فالإيقاع الثنائي لم يرتبط بزمان ومكان محددين. إذ إن للعدد 2 تأثيرًا قويًّا على احتدام الصراع واستمرار الحياة على الأرض، وهو ينعكس منظومةً اجتماعيةً فلسفيةً حياتيةً متكاملة: يُبنى على أساسه الإيقاع الثنائي وبنية العالم؛ فهو مرتبط بالثنائية، حيث التضاد أو التشابك بين عناصر الكون، وكل عنصر من قطبي الثنائية يبرِّر وجود القطب الآخر. وعلاقة الثنائية الكونية بالوجود هي علاقة ديناميَّة، كعلاقة النور والظلام التي تُبنى عليها منظومةٌ فلسفيةٌ دينية. ويورد الباحث أمثلة عديدة حول الثنائيات، ويسهب في علاقة الثنائيات وارتباطها بعضها ببعض، حيث تشكل كل ثنائية منظومة علائقية دينية، فيبدأ من أساطير الخلق والمعتقدات الدينية القديمة، ليصل إلى الفلسفة والأدب والسياسة، ولا يتوانى في تقديم نماذج لهذه الثنائيات: فلقد خلق الله تعالى الإنسان على إيقاع ثنائي – الأنثى والذكر، الخير والشر، النور والظلمة، الوجود والعدم، الفكرة والمادة، الروح والجسد، السالب والموجب، إلخ. وقد استمرت هذه الثنائيات حتى أنتجت ثنائيات جديدة على شكل مقولات فلسفية بعد ظهور النظريات في وحدة الأضداد: ثنائيات العام والخاص، الشكل والمضمون، الجوهر والمظهر، إلخ. وبذلك تتشكل ثنائية جديدة أساسها الإبداع والصراع الإبداعي على نسق المسوغات والتبريرات. ولكن، إذا سلَّمنا بأن صراع الأضداد موجود منذ الأزل أفلا يتوحد الضدان في الواحد الكلِّي؟ إذا كان العدد 2 يشير إلى التعدد والصراع–التضاد، فإن الواحد يعبِّر عن التفرد والوحدة؛ والثنائيات تتحد في ظل التوحيد: "الله واحد، وحده الواحد الذي خلق كلَّ شيء". ونشهد تصورًا صريحًا ومتطورًا للوحدانية في الآية القرآنية من سورة الإخلاص: "قل هو الله أحد، لم يلد ولم يولد". ولعل مطابقة فيثاغوراس بين الوحدة الحسابية والوحدة الهندسية كان السر في كون الامتداد والتجسم نابعًا من العدد ومن التكرار الحسابي للوحدة العددية 1. وقد شغل الواحد الإنسان منذ فجر التاريخ، بل كان أيضًا محورًا رئيسيًّا من محاور حركة الفكر الفلسفي. وبالانتقال إلى العدد 3، نلحظ أن وجوده لم يكن قويًّا في المنظومة الفكرية قوة الواحد والاثنين، على الرغم من وجود بعض الإشارات التي لا يمكن لها أن تؤثر في الحياة تأثير العددين السابقين. وكعادته، يجول الباحث في رحاب الفلسفة والفكر والمعتقدات عند الشعوب، ويتوقف قليلاً عند "الثالوث المقدس". وللعدد 4 مكانة لدى بعض الشعوب البدائية. وخير مثال على ذلك الجهات الأربع؛ ومن الـ4 تتولد أربعة آلهة؛ والأربعة في المعتقدات الشعبية نلحظها من خلال كتاب ألف ليلة وليلة، حيث له إيقاع ملائكي يعكس جانبًا من المعتقدات الشعبية السائدة؛ وعناصر الطبيعة الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) تشكل رؤية واضحة للإنسان القديم؛ والتناغم بين الوجود الطبيعي والعالم الإلهي يجري وفق إيقاع رباعي، كما في رباعيات عمر الخيام. لم يكن للعدد 5 فأل حسن، بحسب رأي الباحث: فهو يرتبط بعبودية الفلاح المصري وإقطاعية فرعون؛ وكذلك كان وبالاً على الجنس البشري، حيث أنجب إبليس خمسة أولاد! بينما نجد أن العدد عشرة هو رمز الكمال، باعتباره ضعفَي العدد خمسة؛ وما "الوصايا العشر" إلا محرَّمات الدين واستقامة أخلاقية الإنسان. لم يتبوأ العدد 6 مكانةً رفيعةً في الفكر الإنساني، بل كان حظه عاثرًا هو الآخر؛ لكن إخوان الصفا زكوه بمراتبه للطبيعيات. وكذلك لم يحظَ العدد 8 بالمكانة الرفيعة التي حظيت بها الأعدادُ السابقة، بينما ينتقل العدد 9 من الأسطورة إلى تجربة الفكر والفلسفة. وقد حظي العدد 11 بمكانة مرموقة في العلم في القرن العشرين بعد أن وجد مكانًا له في إيقاعات الأسطورة. إلا أن العدد 12 يعد أشهر السنة، وتُحسَب به الأعمار والأعوام والزمن إجمالاً: فالأبراج اثنا عشر برجًا؛ وللإيقاع الاثني عشري شأن كبير في الأسطورة الإغريقية؛ والعدد 12 ومضاعفاته يتواقت مع نبض الزمن في دورة الأرض حول نفسها التي قيست بأربع وعشرين ساعة. وقد كانت للصوفية أرقام ودلالات وإشارات تجمع بين الأعداد والحروف العربية. فمثلاً، كلمة "توحيد" تقترن بالعدد 32 على حساب الجُمَّل. لا شكَّ أن استنطاق الأعداد واللعب بها في المنظومات الأسطورية والفكرية سيكون عندئذٍ أكثر تشويقًا، وسيضفي على التجريد الميتافيزيقي للعدد روحًا جديدة تطيل زمن تألقه. لكن التألق أخذ يخبو في العصور الحديثة، بحيث لم يبقَ من العدد في المنظومات الفكرية المعاصرة سوى ظلال شاحبة! *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [*] كمال القنطار، في ظلال العدد: إيقاعات الوجود 1، سلسلة "الدراسات الفلسفية" 48، وزارة الثقافة، دمشق: 2002، 493 ص.
|
|
|