|
جســد كـان لـي
كنَّا نحسب لدى قراءة كتاب جسد كان لي – قصة تقمص حقيقية[1] أننا سنقرأ إحدى قصص ظاهرة "النطق"، تلك القصص التي تتناول سردًا حالةَ تقمص يتداولها الناس، وخاصة في مجتمع الموحدين الدروز، أصحاب كتاب الحكمة، أو فلسفةً للوجود وقضايا الحياة الكبرى. لكننا فوجئنا بالبعد الإنساني والفلسفي والفهم العميق لعقيدة التقمص لدى رجل من هذا الشرق السجين فكرًا وروحًا.
يروي الكتاب قصة امرأة لبنانية قتلها شقيقُ زوجها من طريق إغراقها في مياه البحر في الخليج، والظروف التي رافقت مقتلها[2]، وشك والدها في خبر غرقها قضاءً وقدرًا، على ما أبلغه الزوجُ وشقيقه، ومن بعدُ ادِّعاء الوالد على مجهول بجُرم القتل، ثم قدوم أحد كبار الباحثين الأكاديميين في هذا الحقل من الولايات المتحدة للتدقيق في قصة فتاة ولدت في أمريكا وأخذت تروي، لدى بلوغها الثالثة من عمرها، صفحاتٍ من حياتها السابقة، وكيفية إغراقها وموتها واسمها في الجيل السابق واسم أبيها وأمها وزوجها وشقيقه والقرية التي عاشت فيها في لبنان، وكيف تم التثبت من تلك الوقائع ومطابقتها، مما دفع الأب إلى الادِّعاء المباشر على الزوج وشقيقه، وكيف تطورت التحقيقات، وصولاً إلى إلقاء القبض على القاتلَين واعترافهما بالجريمة، فالحكم. تكمن أهمية هذا الكتاب في إلقاء الضوء، عبر القصة التي عاشها المؤلِّف، على الجوانب الفلسفية والميتافيزيقية، الممتدة في الزمان والمكان، من خلال عقيدة التقمص التي يتزايد الاهتمامُ بها مع انهيار الحواجز الفكرية والإيديولوجية وتداخُل الحضارات والتواصل بين الثقافات العالمية، وكذلك جدلية الثواب والعقاب (كارما) التي شغلت البشرية في بحثها عن الحقيقة وتلمُّسها في كتب الدين والفلسفة. يخرج أنيس يحيى بثقافته المميزة على التقليد، فيلامس فكر فلاسفة الإغريق والهند والصوفيين، متجاوزًا في طرحه للفكرة تحليلاً وبحثًا ما جاء في الكتابين المشهورين الحياة بعد الحياة والمزيد من الاستقصاء في الحياة بعد الحياة (ريموند مودي)، ويتناول الأبعاد الروحية والفلسفية لعقيدة التقمص وانفلات هذه العقيدة من براثن التقليد، إلى البحث في قضايا الحياة الكبرى بحثًا حضاريًّا راقيًا متحررًا من كثافات الجهل والتعصب. ذكَّرني الكتاب بحكمة الفلاسفة الإغريق، وخاصة أفلاطون وتفسيره للموت والحياة وانتقال الروح من جسد إلى آخر، وبحكمة كتب الڤيدا والأوپنشاد وبحثها في حالات الإشراق والتحرر من الفردية إلى الوحدة الكونية، من حيث إن الإنسان جزء من هذا الوعي الكوني الذي لا يزول. تقول الأوپنشاد: "ذاك [برهمن] هو ذاتك حقًّا، وما يفصلك عنه هو جهلك هذه الحقيقة." فمع كتاب جسد كان لي لا نقرأ قصة تقمص تقليدية تشبه باقي القصص: "إنك لا تنزل في النهر نفسه مرتين لأن مياهًا جديدة تكون قد جرت من حولك"، في تعبير الفيلسوف البريطاني البوذي كريستماس همفريز. يردنا كتاب الأستاذ يحيى، في هذا الزمن الذي تسيطر عليه غريزةُ الشر والقهر والتعصب، إلى فعل إيمان بالقدرة على الخلق والعودة إلى صفاء الذات – مع الإشارة إلى خروج المؤلِّف، في الجزء الأول من الكتاب، عن موضوع البحث إلى قضايا وأحداث شخصية لا تنسجم مع خطورة الموضوع وأهميته ولا تأتلف مع الرؤية الممتازة التي حفل بها القسمُ الآخر من كتابه. *** *** *** [1] أنيس يحيى، جسد كان لي – قصة تقمص حقيقية، دار الفارابي، بيروت، 2002، 221 ص. [2] من العجب حقًّا أن القصص عن ظاهرة "النطق" المتداوَلة في مجتمعات الدروز والنصيرية وغيرهم من "المؤمنين" بالتقمص تروي جميعًا، بلا استثناء، أن الشخص الذي يتذكر "حياته السابقة" قد مات قتلاً! لا نشير إلى ذلك تشكيكًا في صحة التقمص كقانون كوني يتم عبره تطور الإنسان نفسيًّا وروحيًّا، بل على سبيل التساؤل حول صحة التفسير المبسَّط لهذه الظاهرة الذي يأخذ به القائلون بهذه العقيدة في المجتمعات المذكورة. (المحرِّر)
|
|
|