|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
أخي وصديقي إدريس لأنك، ورغم كل الخلاف الواضح والصريح بيننا، ستبقى ذلك الإنسان الصادق الذي أكنّ له كل المودة والاحترام. والذي، لهذا السبب تحديدًا، ومن أجل فتح الباب لنقاش هادىء حول الكثير من القضايا التي ما زالت إشكاليةً في مجتمعاتنا، نشرت معابر على صفحاتها ردك على مقالة أكرم أنطاكي التي عبرتْ، تحديدًا من خلال موقفها الداعي إلى السلام، عن موقف هذا الموقع المتواضع. والخلاف بيننا قد يبدو عميقًا لأول وهلة يا صديقي. وهذا واقع قائم. لكن هذا الخلاف بوسعه أن يتغير حين نهدأ ونتجاوز منطق الغضب ونتفكر بمسؤولية وإنسانية. لأنه خلاف طبيعي مرده ربما الفهم المختلف لكل منا للواقع المحيط، وخاصةً، نعم خاصةً، فهم كل منّا لدينه ولدين الآخرين. كتلك المسيحية التي (من جانبك، ومن منظورك) تقع في خطأ تفسيرها على هواك. كما تقع من نفس المنطلق في خطأ التناول المجتزأ لمفاهيم وقيم إنسانية خالدة يفترض أن تجمعنا كالعدالة والإنسانية واللاعنف.
ليس العنفُ حتميةً. ولا يفرِض أبدًا قوانينَه من تلقاء ذاته. ولكنْ عندما يختاره البشرُ، يصبح حتميًا بأنْ يكابدون قوانينَه. هذه القوانينُ قاسية. إنها جامدة. إنها مرهِقة. إنها لا ترحم. إنها متوحشة. إنها لاأخلاقية. إنها، في النهاية، لاإنسانية. نتائجُ العنف مخزية. فظيعة. مُخجِلة. هذا هو منطقه. إنه منطق بارد لا تقف في وجهه صيحاتُ الغضب. تشير سيمون ﭭـايل في الإلياذة إلى أنَّ "المحاربين يَظهرَون مشابهين إما للحريق وإما للفيضان وإما للريح وإما للحيوانات الضارية وإما لأي سبب أعمى يسبب الكارثة". العنف، في الواقع، هو سبب أعمى للكارثة. إنه يفعل فعل كارثة طبيعية. إنَّ من طبيعة العنف نفسها أنْ يكونَ آليةً عمياء تجرُّ الإنسانَ في هروب نحو الرعب. يعتقد البشر أنهم يستعملون العنفَ، ولكنَّ العنفَ في الواقع هو الذي يستعملهم. يُخضِعهم ويجعلهم أدواتٍ في خدمته وحده. يتوهمون أنهم يستخدمونه، ولكنه يستخدمهم. فلا يبقى بين الإنسان والفعل العنيف أيُّ مسافة. وبالتالي فإنَّ المسافة التي يمكن وضعها بينهما هي التي تتيح وحدها وعيًا أفضل. ليس هناك في وحشية العنف من مكان للفكر. و"حيث لا يكون للفكر مكان لا يكون للعدل ولا للتعقُّـل مكان. ولذلك يتصرف الرجالُ المسلَّحون بقسوة وجنون".
عزيزي أكرم
لقد وصلتني مقالتك لا للحرب .. نعم للسلام: لسنا وحوشًا ولن نكون.. ولكننا بشر وسنبقى في ليلة "القدر" الغربي المسيحي من رأس السنة الميلادي، مع مباركة مسيحية من طرف صديقي المسيحي اللاعنفي جون ماري مولَّر. وكانت هدية على المقاس. فالهدايا، عادة، على مقدار مهديها. وقد بدأت في قراءتها - للتو - على "نية" نقل بعض أفكارها الرئيسة، في رسالة سريعة من على شعاع الضوء وعلى سرعته، إلى جون ماري، كما أفعل عادة وعبادة مع مجموعة من الرسائل التي تصله، من العرب، باللغة العربية. ولكنني، وأنا أتفحص كلماتك بقلمي الفسفوري البرتقالي عريض اللسان، أضعت "نيتي" بين حدة الأفكار التي كانت تتناسل تاركة جروحًا خاطفة مثل موسى الحلاقة، بكثير من الهدوء، وبأكثر من الصدق ومن المسؤولية، مما كان يضاعف من حرارة إيلامها البارد. فوقعت تحت إغراء هائل، وعنيف قليلاً أو كثيرًا، في رغبة نقل الضجيج الفكري الذي اندلع في داخلي إليك عبر هذه الضفيرة من الرسائل البسيطة الصاخبة، من غرفة مكيفة جدًا من باريس، حول موضوع غير بسيط جدًا، وغير مكيف جدًا، وبعيد آلاف الأميال عن أزقة باريس المغطاة بالثلج، والمضاءة طول الليل، والغارقة في أضواء أعياد الميلاد ورأس السنة.
اقيمت في دمشق، ما بين 21 و23 كانون الثاني 2009، ورشة عمل بعنوان دور المرأة في الحوار الديني والحضاري، بالتعاون مع الجمعية السورية الكندية للسيدات والسفارة الكندية والجمعية السورية للعلاقات العامة ومنظمة نساء من أجل السلام في الشرق الأوسط الكندية. وقد شارك في الورشة من الجانب السوري سيدات مثّلن مختلف أطياف المجتمع من متدينات وعلمانيات.
رغم أنه من غير الممكن أن نلغي العنف وتعبيراته من في المجتمعات المختلفة، ولكن يمكننا تقنين استخدام العنف، والنظر إليه كخيار أخير ومُؤقت، بغية استئناف لغة العقل والحوار. فالعنف يجب ألا يكون خيارًا أولاً، وأو نهائيًا أو مستمرًا، وهو ليس بديل عن لغة العقل والحوار، ويجب وضع ضوابط فيما يتعلق باستخدام العنف، كتحريم استخدامه ضمن المجتمع الواحد والبلد الواحد، إذ سرعان ما ينقلب إلى حرب أهلية، ومجازر إبادة عرقية وطائفية، وكذلك يجب ألا نكتفي بالدعوة الشعرية لنبذ العنف، بل يجب تحويل هذه الدعوة إلى فعل مُلزم عبر آليات مثل الديمقراطية -سيادة القانون- آلية حل النزاعات بين الدول..الخ لكي نتجنب الطرح المثالي المجرد للخيار اللاعنفي. إن فائدة العنف لحسم النزاعات قد اضمحلت في العقود الأخيرة، فلم يعد من الممكن إبادة شعب كامل كما فعل الغزاة الأوربيين مع شعب الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين، وهذا يتعلق بطبيعة العصر الذي نعيشه مع انتشار المعلوماتية ووسائط الميديا والفضائيات والحضور الدولي كعنصر وازن في النزاعات، وكذلك فإن هذا يتعلق بمدى تمسّك الشعوب المُحتلة أو المضطهدة بحقوقها وإصرارها على هذه الحقوق وطرح قضيتها مهما كلف الثمن.
في غضون أشهر، امتدّت الوقفات الاحتجاجية لحركة "نساء بالسواد" من القدس إلى تل أبيب وحيفا، ولم تكد تمضِ سنة حتى عمّت بقية البلاد، مع أن وسائل الإعلام، في أحسن الأحوال، كانت شحيحة في تغطيتها للحركة. وأود في هذا الفصل إمعان النظر ببعض التباينات ضمن حركة "نساء بالسواد"، وإلقاء الضوء على بعض الوقفات الاحتجاجية الفريدة. ولادات متعدّدة تكاثرت الوقفات الاحتجاجية لحركة "نساء بالسواد" طوال الأعوام 1988، 1989 و1990، منبثقة في 39 موقعًا في إسرائيل (انظر الملحق)، ومغطّية عمليًا طول البلاد وعرضها الضيّق. ففي أيٍّ من أيام الجُمَع، خلال هذه السنوات الثلاث المُجهِدة، كان الراكب في سيارة عادية أو في حافلة يواجه الرسالة الملحاحة: "كفى للاحتلال"، في هذا الموضع أو ذاك خلال تنقّله/تنقّلها، خصوصًا إذا كان سفرًا خارج المدينة. ورغم أن قوام الوقفات الاحتجاجية في القدس كان أحيانًا صغيرًا بما يُقَدّر امرأتين أو ثلاثة أو كبيرًا بقدر 120 امرأة (وأكثر في مناسبات خاصة)، فإن التأثير كان تراكميًا ومتواصلاً وقويًا.
التقى مسؤولون دينون، من أئمة وحاخامات، بالتعاون مع مسيحيين وغيرهم من الخبراء الدينيين من مختلف أنحاء العالم؛ في المؤتمر الثالث للأئمة والحاخامات من أجل السلام، ليحددوا معًا سبل الدفاع عن الطابع المقدس للسلام، ملزمين أنفسهم، منذ اللحظة، باتخاذ كل الإجراءات الممكنة، من خلال سياق ديني، بهدف حلِّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. عقد المؤتمر برعاية الأونيسكو في باريز ما بين 15 و17 كانون الأول 2008، وبدعم من صاحب الفخامة الأستاذ عبد الله واد، رئيس السنغال والرئيس الحالي للدورة الحادية عشر للمؤتمر الإسلامي. أولاً، وقبل كل شيء، فإن الأئمة والحاخامات، الذين انضم إليهم مسيحيون، يؤكدون هنا، ومن الآن فصاعدًا، على التزامهمً، بلا توقف وبشكل علني، بفضح وإدانة كل أشكال العنف والإرهاب وكل أشكال الظلم المرتكب ضد الأفراد والمجموعات باسم الله و/أو باسم دياناتهم وكتبهم المقدسة. كما يؤكدون على عزمهم بأن يكونوا حرّاس فاعلين لقدسية السلام. وقرر المؤتمر الثالث للأئمة والحاخامات من أجل السلام ما يلي:
لأنه، لا شيء
يولد من فراغ!
أجل، لا شيء يولد من فراغ! أجل، لنهدأ قليلاً، أيها السادة، ولنتفكر معًا بصدق وهدوء ومسؤولية. لأن هذه الحرب الوحشية القذرة التي يشنها اليوم إسرائيل المدجج بالسلاح على "حماس" في غزة، والتي يدفع ثمنها، بشكل خاص، أخوتنا من العزّل هناك؛ ليست وليدة يومها، إنما هي نتيجة تفاعلات وتراكمات نتحمل قسطًا من مسؤوليتها كما يتحمل إسرائيل أيضًا، وبشكل مؤكد، معظم مسؤوليتها.
أسجل اعتراضي على هذا المصطلح الشائع لأنه يتجاهل مقاومة شعبنا وأمتنا التي تتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر. وذلك لأن بعض أهلنا يروق لهم الادعاء بأن المقاومة بدأت بهم، أو بقبيلتهم، قبل عقدين أو خمسة عقود. وهذا تزييف واضح للتاريخ، وطمس للحقائق، واستخفاف بمقاومة خمسة أجيال. كما ينطوي هذا المصطلح على اصرار على الأداء القبلي وأولويات القبيلة، على حساب الجهد المؤسسي الذي يراكم جهود المراحل بعد تقييمها. لماذا نتجاهل مقاومة أجيال من شعبنا وأمتنا؟ ولماذا نقفز عن عهود المقاومة ومراحلها منذ عهد موسى كاظم الحسيني، والحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات؟ لماذا لم ندرس هذه المراحل دراسة الفقهاء الخبراء، ولماذا اكتفينا باستعراض الوعاظ الخطباء؟ دعونا نترفع عن الشهوات الشخصية والمصالح القبلية. لنحترم أهلنا الذين يحتاجون إلى مقاومة منهم وبهم وإليهم، و إلى أن يتحرروا من نمط مقاومة يكون للناس، فيها، دور المصفقين الهاتفين المكبرين المسددين فاتورة الدم والهم. الناس بحاجة إلى شراكة حقيقية تحترم مصالحهم أولاً وثانيًا وثالثًا وأخيرًا.
|
|
|