|
قيم خالدة
التحرّر من الشهوات يسمّى في التصوف الأرثوذكسي هدوءًا، حيث الروح الإلهي فاعل وأنت متقبّل، أي أن آخر ينشئ الوداعة فيك. وإذا كتب يوحنا، صاحب سلّم الفضائل الناسك الكبير في صحراء سيناء، عن الهدوء يقول: إنه اللاهوى، ويحدّد هذا على أنه الكمال المتشبّه بالله والسماء الأرضيّة وقيامة النفس قبل القيامة العامة. لا كلام بعد هذا الكلام لأنك إن بلغت هذا العلى لا تبقى في حاجة إلى تعبير لساني. ويوضح القديس يوحنا هذا في المقالة الثامنة أن الوداعة هي "سكون النفس وتقبّلها للإهانات والكرامات بحال واحد على السواء". ويتوسّع في الكلام على الرذيلة المناقضة، وهي عنده الغضب؛ وكما عرف الوداعة بالهدوء يعرّف الغضب بالاضطراب. عند الشتيمة تسكت. هذه درجة أولى من الخير. أما الدرجة الثانية فتحزن من أجل شاتمك، والدرجة العليا أن تتصور الضرر الذي أحدثه الشتم في الشاتم وأن تبكي على خطيئته بكاءً حارًا.
الإيمان هو جوهر الحياة المعطاة. إنه ما يمنح القوة، ومنحى الحياة. وكل إنسان حي يعثر على هذا الجوهر، ويعيش على أساسه، وإن لم يعثر عليه فسوف يموت. وفي بحثه هذا ينتفع الإنسان بكلّ ما أبدعته البشرية جمعاء. كل ما أبدعته البشرية هذا يسمّى الكشف، وهذا الكشف هو ما يساعد الإنسان على فهم جوهر الحياة: هذه هي العلاقة التي تربط الإنسان بالدين. فما هذا الشيء المذهل؟ هناك أناسٌ يخرجون من جلودهم لكي يستخدم الآخرون صيغة معينة بالتحديد، دون غيرها، للكشف. ولا يمكنهم أن يرتاحوا إلا إذا قَبِل الآخرون صيغة الكشف الخاصّة بهم بالتحديد؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. وآخرون يفعلون الشيء ذاته؛ فيلعنون ويعدمون ويقتلون كل من يقدرون عليه من المخالفين. والفريق الثالث أيضًا كذلك. وهكذا يقوم الجميع بلعن وإعدام وقتل بعضهم بعضًا، مطالبين بأن يَدين الجميع بدينهم هم. وينتج أنّ عقائدهم بالمئات، وكلها تلعن وتعدم وتقتل بعضها بعضًا.
ما هو عصر التنوير؟ هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر، عند الإنسان، خارج قيادة الآخرين. والإنسان [القاصر] مسؤول عن قصوره لأنّ العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير. إن الخمول، والجبن، هما السببان اللذان يفسِّران وجود عدد كبير من الناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة [عنهم]، لكنهم ظلوا قُصِّرًا طوال حياتهم عن رضا منهم، حتى لَيَسْهُل على غيرهم فرضُ الوصاية عليهم. وما أسهل أن يبقى المرء قاصرًا. فإذا كان لدي كتاب يحتل عندي مكان الفكر، وقائد يعوِّض الوعي فيَّ، وطبيبٌ يقرر لي برنامج تغذيتي، الخ... فلا حاجة لي في أن أُحمِّل نفسي عناء [البحث]، ولا حاجة لي في أن أفكر ما دمت قادرًا على دفع الثمن لكي يُقْبِل الآخرون على هذه المشقة المملة.
يبدو لي أن هذا النص يكشف عن نوع آخر من الأسئلة في مجال التفكير الفلسفي. فما هو بالنص الأول في تاريخ الفلسفة- ولا حتى عند كانط- الذي يطرح سؤالاً حول التاريخ، إذ نجد عند هذا الفيلسوف نصوصًا عديدة تلقي على التاريخ سؤال الأصل، كالنص حول بدايات التاريخ ذاته، والنص المتعلق بتحديد مفهوم الأجناس. وثمة نصوص أخرى تضع التاريخ أمام سؤال حول صيغة إنجازه، كهذا النص المنشور في سنة 1784 نفسها: حول فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر كونية. وهناك، أخيرًا، نصوص تساءلت عن الغاية الذاتية التي تنظم السياقات التاريخية، كالنص الخاص باستعمال المبادئ الغائية. فكلُّ هذه النصوص المترابطةُ بعضها ببعض وثيقَ الترابط تخترقُ جميع تحاليل كانط حول التاريخ. إلا أنه يظهر لي أن نص عصر التنوير يختلف عن كل النصوص فهو، على الأقل، لا يطرح أيًا من هذه الأسئلة: لا سؤالَ الأصل ولا، برغم ما يبدو للناظر، سؤالَ الإنجاز؛ بل يضع بصفة محتشمة، تكاد تكون جانبية، مسألة الغائية الكامنة في سياق التاريخ ذاته. والمسألة التي تبدو مطروحةً لأول مرة في نص كانط هذا هي مسألةُ الحاضر، أي السؤال عن الآنية: ماذا يحدث اليوم؟ ماذا يحدث الآن، وما هو هذا "الآن" الذي نوجد نحن وغيرنا فيه، ومن الذي يحدد اللحظة التي أكتب فيها؟
|
|
|