الحرب والسلام

هِرمَن هِسِّه

 

الذين يصفون الحرب كحالة بدئية وطبيعية، محقُّون بلا أدنى شك. فطالما يتصرف الإنسان كالحيوان، تراه يعيش في حال صراع، وعلى حساب الآخرين الذين يخافهم ويكرههم. في هذه الحال، لا يمكن أن تكون الحياة إلا حربًا.

من الصعب تعريف السلام. فهو ليس حالةً فردوسيةً أصيلة، ولا شكلاً من أشكال العيش المشترك. السلام شيء لا نعرفه. شيء بإمكاننا فقط الشعور به أو البحث عنه – فالسلام مثل أعلى، معقد بشكل كامل، كما أنه هشٌّ وغير مستقر – ويمكن لنسمة أن تدمره. والسلام الحقيقي شيء أكثر صعوبة وغير اعتيادي، فهو أكبر من أيِّ إنجاز أخلاقي أو عقلي، حتى بالنسبة لشخصين يعيشان سويةً ويحتاج كل واحد منهما إلى الآخر.

ولكن المثل الأعلى للسلام، والرغبة في تحقيقه، قديم جدًا. فمنذ آلاف السنين ونحن على علم بتلك القاعدة الجوهرية العظيمة التي تقول "لا تقتل". لأنه، وأكثر من أيَّة صفة أخرى، يمتاز الإنسان بتلك المقدرة على الخروج بأمثال وأقوال مأثورة وأوامر كبيرة بعيدة الأثر. فهذه تميزه عن الحيوان. ما يبدو وكأنه يرسم خطًا فاصلاً بينه وبين الطبيعة.

يشعر الإنسان حين يواجه هكذا قولاً عظيمًا أنَّه ليس حيوانًا، فكينونته لا تزل غير محددة، وهو لم يصبح بعد كائنًا مكتملاً بشكل نهائي، إنما هو كائن في حال صيرورة. فهو ما زال مشروعًا، إن لم نقل إنَّه ما زال حلمًا للمستقبل، ما زال تعبيرًا عن توق الطبيعة إلى أشكال جديدة وإمكانات جديدة. عندما تمَّ التفوه بالوصية القائلة "لا تقتل" بدت هذه الوصية شاسعة المدى، بدت تقريبًا وكأنها مرادفة لكلمة "لا تتنفس"! كانت تبدو مستحيلة، لا بل جنونية، إن لم نقل تدميرًا للذات. ولكن هذا القول احتفظ بقوته على مرِّ العصور. مما أدَّى إلى خلق القوانين والمواقف والقواعد الأخلاقية. فقط بضعة أمثال أخرى أعطت مثل تلك الثمار وغيَّرت جذريًا حياة الإنسان.

فـ"لا تقتل" ليست صيغة ثابتة من أجل الإيثار لا تقبل التغيير، ويمكن أن تُدرَّس في المدارس. لأنه لا وجود للإيثار في الطبيعة. فـ"لا تقتل" لا تعني: لا تؤذِ إنسانًا آخر! إنما تعني لا تحرم نفسك من الآخر، ولا تؤذِ نفسك! فالآخر ليس كائنًا غريبًا، والآخر ليس ذلك الشيء البعيد الذي لا علاقة لي به، والمكتفي بذاته. لأنَّ كل الأشياء التي في هذا العالم، كل تلك الألوف التي تشكِّل الآخرين، موجودة من أجلي فقط، طالما أنا أراها وأشعر بها وأقيم علاقات معها. وهذه العلاقات التي بيني وبين العالم، التي بيني وبين الآخرين، هي جوهر حياتي.

إنَّ معرفة هذا الأمر والإحساس به وتلمس الطريق قدمًا نحو تلك الحقيقة المعقدة كان درب البشرية. فقد كان هناك دائمًا تقدم كما كان هناك نكوص. أفكار نيرة تألقت ومنها استخلصنا من كهوف الضمير قوانين معتمة. كانت هناك تطورات غريبة كالغنوص والخيمياء التي اعتبرها بعض معاصرينا سخيفة ومنافية للعقل، والتي كان من الممكن أن تكون ذات أهمية كبرى في البحث عن المعرفة. لذلك، وبعيدًا عن الخيمياء، التي بدأت كطريق صوفي نقي يتماثل بشكل كامل مع مقولة "لا تقتل"، أوجدنا، ونحن نبتسم بغطرسة، علمًا وتقنيةً أعطتنا المتفجرات والغازات السامة. فأين هو التقدم؟ وأين هو النكوص؟ لا يوجد هذا ولا ذاك.

لقد أرتنا الحرب العظمى التي شهدناها خلال هذه السنوات الأخيرة كلا الوجهين. فبدا وكأنها جلبت معًا التقدم والنكوص. فتقنياتها الفظيعة التي جلبت القتل الجماعي قدَّمت نكوصًا يبدو في الحقيقة وكأنه يسخر من كل فكرة تدعو إلى التقدم أو إلى الحضارة. ولكن بعض الحاجات الجديدة وبعض الرؤى وبعض المساعي التي ولَّدتها الحرب بدت لنا وكأنها نوع من التقدم. لقد سوَّغ أحد الصحفيين لنفسه اعتبار التخلص من الارتجاجات العميقة وكأنه عكس للقذارات نحو الداخل – وهو لم يكن ربما مخطئًا تمامًا؟ أفليس بالإمكان تصور سخريته الفجة وكأنها موجهة تحديدًا إلى ما هو الأفضل والأكثر جوهرية في زماننا؟

لكن ذلك قد يكون أحد الآراء الخاطئة بالمطلق، والتي غالبًا ما تمَّ التعبير عنها خلال هذه الحرب: ذلك الرأي القائل بأنَّ الحرب، وبسبب ضخامة حجمها وآلية الرعب الهائلة التي حركتها، ستخيف الأجيال القادمة وستمنعها إلى الأبد من شنِّ الحروب. لكن الخوف لا يعلِّم البشر شيئًا. وإذا كانوا يستمتعون بالقتل فليس هناك من ذكرى حرب بوسعها أن تردعهم. ولا حتى معرفة الأضرار المادية التي تلحقها الحرب. لأنه فقط ولدرجة ضئيلة للغاية يمكن لأفعال البشر أن تنبع من اعتبارات منطقية. حيث يمكن لأحدهم أن يقتنع تمامًا بأن عملاً ما هو في منتهى السخافة وأن يستمر مع ذلك في القيام به مستمتعًا. فكل إنسان متحمِّس يقوم بذلك.

لهذا لستُ كالكثيرين من أصدقائي وأعدائي الذين يعتبرونني مسالمًا. أنا لم أعد أؤمن بأنَّ السلام العالمي يمكن تحقيقه عبر الطرق المنطقية، عن طريق الوعظ أو التنظيم أو الدعاية، كما أنَّه لا يمكن تحويل حجر الفلاسفة على يد هيئة من الكيميائيين.

ما الذي بوسعه إذًا أن يصعِّد روح السلام الحقيقي على الأرض؟ قطعًا ليست التوصيات ولا التجربة العملية. فمثله مثل أيُّ تقدم إنساني، يجب أن ينبع حبُّ السلام من المعرفة. وكل معرفة حية، مقابل كل معرفة أكاديمية، ليس لها إلا هدف واحد. وهذا الهدف يمكن أن يراه ويعبر عنه آلاف الناس بآلاف الطرق. حيث يتوجب على هذه المعرفة أن تجسد حقيقة واحدة، ألا وهي معرفة الجوهر الحي الذي في داخلنا. ففي كل واحد منا، فيك وفيَّ أنا، يوجد ذلك السحر السري: ذلك الورع السري الذي يحمله كل منا في داخله. وهذه المعرفة التي تبدأ من أعمق نقطة، هي التي تمكننا في كل الأوقات من تجاوز كل التضادات، فتحوِّل الأبيض إلى أسود، والشر إلى خير، والليل إلى نهار. الهنود يسمون هذا بالأتمان والصينيون يدعونه بالتاو؛ والمسيحيون يطلقون عليه اسم الرحمة. وحيثما وجدت هذه المعرفة السامية، سواءً عند (يسوع أو بوذا أو أفلاطون أو لاوتسه)، تكون البداية التي يصبح ممكنًا بعدها العبور نحو المعجزات. ما سيوقف الحروب ويوقف العداوات. نستطيع أن نقرأ عنها في العهد الجديد كما في خطابات الغوتاما. بوسع كل واحد أن يسخر منها ويعتبرها عكسًا للقذارات نحو الداخل. لكن بالنسبة للذين جرَّبوها سيتحول العدو إلى أخٍ، والموت إلى ولادة، والخزي إلى شرف. كما ستصبح النكبة حظًا سعيدًا. كل شيء على هذه الأرض يبدو ثنائيًا. كما لو أنَّه (في هذا العالم) و(ليس في هذا العالم) معًا. لكن (هذا العالم) يعني ما هو (خارجنا) وكل ما هو خارجنا يمكن أن يصبح عدوًا خطرًا، وخوفًا وموتًا.

يبيِّن بزوغ النور المترافق مع الخبرة أنَّ هذا العالم الخارجي بالكامل ليس فقط هدفًا لإدراكنا الحسي بل هو في الوقت نفسه إبداعٌ لأرواحنا يتحقق عن طريق تحويل كل ما هو في الخارج نحو الداخل، وتحويل كل العالم نحو الذات.

ما أقوله بديهي. لأنه، كما أنَّ إطلاق الرصاص على جندي حتى الموت هو تكرار أبدي للخطأ، كذلك يجب تكرار الحقيقة وإعادتها إلى الأبد بآلاف الأشكال.

صيف عام 1918

ترجمة: حربي محسن عبدالله

مراجعة: أكرم أنطاكي

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود