|
أبناء الأرملة
إثر قيامي بنشر هذا البحث على صفحات موقع معابر[1] خلال الأعوام 2003 - 2004، وصلني الكثير من ردود الفعل التي كان بعضها طريفًا، وبعضها الآخر أكثر عمقًا، ولكن جميعها تستحق التوقف عندها والتأمل بها. الأمر الذي دفعني إلى المزيد من التفكير فيما كتبته حول هذا الموضوع الشائك والمعقد. وبالتالي، إلى كتابة هذه الخاتمة المتأخرة لهذا البحث المتواضع من أجل توضيح بعض الأمور والإجابة عن بعض التساؤلات المشروعة. فبعض من قرأ النصَّ في حينه بعث إليَّ برسائل تسألني حول كيف بوسعه الانتساب إلى هذه الأخوية. ما يعني ربما أنه قد فهم مما طرحته أني عضو فيها، و/أو أنَّ ما بيَّنته من وقائع حولها قد أعجبه. وهذا موقف مشروع ولكن لا علاقة لي به على الإطلاق، حيث أنَّ قصدي الوحيد من هذه المحاولة كان تبيان وقائع توضِّح إيجاب وسلب ذلك التنظيم المسارِّي النقلي المفترض وليس الترويج له أو لسواه، فهذا الأمر لا يعنيني! وكان من أهم ما لاقيته أيضًا من ردود فعل، بعيد نشري لهذه المحاولة، أن اتصل بي بعض أبناء هذه العشيرة من لبنان (من منحيين مختلفين)، وأحبوا التعرف إلى هذا (الأخ المحتمل أو بالقوَّة) الذي تجرأ فأعاد طرح موضوع توجههم من منظور آخر غير ذلك السائد حاليًا في الأدبيات التي تتعرض لهم في منطقتنا العربية. ما يعني ربما أيضًا أنَّ ما طرحته قد أعجبهم نسبيًا، رغم ما يتضمنه تجاههم من نقد قاسٍ وعميق من حيث الجوهر. وهذا كان مدعاةً لسروري من جهة؛ ولكنه من جهة أخرى دعاني إلى المزيد من التفكير. لأن غايتي، كما سبق وأشرت وأعود فأؤكد، لم تكن إطلاقًا الترويج لهذه العشيرة وإنما من بين أمور أخرى دفع الجميع (ومن بينهم أبناؤها) إلى المزيد من التفكير والتأمل في المبادىء السامية من جهة، وفي الممارسة الفعلية لهذا التوجه على أرضية واقعنا الإنساني والوطني القائم من جهة أخرى. لذلك، كان أول ما فعلته حين فكَّرت بنشر هذه المحاولة في كتاب مطبوع أن اتصلت بمعلمي وصديقي الحبيب الأستاذ ندره اليازجي، فوضعت هذا البحث المتواضع بين يديه وطلبت منه التكرم بكتابة مقدمة له. وكان هذا ما فعله مشكورًا بكل عمق وتواضع. هذه المقدمة الفلسفية والسرَّانية الرائعة التي أتبناها بالكامل (التي نشرت أيضًا على صفحات موقع معابر[2])، والتي أصبحت الفصل الأول من هذا الكتاب. لماذا؟ لأنَّ أهم ما تبينه هذه المقدمة، التي تتحدث عن البنَّائية السرَّانية والروحانية، هو جمالية المبدأ وعمقه من جهة؛ ولكنها من جهة أخرى، تبيِّن انحطاطه على أرضية الواقع على يد أبنائه الذين لم يتفهموا طابعه الروحاني والإنساني، إنما وسموه بميسم عقائدهم وتوجهاتهم الدنيوية والعقائدية والسياسية الخاصة. وأخص هنا بالذكر تحديدًا توجه (بني بعريت أو أبناء العهد اليهودي والصهيوني) الذي كرَّس وجوده وأصبح نافذًا في قلب هذه المنظمة، التي تخلَّى عنها (طوعًا أو أجبر على ذلك مع الأسف) الكثير من أبنائها الناطقين بالعربية. وهذا ما جعلني أتفكر في أهم ما يوجَّه إلى هذه المنظمة من اتهامات في بلدان كبلداننا، وأدى إلى التشكك بها، ومن ثم إلى حظرها. ألا وهو ما ينسب إليها من ارتباطٍ بالصهيونية وبدولة إسرائيل التي ما زالت منذ قيامها وحتى تاريخه عدوةً لنا. فما هي حقيقة هذا الأمر يا ترى؟ - أول ما يستند إليه خصوم الماسونية في بلداننا هو أنَّ معظم رموزها وشعاراتها (كالنجمة السداسية مثلاً، وأسطورة بناء هيكل سليمان، وأسطورة حيرام الصوري،... الخ) هي رموز وشعارات "يهودية" بمعنى أنها مستقاة من التوراة (أو لنقل من العهد القديم وفق التسمية المسيحية لهذا الكتاب). وهذا صحيح. - وأنها أيضًا تنظيم سرَّاني (عمليًا سرِّي) ذو تراتبية هيكلية تنظيمية وتشعبات دولية. وهذا أيضًا صحيح. وهذه الأمور قد أدَّت، في فترة زمنية تميَّزت بتأجج المشاعر القومية، أقصد في أواسط الستينات من القرن الماضي، إلى قرارات الحظر التي صدرت بحقها في بعض البلدان العربية، حيث كانت الماسونية علنية في سورية ومصر مثلاً. ولكن... حين نتفكَّر بقليل من التعمق في التهمة الأولى المتعلقة بارتباط الكثير من رموز هذه العشيرة بالتوراة، نجد أنَّ هذا الاتهام الأساسي الذي يستند إليه معظم خصومها هو الاتهام الأضعف من بين تلك التي توجه إليها. فالتوراة، كما هو معروف، هي أيضًا كتاب مقدس لدى المسيحيين ولدى المسلمين. ورموزه، وعلى رأسها النجمة السداسية، موجودة في كلِّ مكان في بلدنا.
الجامع الأموي– مئذنة عيسى أما الاتهام الثاني الذي يقول بأنها تنظيم هرمي سرِّي (لأن هناك من يخلط عن جهالة بين السرَّانية والسرِّية) ذو تشعبات دولية، فإنه يبدو لي أكثر جدِّية وبالتالي أكثر خطورة. لماذا؟ لأن الماسونية، كتنظيم وتوجه، هي تجمع نخبوي من جهة، وأممي من جهة ثانية. ما يعني أنَّ لها تشعبات دولية عميقة تسمح مبدئيًا بإقامة علاقات متنوعة بين أفراد من بلدان مختلفة وحتى متعادية. ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تراها، في هذا السياق، التنظيم الأممي الوحيد الذي يسمح بقيام مثل تلك العلاقات في عالمنا؟ والجواب هو قطعًا كلا! حيث أنَّ للكثير من التنظيمات الدينية والعقائدية والسياسية علاقاتها التي تتجاوز حدود بلدانها. وهذه العلاقات لم تكن يومًا سرِّية أو خافية على أحد. ولكن ما حصل في أواسط الستينات، ويمكن فهمه آنذاك، كان كما يلي: - لجأت الحكومات الوطنية والقومية في بعض البلدان العربية، كسورية ومصر، وإستجابة للحالة الجماهيرية السائدة آنذاك، إلى الحل الأسهل الذي كان حظر ذلك التنظيم ومصادرة ممتلكاته (من دون التعرض الفعلي لمنتسبيه الذين لم يكن هناك ضدهم أي مستمسك قانوني). وهذا الإجراء كان، من وجهة نظري، متسرعًا. ما يعني بالتالي أنه يبقى قابلاً للنقاش من حيث المبدأ. - لم يُلغ هذا التنظيم على أرض الواقع، إنما لجأ، في المقابل، إلى المزيد من التقيَّة وإلى المزيد من السرِّية عوضًا عن أن يدافع عن نفسه وعن مبادئه من خلال المزيد من الشفافية والمزيد من العلنية. وهذا ما زال مستمرًا إلى يومنا هذا. الأمر الذي سمح لخصومه، من التوجهات الدينية والعقائدية المحافظة، استغلال تلك الفرصة من أجل شيطنته إعلاميًا. ولكن... الأمور ليست بسيطة في هذه الحياة، كما أنها ليست بيضاء وسوداء، إنما هي، ولحسن الحظ، أعقد بكثير. وهذا ما فهمته السلطات الرسمية في بلادنا منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي حين أصبحت تتعامل مع مثل تلك الظواهر بمزيد من الذكاء والحكمة، كما فهمه بعض أهم المنتمين إلى هذا التيار في بلدنا كالسيد بدر الدين الشلاح الذي لم يجد أية غضاضة في الوقوف علانية أمام الجميع ليقول لنا بكل جرأة وثقة، ومن خلال الصور في مذكراته وهو في نهايات حياته، أن: انظروا هذا هو أنا، وهذه هي قناعاتي العميقة وعلاقاتي. وهذا الموقف، من منظوري، يستحق كل الاحترام والتقدير. يبقى التساؤل المطروح بكل جدِّية هو: هل بوسع أي فكر أو تنظيم سياسي أو عقائدي سلبي أن يستفيد من هكذا تجمع، ضمن واقعنا الإنساني أو المحلي الراهن، من أجل تمرير غاياته ومآربه؟ وجوابي على هذا التساؤل هو: نعم، وبكل تأكيد. لماذا؟ - أولاً: لأنَّ هذا التجمع، كغيره من التجمعات والتنظيمات التي انطلقت من مبادىء سامية، قد تخلى عمليًا عن مبادئه المتمثلة في عمق رمزيته وطقوسه وجماليتها، فتحول على أرض الواقع إلى مجرَّد شبكة من العلاقات النفعية والسياسية التي لم يجد بعض أبنائها أي مانع من استعمال وتحوير رموزها المقدسة لصالحهم. وهذا ما بيناه ضمن سياق بحثنا حين تحدثنا وأكدنا على انحطاط ذلك التجمع وعلى ضرورة أن يصلح نفسه من الداخل وعلى يد أبنائه. وهذا ما أكَّدتْ عليه فلسفيًا مقدمة الأستاذ ندره اليازجي التي تحدثت عن انتفاء البنائية الروحية على أرض الواقع لصالح تلك المادية التي أضحت سائدة مع الأسف. مع لفت الانتباه... - ثانيًا: أننا من خلال قرارات المنع والحظر نكون قد تركنا ذلك التجمع، وما يمكن أن يؤمنه من شبكة علاقات معقدة وواسعة، للآخرين الذين استفادوا منه إلى الحد الأقصى ولم يقصِّروا. مؤكدًا هنا، مرة أخرى، على أنَّ هذا الأمر بالذات لا يعنيني كثيرًا لأنه يبقى فعل سياسة مباشرة وذرائعية. وبالتالي، من منظوري الشخصي، دلالة من دلائل الانحطاط في التفكير وفي الممارسة. وأفصِّل هنا قليلاً من أجل أن لا يساء فهم ما كتبت فيفسر بأنه، كما فهمه البعض، ترويج للماسونية، فأقول إنه يمكن تلخيص أهم المظاهر التي تبين انحطاط هذا التيار بشكل عام، وفي بلداننا بشكل خاص، بما يلي: - أولاً: تعاطي معظم أبنائه ووجوهه البارزة للسياسة المباشرة المحظورة في دساتيرهم. و... - ثانيًا: استفادتهم عمليًا، ومن أجل غاياتهم الدنيوية السياسية والنفعية، من شبكة علاقاته ومن سرِّيته التنظيمية المفرطة الناجمة عن فهم خاطىء جدًّا، إن لم نقل عن لا فهم مطبق، لما تعنيه سرَّانية وسمو مبادئه الروحانية ورموزه. مع التأكيد على أنَّ هذا الأمر كان موجودًا على أرض الواقع منذ البداية. وأنه ما زال مستمرًا إلى يومنا هذا في مختلف أنحاء العالم بشكل عام، وفي بلداننا بشكل خاص. وأفصِّل قليلاً... حيث قلت هذا كان موجودًا منذ البداية، وهذا ما حاولت أن أبيِّنه من خلال بحثي حين تحدثت عن التحول الذي طرأ على تركيبة البنائية عندما تحولت من تنظيم عملي لـأبناء كار فعليين إلى تنظيم انحطت سرَّانيته فأصبح مفتوحًا للنخب السياسية والفكرية والاجتماعية السائدة التي لم تتفهم بمعظمها عمق رموزه المتمثلة في تدرجاته الأساسية الثلاث، إنما ركضت تتسابق من أجل المزيد من الرتب، والمزيد من الدرجات. الأمر الذي حولَّه، كما سبق وبيَّنا، إلى تنظيم استغله البعض من أبنائه من أجل تأمين مصالحهم. وذكرت أن هذا الأمر ما زال مستمرًا في العالم بشكل عام، وإلى يومنا هذا. لأن الماسونية أصبحت، فعلاً وبشكل عام، مع الأسف، مجرَّد تجمع نفعي ذي طابع نخبوي من المنظور الطبقي والمادي المباشر (كنوادي الروتاري والليونز)، ولأنها تعاطت وأصبحت تتعاطى العمل السياسي المباشر وغير المباشر، من هذا المنطلق، ومن هذا المنظار. وقلت في بلداننا بشكل خاص، لأنها، وخاصةً بعد أن منعت، هربت إلى الأمام نحو المزيد من التقية، والمزيد من السرِّية في عالم لم يعد فيه شيء مخبأ. لذا فإننا، من هذا المنطلق، يمكن أن نتفهم أسباب تلك الأخطاء المميتة التي ارتكبتها، والتي استغلها خصومها. كتلك الفضائح السياسية التي كان أهمها مثلاً فضيحة ذلك التنظيم السياسي التآمري ذي الطابع المافيوي الذي عرف بالـ P2 في إيطاليا[3]، في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي. وأيضًا... من نفس المنطلق، يمكن في بلدنا، في الخمسينات، فهم توجه بعض أبنائها حين طالبوا بالتخلي عن الطقوس وبأن يكون لها: ... كلمة نافذة في إدارة شؤون (البلاد) ومقدََّراتها... و... رأي مسموع في سياسة (البلد)...[4] ومن المنطلق الخاطىء ذاته، يمكننا تفسير قرارات المنع التي صدرت بحقها في أواسط الستينات من القرن المنصرم. الأمر الذي يضعنا أمام إشكالية فعلية باتت الماسونية تواجهها، كما بات يواجهها بهذا الشكل أو ذاك أصحاب جميع العقائد والملل، ألا وهي إشكالية التناقض والتعارض الفعلي بين المبدأ وبين ممارسته على أرض الواقع. ما يعني (من منظوري) أنَّ الحلَّ والموقف المطلوب لتجاوز هكذا إشكال لا يفترض أن يكون المنع و/أو الشيطنة (بالنسبة لمن لا ينتمون و/أو من يعارضون ذلك التيار)، ولا في التقية (بالنسبة لأبنائه)، إنما المزيد من الشفافية، والمزيد من التعمق في المبادىء الأخلاقية والروحانية السامية التي تحدث عنها، في مقدمة هذه المحاولة، أستاذنا وصديقنا الحبيب ندره اليازجي. *** *** *** [3] هو الاسم الذي كان يطلق على محفل ماسوني إيطالي ضمَّ العديد من رجالات السياسة والأمن والجيش الإيطاليين ما شكَّل نوعًا من دائرة النفوذ، إن لم نقل دولة ضمن الدولة. وقد أدت فضيحة الكشف عن هذا المحفل (ما بين الأعوام 1979 و1983)، وعن مئات الأسماء الكبيرة التي كانت قد انتسبت إليه، إلى استقالة رئيس الوزراء الإيطالي يومها، السيد أرلاندو فورلاني، وعدد من وزرائه من ضمنهم وزير العدل يومها السيد أدولفو سارتي، وإلى انتحار رجل الأعمال الإيطالي الكبير لوشيو جيلي.
[4] حسين عمر حمادة، الماسونية والماسونيون في الوطن العربي.
|
|
|