خُماسية كوستي بندلي: ثَورة مزدوجة في علم النفس٭

 

أديب صعب

 

في خُماسيَّته الجليلة هذه، يُحْدِث الدكتور كوستي بندلي ثورة مزدوجة في علم النفس. الثورة الأُولى موجَّهة إلى المنهج السلوكي السائد في الثقافة الأنكلوسكسونية، الذي خفضَ دُعاتُه علم النفس إلى دراسات إحصائية لجوانب من السلوك البشري. وبالَغَ عددٌ من هؤلاء في تركيزهم على هذه الطريقة ورفْضهم كل ما عداها إلى حد إخراجهم الفردَ البشري كليًا خارجَ اهتمام علم النفس وقَصْرِهم هذا العلمَ على الجماعة. والجماعة قد تكون كيانًا وَهْميًا مضلِّلاً إذا كان الفرد هو المقصود. فالنظرة القائلة بأن الأقلية العرقية أو الدينية في مجتمع معيَّن تُناصِر الحركات السياسية الراديكالية في ذلك المجتمع – وإنْ كانت نظرة مبرهَنة إحصائيًا – لا تعني أن هذا الفرد أو ذاك من تلك الفئة مناصِرٌ بالتأكيد للسياسة الراديكالية، كما لا تُعين المرشد النفسي بالضرورة على مساعدته لتَجاوُز حالة انعزال عن الآخرين أو عداء تجاههم أو عدم ثقة بهم.

الجانب الأول من ثورة كوستي بندلي في علم النفس، إذًا، هو استعادة الشخص البشري من حيث هو فرد بعدما سلبَه المنهج السلوكي هذه الفردية عبْر خَفْضه إلى كيان جماعي وَهْمي. وقد تبنّى المؤلفُ التحليلَ النفسي منهجًا يتجلى الفردُ في ضوئه مثل كل الأفراد في أُمور معينة، ومثل بعض الأفراد في أُمور أُخرى، ومثل لا أحد، أي فريدًا مفْرَدًا في أُموره كلها. هذا يعني تبَنّي منهج سيغموند فرويد، مطْلِق ثورة التحليل النفسي، خصوصًا في نَسْج نظرته إلى الإنسان انطلاقًا من مرحلة الطفولة الأُولى. فالطفل هو "أبو البالِغ" حسب تعبير الشاعر وليم ووردزوُرث. وما أنتَ عليه اليوم هو ما كنتَه طفلاً. وبما أن هدف الطفل هو السعي إلى إشباع حاجاته، فلا يمكن فهم الفرد إلا في ضوء هذه الحاجات.

لكن كوستي بندلي يفترق عن صاحب "الثورة العلمية الثالثة" كما يسمي فرويد نفسَه، أي ثورة علم النفس بعد الثورة الفيزيائية على يد كوبرنيكوس والثورة البيولوجية على يد داروين: يفترق عنه عندما يحاول فرويد خَفْض الحاجات النفسية إلى عدد قليل من الحاجات أو الغرائز البدائية، مع نزوعٍ نحو خَفْضها كلها إلى الغريزة الجنسية. ويَعتبر بندلي هذا الخفض مجافيًا للعلم لأنَّ العلم لا ينسجم مع النظرات الشمولية التي تحاول فرْض مبدأ واحد لتفسير ظواهر الوجود. ويركِّز على الحاجة الدينية، رافضًا وَضْعَها في إطار الإضفاء الطفولي لغريزة الحماية على العالم الخارجي، مع تَصَوُّر سماء خارج هذا العالم وإلهٍ-أب ذي قدرة ورعاية.

ولئنْ كانت ثورة كوستي بندلي الأُولى موجَّهة ضد المنهج السلوكي في علم النفس باسْم المنهج التحليلي، فثورته الثانية موجَّهة ضد المنهج التحليلي نفسه على الطريقة الفرويدية للعودة بهذا المنهج إلى نطاق العلم الذي لا يطيق أي نزعة شمولية تخفيضية. واختصارُ القول أنَّ علم النفس التحليلي حسب طريقة بندلي قائمٌ على نظرة فلسفية إلى الانسان والكون والله، هذا المثلَّث الذي يفسِّر المؤلفُ بواسطته نظرتَه إلى الوجود ويجعله أساسًا يقيم عليه منهجه النفسي التحليلي. الفلسفة الميتافيزيقية، إذًا، أي النظرة إلى الوجود، هي، في نظر بندلي، الأساس الذي يُرسَى عليه كل علم. وقد أَدركَ فرويد هذه الحقيقة، الأمرُ الذي جَعلَ أتباع المنهج السلوكي يَعتمدون عبارة "ما وراء علم النفس" meta-psychology، لِوَصْف طريقته انتقاصًا. إلاَّ أن كثيرين من المتأثرين بالسلوكية باتوا يدركون حاجة كل علم أو نشاط إنساني إلى هذا الأساس الفلسفي أو الميتافيزيقي لتَلَمُّس الطريق نحو علم أشد رسوخًا. لكنْ في حين أن الميتافيزيق الفرويدي مادي، لا مكانَ مستقلاً فيه للأُلوهة، فالميتافيزيق البندليّ قائمٌ، كما قلنا، على مثلَّث الإنسان والكون والله. وهو مثلَّث متكامل، لا بدَّ من أن ينكسر إذا نُزِع واحدٌ من أضلاعه أو خُفِض إلى سواه.

ويمكن النظر إلى هذه الخماسية كعمل أساسي في علم النفس الديني ضمن علم النفس ككل. وما أحوجَنا إلى مؤلَّفات في هذا الحقل، خصوصًا بالعربية. وكونُها موضوعةً في اللغة الفرنسية، فالخماسية تنتمي إلى الثقافة الفرنسية. لكنْ بما أن مؤلِّفها بالفرنسية عربيَّ اللسان، فهي تنتمي كذلك إلى الثقافة الفرنكوفونية. كما أنَّ كتابات بندلي العربية الغزيرة في هذا الموضوع من شأنها أن تضع مجموعته، وإنْ كُتبَت بالفرنسية، ضمن الثقافة العربية أيضًا. وهنا أُعبِّر عن أُمنيتي في أن تنشأ مدرسة عربية في علم النفس، يَطيب لي وَصْفُها بالمدرسة البندليَّة، تُتابِع التأليف في العربية بالإفادة من لغة كوستي بندلي المبسَّطة والعلمية في آنٍ معًا، لعلَّنا نَنأى بعيدًا عن الكتابات العربية الرديئة لا في علم النفس فحسب، بل أيضًا في علم الاجتماع والفلسفة والإنسانيات عمومًا. والمؤسف أنَّ كثيرًا من هذه الكتابات وَضَعَها أشخاص يحملون ألقابًا أكاديمية، واصفين أنفسَهم بأنهم مؤلِّفوها، بينما هي حقًا ترجمات سيئة جدًا عن أُصول أجنبية.

أخيرًا، أتمنى أن تَعتمد دوائرُ الإنسانيات الجامعية مجموعةَ كوستي بندلي مرجعًا رئيسيًا من مَراجعها، إذْ لا غنى عنها للأُستاذ والباحث والطالب في علمَي النفس والاجتماع والتربية والفلسفة واللاهوت والدراسات الدينية، وعلى الأخص للراعي الديني الذي طالما خاطَبَه المؤلِّف في كتاباته المتنوِّرة.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ كلمة أُلقيَت ضمن ندوة عقدتها جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت حول خمسة كتب للدكتور كوستي بندلي عن سيغموند فرويد والتحليل النفسي والإيمان الديني.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود