|
تحوُّلات الخطاب الوطني في السرد السوري المعاصر٭
تذهب كلمة "تحولات" جهات التغيُّر، ما يضعنا في قلب المكابدة، وينأى بنا عن مفهوم الانعكاس، الذي قد يشي بعملية ميكانيكية تقوم على نقل الواقع أو تصويره، وهذا – على نحو ما – يُفقد المادة الحياتية – في أبعادها المتشابكة – تنوُّعها وتشظيها الباذخين، كما يُفقد الأدب – في تعبيره عنها، أو اشتغاله عليها – ثراه وتباينه، فما هي طبيعة التطوُّر الذي ساسَ الخطاب السرديَّ العربيَّ بداية، والسوريَّ في المقام الرئيسي!؟ وهل لهذا التطوُّر أن ينأى بنفسه عن اندياح السياسيِّ على الحقول الأخرى، أي على الاقتصادي والاجتماعي ومن ثمَّ الثقافي!؟ حسنًا، ثمَّ ماذا بعد!؟ هذا ما سيتساءل القارىء عنه ربما. وللإجابة سنبدأ من حيث انتهينا، لنشير إلى أنَّ المرجعية التي تأسَّس عليها النثر العربي، كما نوَّهنا – مُخطئين أو مُصيبين – في غير موضع، ترجع إلى ثورة الشريف حسين بن علي 1916، تلك الثورة التي اشتغلت على تجسيد حلم العرب في تأسيس دولة حرَّة وناهضة في مشرق الجهات، واللحاق بركب العالم المتقدِّم، وهي – في ما نتوهم – الأهداف ذاتها التي أجمعت عليها الجمعيات العربية في انطلاقتها، ابتداءً بـجمعية العهد ربما، وانتهاءً بـالعربية الفتاة. صحيح أنَّ ظاهرة العسكرتاريا في تسنُّمها لمقاليد الأمور في عموم العلم المُخلَّف كان كسرًا لهذا الحلم وباسمه، حدث هذا في سورية في العام 1949، وذلك في أعقاب هزيمة الـ 48 أمام الكيان الإسرائيلي، لتتوطد بالتدريج دولة العسف، بيد أنَّ الانكسار الرئيسي في هذه المرجعية تشكَّل في أعقاب هزيمة حزيران 1967، ذلك أنَّ تلك الهزيمة عرَّت النظام الرسمي العربي، وبيَّنت لجمهوره مدى هشاشته، لذلك ربما احتكمت العلاقة بينهما إلى عصا الرعي المسيحية بحسب ميشيل فوكو، وتلخص دور النخب الحاكمة في كبح الحراك الاجتماعي أوضبطه!. هذا هو المناخ العام الذي أحاط بإنتاج روايتي الأولى فوضى الفصول، ناهيك عن اشتغال شبيه بما جئت عليه في مجموعاتي القصصية، وسأشير إلى ما لي وما عليَّ في هذا الإطار، وسأبدأ بالسلبي، لأقول بأنني كغيري من الروائيين وقعت في مطبِّ التاريخي، بسبب ممَّا أتيت عليه من تمفصل السياسي بالاجتماعي والاقتصادي والثقافي مع هيمنة لمصلحة الأول، ذلك أنَّ زمن الرواية يتحدَّد بين الفترة التي أعقبت الاستقلال وثمانينات القرن الماضي، هذا شبيه باشتغال خيري الذهبي مثلاً في ملكوت البسطاء، وطائر الأيام العجيبة، أو اشتغال نبيل سليمان في مدارات الشرق، أو اشتغال هاني الراهب في الوباء، أو اشتغال وليد إخلاصي في الحروف التائهة، أو اشتغال حيدر حيدر في الزمن الموحش!. صحيح أنني قمت بجهاد النفس، على حدِّ تعبير الراحل إلياس مرقص، فتخلَّصت – أو حاولت – من آرائي السياسية المُسبقة، وتأمَّلت في المشهد الكليِّ، لأصل إلى استنتاجات منطقية – بحسبي – ووطنية، ذلك أنَّ الشخصية المحورية عندي – على المُستوى الواقعي – ستصل إلى ضرورة إعادة النظر في تجربتها الحياتية، وفي هذا المُستوى ستتساءل إن كان ثمَّة في العمر مُتسَّع!؟ ربما أنها لكي تبدو مُقنعة، كان عليها أن تتمرأى كشخصية من لحم ودم وبلغم، ولكن، وعلى مُستوى النمذجة، كان المُؤدى، كمقولة مُتوخاة، هو أنَّ التيارات السياسية الرئيسة، يمينًا ووسطًا ويسارًا في قراءتها للمرحلة، مُطالبة بإعادة النظر في خطابها!. والآن، ما هو جديدي الذي قد أبرِّر به كتابتي لتلك الرواية، هذا إذا أخذنا الجدة والفرادة كمقياس!؟ وفي الإجابة سأزعم بأنَّ الحديث الشخصي عن الصدق في خطابي الروائي غير وارد، ذلك أنَّ الإقرار به – أو نفيه – شأن الآخرين، بهذا المعنى سينصبُّ الاختلاف – إن كان ثمَّة اختلاف – على الرؤى لا على النوايا، هذا بداية. أمَّا إذا تحرَّينا في الأبنية الفنية، فإنَّ الرواية في حدود قراءاتي المتواضعة هي الوحيدة التي جاءت، في مُجملها، عبر ضمير المُخاطب. ربما أكون قد حرمت الشخصيات الأخرى حقها في التعبير عن نفسها، ذلك أنها تقدَّمت من خلال الشخصية المحورية، أي كما تراها هي، لا كما هي عليه تمامًا ربما. وأنا اليوم أخاف أن أصادف إحداها، فتذكِّرني بالغبن الذي وقع عليها، مُدَّعية بأنها لو أتيح لها أن تتكلَّم، إذن لعبَّرت عن نفسها بشكل مُغاير. لقد تغيَّرت الكثير من رؤاي الفنية والفكرية، إذ تصرَّم على صدور الرواية أربعة عشر عامًا. مؤكد أنني لا أروم التنصُّل من تبعاتها، فهي جزء من تاريخي الشخصي، لكن التطوُّر سمة افتراضية مُلازمة، خاصة في حالة الكاتب، بما هو فنان. وفي جانب آخر سأزعم بأنني اشتغلت على المكان بشكل خاص – على الأقل على مستوى التنفيذ –، إذ حاولت أن أترسَّم تأثيره في شخوص العمل. لقد أردت أن أسرَّ للقارىء على نحو حميم بأن أمكنة فظة في مناخاتها، شحيحة في ألوانها، ستنتج – بالضرورة – أناسًا قساة. بيد أن ما تقدَّم ككلٍّ أضحى قيد ماض بعيد نسبيًا، فلقد ساس تطوُّر مُذهل الأبنية الفنية والتقانات لهذا الجنس، ما يفترض اشتغالاً مُختلفًا اليوم. لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحولات دراماتيكية في اللوحة العالمية، فإذا بالاتحاد السوفياتي – في معرض انهياره – يترك أوروبا الشرقية تذهب لحال سبيلها بداية، ثمَّ يتفكَّك هو نفسه لاحقًا. كان واضحًا للعين المُتحريّة بأن الولايات المُتحدة الأمريكية صاعدة لتسنُّم زعامة العالم منذ نهايات الحرب الكونية الأولى، وما القنبلتان النوويتان اللتان ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي – بلا داع – إلاَّ إعلانًا لتوكيد تلك الزعامة! واليوم، وبعيدًا عن صدام الحضارات كما جاء على لسان صموئيل هنتغتون، الذي رأى في الولايات المُتحدة منطقة صدع، ستتحصَّل امبراطورية مُعاصرة على قوة لم يسبق لأيِّ امبراطورية أن تحصَّلت عليها عبر التاريخ في مفاصله المختلفة، لتعمل – من ثمَّ، حالها في ذلك حال الامبراطوريات كلها – على تحقيق حلمها في الهيمنة على العالم، فتبدأ بأمريكا اللاتينية، أي بحديقتها الخلفية كاصطلاح دارج ومُهين، عبر إبعاد النفوذ التقليدي لأسبانيا والبرتغال عنها، وبالمعاني كلها ستكون النتائج كارثية على تلك البلدان، ابتداءً بجمهوريات الموز – في تداعيها المُدوي – وانتهاء بالبرازيل – الدولة القارة – التي تهاوت قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة فيها، على إثر إعادة هيكلة اقتصادها وفق مُقتضيات/أو مُتطلبات الاقتصاد الأمريكي. وفي حلقة ثانية ستيمِّم وجهها نحو أوروبا المُثخنة بجراحها، غبَّ أن خاضت حربَيْن كونيتيْن، لتتفتق عبقريتها عن مشروع ماريشال المعروف، الذي تبدى عن رهافة إنسانية بالغة في مظهره الأول، لكنه – في أسِّه البراغماتي العميق – يندرج في استحالة تصوُّر أمريكا مُزدهرة من غير أوروربا قادرة على الاستيراد والتصدير. في ما بعد كان يكفيها أن تلوِّح بالخطر القادم من الشرق لتسارع إحدى عشرة دولة أوروبية إلى الانخراط تحت رايتها، فيتأسَّس حلف شمال الأطلسي لأغراض دفاعية. بيد أن احتلال أفغانستان سيسقط ورقة التوت هذه، وسيكمل احتلال العراق تمام الصورة، فيتكشف عن حلف يتجاوز وظيفة الدفاع، ليس إلى الهجوم فحسب، بل إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة عبر العالم. إن من يتأمل خارطة أوروبا السياسية، سيعرف كيف ترتبت أوراقها، بشكل يمنع قيام أي تقارب/أو وحدة مُحتملة بين دولها ما أمكن، أي بشكل يمنع تشكُّل قطب آخر، وما منطقة البلقان التي ضمَّت شعوبًا شديدة الكراهية لبعضها في كيان سياسي واحد إلا مثالاً بالغ الإفصاح عمَّا نزعمه. ثم أن احتلال أفغانستان لا يبعد في أحد وجوهه عن الوقوف بوجه قطب آخر – مُحتمل – يجمع روسيا، المُتحصِّلة على ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، إلى الصين الناهضة والهند، غير بعيد عن تجمُّع الآسيين المدعومة من اليابان. بقي عليها أن تبعد النفوذ التقليدي لانكلترة وفرنسة عن كلٍّ من آسيا وأفريقية، وهذا بالضبط ما قامت به لاحقًا، وما يجري من صراع على امتداد قارة أفريقية إن هو إلاَّ تصفية لبقايا النفوذ الفرنكفوني هناك. حق تقرير المصير، السيادة على الثروات الوطنية، على المياه الإقليمية، الدولة الوطنية، وسوى ذلك من شعارات كنا قد تربينا عليها أضحت، أو تكاد تضحي، قيد ماض راح ينأى. وها هي رياح العولمة في وجهها الاقتصادي المُتوحِّش يرسم ظلَّه الثقيل على حاضر الدول ومُستقبلها ربَّما! اتفاقية "الغات"، وإخضاع الدول بشكل مُضمر/أو مُعلن لشروط البنك الدولي، ما يعني تخلي الحكومات عن دور الراعي لمواطنيها، وتركها لعراء الرأسمالية المديد، تآكل الشرائح الوسطى، بشكل يؤدي إلى تغيُّر بنيوي في التركيبة الاجتماعية التقليدية لكثير من بلدان العالم المُخلَّف، ويطرح أسئلة مُقلقة عمَّن سيحمل مشاريع التغيير في غيابها، أو عمَّن سيُنتج الخيرات المادية للمُجتمع، ويستهلك – من ثمَّ – الثقافة والفنون!؟ وفي المُجتبى ستتساءلون، مرة أخرى، ماذا بعد!؟ وسأقول: هذا هو الحاضن أو الأرضية لتحوُّلات الخطاب الوطني في السرد السوري المُعاصر، وهذا ما ينبغي أن نشتغل عليه – تفكيكًا وتحليلاً – عبر أبنية فنية روائية. أمَّا عنّي – بالمعنى الشخصي للعبارة – أنا الآن أشتغل على عملين بآن، الأول يتكىء على الحبِّ كعاطفة نبيلة في مُجمل نسيجه، ذلك أنني أزعم بأنَّه – أي الحبَّ – قيمة بذاته، بعيدًا عن احتمالات الربح والخسارة، هو عمل شبيه بـ قصة حب مجوسية لعبد الرحمن منيف، أو حادثة النصف متر لصبري موسى. وعلى نحو ما أشتغل على الأسئلة التي تقلقني وتؤرقني كإنسان وفنان ينتمي إلى رقعة جغرافية مُحدَّدة، تلك التي طرحتها في البدايات من خلال عملي الثاني، هو الآخر عمل روائي، على أمل أن أتمكن من الإحاطة ببعض تلك التحوُّلات، مُستفيدًا من تداخل الأجناس الأدبية كمُصطلح نقدي غير قارٍّ بعد، من تعدُّد الأصوات، ومن الأسطرة أيضًا، ربما لأن وظيفة الأدب تكمن في إثارة الأسئلة، لا في تقديم الأجوبة، وذلك على عكس ما يتوهَّم الكثيرون. أظنُّ بأن ثمَّة اشتغالاً نقديًا قادمًا على الطريق، فلقد كنت أكتب مقالاً دوريًا في الموقف الأدبي عن القصص التي تنشرها المجلة، وإذن فالقصة السورية هي موضوع هذا الاشتغال، في عمل إجرائي مُتأمل ومُستخلص، وهذا كلُّ شيء!. ٭ ورقة عمل ألقيت كشهادة في ندوة تحولات الخطاب القومي والوطني في السرد السوري المعاصر، جامعة الفرات، 2010.
|
|
|