محمد ساعة والسرُّ الأعظم وكباب الكاظم

 

وليد عبدالله

 

قبل أسبوع سمع السجناء في الموقف العام في مديرة الأمن العامة في بغداد في إحدى سنين الطاغية المتوحش صدام، أن عناصر الأمن الخاص قد قبضت على قيادي عميل كبير وشخصية مهمة، وسيصل السجن يوم السبت. وصل هذا الخبر من حارس الأمن عدنان الموصلي في إحدى نوبات الحراسة الليلة وهو يتحدث مع بعض السجناء في زنزانة قريبة من الباب الرئيسي. انتشر الخبر بسرعة هائلة وبدأت تفاصيل تظهر وتحاليل ونشرات أخبار بسرعة فائقة. كل السجن في ترقب وانتظار السجين القيادي الكبير فمنهج الانتظار طريق يعرفه العبيد الواقفون في باب الجزار المقدس.

اليوم الأول: السبت

عيون السجناء على الباب الرئيسي تنتظر السجين الجديد حسب الخبر، ونومهم متقطع منذ يومين متتالين يفسرون وينقبون ويعتقدون أنه ربما من الخط الأول في تنظيماتهم الدينية، وكلٌّ يمدح تنظيمه ويصف رجاله بالأبطال، ويتحدثون عن قوة أحزابهم وكيف دوَّخت الحكومة وحاربتها، وعن قوتهم الحزبية، بالإضافة إلى أحاديث مقدسة تفز بين الحين والآخر، وحكايات تاريخية لها عمق في ذاكرة الأمة العراقية.

وقد حصلت خلال فترة انتظار وصول السجين الجديد والمثير للجدل، زيادة كبيرة في معدل إنتاج الأحلام رغم قلة النوم. كان الشهر هو "آب" (اللهاب الذي يحرق البسمار في الباب)، وقد كان شهرًا قاسيًا علينا جدًا جدًا جدًا حدَّ الجزع في مكان مستطيل طويل ومغلق تمامًا إلا من فتحة التهوية الصغيرة في الأعلى. السجن عبارة عن طابق كامل في بناية الأمن العامة ويسمى القاوش، وهو مفصول بقضبان حديدية تسمى زنزانات، مرقمة ويمكن رؤية السجناء لبعضهم من خلال القضبان. الحرارة لا تطاق، والهواء ضيق ولا يكفي، وأنفاس السجناء تريد أن تحتفظ بأكبر قدر من الأوكسجين في حالة الشهيق، وتريد أن تتخلص منه لأن الهواء حار وعفن والروائح تعطر المكان وتنبعث من كل فتحة في أجسادنا، أما جلودنا الصفر المهترئة فمليئة بفطريات غريبة ربما انقرضت من الحياة، وكل ملابسنا مزخرفة بالقمل الأبيض والأسود والأصفر والبرغوث الذي يمتص دمائنا بدون أية عوائق، فهو يسرح ويمرح إلا من تقع مصادفة في يد أحدهم عند نوبات الحك المستمر فيكون مصيرها الإعدام قصعًا وتشفيًا.

كانت إحدى تسابيحنا، أنا وصديقي ناظم الملحد، هي اللعنة على القمل الأبيض والأسود، فكلاهما يمص دمائنا بلا خوف ولا وجل.

أيقنت من خلال كل لحظات الموت التي مررت بها أثناء التحقيق المرعب، وخاصة عندما وضعونا في برميل فيه ماء قذر ومغلق إلا من فتحة صغيرة – عندما تجلس فيه يغطي الماء رأسك فلا تقدر الجلوس ولا القيام – ولمدة يوميين متتالين؛ بأن هناك خديعة كبرى تحيط بنا من كل جانب، وأن العبيد وحدهم سيدخلون النار، وأنهم محشورون في مسالخ القصابين، لكنهم ليسو ككل القصابين، إنهم قصابون مقدسون حسنو المظهر، ثيابهم بيضاء وعليهم هالة من نور، ولا تبدو على ملابسهم آثار للدماء. وثقنا بكل قصابي الرب، وآمنا بهم، وسقنا أجسادنا إلى المسلخ المقدس ونحن نقوم بتنظيف رقابنا كي تكون مستعدة للذبح المقدس فقط. لكننا في نهاية المطاف عرفنا أن قصابي الرب الذي رباهم باقتدار، وبحرفية فذة، لممارسة مهنتهم المفضلة وهي عشق اللذات والهمينة وتحشيد الأضحية له فقط، وبنا فقط، نحن اللاهثون وراءه بلا مسافات؛ يسرقون أوقاتنا، ومن زمننا تبنى بيوت الرب المقدسة، وأجسادنا طعام أبدي لديمومة العقائد التي تشير دائمًا إلى رقاب نعاجها القادمة.

في وقت العصر، فُتح باب السجن الرئيسي فدخل شاب طويل القامة أبيض اللون شعره يميل للاصفرار، قصير وسيم الوجه جدًا، وتتوسط أحد خديه شامة سوداء كبيرة، وكان هو السجين المنتظر. وصل إلى زنزانة حجي كاظم أبو جهاد. دخل الشاب وهو مرعوب تمامًا ولم يفتح فمه بأيَّة كلمة.

كل السجناء في باقي الزنزانات ينظرون إليه بوجل، ويصعدون على بعضهم البعض من أجل نظرة واحدة ربما تقع على السجين محمد ساعة. امتلاءت واجهات الزنزانات بأجساد النزلاء الذين يحركون عيونهم فقط في كل الجهات لتبحث عما يفعله الشاب، ومنهم من يقول إن وجه الشاب نوراني ماشاء الله، وإن الزنزانة امتلأت بالنور، وانتشرت في المكان روائح عطرة.

تقدم حجي كاظم وقال له: "تفضل أستاذ، مولانا العزيز. هذا مكان مناسب لمقامك الكريم، مولاي، الحمد لله الذي شرفنا بك".

طبعًا، المكان الذي حصل عليه الشاب يحلم أي سجين بالوصول إليه بعد أن يمر بكل تجليات الزنزانة، ويتعرف على أنواع القذارات، ويتنفس كل روائح الأصدقاء وأبوالهم عندما يقضون حاجاتهم ليلاً حتى يصل إلى زاوية السجن، أي "الركن" – يعني بعيدًا عن المبولة الليلية. كما لم يتوسط جسدين، ويرى الويل، خاصة مع الكبت بكل تجلياته، والفحولة الطافحة على أضعف الأحياء، وبيجامات السجناء مرتفعة أغلب الأحيان كأنها خيمة. ومن الواضح في أعراف السجن أنه لا يجلس في هذا المكان أي شخص بسهولة كما حصل مع الشاب الجديد، بل يجلس فيه القدماء من السجناء أو الشخصيات من شيوخ الدين أو قادة التنظيمات.

جلس الشاب، وهو لا يعرف سرَّ المكان، يتفحص الأشياء والاصفرار يغطي وجهه، مرتجفًا كأنه شجرة خاوية، متعرقًا من كل الجهات، وماسحًا عيناه الطفوليتان البرئيتان جدًا وفمه جاف وأبيض من الخوف.

بقي الشاب محمد ساعة صامتًا. وكان السجان عدنان الموصلي قد أطلق عليه، حين أدخلوه الزنزانة، وهو يقهقه: "أجاكم محمد أبو ساعة... أبو الساعات. البطل العظيم".

انتهى الليل والشاب محمد ساعة صامت جدًا، يدير وجهه عن أيِّ شخص يسأله سؤالاً، لا يتحدث مع أيِّ شخص ولا ينظر إلى الوجوه أبدًا. فقط ينظر إلى الأعلى وكأنه يرى شيئًا ما في السقف مما جعل رؤوس السجناء، كل الليل، تنظر إلى سقف السجن، وفي كل الجهات، لمعرفة سبب نظرة الشاب إلى الأعلى.

أول خبر وصل وتم تداوله بين السجناء هو ما قاله حجي كاظم أبو جهاد وهو يتمعن في وجه الشاب، ويراقب كل حركاته – بقي ساعات ينظر إلى الأعلى –: "إن الشاب صامت، وصمته ينم عن حكمة وتدريب، وقوة الصمت من صفات الأولياء، وإن الشاب محمد ساعة ينتظر خبرًا ربما يأتي من السماء، لأنه لم ينزل رأسه حتى هذه اللحظة، مواصلاً التأمل في السماء والله والعالم". انتهى الخبر.

والشاب محمد ساعة – كما ذكر ابراهيم قيمة عندما دخل وراءه وهو في الحمام –: "أبقى رأسه مرفوعًا إلى السماء، وأنا سمعت حديثًا نبويًا من أحد الشيوخ في التلفزيون يقول إن الأولياء والأئمة لا ينظرون إلى غائطهم أبدًا – وقاطعه رضا الرادود: "هذا إن صحت الرواية بأن للأنبياء والأئمة غائط أو نجاسات" – هذا من جهة، ومن جهة أخرى شاهدت نورًا يحيط بالحمام كأنه مصباح عمود كهرباء ضخم جدًا، ولقد التفتَ الشاب وابتسم لي بشكل خاص وسمى باسم الله، وسمعت صوت رفيف أجنحة يخرج من الحمام، والله العالِم". انتهى حديث ابراهيم قيمة.

حلَّ الليل ونام حتى القمل والبرغوث في أجسادنا من كثرة الحكايات، ولم يبقى أحد إلا وتحدث عما شاهده من كرامات هذا الشاب، وتعددت التفاسير والتأويلات، وغفونا على وسائد أساطيرنا يشاطرنا الوهم أحلامنا العقائدية.

يوم الأحد

في أول ساعات الصباح دخل مفوض الأمن طارق، ونادى على اسم محمد ساعة. فتح الباب له وأمسك رأسه وأداره، ووضع الكلبجة على يديه وسحبه من قميصه إلى الباب الرئيسي. أخذوه إلى التحقيق والانتظار في عيون السجناء يتحول إلى قلق. ومما زاد في الترقب هو انتظار دخول الشاب محمد الذي تأخر كثيرًا في التحقيق. "ربي سهِّل عليه، وخفِّف العذاب عنه، واجعل نار التحقيق بردًا وسلامًا كما جعلتها على ابراهيم وآل ابرهيم"، هذا كان دعاء حجي كاظم الذي ردَّده بصوت عال.

حكايات هنا وهناك، وخاصة من جماعة الناصرية الأهوار. جماعة مدينة الفهود أطلقوا إشاعة اعترض عليها حجي كاظم بقوة وقال: "التقية ديني ودين آبائي يا مؤمنين، وعدم تسريب المعلومات أفضل. يا جماعة اتقوا الله، ما تزال الأمور غامضة، وفي السرعة الندامة وفي التأني السلامة". وردَّ عليه مناضل وتوت المجنون: "شنهو قابل عدك تريلة... أبو الندامة ورب الكون. اشتم ريحة كذابين هواي...". ضربه ميثم حسون: "ولك اشلون تشتم. هو الكذاب إله ريحه. اسكت وخلي نسمع وين وصلت الأمور".

وصلت إشاعات من جماعة الهور الناصرية بسرعة كبيرة بين الزنزانات تقول إنهم تعرفوا على الشاب محمد ساعة على أنه قيادي كبير في حزب الدعوة الإسلامية، جماعة الأهوار، وهو من أبطال المقاومة، ورجل متمرس في فنون الحرب والقتال.

يبدو أن حكاية جماعة الأهوار أزعجت حجي كاظم أبو جهاد، وهاهو يتعوذ من الشيطان الرجيم. والكل يعرف الحجي كاظم أبو جهاد حافظ كل الأحاديث وأقوال ورسائل الإمام المهدي، وهو كان أحد رواد جامع السهلة في الكوفة الذي يأخذ فيه المؤمنون خلوات من أجل رؤية الإمام المهدي بشكل حقيقي أو عن طريق كشف أو رؤية نورانية كما يسمونها. وحجي كاظم مسكون بكل شاردة وواردة تخص الرجل الموعود – صاحب الأمر والزمان –، ويُعتبر من جماعة الحجتية، وهم الذين ينتظرون ظهور الإمام المهدي قريبًا.

فتح السجان الباب الرئيسي، وأدخلوا الشاب محمد محمولاً على بطانية وهو ينزف من كل الجهات. أدخلوه الزنزانة وحملوه إلى مكانه. يبدو أنه عُذِّب بشكل كبير، وأنه أبدى مقاومة كبيرة. هذا الخبر قاله رضا الرادود لأنه معيد سجون، أي دخل مرتين وله خبرة. قال: "من خلال حجم التعذيب وقوته تعرف قوة قضية الشخص وقوة شخصيته وحقيقته".

المهم، اعتنى الشباب به ونزعوا عنه ملابسه ونظفوا كل ما خرج من جسده، وعملوا الواجب وبالغوا فيه من خلال اهتمام حجي كاظم أبو جهاد بالشاب محمد بشكل خاص. رتل الحجي كاظم القرآن فوق رأسه وقرأ دعاء كميل وردد دعاء الإمام المهدي: "اللهم إننا نرغب إليك بدولة كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله وتذبل بها النفاق وأهله"، وردد الجميع الدعاء معه بطقس جميل وصوت واحد.

بقي الشاب مغميًا عليه طول الليل والجميع يتنظر ويترقب أخباره. ما هي حكايته. منهم من قال إنه سمع من الحراس أنه ضرب أمثلة كبيرة في الصمود أمام التحقيق القاسي الذي اشترك به النقيب عماد غضب والمقدم قاسم أبو درع نفسه.

الخبر الثاني الذي نُقل على وجه السرعة هو أنه كان يهتف باسم الله وولاية الإمام، والأكثر قوة أنه بصق في وجه المقدم أبو درع مما كثَّف عليه التعذيب بأقسى الطرق.

اشتدت عزيمة أهل الهور عند سماع قصص البطولة للشاب محمد ساعة، فنقلوا خبرًا مهمًا انتشر بسرعة هائلة – عند دخول أي خبر صغير إلى أية زنزانة يزاد الخبر ويستع كثيرًا – عن هذا القيادي الكبير محمد ساعة، ويبدو أن هذا الاسم هو اسمه الحركي كما فسره علي معجون، والخبر يقول، والقول لبعض جماعة الهور والله العالم: "في إحدى المعارك الكبيرة قام محمد ساعة بهزيمة جيش لوحده مكوَّن من القوات الخاصة، وأوقع به خسائر فادحة في الأوراح والمعدات حتى سمي نمر الأهوار". وأضاف علي معجون أن الشاب محمد، في الأصل، كان عسكريًا متطوعًا وهرب لينضم إلى صفوف المجاهدين.

قال مناضل المجنون: "خبر بفلوس باجر ايصير بلاش (ياهوش ياجاموس اتبع لو جيرنه)"، وصرخ بأعلى صوته: "يعيش المناضل البطل صدام حسين". ارتفعت النعل عليه وقهقه. صاح عليه أحمد واهس: "أكل تبن ونام"، فرد عليه: "كلنه راح ننام".

توهج حماس مجموعة من أهل مدينة الثورة وبدأوا يقدمون الدعم المادي والمعنوي لأهل مدينة الناصرية في ترويج الحكايات والإشاعات لهم وهم يهتفون ويكتبون الأشعار والهلوسات وبعض الأناشيد والردات وترويجها بين صفوف السجناء. وقدم حجي حسون رمضان الشكر والامتنان نيابة عن أهل الناصرية إلى أهل مدينة الثورة الأبطال، ومنحهم الحقيبة الإعلامية في حال تغيرت الأحوال ودار الزمان.

غنى مناضل المخبل: "دار الزمان وداره... وداره وانقطعت علينه أخباره... أخباره".

نام السجن والقضبان والحشرات ونامت الحكايات بجانب السجناء وهم يحلمون كأنهم على جبهات القتال، ونامت بجانبهم أسلحتهم الوهمية وأدعيتهم وصلواتهم وهم يعدُّون أنفسهم كمشاريع لموت قادم ولقبر مقدس.

يوم الاثنين

نهض فجرًا الرادود رضا المالكي وهو يقلد، كالببغاء، صوت أحمد الوائلي بدقة كبيرة وقد حفظ كل شرائطه عن ظهر قلب. أقام آذان الفجر وصلى السجناء جماعة كل في زنزانته، وبعدها دُعاء الصباح. فتحت الأبواب الساعة التاسعة صباحًا لتوزيع الفطور وبعدها مباشرة دخل مفوض السجن الخفر، وصاح اسم محمد ساعة: "جهِّز نفسك للتحقيق". الشاب محمد ساعة لا يستطيع القيام ولا حتى الحديث. أوصله بعض السجناء إلى الباب الرئيسي وأخذه الحرس.

دخل السجن في ترقب ونُذُر غريبين، وتداولت حكايات لا يتسع المجال لذكرها.

جماعة مدينة الناصرية خافوا أن يتأثروا بموضوع التحقيق ويلحقهم أذى، لأنه قيادي في تنظيمهم وأحزابهم.

ساد ترقب حذر وسارت الحياة طبيعية حتى الظهر. وبعد توزيع الغذاء بدأ حديث خطر يتسع بين أوساط السجناء حول إحدى الرؤى للحاج كاظم أبو جهاد، وهي رؤية خطرة إلا أن الموضوع اتسع، لأن أكثر من شخص قد رأى رؤية في الشاب محمد، والرؤيا سرٌّ يتداوله فقط جماعة حجي كاظم أبو جهاد، وفي زنزنات جماعة مدينة الثورة وبعض الأشخاص هنا وهناك. لكن الحكاية بدأت تظهر عصرًا مع تأخر الشاب محمد في التحقيق كثيرًا.

أخبرنا علي معجون بالحكاية: أن الحجي كاظم أبو جهاد شاهد رؤيةً مفادها أن الإمام المهدي الحجة جاء في المنام إلى الحجي وأوصاه بالشاب محمد ساعة. وقال الإمام بلغة عربية فصحى: "محمد منا أهل البيت". وأعطاه سيفًا كبيرًا ومضيئًا. حينها استيقظ الحجي كاظم. كنا ننتظر تفسير هذه الرؤية العظيمة التي نُقلت في أكثر من وجه، تغيَّر السيف في أحدها إلى حقيبة خضراء كبيرة مليئة بالتعاويذ والأحراز والطلاسم وأسماء أشخاص منهم اسم كاظم، في رواية أخرى 12 ليرة ذهب منقوش عليها، بلغة سريانية، أسماء الأئمة، وفي نقل آخر للحكاية تحوَّل السيف إلى مجوهرات نفيسة عددها 313 – عدد أصحاب الإمام، وراية خضراء وسوداء مكتوب عليها: يا صحاب الزمان.

اتسعت الحكاية وكثرت التفسيرات والتأويلات، وحل الظلام وجاء منتصف الليل والشاب محمد ما زال في التحقيق. نام السجناء وهم ممتلئون بتفاسير شتى ومتلهفون لمعرفة الكثير وفك الرموز. غنى مناضل المجنون: "دوريت بكل درابين المحبه ومالكيت..."

حصل على كلمات نابيه من فم رضا الرادود: "ولك احنه بيّا حال وانت تغني".

قال له مناضل المخبل: "كلشي اتحمل بس ماتحمل رائحة فمك الخايس ورزاذ التفال مالتك. ماعرف اشلون الثيران تلطم وراك وانت توزع تفال على جمهور اللطامة"، ثم ركض إلى أقصى الزنزانة وطلب الحماية من سيد حسن الموسوي. نام السجن والسجان والكل ينتظر واشتد الانتظار، وابتدأت الأحلام تتسع باتساع الوهم والخيال والتخفي بالموت كونه بحر من الإغراء يتسع لكل أحلام الفقراء والعبيد.

يوم الثلاثاء

تطورت الأحداث وتطورت التفاسير وكثرت الرؤى في الشاب محمد ساعة، والتي عززت رؤية ورواية الحاج كاظم أبو جهاد الذي تغير لقبه إلى (الشيخ) كاظم أبو جهاد، وارتدى قطعة قماش خضراء أُخذت من وسادة علي معجون الذي تبرع بها للإمام وهو يردد: "روحي له الفداء".

أحد التفاسير والتأويلات المهمة، وأكثرها رواجًا بين السجناء، لرؤية الشيخ الحاج كاظم أبو جهاد هي أن الشاب محمد يمكن أن يكون الإمام المهدي نفسه، والذي جاء في الرؤية ووصى الشيخ كاظم أبو جهاد؛ أو هو الإمام علي ع وليس الإمام المهدي كما في الحديث الأول. ودليل هذا التفسير أن الشاب طويل القامة ويشبه أوصاف الأنبياء، وعنده شامة على خده، وكيانه كقوام بني اسرائيل، واسمه محمد، وهو من الصامتين وحافظي الأسرار، وهو نور من نور. والدليل الجازم أن معظم السجناء، الكفار منهم والمؤمنون وكل القوميات، شاهدوا بأم أعينهم هالة النور فوق رأسه الكريم.

عندما تواترت الحكاية التي تلاها علي معجون والتفسير الجديد، صلى الجماعة على النبي وآل بيته بأعلى أصواتهم حتى ثلاث.

تصاعدت الهمهمة وانشغل السجناء بهذا التفسير بين مشكك ومؤيد ومتخوف من مصير هذه الحكاية. تغيرت تصرفات (الشيخ) أو الحجي كاظم أبو جهاد بشكل غريب، وقام يمشي بهدوء وبتثاقل ويسلم بطريقة روحانية، وقطعة القماش التي وضعها على رأسه اتسعت أكثر، يمشى وراءه اثنان من جماعته، وبعض السجناء يقبلون يديه، وتكاثر أتباعه الذين وصاهم بكثرة الدعاء والصلاة والتوسل إلى السماء بعد صلاة العشاء لفك ضيق مولانا المقدس الشاب محمد ساعة، وتعجيل إعلان أمره الإلهي، واختبار صحبه وأنصاره ومن الله التوفيق وحسن العاقبة. انتهى.

قام مناضل يصرخ: "ماكو واحد يعبر الجسر، ماكو واحد يعبر الجسر والملاك جبر خائن، تره هو انطرد مع ابليس بس ابليس شريف التزم بالعهد وجبر مؤلف قصص خيال عربي ماعنده وعد صادق. غنوا ورائي: انساك يسلام انساك ده كلام...".

لم يستمع إليه أحد فالكل مشغول.

فتحت أبواب الزنزانات لاستلام العشاء، وبعدها قرر وفد من أهل مدينة الثورة مبايعة الحجي كاظم أبو جهاد، والانسحاب من دعم جماعة الناصرية مقابل منحهم منصب الجناح العسكري للقضية، وقال لهم الحجي: "جهزوا أنفسكم يرحمكم الله ويرحمنا معكم".

انسحب أكثر جماعة مدينة الناصرية الأهوار من الدعوى القديمة وانضموا إلى جماعة الحجي الشيخ كاظم أبو جهاد الذي أصبح يكثر من التسبيح وتحريك شفتيه بشكل متواصل، ويحلم كل يوم حلمًا ويفسره، حتى أصبح يفسر أحلام كل السجناء. وقد التف حوله تقريبًا معظم السجناء، وبدأ الانتظار يتسع، وبترقب شديد، للشاب محمد ساعة حتى تحصل المبايعة الكبرى له. انتصف الليل ولم يأت الشاب. كثرت الأدعية والصلوات والتوسلات والأحلام والرؤى.

كل شي نام فوق جبال من التفاسير والحكايات العائمة فوق بحر من التأويلات الهائلة، واشترك هذه المرة في الحكاية الجن والملائكة، وأصحبت القضية سماوية بكل أبعادها. نمنا، ونامت القضبان والحشرات والبهائم والوحوش والكل مؤجل لغد يأتي وربما لا يأتي أبدًا. تعالى صوت الشخير وظراط السجناء يتطاير في الهواء حتى مطلع الفجر.

يوم الأربعاء

ظهر الأربعاء جاء الشاب محمد ساعة محمولاً كالعادة في بطانية خضراء. وضع في زنزانته، وساعده الشباب والحجي كاظم يوجههم بوضعه في المكان المناسب له، وهو يتمتم بعبارات صامتة. عندما أُغلق الباب الرئيسي تجمع كل السجناء على زنزانة الشاب وكلٌّ يصلي على النبي وآل بيته الأطهار، وكلٌّ يقول: "فداك نفسي وروحي يابن رسول الله". تعالى البكاء والجموع تذرف الدموع ورضا الرادود أطلق صوته نواعي حسينية، إصدار جديد، ولأول مرة من كلمات الشاعر أحمد واهس العبودي. بدأ الشاب محمد ساعة يحرك يده مشيرًا إلى فمه: إنه يريد الماء. لكن علي معجون قال: "ربما يريد الكلام يا جماعة هدوء شوية". كرر الشاب الإشارة مرة أخرى إلى فمه بحركة شرب الماء، جلبوا له الماء، وتقدم الحجي كاظم بقدسية وقبَّل يدي الشاب ووضع رأسه في حضنه وشرَّبه الماء بطريقه تراجيدية. تعالت أصوات البكاء والنواح وصاح رضا الرادود: "السلام على ساقي العطاش" مشيرًا بأصبعه إلى الحجي كاظم. بقي حال الشاب محمد بين الإغماء واليقظة، وهمس علي معجون: "ربما الوحي نزل عليه". وضع حجي كاظم يده على فم علي معجون وقال له: "اكتم للحيطان آذان يا أخ الإيمان".

خطب الحجي كاظم بالسجناء، وسمى جماعة زنزانته بأصحاب الإمام، وأهل مدينة الثورة وباقي الزنزانات بالأنصار. تذمُّر بسيط وهمهة أصوات واعتراض من هنا وهناك. إلا أن علي معجون تدارك الفتنة وقال: "كلنا خدم مولانا المقدس". الكل وافق وتقبل الأمر الإلهي. أكمل الحجي كاظم قائلاً لهم: "أيها الأصحاب، أيها الأنصار، انصروا ابن رسول الله وأطيعوا الله وأولي الأمر منكم، وأنا أحد أولي الأمر ونائب الإمام فيكم، وكلكم تعرفون أنني صاحب أول رؤيا وأول تفسير، وكلكم تعرفون أن جدي رسول الله لكني كتمت هذا الأمر للتقية، وحان ظهور الحق". صرخ علي معجون: "صلوات، صلوات. هلا بالسيد العظيم. كل منكم يعرف تكليفه. رحمنا الله وياكم". تفرقوا مأجورين لحين تلقي الأمر.

استيقظ الشاب وبدأ يتفوه بكلمات والحجي السيد كاظم أبو جهاد يستمع إليه هو وأصحابه. كان الشاب يردد الكلمات كالآتي:

"الساعة، الساعة، الساعة... العجل، العجل، العجل... لا أحب الساعات... أمي، أمي، أمي... كباب الكاظم... آية الكرسي... الفرج، الفرج... اليوم، اليوم... الليلة، الليلة... اطلع، اطلع، الصبح".

قال الحجي الشيخ السيد كاظم: "اكتموا الأسرار يا أصحاب. بلغوا الكلام للأنصار فقط".

وصل خبر خطر جدًا إلى الحجي السيد كاظم بأن تجسُّسًا يأتي من زنزنات أخرى، ربما تريد إبلاغ مكتب أمن حراس السجن بالأمر، فبعث لهم بوفود لزنزانة الأكراد، وبهدية لرئيسهم الحاج فاروق كاكة بيكر: ثلاث جكاير وإبرة وكنديرة خيوط سوداء ثمن السكوت حتى بيان الحق، وعدم إبلاغ الحراس بالموضوع.

وبعث بالهدايا نفسها إلى بعض الزنزنات التي تشكل خطرًا محتملاً من تسريب الخبر إلى أمن السجن قبل إتمام المهمة الإلهية. وجاء علي معجون إلى زنزانتا، التي تسمى زنزانة الأستاذة والمثقفين، ورفض الأستاذ طه عباس المؤرخ والآثاري المختص في حضارة السومريين عرض الجماعة، وقال: "نريد أن نحجي ويا الحجي كاظم بموضوع جدًا مهم وأصبح خطر... سلامنا له".

كثرت تأويلات أقوال الشاب محمد ساعة حول الكلمات التي نطقها ورجع إلى إغماءته بعدها، وسميت أسرار الإغماءة الأولى، وفسِّرت على أنها أسرار بعض التفاسير التي عرفناها: الساعة هي ساعة الظهور، واليوم يوم القيامة، والليلة ليلة القدر، والأم تعني أم المؤمنين. لكن الاختلاف الشديد حصل في كلمات (كباب الكاظم) التي تشابكت فيها التفاسير، وأصبحت مصدر ريبة عند البعض، وقال الحجي كاظم: "يا ريت لم ينطقها مولانا المقدس، إلا أن السرَّ سرٌّ حتى لو كانت كلمات تافهة".

منهم من فسَّر عبارة (كباب الكاظم) على أنه تكليف لحجز كل مطاعم مدينة الكاظمية، ويمكن أن تكون هي وحدات تموين جيش الإمام والعمق الاستراتيجي للمدن المقدسة.

منهم من قال إن الكاف حرف تمكين وخلق في كن فيكون، والكاظم معناها خروجنا من السجن مع الولي الكامل الحجي كاظم أبو جهاد الذي ذُكر اسمه، حتى لو مع الكباب، المهم اسمه مذكور في الحديث الشريف الخاص بمولانا.

ومنهم من قال إن الكباب يحبه العراقين، وهو أكلة عراقية مفضلة، لهذا سيكون أمر مولانا أمرًا يخص أهل العراق فقط.

أشاد الحجي كاظم أبو جهاد بالتفسير الثاني، واعتبر كل التفاسير حق وتجل إلهي.

تعددت التأويلات واتسعت، والكل يريد له حصة في الأقوال والأفعال الحلمية.

أسدل الليل لباسه الأسود رغم أن السواد يحيط بكل شي، وخاصة العقول والتاريخ المريض، ومصائب الذاكرة المقدسة التي تحيط بنا من كل جانب.

ردد مناضل المجنون، بصوت شديد العذوبة، أغنية (ليلة ويوم)، وكل الأصوات تلعنه وتسبح بحمد ربها حتى مطلع الفجر.

يوم الخميس

استيقظ الجميع فجرًا للصلاة، وعلى أنين الشاب الذي أشار بيده لطلب الماء مرات عدة ركض كل نزلاء الزنزانة، ونهض السيد كاظم أبو جهاد وشرَّبه الماء وغسل وجه وبسمل عليه، ثم ردد الشاب الكلمات نفسها التي ذكرها عندما استيقظ من إغماءته الأولى، وأضاف عليها: "أحب اسطه علي الميكانكي وأنا خادم الكم".

ومع كلمة كباب الكاظم، التي قالها ثلاث مرات وبطريقة معبرة جدًا، صاحبه ألم غير عادي.

بعث الحجي كاظم ببرقية شفوية إلى جماعة مدينة الثورة للاستعداد والتجهيز. وعلى أساس الأمر الذي وصل تحركت جماعة مدينة الثورة على وجة السرعة وقسموا أنفسهم فصائل وبدأت عملية المقايضة بكل شي من أجل الحصول على شفرات الحلاقة وعلى علب الجبن كرافت الفارغة من أجل عمل سكاكين وآلات حادة. لقد تخلوا عن مناشف نظيفة ووسائد نوم محشوة بخيوط فانيلات قديمة جيدة الصنع وملابس نوم مخططة جديدة مع دبابيس وبعض الأدوية من أجل الحصول على الآلات الحادة استعدادًا لليوم الموعود.

طلب الأنصار والأصحاب تفسير الإضافات في الإغماءة الثانية، فقال الحجي السيد كاظم: "هي من الأسرار، إلا أنه ذكر اسم كاظم ثلاث مرات مع الكباب فاحفظوا السرَّ يرحمكم الله".

سميت أسرار الإغماءة الثانية في الإعداد والتجهيز والانتظار، وقد قام الشباب بتجهيز كل شي، وبشكل سريع للغاية.

استيقظ الشاب محمد ساعة للمرة الثالة وقال الكلمات نفسها، وأضاف عليها: "لا بد لنا من كسر كل الساعات، الساعات في العالم".

سرَّب خبر كسر الساعة رضا الرادود لأنه، في الحقيقة، فرح كثيرًا بهذا الخبر، لأن علي معجون الوحيد الذي عنده ساعة وهو يذلهم عند السؤال عن الوقت. أمر الحجي السيد كاظم بتكسير الساعات والاعتماد على زمن مولانا فقط، يرحمكم الله.

تحطمت ساعة علي معجون وهو ينظر إليها بحزن رهيب لأنها الموضوع الوحيد الذي يدعوا الآخرين إلى التواصل معه واحترامه.

اتسع الموضوع وأصبح فتنة كبيرة. طلب الأستاذ طه من الحاج كاظم أن يتحدث معه. لم يرد الحاج سيد كاظم على الطلب بنفسه لكنه بعث وفدًا بالموافقة على اللقاء.

ذهبت أنا مع الأستاذ وبعض الأكاديميين والمتنورين من أهل الدين نطلب من حجي كاظم أبو جهاد التوقف عن هذا الموضوع لأنه سيدمرنا جميعًا، ولنقول له إنه وهم عظيم سيحرقنا ويعجل في أمرنا. ابتسم الحاج السيد كاظم بوقار وقال: "كل هذه الرؤى والأحلام والإشارات والرموز والأسرار من الأوهام يا أساتذة يا محترمين. أنتم تعتبرون أنفسكم مؤمنين فعلاً. أنتم خارجون عن الملة والمذهب، وأنا أحترمكم ولا أريد الأذى لكم. اذهبوا إلى أماكنكم بهدوء، يرحمكم الله".

قال له الأستاذ طه: "احفظ دماء هؤلاء الشباب. سيقضون علينا. إذا عرف أمن السجن سيحطمون رؤوسنا وستكون أنت السبب، والكل في ذمتك. على كل حال، عندي حل وسط أمام الجميع: خلي نفتهم من الشاب محمد ساعة مباشرة فإذا قال إنه هو الإمام مع البينة نتبعه كلنا، وأمام الجميع، وإلا نشوف حل لهذا الموضوع الذي صار يشكل خطرًا على الجميع. واحنه كن نعتقد انه مجرد وهم يسد الفراغ".

رد الحاج كاظم: "يعني أنا متوهم، وكل هؤلاء الشباب. مجرد أوهام، يعني ما عنده عقول".

قال الأستاذ طه: "نحن لا نقول عن حضرتك حجي بأنك كذاب أو صادق أو متوهم. الموضوع بيه فتنه كبيرة واحنه نخاف على أرواح الشباب".

استيقظ الشاب محمد ساعة وهو مغطى بأفضل الفرش وبجانبه قطعة خضراء وقرآن. قال له الأستاذ طه: "نريد أن نتحدث معك ابني. إذا تعبان نرجع مرة أخرى. مانريد نسبب الك اذيه".

رد الحاج كاظم: "لا تقول ابني بل قول مولانا المقدس. رجاء احترموا عقائد الآخرين وطقوسهم".

قال الأستاذ طه: "مو مشكلة حجي نقول مولانا. تره الجماعة هنا في فتنه ويعتقدون انك الامام المهدي المنتظر وانت صاحب الزمان".

اندهش الشاب وقال: "عمي شنهو تحجي يامام. انا احلف بحياة امي واغلض الايمان انا محمد الفيترجي عمي والعباس ابو فاضل مااكذب وانا رجال فقير عمي".

"زين شنهو قضية الساعة" قال الشاب: "أنا اشتبهوا بيه رجال الأمن استاذ، طلعت الصبح حتى اجيب كباب لامي من مدينة الكاظمية لان امي كانت مشتهيه كباب وهي مريضة وانا خفت عليها اتموت وتبقى بنفسها، وانا اكره يوم الجمعة كلش هواي لان ابوي مات واخوي انقطت رجله وسفروا كل عمامي بيوم الجمعة. ايران اثناء الحرب لان احنه اكراد ارفيلية استاذ".

حجي كاظم تواصل معه في الحيث وقال: "بلى، ابني كمل خلي السجناء يسمعون" (الحجي كاظم قال هذا تحقيق مع مولانا وهو يمارس التقية في أعلى درجاتها).

رضا الرادود قال: "حجي كاظم خلي ايكمل الولد خلي نفتهم الفلم الهندي شنهو".

أكمل الشاب محمد ساعة حديثه وقال: "طلعت من البيت أستاذ، ولمن وصلت إلى راس الشارع شفت واحد واقف بالركن سئلته بيش الساعة. بس عبرت الركن تحوطت من كل جانب من الشرطة ورجال الأمن شدوا عيوني بقماش اسود وخلوني بالسيارة وعملوا معي الي شاهدتوه ياجماعة الخير. والله اقول احق ومازيدت اي كلمة والموضوع كله طلعوا رجال الامن لازمين كمين لشخص قيادي كبير والسر بيناتهم هو السؤال عن الساعة. والله وهاي هي قضيتي ياجماعة الله وكيلكم والعباس كفيلكم، وقعت في الفخ لان ماعندي حظ".

ساد الصمت في السجن بشكل غريب، صمت لم أرى مثله طوال وجودي في السجن. صرخ علي معجون بصوت عالي: "انضربنه بوري مال مجاري هههههه..." اعتراضات وقهقات وأصوات سخرية.

فتحت بعدها أبواب السجن الرئيسة على اتساعها، واتجهت أصوات أقدام إلينا بسرعة كبيرة، ودخلت قوات الأمن الخاص الذين يرتدون البسطال الأحمر وملابس القوات الخاصة، وبأيديهم عصي كهربائية وهراوات في رأسها مسامير صفر مدببة، دخلوا بقوة وسرعة فائقة وقاموا بضرب كل السجناء بدون تعين. دخلنا أنا والأستاذ طه بين أجساد السجناء وبقيت أقدامي فقط مكشوفة. لم أشعر بها من كثرة ما تعرضت للضرب. بعدها قمنا وركضنا في كل الجهات. لم يسلم أحد في القاوش من الضرب المبرح والموجع. انتشرت الدماء على الحيطان. بعدها قال الضابط بصوت عسكري: "توقف حرس. وين الإمام". أشار السجناء إلى الشاب محمد ساعة الذي صرخ: "والعباس مو أنا سيدي. أنا اشتغل فيترجي سيدي، وكنت نايم أسبوع كامل مغمي علي". سحبه الحرس من قدميه إلى الباب الرئيسي. قال الضابط: "وين الولي الحجي كاظم ابو جهاد وعلي معجون ورضا الرادود وفلان وفلان". قاموا بسحلهم من أقدامهم، وأخذوهم إلى التحقيق مع جماعة الثورة والناصرية. رجعوا بعد ساعات، الأصحاب والأنصار مع الإمام، إلى القاوش في منتصف الليل يزحفون وأنف الشاب محمد ينزف دمًا رغم أنهم وضعوا بداخله قطن كثير، وباقي المجموعة مسلوخة الجلد، وينزفون من كل الجهات.

كل السجناء خاوين من الضرب الذي طالهم، والوقت منتصف الليل. الكل نام من أثر الوجع. طردوا الشاب محمد ساعة من مكانه الوثير ونام بجانب المبولة الليلة، وهو يئن ويقول: "أنا فيترجي مو إمام سيدي الضابط". ويضحك مرة ويبكي مرة ويسأل: "ليش صار بيه هيج ياربي؟؟".

وأنا أتحسس جروح جسدي الضعيف جدًا بدأت حديثًا مع صديقي ناظم الكافر الذي تورمت إحدى عينيه وهو ينفخ في قطعة قماش ويضعها على الجرح. أقول له: "الآن، وفي هذا الوقت، كم هي مخيفة عقائدنا. هل تعلم يا صديقي، نحن منذ فجر الصحراء العالقة في ذاكرتنا نمضغ الرمال، وذواتنا لا تلد غير العبيد، ملتصقة بتاريخ توقف لحظة ظهوره، توقف وهو قائم على ثلاث شعب وعمود من نار: (سيف السطان) و(أجساد العبيد) و(كتاب مقدس)، ودرج من نار طويل طويل جدًا لانهاية له معلقة به رؤوس أجدادنا ورؤوسنا ورؤوس من سيأتي بعدنا. العقائد كأنها جبل من عنب أحمر قان يكبر كل يوم ويسكرعلى نخب شهقة أرواحنا التي لم تعرف الحرية يومًا ولن تعرف كيف تلتذ أجسادنا فقط بالجلد المقدس. حقًا نولد موتى ونحيا موتى ونمجد الموتى، وكلنا تحولنا منذ زمن بعيد إلى قطعة قماش خضراء معلقة في شباك ولي ننتظر الخلاص. نحن نذور أبدية ومجرد أحلام وأمنيات ضائعة في التاريخ".

أسمع أصوات كل الأجساد تئن من التعذيب والآلام التي حلت بكل السجناء، وسميت بأيام الوجع الكبير وخميس الآلام. ومن خلال كل هذا الآنين تعالى صوت جميل لمناضل المخبل موال طورجاوي، من ثم أعقبه باغنيته المفضلة:

"جذاب دولبني الوكت بمحبتك جداب روحي اتمرمرت".

الكل نام ويوم الجمعة حتمًا سيكون استراحة للجميع من أسبوع شاق ومتعب...

اكمل سماع أغنية كذاب للمطرب ياس خضر على اليوتوب إن رغبتْ.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود