القصيدة الضوئية: من فيزياء المفهوم... إلى كيمياء الرؤيا 2
قراءة نقدية في "أدونيس... سياسة الضوء" لفداء الغضبان

 

كاظم خليل

 

ثانيًا: القسم العملي (التحليلي)

1.    في قراءة التجربة وصعوباتها:

لا تبدو الصعوبة التي واجهت الغضبان بوصفها صعوبة وحيدة مفردة، بل تظهر كطبقات متعددة تكاد تكون ممتزجة مع بعضها البعض.

1.    الأولى:

فالصعوبة الأولى هي "صعوبة تشكيلية" إذا صح التعبير؛ وهي قيام الغضبان بمزج اللوحات الفنية "الكولاج" التي اصطلح أدونيس لها اسم الرُّقيمات مع نصوص شعره، علمًا أنَّ هناك من لا يَعِرف، أو ربما لا يعتَّرف، أن أدونيس هو فنان تشكيلي كبير، بشكل مستقل عن كونه شاعرًا كبيرًا أيضًا، وذلك برأينا يعود إلى قصور إدراك هؤلاء البعض في تقبُّل الجماليات الجديدة ومفاهيمها الحديثة في عصر المعلومات – وهذا ما دعانا إلى التوسع بعض الشيء في بداية هذا المقال النقدي فيما يخصُّ علاقة الشعر بالسينما وبالكلام عن المفاهيم الجمالية الحديثة –. وبالتالي فإنَّ تقليدية هؤلاء البعض، في النظر إلى اللوحة التشكيلية، والذين لا يستطيعون الاعتراف بها إلا بوصفها "إطارًا خشبيًا مملوءًا بمعجون الألوان!"، والمنسجمة مع طريقة تلقيهم القديمة، هو الذي يقف حائلاً بينهم وبين إدراك المفاهيم الجمالية الجديدة!.

فكيف والحال هنا أن هذه المحاولة هي المرة الأولى – في حدود ما نعلم – التي تحاول التفاعل مع أعمال أدونيس الفنية التشكيلية، بالتزامن مع تفاعلها فيلميًا مع شعره، بهذا الطريقة الجديدة.

وعلى مستوى آخر، وفي هذا السياق، نسأل: هل أن شهرة أدونيس الشعرية كانت حجابًا على أهمية أعماله الفنية، ما جعل الكثير من النقاد يحجمون عن تناول تجربته الفنية التشكيلية؟!. ترى، وعلى مستوى مختلف أيضًا، هل يعود ذلك إلى تأخر إطلاق أدونيس أعماله الفنية التشكيلية (الرُّقيمات) مقارنة بمنجزه الشعري الذي "مَلأَ الدنيا وشغل الناس"؟!.

2.    الثانية:

الصعوبة الأخرى التي واجهت الغضبان كما نرى هي في التفاعل مع نص من وزن النَّص الأدونيسي، وهو ما يُعقِّد المهمَّة ويجعلها مُركَّبة ، وذلك لغنى هذا النَّص وتشابك أطروحاته الجمالية وتعددها في الوقت نفسه.

فعلى المستوى الأول كيف يُقدِمُ الغضبان على تقديم أدونيس – الشاعر النخبوي العصي الصَّعب المُستغلقَة نصوصهُ حتى على الشريحة الأوسع من القراء و المثقفين... إلخ – بهذا الشكل السلس الهادئ الممتع الجميل الغريب الأليف؟! وكيف تتفتَّح نصوصُ مهيار الدمشقي وكتاب الهجرة والمطابقات وأول الجسد آخر البحر، والتجربة الأعقد: الكتاب أمس المكان الآن؛ على يديِّ الغضبان قصائدَ ضوئية مستساغةُ التلقي، حتى للشريحة التي ربما لم تستسغْ شعر أدونيس في حياتها من قبل؟!.

ترى، وكيف سيواجه الغضبان هؤلاء الذين لا ينظرون، ولا يُريدون النظر إلى نص أدونيس، إلا بوصفه نصًا غامضًا مبهمًا يستحيل فهمه وتلقيه؟! – وهم بالمناسبة أكثر مما يُظن!. إنه سؤال لربَّما يحتاج تفسيره إلى تحليل سيكولوجي عميق يتصل بدراسات تتعلق بصورة الشخصية في أعين الآخرين، وكسر نمطيتها السائدة وأثر ذلك عليها فيما بعد ... إلخ، وهذا أمر آخر لا مجال له هنا.

على المستوى الثاني تتعلق الصعوبة بالجرأة التي جعلت الغضبان يُقدم على هذه التجربة، وجعلته يتفاعل مع نص له فرادته وخصوصيته المائزة في الشعرية العربية – وهنا تتصاعد الصعوبة وتتأكد على نحو ما من خلال تفاعل النص الأدونيسي نفسه وتَحَاورَه مع مُنجز العلوم العصرية الحديثة، أدبية وعلمية وفنية، على اختلافها وتنوعها، إلى الدرجة التي نعتقد أن المنجز الشعري الأدونيسي هو أحد أهم المنجزات الشعرية العربية في تفاعلها مع التقنية العلمية، ولقد اعترف الغضبان بهذه الصعوبة أثناء حواري معه، والذي أثبتنا قسمًا منه، بما يناسب هذه الدراسة على أن نقوم بنشره كاملاً في وقت لاحق، حيث أكدَ: "لعلَّ هذا ما حذا بناقد من وزن البرفيسور كمال أبو ديب إلى إفراد توصيف مستقل لتحليل الصورة الشعرية عند أدونيس، من خلال اقتراح مصطلح خاص به حين الكلام عن الصورة الشعرية عنده، حيث يقول الناقد كمال أبو ديب ما نصُّه الحرفي: "هكذا تجتاح شاعريته – أدونيس – الأكوان لتنتج، بمنتهى الهدوء، ودونما صخب أو إدعاء أو لفت للنظر، هذه الصور الشاهقة كجبال السماوات السابعات، التي تستحق أن تُخصص بمصطلح مائز، وسأسميها: الصورة الكونية cosmological". وهكذا تصبح الاستعارة عند أدونيس آلة كونية تعجن العالم كله، الفضاء وما فيه، العناصر الأربعة، القوى الطبيعية الخارقة، آلهة الشعوب القديمة... تصير اللغة سيدة العالم فعلاً وخالقته فعلاً. ولا تبقى حدود عقائدية أو تطيُّرية أو أسطورية المنشأ بين اللغة وطاقاتها الحقيقية. تتحرر اللغة والخيال الخلاق من حدود الطغيان الديني والسياسي والاجتماعي... إلخ".

3.    الثالثة:

أما الصعوبة الثالثة، وهي الأهم على الإطلاق، فإنها تتأتى بشكل مباشر من طبيعة الفروقات بين بُنية الصورة الشعرية وبُنية الصورة السينمائية، على الرغم من وجود العلاقة الكبيرة بين الشعر والسينما، كما ذكرنا. إذ يجب أن نلاحظ أنَّ تركيب الصورة الشعرية يخلو من الوسيط التقني، رغم حيادية الإبداعي، وهذا الخلوُّ يجعل من الصورة الشعرية أقرب إلى طبيعة الإبداع من حيث هو حرية مشروطة بوجودها، أما تركيب الصورة الفيلمية السينمائية، فهو مبنيٌّ على تقنية الوسيط (الكاميرا، وطبيعة الضوء، والآلات، وما إليها)، ويفضي هذا البناء لزومًا إلى تقييد الإمكان الإبداعي، مهما كانت الآلة مُحايدة، فالوسيط بوصفه عائقًا ماديًا للإبداع يقطع الطريق على حرية الخيال، أو يقيِّدها، وهو ما يمكن أن يتوهَّمه القارئ حتى في الشعر. ولكن الحقيقة، أن الطبيعة المادية للتركيب الشعري (الأصوات، ورموز الكتابة، والبياض) ليست خارجية، ولا هي مختلفة عن الصورة؛ فالأصوات والحروف المكتوبة ليست وسيطًا، وإن بدت كذلك، وإنما هي الصورة الشعرية ذاتها. بمعنى، ثمة تطابق في تركيب الصورة الشعرية بينها وبين أدواتها، ووسائطها المادية، أما الصورة السينمائية، فثمة مفارقة كبيرة بين الأداة والوسائط وما ينشأ من صور من خلالها، وهو ما يُفضي إلى اختلاف مُتأصل بين الصورتين ويؤثر في المُحصِّلة على طريق المقارنة بينهما في حال السعي إلى سينمائية النص الشعري.

وعليه، وهنا سنثبت الرأي الذي يدَّعي استحالة أو صعوبة (سينمة الشعري) والذي يتلخص "بأنَّ حرية الفنان السينمائي الإبداعية في التعامل مع قسرية التقني، والتحايل على سطوته، تفقد كثيرًا من إدهاشها، وبراعتها في حال سينَمتها لما هو خارج عنها، وهو الشعريُّ، لأنَّ حرية الشعريِّ في ذاته، عندما كان قصيدة، بإطلاقها، وثرائها، لا تجد إلا صياغة تعبيرية واحدة، هي (الصورة المرئية المحسوسة) الواجب توافر معطياتها الدلالية وفق محددات الوسيط من إضاءة، وديكور، وطبيعة ألوان، وحركة كاميرا، وما إلى ذلك من قيود، ومن هنا تبرز بجلاء صعوبة (سينمة الشعري)، فإذا كان الإبداع مشروطًا بالحرية أصالة، فإنَّ (سَينمة الشعر) تَسعى عكس هذا التيار، عندما تنطلق من الحرِّ المُطلق المفتوح إلى المقيَّد، المُغلق، الأسير داخل الطبيعة التقنية لوسيطها التعبيري".

وفي ردِّنا على الرأي السالف نقول: قد يبدو هذا الكلام صحيحًا على نحو جزئي، في حال اعتمد المخرج في بناء لقطته الفيلمية على بنية طبقية مفردة، كما في حال أي فيلم روائي أو تسجيلي، والأمثلة كثيرة. ولكن إذا اعتمد تصورًا إدراكيًا جديدًا ورؤية جديدة ونظام بناء جديد للقطته الفيلمية، فسوف تكون النتيجة مختلفة، وهذا ما فعله المخرج "الغضبان" حيث عمد إلى اقتراح لقطة فيلمية تعتمد بنية طبقية متعددة، لكنها موظفة بنائيًا، لأن هذه اللقطة مشروطة بنيويًا بمحتوى النص الشعري وإشاراته المجازية الجمالية، كونها تنهل من التعدد الدلالي والإيحائي والرمزي للنص الشعري المتمازج مع المرسوم الخطي في اللوحة، وتنبثق من البنية الجمالية الكلية للعمل ورؤياه العامة.

لتتحول الصورة الشعرية في النص إلى صورة ضوئية في الفيلم تتميز بالغنى والثراء الرمزي والدلالي والإشاري بالإضافة إلى التوازن البنائي في تكوين الكادر والتشكيل الإيقاعي - الوظيفي اللوني، والانسجام البصري بين جميع المفردات والمكونات والعناصر المرئية.

وعليه، وبالرغم من تلك الصعوبة السالفة، نرى المخرج "الغضبان" يُقدم على هذه التجربة الإبداعية، مجترِحًا أدواته الخاصة ومقدِّمًا نموذجًا إدركيًا جديدًا في طريقة التلقي الإبداعي الشعري عبر اقتراحه المرئي في هذه التجربة المغامرة، بمشاركة شاعرنا الكبير أدونيس.

أدونيس الذي رفض في اللحظة الأخيرة، قبل عدة أعوام، عرض فيلم تسجيلي أُنجزَ عنه مع واحدة من أعرق المحطات الفضائية العربية بعد أن شاهدهُ مُنجزًا ليَعترض على الصياغة الإخراجية له فيمنع عرضه، هاهو يُقدِم على التعاون مع فنان شاب وبمبادرة فردية ليشاركه إنجاز أدونيس: سياسة الضوء. علمًا أن هذا الفنان الشاب لا ينطلق من ميدان الإخراج، كما يقول، بل من ميدان آخر هو سيكولوجيا الفنون، على الرغم من تصريح أدونيس نفسه عن هذه التجربة بأنها "جديدة ومبتكرة، وغير مسبوقة عالميًا".

ترى، كيف جاء الغضبان إلى هذه التجربة؟ وما هي الأدوات التي استخدمها؟ وكيف تفاعل معها؟!. ثمَّ، هل يمكن إيجاد باراديغم paradigm خاص بهذه التجربة؟!.

***

2.    مقاربة تحليلية تطبيقية:

في البحث عن باراديغم paradigm لتجربة أدونيس... سياسة الضوء يمزج الغضبان بين منجزي أدونيس "التشكيل والشعر" عبر صيغة فيلمية جديدة أطلق عليها اسم القصيدة الضوئية كتوصيف فيلمي، كما مرَّ آنفًا.

يَعمد الغضبان في بنائه لقصيدته الضوئية، وبالتالي الديوان الضوئي ككل، إلى مجموعة إجراءات نظرية وممارسات فيلمية، وهي ما يمكن أن تمثل جملة أنساق التصورات الإدراكية الخاصة بهذا العمل والتي تشكل بمجموعها باراديغم paradigm.

ما الباراديغم؟! يمكن ترجمة مصطلح الباراديغم أو بارادايم paradigm  بأنه النموذج الإدراكي أو النموذج الفكري كما يرد ذلك في موسوعة المعرفة الإلكترونية، وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا. ولقد أعطى الفيلسوف العلمي توماس كوهن Thomas S Kuhn لهذه الكلمة معناها المعاصر عندما استخدمها للإشارة إلى مجموعة الممارسات التي تحدد أي تخصص علمي خلال فترة معينة من الوقت.

وقد قام كوهن بتعريف النموذج الفكري أو الإدراكي "الباراديغم" في كتابه بنية الثورات العلمية على أنه: الموضوع الذي يمكن مراقبته ونقده، أو الأسئلة التي من المفترض طرحها واستكشافها من أجل الوصول إلى إجابات فيما يتعلق بالموضوع، وكيفية تحديد هيكل وبنية هذه الأسئلة ثم كيفية تفسير نتائج التحريات العلمية.

فالباراديغم، بالمعنى الذي طرحه كوهن، هو ليس النظرية السائدة الحالية، بل هو الرؤية الجديدة للموضوع، والتي تحتوي على هذه النظرية، وكل المعاني المتضمنة داخل هذه الرؤية.

والباراديغم في فلسفة المعرفة ليس سوى التصوُّر أو الرؤية الكونية. وهو يخترِق بذلك شتَّى حقول المعرفة. والباراديغم هو نظام تشغيل البرامج في أقصى تحوُّلات تقانة المعلومات اليوم. والباراديغم هو في العلوم الرياضية المصفوفة أو Matrices. وهو في العلوم الاجتماعية ما يفيد "التصوُّر الشامل" أو "كيفية إدراك العالم". وفي هذا الإطار، وكما يؤكد الناقد جمال باروت، يمكن الحديث عن باراديغم "رومنتيكي" و"وجداني" و"رؤيوي" و"يومي"... إلخ. وبالمعنى العام فإن الباراديغم هو نسقٌ من التصوُّرات المقبولة عمومًا في مجالٍ بعينه.

وقبل تحديد الباراديغم العام في تجربة الباحث المخرج "الغضبان" يجب تحديد أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية التي أعتمدها عمليًا والتي كوَّنت بمجملها نسق التصورات الجمالية لهذه التجربة الجديدة.

أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية لتجربة الغضبان:

-       اعتمد الغضبان في اختياراته الشعرية لنصوص أدونيس على القصائد القصيرة من مجموع الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس، وهذا يعود إلى الفروض المنهجية للبحث العلمي الذي يعدُّه الباحث عن شعر أدونيس، وحدوده المنهجية، بما يتكامل مع الرؤية الإخراجية المقترحة.

-       اعتمد الغضبان في اختياراته لأعمال أدونيس التشكيلية "الرُّقيمات"، على مجموعة أعمال مُنجزة بين عامي (2005 - 2009) علمًا أن بعض الأعمال أنجزت خصيصًا لاستخدامها في هذا العمل (أدونيس... سياسة الضوء).

-       عَمدَ "الغضبان" إلى وضع مجموعة قوانين لونية–نفسية تخصُّ الإيقاع النفسي للقصيدة الشعرية المختارة بتصاعده أو تخافته أو توتره أو تشظِّيه. وخصَّ اختيار قانون لوني (مجموعة ألوان محددة الظهور بتتالي) لكل مادة فيلمية على حدة، حيث رَتبَّها بالاستناد إلى عدد من الاختبارات والروائز اللونية-النفسية العالمية، على أن تتطابق مع الإيقاع النفسي للنص الشعري وطبقَّها على المادة الفيلمية للقصيدة الضوئية الخاصة به. ولكني أعتقد أنه يتوجب علينا مشاهدة العمل كاملاً حتى يتضح ذلك بشكل جلي.

-       فعل نفس الشيء فيما يتعلق بكل إشارة للقصيدة المعنية على حدة، بالاستناد إلى النص الافتتاحي المرافق لها – باستثناء ثلاث قصائد منها قصيدة أول الشعر وسيرد تعليل ذلك أثناء تحليلنا لها.

-       عمد المخرج إلى إيجاد المعادل الرمزي المرئي لكل نص شعري على حدة بما يتكامل مع بنية النص وإشاراته الرمزية وإيحاءاته التعبيرية الدرامية. فالجملة المفتاحية (للمعادل الرمزي المرئي) لنص أول الشعر مثلاً هي "أن تخلخل المدى" وسيرد تفصيل ذلك تاليًا. والجملة المفتاحية (للمعادل الرمزي المرئي) لنص الصخرة هي "صخرة حبي تاهت" التي تُحيلُ إلى "صخرة سيزيف" في صحراء عروقي حيث رمز لها بعالم الطفولة والأحلام من خلال الطفلين الذين ينحدران مبتعدين عنه. ثمَّ في المشهد الثاني تتحول الشخصية (الممثل) إلى صخرة سيزيف، التي تنحدر من أعلى التل إلى أسفله فيما الأحلام (الأطفال) تدير ظهرها له أثناء صعودها أَعلى التل. فيما يبقى الشاعر أسفل التل، عند نقطة حدود اليابسة والماء، إلى أن يخرج من الكادر نهائيًا. والجملة المفتاحية (للمعادل الرمزي المرئي) لنص بعد هذا التشرد هي: "أمشي غريبًا... لا عزاء ولا أتشكى" حيث ينفصل أدونيس عن نفسه، ويسير وحيدًا بصحبة غربته، التي رمز لها بظل أدونيس الذي انفصل عنه بعد أن سُحِبتْ ألوانهُ وظهر كشبح يسير وحيدًا إلى أن يخرج من الكادر. والكلمة المفتاحية لنص الإشارة هو عنوان النص نفسه، الذي يحيل إلى مفهوم المعنى الذي يمزج بين الثلوج والنار، ويسكن في الأزهار والحجارة، حيث عمد المخرج إلى التعبير عن المعادل الرمزي المرئي من خلال تكنيك تداخل طبقات اللقطات مع بعضها البعض بما يعطي تأثير المزج والتداخل بين عوالم المعنى الشعري المتعدد وبين عوالم الشخصية؛ الشاعر، عبر الإشارة الأسطورية الواقعية بآن معًا حيث نار الشعر تخترق الحدود الأرضية وصولاً إلى الكواكب والنجوم، سفرًا إلى اللانهاية.
وهكذا يعمد الغضبان إلى إيجاد المعادل الرمزي المرئي لكامل القصائد المختارة؟! ففي كل نص شعري يسعى المخرج-الباحث إلى إيجاد المعادل الرمزي المرئي للنص والعمل عليه فيلميًا بالتكامل مع السيناريو البصري الخاص به.
ولكن يجب الانتباه أن المعادل الرمزي المرئي يمكن أن لا يتمظهر استعاريًا، أي مشهديًا، على نحو غير مألوف كما في قصيدة أول الكلام مثلاً، بل يمكن أن يتمظهر بشكل مؤثر لوني عالي التحوير كما في قصيدة زهرة الكيمياء. ولعل هذا النموذج الفيلمي هو الذي أبعد العمل أو التجربة عن ذهنية العرض التلفزيوني وقرَّبه من استكشاف الفضاءات الجديدة للفيديو آرت.

-       أيضا استخدم المخرج "الغضبان" اللوحة-الرقيمة كمسرح متحرك "تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه"، وتجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية شبه درامية للمحتوى الشعوري الرمزي الإشاري الانفعالي للنص الشعري. وهو بهذه العملية إنَّما أعطى اللوحة-الرقيمة وظيفة بلاغية استعارية–نفسية حين جعل اللوحة بمثابة اللاشعور الجمعي الإشاري للنص الشعري الضوئي الخاص بالقصيدة بما تختزنه اللوحة من مرسومات خطية ومواد مختلفة أخرى لصَقَها أدونيس على سطح اللوحة وخطَّ عليها كلماته المختارة، ساهمت مجتمعة بتشكيل التكوين النهائي للوحة-الرقيمة التي تجري عليها وفيها كامل الإيحاءات الإشارية الرمزية الدلالية، بما فيها حضور أدونيس الواقعي بهيئته وشكله وجسمه وحركته بالإضافة إلى الحضور المجازي للشاعر "بطل القصيدة" الذي يشير إليه نص أدونيس مقروءًا بصوته.
وهنا نلاحظ: لعلَّ استخدام الغضبان للوحة-الرقيمة كمسرح متحرك، هو الذي أنقذ بنية اللقطة عنده من الكناية المحايدة، وحولها إلى استعارة حيوية انعكس ذلك على بنية اللقطات الفيلمية للعمل ككل. إذ بَرَّرَ الغضبان للقطة الفيلمية - وظيفيًا - أن تتحول من لقطة ذات طبقة مفردة إلى لقطة متعددة الطبقات، وبالتالي متعددة الإشارات والإيحاءات والوظائف في آن معًا. وهنا نَلمحُ الإفادة الذكية للمخرج من فن الفيديو آرت وتوظيف ذلك في التخليق الإخراجي للمادة الفيلمية. وعلى مستوى آخر لعلَّ هذا ما أبعده عن حرفية الموقف التشبيهي الكنائي فيلميًا، وقاده إلى فضاء الاستعارة والمجاز المطلق في عمله.

-       اعتمد الغضبان سيناريو بصريًا بإيحاء درامي، بما ينسجم مع الإيقاع النفسي للنص الشعري، ويتكامل مع الإيقاع الموسيقي، المختلف باختلاف القصيدة، حيث الاختيار اللافت للمادة الموسيقية هو أيضًا من أبطال العمل، ما ساهم بإضفاء أناقة الشكل الخارجي (السمعي) وعمق المحتوى الداخلي (البصري) وغنى دلالته التعبيرية وثراء بنياته الجمالية.

-       أخيرًا: اعتمد الغضبان على نظام (المنفصل - المتصل) للديوان الضوئي ككل من خلا ل اختياره المدة الزمنية القصيرة  حيث لا يتجاوز زمن القصيدة الضوئية الواحدة السبع دقائق مع شارتي البداية والنهاية؛ وهذا ما ساهم في رشاقة وحيوية العرض الفيلمي وقابليته للتكرار والإعادة الدائمة – وهو ما أطلقنا عليه صفة اللازمنية.

تحليل القصيدة الضوئية أول الشعر

التحليل:

أولاً: النص الشعري المكتوب:

أول الشعر

أجملُ ما تكونُ أن تُخلخل المدى
والأخرون بعضهم يظنُّك النداء
بعضهم يظنكَ الصدى
أجملُ ما تكونُ أن تكونَ حجة
للنورِ والظَّلام
يكون فيكَ آخرُ الكلام أولَ الكلام
والآخرون - بعضهم يرى إليكَ زبدا
وبعضهم يرى إليكَ خالقا
أجملُ ما تكونُ
أن تكون هدفا
مفترقا
للصمتِ والكلام.

يبدأ ظهور اللوحة-الرقيمة الخاصة بهذا النص كمسرح متحرك تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه، وتجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية شبه الدرامية للمحتوى الشعوري الرمزي الإشاري الانفعالي للنص الشعري، كما ذكرنا آنفًا.

وللملاحظة، يحرص "الغضبان" على حركة الكاميرا الافتتاحية (زوم إن) للوحة-الرقيمة بلقطة ذات طبقة واحدة فقط، ثم يحرك كاميرته بحركة لولبيَّة - عكس عقارب الساعة – في كامل عمله الديوان الضوئي، وهو بهذه الحركة إنما يعطي المشاهد فرصة للتمعن باللوحة-الرقيمة مفردة كما صنعها أدونيس على مساحة الورق – كما يفعل ذلك في اللقطة الأخيرة (زوم آوت).

يبدأ ظهور أدونيس فيلميًا من بروز القدمين (لقطة تفصيل)، وهي تتحرك على أرض اللوحة، عبر بروز لقطتين متراكبتين في المشهد الأول، دلالة على الوجود المادي الأرضي لحالة ما قبل اللغة، ثم يظهر بمشهد فيلمي ثان، على أن هذا المشهد مختلف عن الأول ومرتبط به دلاليًا! حيث يعمد المخرج إلى إيجاد المعادل الرمزي المرئي ليتكامل التخليق الإخراجي مع محتوى النص الشعري الأدونيسي حين يتزامن ظهور جسد أدونيس (بشكلٍ ثنائي متحرك: لقطتين متراكبتين لأدونيس) مع ظهور صوته: (أجمل ما تكون) حيث تتطابق حركة أدونيس الممثل - هنا – مع اقتراح السيناريو البصري في اللحظة التي يلفظ فيها أدونيس: (أن تخلخل المدى)، فيظهر الشاعر وهو يسير بين الغيوم وفوقها، كإشارة بصرية "لخلخلة المدى".

إن التحليل النقدي الذي قام به المخرج الباحث "الغضبان" لنص أدونيس هنا هو: اجتهاده على إيجاد معادل رمزي مرئي للبؤرة البصرية (المَحرق) لمحتوى النص الشعري وهي هنا في هذا النص محتوى جملة: "أن تخلخل المدى" حيث تم ذلك وفق المخطط التالي:

النص الشعري: أجمل ما تكون "أن تخلخل المدى".

المعادل الرمزي المرئي: ظهور جسد أدونيس بشكلٍ ثنائي متحرك: لقطتين متراكبتين للشاعر يسير بين الغيوم لتشير وتؤكد بصريًا أن أدونيس (الشاعر) قد خلخل المدى بظهوره الفيزيقي على هذا النحو بين الغيوم خارج الحيز المكاني البشري المُعتاد لفعل المشي. وإن ظهور أدونيس في هذا المكان تزامن مع ظهور القصيدة صوتيًا، فاللغة-الشعر قد ارتقت بالوجود البشري من الأرض إلى السماء. ويظهر أدونيس بوضعيته المثالية أثناء الحركة، يمشي بهدوء في حالة تأملية فيما يمسك الغليون، إحدى ثيماته الشخصية الدَّالة إشاريًا على الحضور الخاص له كمبدع، فيما يتابع حركته بثقة واضحة. ثمَّ يتصاعد إيقاع النص ويتصاعد الإيحاء الدرامي حين يصل إلى: "أن تكون حجة... للنور والظلام" فتظهر لقطة تفصيل "رأس أدونيس" عبر طبقة ثالثة من خلال دخوله إلى داخل الكادر هي بمثابة الحجة المرئية متزامنة مع لفظ "أن تكون حجة للنور والظلام"، من خلال فعل اللغة وفعل الشعر أو من خلال فعل اللغة الشعرية والكلام الشعري الخاص الذي يمثل "حجة للنور والظلام"، حيث تؤكد هذه اللقطة حضور الشاعر الاستعاري النفسي الواثق في الأفق... بين الغيوم. وهذا المشهد من المشاهد التي تتميز ببلاغة تشكيلية فيلمية عالية، حيث عمد المخرج إلى بناء تعدد منظوري للتكوين الواحد في نفس اللقطة-المشهد، كما عمد إلى إيجاد تعدد بؤري غني للقطة الواحدة: ثلاث بؤر متحركة لنفس الشخصية-الممثل، ما أعطى الصورة الفيلمية قوة استعارية وبلاغية بشكل لافت، كما ساهم ذلك بأنسنة وجود الشخصية-الشاعر في هذا المكان-الفضاء وتعزيز وجوده المجازي-الواقعي في هذا العلوِّ الشاهق، بين أحرفه وكلماته (مرسومات اللوحة:الرقيمة) التي تظهر في خلفية الكادر، والتي أصبحت سماء وشمسًا جديدة للسماء القديمة. هذا بالإضافة إلى أن حركة الكاميرا داخل اللوحة-المسرح حافظت على حركتها وحيويتها المتنامية مع الإيقاع النفسي المتصاعد بالتزامن مع الموسيقى التصويرية.

يتابع السرد البصري الفيلمي: والسرد هنا لا يُقصد به السرد الحكائي الحَدَثي بل التتابع المرئي الإشاري الرمزي لحركة أدونيس وإيماءاته "ووقوفه ونظره إلى الأعلى" بالتزامن مع لفظه كلمة (خالقا) ثم متابعة حركته الواثقة من يمين الكادر إلى شماله، وذلك أثناء خروجه من الكادر بالتزامن مع لفظه "أن تكون هدفا مفترقا للصمت والكلام". ولا يكون ذلك إلا بفعل الشعر والذي يرمز بإطلاق لفعل الإبداع، لتتصاعد الموسيقى حين تعود اللوحة إلى الظهور حيث الشمس تسبح في فضاء اللوحة-الرقيمة أو السماء الجديدة الحاضنة لألق اللغة الرائية، مع تصاعد الموسيقى التصويرية المنتشية بروح الشعر والمتنامية مع الإيقاع النفسي المتزامن معها والمرافق لها حين تبدأ الكاميرا بالتراجع (زوم آوت) لتظهر اللوحة-الرقيمة حيث المقروء الأبرز منها هو الجملة الشعرية التي وضعها أدونيس كـ"لوغو" على أعماله الشعرية الكاملة: "عِشْ ألقا... ابتكرْ قصيدة وأمض... زد سَعَة الأرض"، بوصفها تشكل بؤرة المرسوم الخطي داخل تكوين اللوحة، حين تكمل الكاميرا تراجعها لتظهر اللوحة كاملة.

تتراجع الكاميرا أكثر، وتختفي الشمس والغيوم والأفق في اللاشعور الجمعي الإشاري للنص الشعري الضوئي، أي اللوحة-الرقيمة، ويتسع كادر الكاميرا التي تختتم على اللوحة-الرقيمة = مسرح النص، الذي "تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه" وتجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية.

ما يلفت الانتباه هو حركة الكاميرا في عَرضِها للوحة-الرقيمة أثناء تناوبها أو مزجها مع المواد الفيلمية لأدونيس، حيث يفرد المخرج لها مساحة زمنية كافية لاستيعاب المتلقي-المشاهد للمرسومات الخطية والمواد الأخرى التي تشكل التكوين الكامل للوحة-الرقيمة، كما يعمد المخرج إلى اختيار حركة كاميرا غاية في السلاسة والراحة لعين المتلقي (عكس عقارب الساعة) التي تتابع استعراض مفردات اللوحة-الرقيمة بمتعة وحيوية مترافقين.

تتكامل المادة الفيلمية للشارات الافتتاحية، التي تتغير إيقاعاتها اللونية بتغير إيقاع النص الشعري لكامل الديوان الضوئي وبالتزامن مع النص الصوتي النص-المدخل المرافق للشارة والمتغير بتغير القصيدة والدال شعريًا على علاقته مع النص الشعري الثاني الذي يشكل المنجز الفيلمي الرئيسي للقصيدة الضوئية.

هنا في هذه القصيدة الضوئية: أول الشعر يُسحَب اللون من الشارة حيث الأبيض والأسود هو المهيمن بدلالاته النفسية الحادة والقاسية التي توحي بعالم النص الشعري للشارة: (الموت، الليل، القتل، الخوف، الانكسار، التحدي، الخلق، الحزن... إلخ) بالتشارك مع المُؤَثّر الُمطبَّق على المادة الفيلمية للشارة أيضًا، الذي يُغيِّب الحدود ويعجن الخطوط ويوِّحد الإيقاع النفسي المُتطرف بالتكامل مع الموقف الفكري الحاد والعنيف لمحتوى النص الشعري للشارة؛ وهو:

حضنتُ عَصْريَ - أطويه وأنشرهُ
أخطُّه... وأغنيّهِ، وأرْتَجِل
أزورُ أرَض صباباتي، أطوف بها
أُقيم، أنقضُ ما أبني، وأرتحل
منورا بدمي، مستنفِرا وَلهي
كأنني برحيق ساحر ثمِلُ
طوفانُ حبّيَ ميثاقي، فلا قلقي
يَبْلى، ولا جُرحيَ الخلاَّق يَنْدمِلُ.

يعمد المخرج إلى إظهار السواد في بداية ومنتصف ونهاية المادة الفيلمية في كل القصائد الضوئية المنجزة! كتأكيد على الإيقاع البصري المتناوب للحضور والغياب، الوجود والعدم، الخفاء والتجلي، الضوء والظلمة. بالإضافة إلى أن ذلك يفيد في الانتقالات المكانية والزمانية بين المشهد والآخر الخاص بكل قصيدة على حدة.

ولرَّبما يشير ذلك أيضًا، بشكل غير مباشر، إلى اللاوعي الكوني، والذي إنما يدل في العمق على الغياب المطلق للوجود البشري (أي: اللافعل) مقابل شكل الحضور الإنساني الوحيد القابل للخلود، والذي يكتنهُ في بنيته الحضور السرمدي الإلهي، ألا وهو "الحضور المُبدع" أو على نحو دقيق "الفعل المبدع" عبر الخلق الشعري، والذي يُرمزُ له هنا من خلال حضور أدونيس الواقعي والمجازي.

القصيدة الضوئية... من فيزياء المفهوم إلى كيمياء الرؤيا:

مدخل التحوُّل:

من فيزياء اللون وقوانينه العلمية يتفاعل ويتحول مفهوم القصيدة الشعرية النصَّية إلى كيمياء جديدة، حيث يَعمَد فداء الغضبان إلى كتابة قصيدته الضوئية ولكن، هذه المرة، ليس بحبر القلم، بل بحبر الخيال؛ بالألوان والظلال وحركة الكاميرا وحجم اللقطة ورسم الحركة والإشارة والإيماءة الدَّالة بصريًا وتشكيل الكادر عبر تطبيق قوانين لونية جديدة تستند إلى عدد من الاختبارات والروائز النفسية العالمية، وهي مجموعة قوانين لونية تتعلق بالعمل الفني وقيمه الجمالية، التي تخص الكادر المتحرك، والتي، بحدود علمنا، تطبق لأول مرة بهذه المنهجية العلمية.

يسعى المخرج-الباحث إلى تحويل الإيقاعات النفسية المختلفة للقصيدة إلى إيقاعات لونية مرئية دون أن تفقد القصيدة شيئًا من قيمها التعبيرية والإيحائية الدرامية، الرمزية والإشارية الشعرية، وهو ما ينسجم مع عنوان العمل سياسة الضوء مع التأكيد على حضور الشاعر "الواقعي/المجازي" داخل النص الفيلمي، وخارجه بالآن نفسه. بالتزامن مع اقتراح السيناريو البصري للقصيدة دون أن يكون هذا السيناريو مجرد شرح لعوالم القصيدة النصية. واقتراح حركة كاميرا جديدة تسعى لعرض العمل التشكيلي اللوحة-الرقيمة وتوظيفه داخل مشهدية النص البصري بحيث تنسج الكاميرا مفردات العمل التشكيلي ومرسوماته الخطية بطريقة تخدم بنية تشكيل اللقطة التلفزيونية أو السينمائية وبتكاملية تعبيرية مع المشهد الفيلمي.

وشخصيًا أعتقد أنه لا تكفي مشاهدة لمرة واحدة للمتلقي لكي يدرك مجمل البنيات الدلالية الجمالية المُكتنهة ضمنًا في العمل، وعليه يجب إعادة المشاهدة مرة تلو الأخرى، نظرًا للمدة الزمنية القصيرة لكل قصيدة ضوئية على حدة أولاً، وثانيًا لكثافة الدلالات والإيحاءات والمجازات المرئية، والاقتصاد البصري فيها بآن معًا، وهذه مفارقة!! ولكنَّ ذلك يعود برأينا إلى أنَّ قوانين البناء الفيلمي المستخدمة من قبل الغضبان هي قوانين الشعرية نفسها: (الكثافة، الإيحاء، الانزياح، المجاز، الاقتصاد، الشفافية،... إلخ). وقد ذكرنا ذلك في المقدمة النقدية سالفًا، ونعيد التأكيد هنا: إن الشعرية في السينما تعتمد صفات وقوانين نجدها على نحو بارز في لغة القصيدة الشعرية بخاصة وهذا ما يوحِّد أفق التفكير في السينما في علاقتها بالشعر والعكس صحيح.

كيف تحولت الفيزياء إلى كيمياء...؟!

ينظر الغضبان إلى النص الشعري لأدونيس بوصفه معلومة، ليقوم بتحويله إلى مجموعة إشارات دلالية ورمزية، ثم يعمد إلى اقتراح تجلياتها المرئية بأدوات سمعية-بصرية لتتحول المادة الفيلمية بعد ذلك إلى نص معرفي ضوئي يحتاج إلى طريقة تلَّق جديدة مع تحوله ذاك. فكما يتحوَّل الماء فيزيائيًا من حالة الجليد المادية إلى حالته الماء السائلة إلى حالته البخار الغازية يتحوَّل النص الشعري لأدونيس، على يدي المخرج-الباحث "الغضبان" من حالته المادية المكتوبة، كحالة تلَّق شفاهي قرائي أول، إلى حالة تلَّق بصري مرئي ثان، وإلى سمعي-بصري: مرئي آخر=ضوئي. ولعل في هذا المثال خير دليل على ما رمينا به إلى عنوان قراءتنا النقدية (من فيزياء المفهوم إلى كيمياء الرؤيا)، أي: من فيزياء اللون وقوانينه العلمية يتفاعل ويتحول مفهوم القصيدة الشعرية النصيَّة إلى كيمياء مرئية جديدة، اصطلح لها الباحث الغضبان تعريفًا إجرائيًا هو القصيدة الضوئية.

الوسائط الجديدة والضوابط النقدية:

ينبغي على الفنان الذي يتفاعل إبداعيًا مع تقنية الوسائط الجديدة بوصفها فنًا جديدًا، أن يلتزم بالضوابط المنهجية النقدية الخاصة بعمله، بحيث لا يجعل من هذه الوسائط وسيلة للتعالي على النص الإبداعي المُؤَسَس عليه – بحجة مضاهاته وبزِّه والتفوق عليه، كما بحجة البحث عن الدهشة والإبهار – وهذا ما انتبه إليه الغضبان ويُسجل له، وذلك لئلا تقود طريقة استخدام هذه الوسائط إلى نتاج جديد يعلو على النص الأصلي، ويتحول عنه شكلاً ومضمونًا، جسدًا وروحًا، إلى الدرجة التي يُصبحُ فيها المُنتَج الإبداعي الجديد لا علاقة له بالنص المُؤَسَّس عليه سوى فقط بعنوانه القديم واسم مبدعه السابق. وعلى المستوى الشخصي، لقد شاهدت عددًا من التجارب والعروض في باريس كما في عدد من العواصم والمهرجانات المختلفة، والتي وقعت بهذا المطب، وللأسف، بدعوى التجريب والثورة على القيم الفنية.

ولعل النسبة الكبيرة من النتاجات التي تنجز حاليًا بوصفها تنتمي إلى (الفيديو آرت) يمكن أن تمثِّل خير دليل على هذا القول.

(الفيديو آرت) والنقد الغائب:

إن النقد الأبرز الذي يُمكن إجماله حول نتاجات (الفيديو آرت) عالميًا هو:

-       أولاً: إسراف (الفيديو آرت) في منجزه العالمي عامة في البحث عن الشكل Forme على حساب المضمون Contenu، ويظهر هذا جليًا في نماذج عروض كبرى المهرجانات للفيديو آرت في فرنسا وألمانيا وسويسرا... أو في غيرها.

-       ثانيًا: غياب المفهوم أو الباراديغم Paradigme أو نسق التصورات الجمالية الخاصة بنتاج المبدع صاحب التجربة، والاتكاء المطلق على الانفعال التقني المباشر أدائيًا مع الكاميرا ومكملات البناء الفيلمي للعمل، عبر الاتكاء على قانون المحاولة والخطأ الذي يكاد يقترب من حدود الفوضى في عدد كبير من نماذج النتاج الفيلمي (للفيديو آرت).

في التعليق على النقدين الآنفين يمكننا القول إن هوس الشكلانية بحجة البحث عن الدَّهشة والإبهار عبر تقديم صور أو لقطات متتابعة بأي طريقة، أحيانًا، قد يبدو هو الأساس وهو الغاية النهائية للكثير من نماذج (الفيديو آرت)، حتى وإن بدا العمل المنجز خاليًا من أي معنى أو أي محتوى.

ولكن يجب الانتباه أنه قد انتهى عصر الفصل بين الشكل والمضمون في المنجز الإبداعي على اختلاف ألوانه – كما أثبتت ذلك النظريات النقدية الحديثة: أدبية أو فنية أو غيرها. وعليه فنحن نعتقد أنه ينبغي على فناني (الفيديو آرت) عدم إضاعة الوقت في جعل هذه النقطة مثار إعادة إختبار وتخمين. علمًا أن المرء لا يعدم مشاهدة بعض من نماذج (الفيديو آرت) المؤلفة من لقطة واحدة مثلاً، وهي غاية في الجمال والجدة، حيث لا ينفصل الشكل فيها عن المضمون بل يغدو الشكل والمضمون واحدًا في كل منسجم.

لكن تجب ملاحظة أن بعض نماذج (الفيديو آرت) الأخرى قد تتألف من لقطة واحدة مفردة (لقطة فيلمية لسقوط الثلج...) أو قد تتألف من عدة لقطات متتابعة (لقطة فيلمية لحركة الغيم... ثم يتبعها لقطة أخرى لعمال النظافة... وقد لا يربطها أي رابط مع التي قبلها... وهكذا). وقد لا يكون لهذه اللقطة أو اللقطات أي معنى سوى ظهورها الفيزيائي أمام العين بحيِّز أو كادر ثابت للكاميرا، ومع ذلك فنحن لا نستطيع القول أو لا يحق لنا القول، حتى، إن هذا النموذج لا يُصنَّف ضمن (الفيديو آرت).

أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية، حول غياب الباراديغم Paradigme فإننا نرى أن غياب التوصيف النقدي الدقيق لهذا الفن، على نحو كبير، يلعب دورًا في وسمة بصفه الفوضى، وخصوصًا إذا علمنا أنه حتى الآن لا يوجد تعريف متفق عليه عالميًا بين النقاد لهذا الفن الجديد. كما أنَّ جدَّة هذا الشكل الفني وعدم تبلور نماذجه عالميًا يلعب دورًا مكمِّلاً بهذا الشأن، إذ ما يزال الانفعال التقني المباشر هو الذي يقوده، فيما القانون الذي يحكمه هو قانون المحاولة والخطأ بدعوى التجريب والحرية، في المنجز الرديء منه والمقبول على حد سواء.

من هنا يمكن النظر إلى أهمية وخصوصية تجربة الغضبان في إيلائها المضمون Contenu نفس درجة الأهمية التي تعطى للشكل Forme بالتزامن، وبنفس الدرجة، إلى الحد الذي لايمكن الفصل بين الشكل والمضمون، فالشكل هو المضمون والعكس صحيح وبنفس الأهمية. وهذه خصيصة إيجابية تحسب للعمل.

هذا بالإضافة إلى النقطة الأهم، وهي السعي الجاد لتجاوز المنجز السائد، في معظم نتاجات (الفيديو آرت) على اعتبار تقاطع هذا العمل مع بعضها إلى اقتراح باراديغم Paradigme خاص بهذه التجربة الفيلمية الهامة.

ما هو الباراديغم في تجربة الغضبان:

كما ذكرنا آنفًا، إذا كان مصطلح الباراديغم بالمعنى العام يعني نسق التصوُّرات المقبولة عمومًا في مجالٍ بعينه، فإننا بعد تحديد أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية التي اعتمدها الغضبان عمليًا، والتي كوَّنت بمجملها نسق التصورات الجمالية لهذه التجربة الجديدة، وبعد القيام بالتحليل التطبيقي من خلال مثال (القصيدة الضوئية: أول الشعر) نرى أنَّ البارديغم في تجربة الغضبان هو التصور الجديد الذي أعطاه الباحث-المخرج للضوء في القصيدة أو للضوء-القصيدة ، وهو: السياسة الضوئية للقصيدة، أو على نحو دقيق هو السلوك النفسي اللوني للضوء بتفاعله مع النص الشعري، والذي استعار منه الغضبان إجرائيًا مصطلح "القصيدة الضوئية". وبالتالي فالمفهوم الجديد للضوء هو كامنٌ في عنوان العمل نفسه: أدونيس... سياسة الضوء، والذي يختزن بذكاء نسق التصورات الجمالية الخاصة بهذه التجربة الفيلمية، والتي ذكرناها مفصَّلة في تحليلنا السالف، حيث صاغ منها (الباحث- المخرج الغضبان فروضه العلمية وقدَّم نتائجه الميدانية عبر اعتماده أصول البحث العلمي في أطروحته عن شعر أدونيس.

في محاولة توصيف التجربة:

تظهر إفادة المخرج الغضبان من المنجز الفيلمي السائد، كما يظهر استيعابه للمفاهيم الجمالية الحديثة بعلاقتها مع الشعر على نحو خاص، كما يظهر إفادته من الفيلم التسجيلي وإن لم نستطع تصنيف مُنجزه ضمن فئته. كما تظهر إفادة الغضبان من بعض أشكال (الفيديو آرت) السائدة، وإن لم نستطع أيضًا تصنيف منجزه ضمن فئتها – وللمناسبة فالفيديو آرت له أشكال مختلفة ومتنوعة كثيرة، يقترب بعضها من الريبورتاج التلفزيوني الإخباري ويبتعد بعضها عنه ليغدو لقطة واحدة لا يتجاوز زمنها النصف دقيقة، حيث تعرض لمشهد سقوط المطر على التراب مثلاً. على أنني أدرك شخصيًا أن ثمَّة فضاءات جديدة في الفيديو آرت لم تكتشف بعد، ولعلَّ في عددٍ من نماذج هذه القصائد الضوئية ما يمكن أن ينبئ باكتشاف بعضها على نحو مبدع.

ولكنني أعتقد، على مستوى آخر، أن مصطلح "القصيدة الضوئية" الذي يُطلقه الغضبان قد يقترب في بعض نماذجه من الفيلم التسجيلي التجريبي بقدر ما يبتعد عنه ويتجاوزه بآن، لذا سأطلق عليه "الفيلم الميتا تسجيلي" أو "الما فوق واقعي" على افتراض صحة التسمية. لكن وللإنصاف فإن هذا الأمر لا يُنقصُ من أهمية المصطلح الإجرائي، والذي يمثِّل برأينا التوصيف الدقيق لهذه التجربة ألا وهو "القصيدة الضوئية"، حيث يشكل بمجمله الديوان الضوئي، والذي يُطلقه الغضبان على منجزه الفيلمي، مع الإشارة المتكررة أنه يطلق لأول مرة في فضاء الإعلام الثقافي العربي.

ولو أن الغضبان قد تحرر من ذهنية العرض التلفزيوني بشكل كامل، كما في بعض نماذجه (الضوئية) المنجزة، واتجه بشكل مطلق إلى فضاءاته الفيلمية التجريبية أو قصائده الضوئية كما في القسم الأكبر من ديوانه الضوئي، لكان ذلك أجدى تجريبًا من مراعاة ذهنية الفضائيات العربية وشروطها الرقابية الخانقة.

لكن ذلك لا يمنعني من القول الصريح: إنَّ هذه التجربة الجديدة هي التجلي الأبرز في المشهد الثقافي العربي الحالي لعلاقة الشعري بالفيلمي في تفاعله الإبداعي التقاني، هذا على مستوى، وعلى مستوى آخر أنني أعلم تمامًا أن الحسابات الإنتاجية الظالمة لحرية الإبداع غالبًا ما تلعب دورها بهذا الشأن. ولعل هذا ما يدفعني إلى القول أيضًا بضرورة قيام جهات إنتاجية ثقافية خاصة بتبني مثل هذه المشاريع الثقافية المبدعة، لما تختزنه من دعم خلاق للحضور الثقافي العربي في عصر الثورة المعلوماتية.

وعمومًا فإن هذه التجربة أدونيس: سياسة الضوء التي يقدمها المخرج-الباحث فداء الغضبان، كمنجز ثقافي مرئي، هي تجربة في غاية الأهمية، وخصوصًا أنها تبني أطروحاتها الجمالية بأدوات نقدية مرئية، وهذا ما يحدث لأول مرة في المنجز النقدي الشعري العربي، مع أشهر شعراء العربية في العصر الحديث. وغني عن البيان أن هذا ما يزيد من أهمية وجرأة التجربة الجديدة.

ختامًا:

لا نعتقد أنَّ هذه المختارات القليلة تعبر عن كامل الأطروحات الجمالية للتجربة بشموليتها. لكن ذلك لا يمنعنا من التأكيد أن هذه التجربة، بحق، جديرة بالمناقشة النقدية الهادفة، والمحاورة الجمالية الراقية، والرعاية الإعلامية الجادة من المؤسسات الثقافية والإعلامية العربية. وهي تُعدُّ محاولة إبداعية رائدة ، وغير مسبوقة في ميدانها الفيلمي، لأنها تمثل المتحرك الإبداعي الشعري المرئي في تفاعلها الخلاق مع ثورة الوسائط الرقمية الحديثة، بشكل خاص في بحيرة الثبات المعلوماتي الثقافي السائد. في ظل ملامح أزمة ثقافية عربية حالية ترتبط بثقافة التكنولوجيا من جهة كما ترتبط بتكنولوجيا الثقافة من جهة ثانية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود