فهم الكون المرئي لغز دائم

 

جواد بشارة

 

تساءل عالم الفيزياء وعالم الفلك الشهير هيوبير ريفيز Hubert Reeves ذات يوم قائلاً: "هل للكون معنى؟" وجعل هذا السؤال عنوانًا لأحد كتبه L’Univers a-t-il un sens، وكان ذلك أيضًا حلم البشرية البعيد المنال، بسبب ما تتمتع به من وعي وذكاء وعقل وتطور علمي وتكنولوجي، أي الحلم المتمثل في أن تتوصل البشرية يومًا ما إلى كشف سر الكون وإدراك المعنى الخفي لوجوده، أي معرفة كيف ولماذا وأين ومتى، المتعلقة بالكون المرئي الذي نعرفه ونرصده وندرسه كل يوم. الكون المرئي يوحي بالتعقيد omplexité وهذا المفهوم يقود إلى حالة الإتقان والفعالية l’efficacité الناجعة، بيد أن هذه الأخيرة لا تؤدي بالضرورة إلى كشف المعنى المستور بل ربما توصلنا إلى اللامعنى non-sens علمًا بأن سؤال المعنى والجوهر لم يكن مطروقًا قبل ظهور البشرية على ظهر البسيطة، إلا أنه بكل تأكيد من المسائل الجوهرية التي درستها الحضارات الفضائية المتطورة والمتقدمة علينا بملايين السنين والتي يعتقد أنها منتشرة بكثرة في أرجاء كوننا المرئي الشاسعة، كما عبَّر عن ذلك عدد كبير من فطاحل العلماء في كتبهم ومحاضراتهم ونشاطاتهم العلمية. هناك بين المعنى واللامعنى تتكدس النظريات المتناقضة أو المتكاملة لطرح رؤيتها عن حقيقة الكون وسره المكنون. بعضها يقول إن كل ما في الكون من مكونات، من الذرة وما دونها من جزيئات إلى المجرات وحشود وأكداس المجرات وما بعدها ليس سوى وهم ظاهر يخفي واقعًا مخيفًا، ولكن يبدو الكون المرئي محكمًا ومرتبًا ومنظمًا على نحو دقيق جدًا organisé، structuré، et ordonné، وعلى نحو تدرجي وتسلسلي أو مراتبي hiérarchisation مقصود سلفًا وبصورة تتعدى مقدرتنا الإدراكية المحدودة. ففي عصر التنوير كان يكفي الفيلسوف كانط kant أن يرفع نظره إلى السماء المظلمة لكي يرى كونًا منظمًا ومتقنًا ومتناسقًا يعمل وفقًا لقوانين الطبيعة الضابطة له حسب مبدأ العلة والمعلول والسبب والنتيجة la causalité.

إن هذا النظام اللغزي الغامض الذي يجعل الأشياء تبدو كما هو عليه حالها، يستند إلى مجموعة من الثوابت الكونية والفيزيائية constantes physiques الغامضة والتي لا نعرف إلا الجزء اليسير منها كسرعة الضوء والثابت الثقالي وزمن بلانك وكتلة الإلكترون... إلخ. لقد أعطيت هذه الثوابت أرقامًا ذات قيم رياضية ثابتة ودقيقة للغاية، إذ إن تلك الأرقام موجودة ومنذ الأزل، أي منذ اللحظة الأولى للانفجار العظيم Bing Bang ولم يفعل الإنسان سوى اكتشافها والتوصل إليها بعد جهد دؤوب. ولا أحد يدري من أين جاءت تلك الأرقام وقيمها والتي بقيت ثابتة منذ بدء الزمن الذي نعرفه. فمن الذي وضعها ومن الذي حدَّدها بتلك القيم الرياضية الدقيقة في الكون المرئي لكي تبدو الأشياء كما هي على صورتها الحالية؟ الذي نعرفه، أو بالأحرى نفترضه اليوم، أنه في كل مكان في الكون المرئي، من أبعد مجموعة سديمية وحشود مجراتية إلى أصغر جسيم أو جزيء داخل أجسادنا، لا شيء يفلت من سلطة وتحكم هذه الثوابت الفيزيائية الكونية الشاملة دون أن نعرف من أين جاءت هذه الثوابت ولماذا وضعت ومتى وبأي طريقة ومن قبل من؟ كما أنه ليس بالإمكان التأثير عليها أو تغييرها أو تعديلها، وبفضلها يستقيم كل شيء ولا ينهار أو يتفتت الورق الذي نكتب عليه أو الحاسوب الذي نقرأ من خلاله ما نكتب، ولا يتحول إلى رماد أو غبار. ويعتقد العلماء بأن هذه الثوابت الفيزيائية هي التي سمحت للكون المرئي بالتطور إلى درجة أنها أتاحت له أن يولد الحياة العاقلة بداخله، مما دفع بالعديد من العقول الفذة إلى التفكير بأن هناك مشروع كوني مسبق projet cosmique ومعد سلفًا وليس وليد الصدفة، فلو تغيرت فارزة أو تغير رقم واحد بسيط في تلك القيم والثوابت الكونية، كما يقول عالم الفيزياء الفلكية روبرت ديك Robert Dick، فإن الكون برمته كما نعرفه، بما في ذلك الحياة المتولدة في داخله، سينعدم وجودهما كليًا ولما كان بالإمكان انبثاقه أو ظهوره. وقد ثبت ذلك من خلال تجارب المحاكاة التي أجريت في هذا المجال على الكومبيوترات العملاقة وكانت النتائج متطابقة مع الاستنتاجات النظرية والرياضية، أي استحالة إجراء أي تغيير أو تعديل مهما كان طفيفًا على تلك الثوابت الفيزيائية والكونية، كثابت سرعة الضوء الذي حدد بـ 299792458 كلم/ثانية، والثابت الثقالي constante de gravitation الذي حدد بـ 6.76384، ولا أحد يعرف لماذا هذه القيم الرياضية الدقيقة وليس غيرها.

هناك مجموعة أخرى من الثوابت الكونية الغريبة المعروفة باسم الثوابت الخالية من الأبعاد constantes sans dimensions لأن قيمها الرقمية valeurs numériques شمولية universelles أي أنها تبقى هي ذاتها أيضًا أيًا كان نظام القياس المتبع لحسابها. وقد توصل العلماء إلى أن النموذج القياسي أو المعياري للفيزياء modèle standard de la physique يستند على حوالي العشرين من هذه الثوابت الفيزيائية الجوهرية fondamentales المكتشفة لحد الآن والخالية من الأبعاد، وأحدها هو ثابت البنية الدقيقة constante de structure fine الذي يدير ويتحكم بالقوة الكهرومغناطيسية force électromagnétique. تم اكتشاف هذا الثابت سنة 1916 على يد العالم الألماني آرنولد سومرفيلد Arnold Somerfeld الذي كان مقربًا من أينشاتين Einstein وأستاذًا للعالمين الفائزين بجائزة نوبل فولفغانغ بولي Pauli Wolfgang وفيرنر هيزنبيرغ Werner Heisenberg، وتم تأكيده بشكل نهائي سنة 2006 وتحديد قيمته القطعية بواحد مقسوم على 137.035999074 حيث يعطي الرقم التالي 0.0072973525698، ولو تم تغيير عدد واحد من هذا الرقم فسوف تنتفي القوة الكهرومغناطيسية مع ما سيترتب على ذلك من تداعيات كارثية ليست أقلها أن يتوقف الكون المرئي كله عن الوجود، وهو الأمر الذي حير عقل العالم الفيزيائي الألماني ماكس بورن Max Born الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1954، وهو أحد آباء نظرية الكوانتا أو ميكانيك الكم mécanique quantique، والذي صرح بهذا الخصوص:

لو كان لثابت البنية الدقيقة constante de structure fine قيمة أعلى بصورة طفيفة جدًا عما هي عليه الآن لما كان بإمكان أحد التمييز بين المادة والعدم، وسيكون من المستحيل الفرز بين قوانين الطبيعة، وبالتالي فإن قيمة هذا الثابت هي بكل تأكيد ليست وليدة الصدفة بل هي ناجمة عن أحد قوانين الطبيعة الأزلية. ومن هنا يمكننا القول إن شرح هذا الرقم يجب أن يكون أحد المشاكل أو المسائل المركزية للفلسفة الطبيعية.

وهذا هو أيضًا رأي عالم الفيزياء الشهير ريشارد فينمان Richard Feynman حيث عبَّر عن رأيه بطريقة إيمانية عندما قال:

أعتقد أن يد الله هي التي تقف وراء هذا السر لأن هذا الثابت هو أحد الألغاز الكبرى للفيزياء، وهو رقم سحري أعطي للإنسان أو لنقل أتيح له أن يكتشفه دون أن يفهم أي شيء عنه وعن كيفية تحديده وتثبيته، لذلك يمكننا أن نقول إن يد الله هي التي خطت هذا الرقم ولا نعرف لماذا ولا متى لكننا نعرف الطقوس التجريبية المتبعة لقياسه، ولا يوجد برنامج حاسوبي كومبيوتري على الأرض كلها قادر على إخراج مثل هذا الرقم. ولو قسمنا هذا الثابت على الثابت الذي يتحكم بالجاذبية أو الثقالة gravitation فسوف نحصل على ثابت جديد من نوع عديم البعد sans dimension ذو أهمية قصوى ومصيرية، وهو الثابت ذو القيمة التالية 1036. والحال أننا لو أسقطنا صفرًا واحدًا من هذا الرقم فسوف يتجمد توسع الكون ويبقى الكون محصورًا في حجم ضئيل مما يعني استحالة نشوء الحياة فيه، وإذا أضفنا صفرًا أو صفرين لهذا الثابت فسول لن يكون بوسع النجوم والكواكب والمجرات أن تتكون أو تتشكل.

أما عالم الفلك والفيزياء الفلكية الإنكليزي مارتن ريس martin rees فيقول إن الكون المرئي يستند على ستة ثوابت خالية الأبعاد، والتي كرَّس لها العديد من الكتب والأبحاث والتجارب والمحاضرات والمؤتمرات حتى يخيل إلينا أنه كرس لها حياته كلها.

وفي إحدى المرات صرَّح أمام مجلس اللوردات البريطاني أنه لو مس شخص ما أحد الأعداد في تلك الثوابت الستة الجوهرية فإن ذلك سوف يؤدي إلى اختفاء مجلس اللوردات فورًا عن الوجود ومعه الكون بأكمله. من الثوابت الستة المشار إليها يوجد الثابت الشهير المسمى بـالثابت الكوني constante cosmologique الذي يشكل أحد أهم المفارقات في الفيزياء المعاصرة والذي يقف وراء درجة الضبط القصوى، إلى حد الإعجاز، للكون المرئي le réglage absolu de l’univers منذ لحظة ولادته إلى يوم الناس هذا وحتى آخر لحظة من حياة الكون المرئي. فالانفجار العظيم، حسب رأي العالم جورج سموت George Smoot، هو الحدث الأكثر كارثية الذي يمكننا تخيله ومع ذلك يبدو في غاية الضبط والتنظيم والتنسيق والهارمونية finement orchestra. والجدير بالذكر أن قيمة هذا الثابت الكوني هي التي مكنت الكون المرئي لكي يبلغ هذه الدرجة من الكثافة القصوى أو الحرجة densité critique المحاذية للقيمة واحد حيث يبدو الكون المرئي بفضلها وكأنه مسطح plat. وهناك نتيجة مدهشة أخرى لحالة الضبط الكوني القصوى في لحظة الولادة أشار إليها العالم الروسي غاموف Gamow والعالم الأمريكي وينبيرغ Weinberg، صاحبا الكتاب الرائع الدقائق الثلاثة الأولى للكون les trois premières minutes de l’univers، حيث، وحسب هذين العالمين، فإنه بعد مرور 200 ثانية على الانفجار العظيم البيغ بانغ Big Bang فإن متوسط الكثافة كان يعادل كثافة الماء، أي بمعدل غرام واحد لكل سنتمر مكعب، مما يعني أن العلاقة بين متوسط الكثافة والكثافة القصوى المشار إليها أعلاه والمسماة أوميغا Oméga تختلف بقيمة واحد فقط إلى 10-13 وفي زمن بلانك أي 10-43 كانت قيمة أوميغا Oméga مذهلة وقريبة من واحد وهي كالتالي 1.1000000000000000000000000000000000000000000000000000000000، وهي قيمة valeur كما نرى قريبة من واحد بحيث لا يمكن أن تكون بفعل الصدفة، وبالتالي يحق لنا القول إن شيئًا ما أرغم الأوميغا Oméga أن تكون قريبة جدًا من واحد، وبأن هذا الشيء يمكن أن يكون هو الثابت الكوني constante cosmologique. ولكن لماذا وصل الثابت الكوني بقيمته إلى هذا الرقم بالذات وليس إلى رقم آخر؟ هناك حالة من التعادل والتوازن بين المساهمات الإيجابية contributions positives الناجمة عن القوى الجوهرية الأربعة الجاذبية أو الثقالة، والكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية الشديدة والمساهمات السلبية contributions négatives الناجمة عن المادة وهي تنفي أو تفني بعضها البعض إلى حدود أو درجة الكسر العشري décimal 120، مما يعني حسب وحدات بلانك القياسية unités de planck أن الثابت الكوني المذكور يحدد بصفر وبعده فارزة وبعدها 119 صفر إلى أن نصل إلى الرقم non nul في الصف rang الـ 120. وبعيدًا عن وجع الرأس بهذه الأرقام والحسابات الرياضية المدوخة، من شبه المستحيل أن يصل الثابت الكوني هذا إلى هذه القيمة بمحض الصدفة، وإن نسبة وقوعه على هذه القيمة هي واحد من 20 مليار، وهذه أرقام فلكية يصعب تصورها من قبل القارئ الكريم. فلو كان هناك صفر أكثر لتمدد الكون بسرعة أكبر كثيرًا من سرعته التي قسناها ولما توفر له الوقت اللازم لتشكل النجوم والمجرات، ولو كان هناك صفر أقل لانهار الكون على نفسه فور ولادته. لذلك يطرح السؤال الأزلي الدائم: هل ظهر الكون هكذا ذاتيًا وبفعل الصدفة أم أن هناك خطة محكمة ومسبقة تقف وراء ظهوره، وبالتالي توجد قوانين خفية لم نكتشفها بعد هي التي تجعل المادة، في سياق ظروف معينة من الطاقة، تدفع المادة إلى تنظيم نفسها لكي تصل إلى درجة المادة الحية vivante؟

لقد كرَّس عالم الكيمياء الحائز على جائزة نوبل سنة 1977 إليا بريجونين ilya prigonin جزءًا كبيرًا من حياته العلمية لكي يثبت وجود نوع من التركيبة واللحمة أو النسيج trame المستمر الذي يجمع ويوحد بين الجماد inerte أو المادة الجامدة والمادة التي توجد في الحالة التي تسبق الشيء الحي pré vivant والمستوى الحي vivant أو المادة الحية. فالمادة حسب هذا العالم المتخصص تنمو من خلال الفعل البنيوي إلى تنظيم وبناء ذاتها بذاتها auto structurer لكي تغدو مادة حية وعضوية على عكس ما أسماه العالم بريجونين بـالبنية العاصية أو الطائشة structure Dissipatives. فهو يعتقد أن الكون المرئي ليس فقط كم هائل من مادة النجوم والكواكب فحسب، بل هو بالأخص تنظيم مذهل stupéfiant وتراتبي iérarchique يقود حتمًا وبالضرورة قسم من الجزئيات والخلايا الجامدة inanimées نحو الحياة. بعبارة أخرى تبدو الحياة وكأنها التعبير الضروري لكون ينطوي على إمكانية أن تكون الخلايا البسيطة فيه قابلة لكي تنظم نفسها في أنظمة أكثر تعقيدًا وتركيبًا إلى أن تولد الحياة بداخلها أو توجد العنصر الحي الذي ينبثق منها engendrer du vivant.

أما العالم الفيزيائي الأمريكي من أصل إنكليزي فريمان ديسون Freeman Dyson فقد مضى خطوة أعمق في حدسه وهو المعروف عنه أنه الأب الحقيقي لمفهوم الكروموديناميك الكوانتي أو الكمومي chromodynamique quantique وقال: "كلما حللت ودرست الكون أكثر فأكثر وتعمقت في تفاصيل هيكليته أو معماريته كلما عثرت على دلائل وقرائن تقول لنا أن الكون يعمل وكأنه "يعرف" مسبقًا بأننا سوف نظهر فيه ككائنات عاقلة وذكية ومفكرة وواعية". وهناك أمثلة كثيرة وملفتة للانتباه في قوانين الفيزياء النووية تتخللها حوادث وتغيرات رقمية accidents numériques تبدو وكأنها تتواطأ conspirer من أجل جعل الكون قابلاً للحياة ويمكن العيش فيه habitable. وبخصوص هذا النظام اللغزي الغامض ordre mystérieux الممتد داخل الواقع، يعتقد علماء كبار، من أمثال ستيفن هاوكنغ stephen Hawking وفريمان ديسون Freeman Dyson وغيرهم، أن قوة الثقالة أو الجاذبية النووية force d’attraction nucléaire كامنة بقدر كاف لكي تكون معادلة أو معارضة s’opposer لقوة النبذ الكهربائي répulsion électrique التي تحدث بين الشحنات الموجية للنواتات أو نوى الذرات الاعتيادية كذرات الحديد أو الأوكسجين. وهناك حوادث ومتغيرات accidents أخرى محظوظة في الفيزياء الذرية وبدون هذه الحوادث والطوارئ ما كان بإمكان الماء بصيغته السائلة أن يوجد، ولا لسلسلة ذرات الكاربون أن تتركب أو تتجمع بصورة معينة se combiner على شكل خلايا عضوية مركبة ومعقدة molécules organiques complexes، ولا كان بإمكان ذرات الهيدروجين أن تلعب دور الجسور الرابطة بين الخلايات molecules. لذلك وبفضل كل هذه الحوادث الفيزيائية والفلكية يصبح الكون المرئي مكانًا حاضنًا للمخلوقات الحية حتمًا، وهنا يعقب العالم فريمان ديسون Freeman Dyson قائلاً: إنني كعالم عقلاني يتحدث بلغة القرن العشرين وليس بلغة القرن الثامن عشر، لا أدعي أن هيكيلية أو معمارية الكون المنظمة والمتجانسة جدًا تشكل دليلاً قطعيًا على وجود الله بل أقول فقط إن هذه المعمارية أو الهيكيلية المذهلة والمتناسقة والمنتظمة تتوافق وتتساوق أو تتلائم compatible مع الفرضية التي تقول إن "الروح l’esprit" تلعب دورًا جوهريًا في وظيفة وطبيعة عمل الكون المرئي. وأعتقد أن الكون يميل أو يهدف التوجه نحو الحياة والوعي وأن هناك معنى خفيًا يبرر وجوده والدليل على ذلك أننا موجودون فيه لنراقب ونرصد وندرس تكوينه ونتعاطى أو نتفهم وندرك appréhender جماليته الهارمونية المتناسقة. ولكن علي أن أعترف أن هذا الرأي هو من اختصاص الميتافيزيقيا وليس طريقة تفكير علمية بحتة. لذلك وعلى عكس ما روج له عالم الأحياء Biologiste البيولوجي الفرنسي الشهير جاك مونود jacques Monod بما أسماه فكرة الصدفة الكونية hasard universel فإن الحياة لا تبدو وكأنها ناتجة عن سلسلة من الحوادث التي وقعت صدفة. فالعالم جيمس غاردنر James Gardner لا يعتقد بأن الأنظمة المعقدة والمركبة في الكون، كالحياة، ظهرت بفعل الصدفة في الكون المرئي حيث من شبه المستحيل تخيُّل أن تقوم طائرة بوينغ 747 بصنع نفسها وتجميع مكوناتها ذاتيًا وعفويًا داخل حزام النيازك انطلاقًا من المواد المحيطة المتوفرة حتى لو استغرق مثل هذا الحدث زمنًا لانهائيًا. أي أن كل شيء يبدو وكأنه محضر سلفًا وبعناية ودقة لامتناهية ومنظم تمامًا organisé داخل مسرح الكون لكي يتيح ظهور الوعي والعقل والذكاء أي الحياة العاقلة المنتشرة على مسرح الكون، وعلى نحو منظم مقصود ومن مادة مرتبة matière ordonné حيث يظهر من خلالها الحياة والوعي. إن هذا الضبط والتنظيم الدقيق والمذهل يسمح لنا بالاعتقاد بوجد ذكاء لامحدود مدبر ومنشئ intelligence organisatrice، متسام وعظيم ومتعال transcendant ومتفوق على واقعنا، وربما يكون هذا الذكاء أو العقل الأول هو الذي قصده آينشتين سنة 1936 عندما أجاب برسالة على سؤال لأحد الأطفال الذي سأله هل يعتقد بوجود الله وقال فيها:

كل من كان معنيًا بشكل جدي بالعالم سيفهمون يومًا ما أن هناك "روح esprit" تتموضع خلف قوانين الطبيعة الجوهرية، وهي ماهية أكبر بكثير مما يمكن أن يتخيله أحد من بني البشر.

غالبًا ما اعتبر العلم التقليدي conventionnelle بعض المواضيع والنظريات خطرة لاعتبارات كثيرة، وعلى رأس هذه المواضيع تأتي مسألة أصل الكون l’origine de l’univers، وعلى نحو أخص وأدق التكهنات والتأملات spéculations والنظريات التي تفكر وتنظر مليًا فيما يتعلق بما حدث قبل وقوع الانفجار العظيم، والمقصود هنا اللحظة التي سبقت زمن بلانك Temps de Planck وفي المكان الذي يقع وراء جدار بلانك Mur de Planck، أي الحدود القصوى التي تفصل عالمنا المادي عما قبله، وهذا من الألغاز الدائمة في الكون المرئي. وبهذا الصدد نشر الصحافي المتخصص بالعلوم جون بيز John Baez على موقعه الإلكتروني الخاص سنة 1997 قائمة مثيرة تحت عنوان أسئلة مفتوحة في الفيزياء questions ouvertes en physique، وكان أول تلك الأسئلة المفتوحة هو السؤال المتعلق بـ"اللحظة الصفر والنقطة الصفر l’instant Zéro، pointe Zéro" فما الذي حدث "قبل avant" البيغ بانغ Big Bang أي الانفجار العظيم؟ وهل توجد حقًا ما عرف بـ"الفرادة الأصلية أو الأساسية singularité initiale"؟ انقسم العلماء حول هذين السؤالين بين رافضين متشددين لهما حيث اعتبروهما فاقدين للمعنى ولا معنى لطرحهما، وآخرون متحمسين لهما اعتبروهما يمثلان فتحًا جديدًا في البحوث العلمية الفيزيائية والكوزمولوجية، بينما يتفق الجميع تقريبًا على أنه حصل في ماضي كوننا المرئي انفجار عظيم انطلاقًا من "ذرة بدائية أو أولية atome primitiv" كانت أصغر من أصغر مكون من مكونات الذرة التي نعرفها اليوم بملايين ملايين المرات والتي تقع على حدود جدار بلانك. ولكن كيف يقيض للبشر تصور أو إدراك واستيعاب وتقبل أن هذا الكون المرئي الشاسع نشأ من تلك النقطة السحرية pointe magique؟ وهل كان هناك شيء ما قبلها؟ يقول البعض إن بوسع العلم الإجابة على ذلك والكشف عن تلك الفرادة singularité، وإنها تعتبر الأمر الأهم في الوجود برمته لأنها كانت الأصل في كل ما نعرفه اليوم وما سنعرفه غدًا وهي مسألة وقت ليس إلا.

إن تبني أطروحة "الفرادة الكونية singularité cosmique" يطرح مشكلة حول علة وسبب تلك الفرادة. وإن ما يعرف اليوم بالمسائل والحلول الفريدة أو التي تتصف بالفرادة questions et solutions singulières ظهرت من جراء محاولات تزويج نظريتين عنوة هيمنتا على العالم لمدة تزيد على القرن، وأعني بهما نظرية النسبية théorie de la relativité التي تبحث في المستويات الكبرى وفي اللامتناهي في الكبر، أي الكون المرئي، ونظرية الكم أو الكوانتا والمعروفة بالميكانيك الكمومي أو الكوانتي mécanique quantique والتي تبحث في المستويات ما دون الذرية وفي اللامتناهي في الصغر.

كان ألبيرت آينشتين Albert Einstein قد صاغ نظريته النسبية في بداية القرن العشرين، وبالتحديد بين 1905 و1915، بشطريها الخاصة والعامة. وفي بداية عشرينات القرن الماضي أيضًا صاغ علماء كبار معاصرون لآينشتين أمثال ديراك Dirac وهيزنبيرغ Heisenberg على سبيل المثال لا الحصر إلى جانب بور Bohr وبولي Pauli وغيرهم، نظرية الكم أو الكوانتا النسبية La théorie quantique relativiste عن الضوء والمادة، والتي عرفت باسم الكهروديناميك الكوانتي أو الكمومي électrodynamique quantique التي ما تزال إلى اليوم تبحث وتدرس في العديد من المختبرات والجامعات العلمية رغم أن هذه النظرية تقود إلى ما يمكن تشبيهه بالكوارث الحسابية أو الرياضية catastrophes mathématiques وتفرض حلولاً فرادية، أي تفرز مجموعة من الفرادات singularités العويصة. والأنكى من ذلك أن عالمي الفيزياء والرياضيات روجر بينروز Roger Penrose وستيفن هاوكينغ Stephen Hacking أثبتا على نحو مقنع في ستينات وسبعينات القرن المنصرم أن الفرادات تعشش في كل بقعة من الزمكان éspace-temps بمجرد أن يصبح هذا الزمكان حلاً solution لمعادلات نسبية آينشيتن équations relativistes. كل النظريات الفرادية والنماذج الكونية الكبرى théorèmes de singularité et modèles cosmologiques التي تتعاطى مع كون في حالة تمدد وتوسع expansion تقود إلى فرادة في لحظة الصفر وهذا يخلق معضلة تقف عقبة أمام عملية توحيد النظريات القائمة والتوصل إلى النظرية الموحدة والجامعة والشاملة أي النظرية الكلية. من البديهي التفكير أن أغلب العلماء يتمنون صياغة نماذج كونية بدون فرادة إلا أن أبحاث بينروز وهاوكينغ وإيلي Ellis أجهضت كل أمل في حل المشكلة بدون إعادة النظرة بالمفاهيم السابقة ومراجعة كافة القوانين الجوهرية Lois fondamentales، وبالتالي بات من المحتم البحث عن مخرج آخر وكان لا بد من اجتياز حاجز Barrière أو جدار بلانك للخروج من هذا المأزق العلمي وبلوغ نقطة الصفر لرؤية ماذا حدث بالضبط عندها وكيف حدث. قال العالم الفيزيائي الفذ جون ويلر John Wheeler بهذا الصدد سنة 1973:

عندما نفكر ونتأمل في أسس fondements الفيزياء من وجهة نظر كوزمولوجية كونية cosmologique نجد أنه لا توجد مسألة أعمق من معرفة ما سبق الانفجار العظيم، أي تلك الحالة الأصلية état initiale من الحرارة والضغط والكثافة اللانهائية infinies. لكننا ومع الأسف لم نقترب من إيجاد حلول لهذه المعضلة وربما لن نعثر على أي حل لها إلى الأبد.

وبعد مرور ما يقرب النصف قرن على هذا الكلام ما زلنا في نفس الموقف ولم يتحقق أي تقدم علمي ملموس يذكر في هذا المجال سوى فكرة الـ KMS التي اقترحها التوأمان الفرنسيان من أصل روسي إيغور وغريشكا بوغدانوف Igor et Bogdanov في أطروحتيهما لنيل الدكتوراه في الفيزياء والرياضيات، والتي عالجت حالة التوازن الحراري للأنظمة الكوانتية équilibre thermique du systèmes quantiques. أما اسم النظرية الـ KSM فهو مأخوذ من الحروف الأولى لثلاثة علماء كانوا من أوائل من بحث في الظروف والشروط التي سبقت البيغ بانغ "الانفجار العظيم" وهم كوبو Kubo ومارتان Martin وشوينغر Schwinger. لا بد من التذكير مرة أخرى بأن الفيزياء الحديثة تستند في نظرياتها على عدد من الثوابت الجوهرية constantes fondamentales، وأن أحد هذه الثوابت هو ثابت بلانك constante de Planck، وهو الذي يقيم نوعًا من الحدود بين الظواهر الكلاسيكية والظواهر الكمومية أو الكوانتية. وبجانبه ثابت آخر هو الثابت الثقالي constante gravitationnelle الذي يقيس أو يحدد قوة الجذب في الثقالة أو الجاذبية force d’attraction. وبالطبع هناك الثابت الأشهر، ألا وهو ثابت سرعة الضوء vitesse de la lumière – علمًا بأن هناك من يقول اليوم بعدة سرعات للضوء، وهو الثابت الذي يحدد الحدود بين نظريات غاليلو-نيوتن Galilée – Newton ونظريات مينكوفسكي-آينشتين Minkowskie-Einstein. ولو ربطنا بين هذه الثوابت فإنها ستشكل ما نسميه بالطول الكوانتي أو الكمومي longueur quantique، وهو قيمة رياضية تشكل جدارًا بين المكان الكلاسيكي espace classique والمكان الكوانتي أو الكمومي espace quantique، وكذلك تشكل فاصلاً بين الزمن الواقعي temps réel والزمن الخيالي أو المتخيل temps imaginaire.

المكان الكلاسيكي هو المكان الذي نعرفه ونعيش فيه، أما المكان الكوانتي أو الكمومي فهو الذي لا يمكن أن نراه أبدًا ناهيك أن نعيش فيه، ولا يمكن لأحد أن يدرك أبعاده إلا بالحدس والحسابات الرياضية التجريدية، ولو حاولنا تخيله فيمكننا أن نصفه برغوة أو مجاج écume يغلي وفي غاية الاضطراب والفوضى والتشوش infiniment chaotique حيث تلتقي بقع من المكان الافتراضي وتفترق بلا انقطاع، وهو مكان تغيب فيه مفاهيم وأبعاد الطول والعرض والارتفاع والشكل حيث تغدو مفاهيمًا ليس لها معنى محدد، إضافة إلى أن نقاط الربط بين المناطق المتباعدة فيه رغم وجودها في عالم اللامتناهي في الصغر تحدث عبر جسور ponts أو ثقوب دودية trous de ver وهي تتشكل وتختفي بسرعة مذهلة، وإن مختلف التكوينات والتراكيب أو التشكيلات المختلفة متجاورة différentes configurations coexistent تتعايش آنيًا ولحظيًا simultanément. وبلغة الرياضيات ينبغي وصف هذا المكان الكوانتي أو الكمومي بأدوات الهندسة اللاتبادلية أو اللاتعاكسية géométrie non commutative التي تستند على أرضية أرسطية أو قوة كامنة احتمالية potentialités aristotéliciennes تتطلع إلى الوجود الحقيقي tendance à exister بديلاً عن حقائق مرصودة des faits observables، وهذه المسائل تمس الأسرار الأكثر جوهرية وإدهاشًا في كوننا المرئي لاسيما الواقع الذي نعيش في داخله، أي اكتشاف مفاتيح ستتيح لنا يومًا ما الولوج إلى تلك الأسرار التي ستمنح الحرية للبشرية جمعاء. في الوقت الحاضر – أي في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين – بالرغم من أن المشكلة الأساسية ما تزال قائمة، ألا وهي استحالة التوحيد بين اللامتناهي في الصغر "العالم الكمومي أو الكوانتي monde quantique" والعالم اللامتناهي في الكبر "العالم النسبوي monde relativiste" وهو الكون المرئي بمجموعه، والحال تقدم نظرية الكون الحي والمطلق التي سنتطرق لها بالتفصيل لاحقًا أرضية ممكنة للتوحيد باعتبار أن هذين العالمين يشكلان معًا مجرد جسيم مادون ذري بالنسبة لمكونات وأبعاد هذا الكون الحي والمطلق والدائم التطور والخلق، والذي ليس له بداية ولا نهاية ولا حدود، ومكوناته مادية وغير مادية، أو من مواد مجهولة الماهية بالنسبة للبشر، رغم أن هذه اللوحة تندرج في نطاق الميتافيزيقيا وليست في مجال الطرح العلمي في الوقت الحاضر. لنعد إلى آخر فكرة حديثة في الفيزياء الحديثة التي أطلقنا عليها نظرية الـ KSM حيث كانت هناك محاولات أولية مستلهمة من أفكار قديمة لعالمين فيزيائيين هما ثيودور كالوزا Théodor Kaluza وكلاين Klein عندما نجحا في توحيد القوة الكهرومغناطيسية force électromagnétique مع النسبية la relativité مما قادهما إلى أبعاد أخرى للزمكان غير آبيلية des autres dimensions d’éspace-temps non abéliennes – الآبيلية هي صفة دالات أدخلها العالم الرياضي آبيل في التحليلات والمعادلات الرياضية الخاصة حيث عرفت باسم مجموعة آبيلية الرياضية أو بالمجموعة التبادلية، وهي أبعاد خفية وغير مرئية invisibles -، وأضافا ذلك إلى نظريات الـ الجوج théories de gauge. ويجدر بنا القول إن كالوزا تمكن منذ سنة 1921 من التوحيد بين النسبية والكهرومغناطيسية بإضافة بعد إضافي آخر dimension supplémentaire للمكان سماه البعد الخامس cinquième dimension. وفي سنة 1981 نشر العالم الفيزيائي والرياضي الذائع الصيت إدوارد ويتن Edward Witten، وهو أحد أهم أساتذة نظرية الأوتار théorie des cordes، مقاله التأسيسي الذي استلهم فيه الأفكار القديمة لكالوزا، على أمل أنه، فيما يتجاوز أو يتعدى الأبعاد الأربعة المعروفة وهي الطول والعرض والارتفاع والزمن للزمكان الاينشتيني، ستبدو النظريات الكوانتية أقل تناقضًا وأكثر طواعية. واليوم، وبعد أن فشلت أغلب المحاولات والنظريات بما فيها نظرية الأوتار الفائقة théorie des super cordes والنظرية م théorie M بات من الضروري إدخال تعديلات وإجراء تطويرات جوهرية على النظرية الكوانتية théorie quantique لتحفيز وتطوير وحل مشكلات الديناميك الكوانتي problèmes de dynamique quantique.

قال بلزاك: "العبقرية هي الحدس والباقي ليس سوى موهبة" كان هذا في مجال الأدب ويمكن تطبيقه على العلم.

اللغز الضوئي والموجي في مبادئ ميكانيك الكم أو الكوانتا:

الفيزياء والكيمياء الحديثتين خضعتا لهيمنة الميكانيك الكوانتي mécanique quantique لفترة تزيد على القرن. وبدت صعوبة  فيزياء الكونتا واللامتناهي في الصغر تزيد بكثير على ما اشتهر من صعوبة نظرية النسبية، وقد صرَّح العالم الشهير ريشارد فينمان Richard Feynman: "لا يوجد أحد في هذا العالم يفهم الميكانيك الكوانتي تمامًا".

ولدت نظرية الكم أو نظرية الكوانتا، والمعروفة  بفيزياء الكم، مع بزوغ القرن العشرين، في سنة 1900، في أعقاب أعمال ماكس بلانك. وهكذا، ثبت أنه وفقًا لنظرية الكم لماكس بلانك، فإن كل تبادل للطاقة بين أي جسيمات يتم من خلال نقل كميات محدودة من الطاقة. ويقال عن ذلك إن فعل تبادلات الطاقة يكون كموميًا quantifiés، وذلك في سياق محاولات فهم المادة والذرة والطبيعة في بداية القرن العشرين. وفي سنة 1911 اكتشف إرنيست روثيرفورد Ernest Rutherford نواة الذرة واكتشف أنها هي التي تتحمل الجزء الأكبر من كتلة الذرة وفيها شحنة كهربائية إيجابية، ومن ثم اقترح أول نموذج لنظام الذرة باعتبارها نظام شمسي مصغر. وفي نفس العام وصل العالم الدانماركي الشاب آنذاك نيلز بور Niels Bohr إلى مانشستر للعمل مع روثيرفورد، وبعد أن تأكد روثيرفورد أن القوة التي تمسك بالكواكب في دورانها حول الشمس المعروفة باسم الثقالة أو الجاذبية ليست هي نفس القوة التي تمسك بالإلكترونات أثناء دورانها حول نواة الذرة، وأنها قوة تسمى الكهرومغناطيسية électromagnétique. في تلك الأثناء برق في ذهن نيلز بور Niels Bohr حدس ملهم وهو أنه على المستوى الميكروسكوبي microscopique للذرات لا يمكن تطبيق القوانين التي تحدث عنها ماكسويل Maxwell لأنها تصلح للتطبيق على المستوى الماكروسكوبي macroscopique  أي النظام الشمسي. واقتنع نيلز بور بضرورة اكتشاف قوانين أخرى صالحة للمستوى ما دون الذري. بعبارة أخرى اقتنع بور أن الإلكترونات تدور حول النواة بدون أن تفقد طاقتها.

إن جوهر فيزياء الميكانيك الكوانتي يتلخص بعنصرين أصليين: الأول هو أنه في مستوى اللامتناهي في الصغر يكون الجسيم الأولي particule ذو طبيعة مزدوجة موجية وجزيئية أي أنه في نفس الوقت جسيم particule وموجة onde، وهذا ينطبق على الإلكترون والفوتون وباقي الجسيمات بل وحتى على الذرة نفسها، والثاني هو أن القوانين التي تدير الموجة-الجسيم أو الجسيم-الموجة هي قوانين احتمالية probabilistes. المشكلة الحقيقية بين فيزياء اللامتناهي في الصغر وفيزياء اللامتناهي في الكبر تكمن في كيفية الانتقال من المستوى الميكروسكوبي إلى المستوى الماكروسكوبي واستحالة الجمع بين هاتين النظريتين. واستمرت الجهود والمحاولات خلال الربع الأول من القرن العشرين إلى بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين بلا طائل، ومع ذلك حدثت إضافة جوهرية تمثلت بمعادلة شرودينغير L’équation de Schrödinger وما أحاط بها من إكسسوارات نظرية لتصبح بديلاً عن فرضيات بور les hypothèses de Bohr. وقد لقيت معادلة شرودينغير ترحيبًا من جانب الفيزيائيين. ثم توالت التجارب المختبرية لتثبت صحة أطروحات شرودينغير، وثبت أن الميكانيك الموجي la mécanique ondulatoire ينطبق على مجمل العالم اللامتناهي في الصغر بموجب الثنائية الموجية-الجسيمية.

وقد أظهر إيكارت Eckart وديراك Dirac وشرودينغير Schrödinger نفسه أن ميكانيك الماتريس لهايزنبيرغ d’Heisenberg mécanique des matrices والميكانيكا الموجية mécanique ondulatoire للعالم الفرنسي لويس دي بروجلي Louis de Broglie، متعادلان ومتساويان ومكملان لبعضهما، ومن تزاوجهما نشأ الميكانيك الكمومي أو الكوانتي mécanique quantique. ومما زاد من الصعوبة المفاهيمية في العالم الكوانتي تقديم هايزنبيرغ مبدأ اللايقين أو اللاحتمية principe d’incertitude الذي يقول: لا يمكننا معرفة موضع وسرعة جسيم بدقة متناهية في وقت واحد، وهنا تأتي معادلة شرودينيغر لتساعدنا في الحساب لأنها تحسب لنا كثافة احتمالية الحضور la densité de probabilité de présence حتى لو كان الجسيم هنا وهناك في آن واحد، وهو ما أسميناه بتفسير مدرسة كوبنهاغن interprétation de Copenhague الذي يقول إن العالم احتمالي في ذاته le monde est intrinsèquement probabiliste.

إن معادلة بلانك hv = E كانت سابقة لميكانيكا الكم وهي الأساس الذي بنيت عليه هذه النظرية، وكانت كذلك جزءًا من النظرية الكلاسيكية والتي ربطت بين الذرة والبصريات optique  L’atome et L’. وقد تعرضت ميكانيكا الكم، التي درست لمدة أربعين عامًا، لانتقادات جادة من قبل كثير من العلماء، وخصوصًا منذ تأسيسها على يد آرنيفست Ehrenfest، وأشدها كانت معارضة آينشتاين Einstein لها، فعلى النقيض من الانتقادات التي وجهت للنظرية النسبية فإن تلك التي وجهت لميكانيك الكوانتا أو الكم لم تضعف بمرور الوقت. ومن الواضح أننا لا يمكن أن ننكر مساهمة النزعة الشكلية الكمومية أو الكوانتية Le formalisme quantique في خلق هذه الثغرات التي شابت مفاصل ميكانيك الكم أو الكوانتا. ولكن كيف لنا أن نستغرب من الغياب الفعلي للعلاقة بين هذه الشكلية والمبادئ التي وضعتها مدرسة كوبنهاغن l'Ecole de Copenhague؟

الشكلية الكمومية أو الكوانتية Le formalisme quantique هي، على حد سواء، أحد الظواهر المكونة من التطورات الرياضية، المتناقضة في بعض الأحيان من جهة، ومن جهة أخرى، هي عبارة عن مجموعة من القواعد المبررة  بنتائجها أو بالمنطق والتفكير الكلاسيكي. هذه الظاهرة يمكن أن تكون مرفقة أو مربوطة بالنظرية الكلاسيكية، في الحالات التي تميز طاقة نظام نسبي ما مرتبط ولو بالحد الأدنى بإمكاناته الكامنة.

كانت هناك تجارب اقترحتها مبادئ ميكانيكا الكوانتا أو الكم. وغالبًا ما كانت تلك الخبرات والتجارب مكلفة، وهدفها هو إما إثبات تفوق نظرية الكم أو الكوانتا على النظرية الكلاسيكية، أو هو استخدام واستغلال هذا "التفوق" لتعزيز مفاهيم خارقة مثل "الانتقال الآني أو اللحظوي الكامل للأجسام من مكان إلى آخر teleportation" الذي شاهدناه في الكثير من مسلسلات وأفلام الخيال العلمي كبوابات النجوم وستار تريك.

وتستند جميع المحاولات لإظهار تفوق مبادئ الكم principes quantiques على أخطاء مثل الحساب التقليدي الخاطئ للرؤية المتعلقة بالتداخل والتفاعل المادي interférences من الصنف الرابع. وتستند هذه الأخطاء، في المجال البصري en optique، على الجهل، ربما المتعمد، بحقيقة أنه في النظرية الكلاسيكية يكون امتصاص الضوء المنبعث من مصادر لا تعد ولا تحصى من حولنا، يكون بطيئًا نسبيًا، لذلك نشعر وكأننا نسبح في "حقل أو مجال نقطة الصفر champ du point zero" حيث أن التوازن مع المادة، على سبيل المثال، هو الذي يفسر لماذا لا تسقط الإلكترونات على النوى الذرية.

إن مصطلح "الكم أو الكوانتا quantique" يقود إلى ادعاءات قد تصطدم أو تسيء إلى الروح العلمية، والذي لم يؤدي حتى الآن إلى أية نتائج دائمة، أو على ما يرام. أحدث اختراع عملي تستخدمه أجهزة المخابرات الدولية هو جهاز "فك الترميز الكمومي أو الكوانتي cryptographie quantique" الذي يدعي مخترعوه أنه قادر على إرسال رسالة مرمزة أو مشفرة مع التأكيد على أنه يتم الكشف عن أية محاولة لالتقاط الرسالة أو كشف أية محاولة للتصدي واعتراض هذه الرسالة، وبحيث تصبح هذه الرسالة على الفور غير صالحة للاستخدام من قبل المعترض وغير قابلة للفك. هناك حجتين أو ذريعتين تبرران هذه المسلمات الكوانتية أو الكمومية، مع وجود شكوك أساسًا بخصوص تبرير هذا الادعاء: الذريعة الأولى هو أن وحدات التعداد الزوجي الالكتروني للرسالة les bits du message مكونة من فوتونات غير قابلة للانفلاق حيث يمكن كشف أية محاولة لجاسوس ما لاعتراضها، وهذا يعني تجاهل أن عملية الكشف غير مدمرة للإشارات الضوئية، على سبيل المثال من خلال دراسة الاستقطاب الناجم عن مرور نبضة ضوئية، كما يعني كذلك تجاهل وجود مكبرات أو مضخمات amplificateurs في أي شبكة حقيقية من الألياف البصرية.

ثانيًا يمكننا استخدام "الفوتونات التوائم photons jumeaux" في التجارب من نوع تجربة آينشتين الفكرية المعروفة بـ EPR، لكن أنصار الكوانتا يصرون على إجراء تجارب واسعة النطاق باهظة الثمن، بدلاً من الاكتفاء بإجراء تجربة مختبرية حاسمة: حيث يمكن فصل الإشارات التي يبثها المصدر "المرسلة émetteur" إلى إشارتين لاثنين من مستقبلات récepteurs متطابقة ومتشابهة تمامًا وتتصرفان أو تسلكان سلوكًا احتماليًا من خلال اختيار عشوائي يتم الكشف عنه فقط في نهاية التجربة، حيث يكون اللعب بالتناوب، تارة لعب دور المتلقي والجاسوس، وتارة أخرى يكون جهاز الاستقبال المتلقي الذي يكشف أولاً الإشارة هو الذي ينبغي أن يستقبل، بالارتباط مع جهاز الإرسال. إن هذه الغرائب تملأ الكتب المكرسة لفيزياء الكوانتا أو فيزياء الكم خاصة التباين الجوهري بين العالم ما قبل جدار بلاك وما بعده. فكلما طالعنا كتابًا أو مقالاً أو بحثًا في الفيزياء الحديثة نصطدم بالحدود التي تفصل بين الممكن والمستحيل، وهي حدود وضعها في قالبها النظري العالم الفذ ماكس بلانك Max PLANCK والتي صارت تعرف بثوابت بلانك constantes de Planck مثل جدار بلانك Mur de Planck وزمن بلانك Temps de Planck ومجال بلانك Champs de Planck وغيرها في إطار ما عرف بفيزياء الكم وأبحاث ماكس بلانك La physique quantique et travaux de Max Planck.

قام ماكس بلانك Max Planck بدراسة ظاهرة "إشعاع الجسم الأسود rayonnement des corps" (Black Body Radiation) وفقًا للنظرية الكلاسيكية، ويجري تبادل الطاقة داخل الجسم الأسود على نحو مستمر. هذه النظرية تتنبأ بأن كثافة إشعاع الجسم الأسود لطول موجة معينة يتناسب مع مربع القوة لقيمة هذا الطول الموجي. ولم تكن هذه النتيجة تتوافق مع الملاحظات التجريبية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ينطوي على ذلك ضمنًا أن إجمالي الطاقة المنبعثة من الجسم الأسود كانت لانهائية، ولذا بات من الضروري إعادة النظر في عمق أو جوهر النظرية الكلاسيكية.

تناول ماكس بلانك المشكلة في الاتجاه المعاكس، وحاول أن يجد صيغة تحليلية للمنحنى التجريبي الناجم عن الرصد والمراقبة أو الملاحظة. وبمجرد الحصول على هذه الصيغة، تعين عليه أن يفسرها فيزيائيًا. وكان التفسير الوحيد المقبول الذي وجده بلانك تطلب أن يستبدل التبادلات والتداخلات interférences المستمرة للطاقة بكميات محدودة من الجسيمات وصفها بأنها الكوانتات. وإن كمية الطاقة التي يحملها الكم أو الكوانتا الطاقوي quantum d’énergie تتناسب مع تردد الإشعاع المرتبط بها. إن علاقة التناسب مساوية لثابت يسمى ثابت بلانك constante de Planck والتي يمثلها حرف هـ H. وبعد شيوع مفاهيم ميكانيكا الموجة، ومعادلة شرودنغر l’équation de Schrödinger ومبدأ التكامل le principe de complémentarité، منذ سنة 1905، نجح ألبرت آينشتين Albert Einstein في تفسير التأثير الكهروضوئي photo-électrique باستخدام نظرية الكم لبلانك التي ظهرت حديثًا (والتي أكسبته جائزة نوبل للفيزياء). الاتجاه الرئيسي لهذا التفسير يكمن في حقيقة أن كوانتا الطاقة quantum d’énergie المرتبط بتردد ما للضوء يتصرف على أنه جسيم مادي. وقد سمى آينشتين هذه الجسيمات الضوئية بـالفوتونات les photons.

ما هو ثوري حقًا في فكرة آينشتين يكمن في حقيقة أن الضوء قد حصل، بفضل نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية électromagnétique، على طبيعة متموجة ondulatoire مؤكدة. واعتبر الضوء بعد ذلك بمثابة موجة كهرومغناطيسية. ومع افتراض وجود الفوتون، بدا الضوء فجأة ككيان هجين، يتصرف أحيانًا كموجة، وأحيانًا كجسيم. وكان ابتكار آينشتين لمفهوم الفوتون هو الخطوة الأولى نحو ثورة في عمق الأسس الجوهرية للفيزياء الكلاسيكية.

بينما أعطى الفوتون للضوء – موجة الضوء – صفة أو ميزة  جسيمية كروية، طبق العالم الفرنسي لويس دي بروجلي Louis de Broglie الفكرة المعاكسة على الجزيئات المادية. وقدم الافتراض القائل بأن سلوك الجسيمات (الجسيمات المعروفة في ذلك الوقت هي الإلكترون، والبروتون والنيوترون) هو سلوك مزدوج يمكننا من وصفها في آن واحد بأنها مظهر من مظاهر الجسيم ومظهر من مظاهر الموجة. حتى إنه يربط صفة موجة في كل جسيم مادي. ووضع أو طور آلية mécanique للتعامل مع هذه الكائنات الجديدة، وسميت نظريته بـالميكانيكا الموجية mécanique ondulatoire.

ووفقًا لميكانيكا الموجة، يرتبط بأي جسيم موجة، يكون الطول الموجي فيها يتناسب عكسيًا مع طاقة الجسيم. ويترتب على ذلك أنه كلما كان الجسيم أكثر نشاطًا (أي كلما كانت سرعته كبيرة) كان طول الموجة المرتبطة به قصيرًا. وأخيرًا تم تعيين معادلة الموجة المرتبطة بهذه الجسيمات من قبل إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger عام 1926 وعرفت باسم معادلة شرودنغر للموجة équation d’onde de Schrödinger التي أشرنا إليها أعلاه. وتم تسليط الضوء على الموجات المرتبطة بالإلكترونات على يد العالم ديفيسون كلينتون Clinton Davisson سنة 1925 إثر تجربة التداخلات والتفاعلات expérience d’interférence (والمعروفة باسم تجربة ثقوب ديونغ expérience des trous d’Young، في إشارة إلى الفيزيائي البريطاني توماس يونغ Thomas Young، الذي كشف في عام 1801 عن تداخلات أو تفاعلات ضوئية عن طريق تمرير شعاع ضوء بين ثقبين في لوح خلفه شاشة تتلقى الضوء المتسرب من الثقبين). وتنبعث الإلكترونات من مصدر معلوم، يتم تسريعها ومن ثم إرسالها على سطح الكريستال حيث المحاذاة الذرية أو الترتيب الذري يلعب دور الشقوق المتحاذية في تجربة يونغ. ووفقًا لتفسير جسيمي كريوي نووي بحت corpusculaire لطبيعة الإلكترونات، ينبغي أن يكون توزيع الإلكترونات بعد مرورها عبر اللوحة المشروخة على نحو كلاسيكي بيد أن التجربة أظهرت أن توزع الإلكترونات جاء على شكل صفوف franges يشبه صفوف الإلكترونات الناجمة عن التداخلات. فمراقبة أو رصد صفوف التداخلات يعني بالضرورة أن الأشياء أو الأجسام المرصودة هي موجات، وليس جسيمات! وباختصار، فإن الإلكترونات تتصرف مثل الجسيمات في الظاهرة الكهروضوئية وكموجات كما هو الحال في تجربة ثقوب يونغ.

وهكذا استنتج الفيزيائيون أن الموجات الكهرومغناطيسية électromagnétiques تتمتع كذلك بصفة ذات طبيعة جسيمية كريوية نووية corpusculaire، ومن جهة أخرى فإن الجسيمات المادية هي أيضًا ذات طابع موجي. وهنا توجد مفارقة لا يمكن تخطيها. حسم نيلز بور Niels Bohr السجال الدائر بهذا الصدد بإعلانه مبدأ التكامل le principe de complémentarité الذي جعل حصيلة هذه النتائج غير قابلة للتوفيق فيما بينها على ما يبدو.

تجدر الإشارة إلى أن مبدأ التكامل le principe de complémentarité يقول: إن الجسيمات والضوء هي كوانتات أو كموم من الطاقة يكون سلوكها في آن واحد كجسيمات نووية وتموجية corpusculaire et ondulatoire تنافس الموجة-الجسيم أو ازدواجية الطبيعة.

تتحدث الفيزياء الكمية أو الكوانتية عما يسمى بـ"انهيار الموجة Effondrement - de l’onde" وعلاقات اللاحتمية لهايزنبرغ relations d’incertitude d’Heisenberg المعروفة بمبدأ عدم اليقين. فما الذي يحدد سلوك موجة أو جسيم من الجسيمات؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يفسر أنه في بعض الظواهر تتصرف الجسيمات كموجات وفي ظواهر أخرى تتصرف كجزيئات؟

قبل كل شيء، ينبغي القول إن الجسيمات توصف دائمًا باعتبارها كيانات موجية-جسيمية ذات طبيعة مزدوجة. وفي الواقع، وحسب سمات الظواهر، فإن الطبيعة الموجية تكون هي السائدة أو الطاغية على الطبيعة الجسيمية أو العكس بالعكس، ولكن كلا النوعين أو الطبيعتين موجودتان دائمًا في نفس الوقت.

وكما قلنا سابقًا، فإن الطول الموجي للموجة المرتبطة بجسيم يتناسب عكسيًا مع طاقة الجسيم. عندما يكون الطول الموجي أقل من، أو هو بمستوى أبعاد "الأشياء أو الأجسام" المتداخلة أو المشتركة في هذه الظاهرة، عندها تكون الطبيعة الجسيمية-الكروية للجسيمات هي المسيطرة. وفي المقابل، إذا كان الطول الموجي يتجاوز أبعاد "الأجسام" المشاركة، فسوف تكون الطبيعة الموجية للجسيمات هي التي سيتم رصدها. والحال، فإن طول موجة ما للجزيئات الحيوية جدًا أو النشطة يكون قصيرًا. نخلص من ذلك إلى أن الظواهر التي تحدث في الطاقات العالية سوف تظهر سلوك الجسيمات بطبيعتها الجسيمية-الكروية corpusculaire بينما، على العكس من ذلك، ستكون الظواهر ذات الطاقات المنخفضة بالأحرى هي التي تبدو ذات طبيعة موجية ondulatoire.

وعلى نحو تصوري يمكننا أن نقول إن جسيم ذو موجة، مع طول موجة كبير، وبالتالي يصعب تحديده، سيكون سلوكه موجي (الموجة ليست ظاهرة غير محددة الموضع). فعندما يقصر طول الموجة تغدو الجسيمات أكثر موضعية وتتصرف أكثر فأكثر كجسيمات (فالجسيم هو كيان وجود يمتلك بعدًا وموقعًا محددًا واضح المعالم). في الواقع، لقد درس فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg هذه المسألة عن كثب، وخلص إلى علاقات تربط بين الدقة التي يمكن أن تحصل وفق تحديد سرعة وموضع جسيم من جهة، ودقة قياس طاقته اعتمادًا على مدة القياس من جهة أخرى. وتعرف هذه العلاقات بعلاقات عدم اليقين لهايزنبرغ relations d’incertitude de Heisenberg.

ما تقوله هذه العلاقات هو ما يلي:

1.    إذا كان مراقب يعرف تمامًا موقع جسيم، فلا يمكنه معرفة سرعة ذلك الجسيم والعكس بالعكس فلا يمكن للمرء أن يعرف بدقة الحالتين معًا في وقت واحد.

2.    على مدى فترات قصيرة جدًا من عدم اليقين فإن قياس الطاقة سيكون كبير جدًا، بمعنى آخر إن الطاقة يمكن أن تختلف أو تتماوج إلى حد كبير على مدى فترات قصيرة جدًا! وبالتالي إن أسس الميكانيكا ستقوض بشكل خطير من جراء علاقات عدم اليقين أو اللاحتمية.

تفسير دالة الموجة أو عمل الموجة يتم وفق معادلة الموجة المرتبطة بالفوتونات وهي معادلة الموجات الكهرومغناطيسية في حين أن الموجة المرتبطة بالجسيمات المادية تفسر بمعادلة شرودنغر l’équation de Schrödinger. وهنا يكمن الفرق الرئيس بين جزيئات المادة والفوتونات، إنه فرق كبير بين جسيمات المادة والفوتونات لأن موجة الفوتونات حقيقية (الموجات الكهرومغناطيسية حقيقية)، في حين أن الموجة المرتبطة بجزيئات المادة تجريدية بحتة (الحلول التي تقدمها معادلة شرودنغر ليست ذات وظائف حقيقية بل معقدة). في هذه الحالة، كيف يمكن تفسير هذه الموجة المرتبطة بجزيئات المادة؟ لتفسير وظيفة الموجة يتعين العودة إلى الفوتونات. في تجربة التداخل كما ذكرنا، نحصل فوق الشاشة على مجموعة من الصفوف الضوئية التي تحدد شدة الضوء في كل نقطة من الشاشة. إذا ما تذكرنا دروس الفيزياء، فسوف نتذكر أن شدة الضوء عند نقطة ليست مجموع سعة l’amplitude الموجات التي تمر عبر كل واحد من اثنين من الثقوب، أي ليس مربع مجموع السعات من هذه الموجات.

سنفكر الآن بصيغة الفوتونات، أي بصيغة الكموم quantas. فالصفوف المظلمة على شاشة التجربة جاءت مظلمة بسبب عدم وصول أي فوتون إلى هناك. قد يبدو هذا وكأنه حدث بسبب "السياج la palisade" ولكن إذا ما اعتبرنا الفوتونات المنبعثة من مصدر الضوء بمثابة تجمع من الجزيئات (أو كوانتات) التي لا يمكن تمييزها عن بعضها البعض، فإن دراسة توزيع تلك الجزيئات على الشاشة يمكن أن يعالج من وجهة نظر إحصائية. ومن ثم يمكن القول إن الصفوف القاتمة هي مواضع حيث تكون الفوتونات فيها تنطوي على احتمالية تساوي صفرًا عند وصولها. وعلى العكس من ذلك، في موضع الصفوف المضاءة والمشرقة، فإن احتمالية العثور على الفوتون تكون في حدها الأقصى.

ومن هذا المنطق البسيط جدًا، جمعنا بين السطوع الملحوظ في مكان ما على الشاشة مع احتمالية العثور على الفوتون عند تلك النقطة. والحال أن السطوع الضوئي la luminosité  ليس سوى شدة الموجة المضيئة، وهذا يعني مربع سعة الموجة. وهكذا، فإن احتمال العثور على فوتون في موقع ما متناسب مع مربع سعة الموجة الكهرومغناطيسية في هذا المكان.

يمكن نقل هذه النتيجة إلى جسيمات المادة particules de matière مثل الإلكترونات، والبروتونات، وما إلى ذلك. عندها نحصل على تفسير لوظيفة موجة مرتبط بالكم يقول: إن احتمال العثور على الكم (أو الجسيم) في مكان ما في الفضاء يتناسب مع مربع سعة وظيفة الموجة في هذا مكان.

كما رأينا في فيزياء الكم، من غير الممكن حساب سوى احتمالات تحقيق التوقعات أو التنبؤات. إن الوصف الكمي quantique للظواهر الكمية لم يعد حتميًا (وهذا يعني، التنبؤ بدقة بقيم الكميات الفيزيائية التي تشارك) ولكن على نحو غير حتمي. وبذلك فإن فيزياء الكم la physique quantique تختلف جذريًا عن الفيزياء الكلاسيكية وهي قطعًا لاحتمية في جوهرها.

ابتكر علماء الفيزياء شكلية formalisme أي الصيغة المستلهمة من المذهب الذي يرى أن الأشكال تكفي بحد ذاتها بما فيها شكلية الحقائق العلمية وإطارًا عامًا يسمحان بوصف واحتساب التوقعات والتنبؤات للظواهر الكمية. وسميت هذه الصيغة بميكانيكا الكم la mécanique quantique. وقد نجحت هذه الأخيرة في تفسير عدد كبير من الظواهر مثل قدرة بعض المعادن على نقل التيار الكهربائي وامتناع البعض الآخر عن ذلك، وسبب انصهار بعض المعدن في درجة حرارة معينة ومقاومة أخرى لذلك، ولماذا تبعث بعض الغازات الضوء عندما تسخن بدرجة حرارة عالية، وغيرها الكثير من الظواهر التي كانت غامضة في الماضي قبل ظهور فيزياء الكم. فبفضل هذه الفيزياء الثورية تمكن الإنسان من تحقيق إنجازات علمية جبارة كنقل الصوت والصورة عبر الألياف الضوئية والإنترنيت والتلفزيون الرقمي والبث عبر الأقمار الصناعية والتلفون المحمول والكومبيوتر المحمول والثابت، وهي إنجازات كانت تعتبر في الماضي من المستحيلات وأصبحت من الممكنات البديهية اليوم. ومن هذا المنطق يمكننا القول إن مستحيلات اليوم ستكون ممكنات الغد كاختراق الجدران دون الحاجة إلى هدمها والسفر بسرعات تفوق سرعة الضوء وإمكانية إخفاء الأشياء وجعلها غير منظورة للعين البشرية العادية، وقد تمكن العلماء الأمريكيين قبل أيام بالفعل من تصميم نظام للاختفاء الزمني قادر على جعل حدثٍ ما غير قابل للرصد لجزء من الثانية. واستوحى العلماء هذا الجهاز الاختباري من أبحاث حول "رداء الاختفاء" الشهير الذي روج له هاري بوتر. لكن بدلاً من أن يخفي الجهاز غرضًا معينًا في مكان ما، يحجبه عن الأنظار في الزمن، على ما ذكرت الدراسة التي نشرتها مجلة "نيتشر" البريطانية. والانتقال الفوري من مكان إلى آخر بواسطة تقنية التيليبورتيشن téléportation، والسفر نحو الماضي والمستقبل والتنقل بين المجرات وزيارة العوالم الأخرى والاتصال بالحضارات الكونية المتقدمة جدًا علينا، والسيطرة على تكنولوجيا الليزر والنانوتكنولوجيا nanotechnologie واستغلال طاقة المجرة بعد التمكن كليًا من استثمار طاقة الشمس والطاقة المتجددة والدائمة وتكنولوجيا الروبوتيك. فليس ثمة ما هو ثابت أو جامد، بما في ذلك المكان والزمان. فهذا الطابع الكلاسيكي المحدد هو الذي يفسر قدرتنا على تخيل إدراك وفهم الطبيعة من خلال مولدات خلوية: فلم يعد ثمة حاجة بالتالي للتحليل بالمعنى الرياضي للمصطلح ولا للمعادلات التفاضلية. وسوف نكتشف يومًا ما أن وراء النسبية العامة لأينشتين تختفي المصفوفة ماتريكس Matrix، وأن الغموض في الميكانيك الكمومي يخفي نموذجًا غريبًا ومذهلاً للوجود لا يمكننا إدراكه اليوم.

وفي المحصلة يتعين علينا القول إن النظرية الجديدة التي ستحاول فك لغز الكون المرئي الدائم منذ لحظة ظهوره للوجود المادي وما قبلها إلى لحظة ضموره وولادته من جديد، يجب أن تكون جنونية، وإن لم تكن كذلك لتم اكتشافها بسهولة منذ زمن بعيد. وقد ساهم الأخوة بوغدانوف les frères Bogdanov كما ذكرنا أعلاه في ولوج المناطق المجهولة في الفيزياء المعاصرة لأنهما امتلكا جرأة كافية لاقتحام المحرم الذي يمكن أن يعرضهما للسخرية والاستهزاء لو فشلا في تقديم تصور نظري وعلمي مقنع، لقد حاول هذان الشابان ضخ مصل التغيير في جثة الفيزياء النظرية المتصلبة من خلال اللجوء إلى نظرية الـ KSM لأنها الوحيدة القادرة على تقديم تصور نظري لوصف الحالة التي سبقت ظهور الزمكان الذي نعرفه حاليًا في كوننا المرئي.

ففي لحظة ما، عندما تطيع الطبيعة قوانين حالة الـ KSM فإنها بالضرورة ستخضع للتحولات والتقلبات الكوانتية fluctuations quantique. وللتغلب على هذا المأزق لا بد من صياغة نظرية ثورية وجريئة يمكن تسميتها بنظرية الأحداث الكوانتية EEQT- Event Enhanced Quantum THEORY والمعروفة بالفرنسية بـ Théorie Quantique des Evénements، وهي نظرية قدمها العالمان فيليب بلانشار Philippe Blanchard وآركاديوز يادزيك Arkadiuz Jadczyk انطلاقًا من حقيقة تقول إن حدوث تطور نظام كوانتي أو كمومي système quantique، حتى لو كان على مستوى الكون المرئي، غير ممكن في الظروف العادية، وإنما يحدث على شكل قفزات أو طفرات كوانتية-كمومية للأحداث sauts quantique d’évenments والتي تعرف بتعبير أكثر شعبية بالكوارث الكوانتية catastrophes quantiques بينما وصفها الأخوة بوغدانوف بالعاصفة الكوانتية la tempête quantique، والحال إن من المستحيل وصف مثل هذه الطفرات الكوانتية الحوادثية رياضيًا بواسطة المقاربة المعيارية approche standard، بل ولا حتى بالمقاربة المتقدمة avancée للنظرية الكوانتية-الكمومية التي نعرفها اليوم كما عرضناها بتبسيط بالغ أعلاه والمتبعة في المناهج التدريسية. فمن الضروري والحالة هذه اللجوء إلى أدوات رياضية مختلفة ومتقدمة وجريئة مثل الجبر العملياتي algèbres d’operateurs وإلى ديناميك أنصاف المجموعات la dynamique de semi-groupes فهذه الأداة الرياضية تسمح بالأخذ في الاعتبار الأنظمة الكوانتية-الكمومية المفتوحة systèmes quantiques ouvertes والصيرورات العشوائية processus aléatoires من أجل وصف ديناميكية تحولات المرحلة transition de phase وتكسرات التماثل brisures de symmetries.

وبعد أن وصف الشقيقان بوغدانوف حالة الـ KSM كأساس ضروري لفهم الوضع السابق للانفجار العظيم، وتقلبات السمة signature أو الدلالة والتأثيرات والرموز المرتبطة بالزمكان éspace-temps على المستوى ما دون الذري بكثير أي اللامتناهي في الصغر، بات بالإمكان تأمل التوصل إلى آفاق جديدة في الفيزياء تتعدى حدود الأبعاد الأربعة، إذ اقترح الأخوين بوغدانوف بعدًا خامسًا حيث افترضا وجود تغيرات وتقلبات fluctuations في الزمن البدائي السابق لزمننا مما ينطوي بالضرورة على وجود بعد خامس يختلف عن البعد الرابع الزمني النسبوي الذي استخدمه آينشتين، ولكن في ظرف مختلف، وهو تأكيد لما سبق أن اقترحه كل من كالوزا kalusa وكلاين klein سنة 1921 وكذلك آينشتين Einstein وبيرغمان Bergman سنة 1938 وآركاديوز يادزيك Arkadiuz Jadczyk في سنوات الثمانينات من القرن العشرين. وما يزال هذا الموضوع هو الأكثر إثارة ومتابعة من قبل الرأي العام في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. إن نوع أو نمط التأرجح oscillation للبصمة والسمة والرمز signature المرتبط بالبعد الخامس ليس ممكنًا من وجهة نظر الديناميك إلا إذا كان الكون مفتوحًا، ولحل الإشكال علينا أن نتمتع بنفسية مغامرة وجريئة ومفتوحة تتقبل كل الأفكار الجديدة مهما كانت غريبة لأنها الوسيلة الوحيدة أمامنا لفهم ضرورة تطوير بنى أو بنيات مفاهيمية structures conceptuelles ومعها الأدوات الرياضية اللازمة لها.

إذا كان عالم ما بعد جدار بلانك mur de planck ، أي عالمنا المادي، يمكن وصفه ودراسته بواسطة نظريتا النسبية، على المستوى الكبير واللامتناهي في الكبر والكوانتا، على المستوى مادون الذري واللامتناهي في الصغر، فإن هناك عالمين آخرين أصغر بكثير مما يمكن أن تدركه أو تتخيله عقولنا القاصرة وأكبر بكثير مما يمكن أن تستوعبه مداركنا المحدودة. الأول يقع قبل أو خلف جدار بلانك والثاني يقع ما وراء الأفق الكوني الذي نرصده اليوم. فجدار بلانك هو كما نعرف أصغر مسافة مادية ممكنة بين نقطتين في كوننا المادي المرئي. وبالتالي علينا أن نتخيل هذا العالم الذي يقبع وراء جدار بلانك من الجهة الأخرى للوجود المادي، تكون فيه قمة أو كونة cône الضوء الكوزمولوجي الأقدم، والتي تسمح لنا بإدراك ووصف المكان والزمان، في حالة تحلل se dissout وتتبخر، إذا جاز لنا التعبير مجازيًا، لتختفي في البعد اللامتناهي في الصغر infiniment petit، وعلينا أن نتذكر أنه في ذلك البعد تتعطل أدوات القياس المألوفة التي لن تعد نافعة وغير ممكن استخدامها لأنها سندخل في ما يمكن تسميته بالعاصفة الكوانتية الكبرى على حد تعبير الأخوة بوغدانوف. فالمكان، إذا جاز لنا تسميته كذلك، سيتشوه وينطعج أو ينطوي على نفسه، والزمن يتفتت ويتطاير pulvérisé إلى عدد لا يحصى من الدوامات innombrables tourbillons ولا يجري بصورة متجانسة croulement homogène حيث يتداخل الزمان بالمكان ويتحول أحدهما للآخر. فلو كنت عزيزي القارئ على موعد مع أحد في ذلك العالم الغريب فسوف تكون أمامه وفي نفس الوقت على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات بعيدًا عنه، هذا من الناحية المكانية، أما من الناحية الزمنية فسيكون موجودًا في موعده حتى قبل أن تعطيه موعدًا. بعبارة أخرى أننا لا يمكن أن نتعاطى أو نتعامل مع العالم الكوانتي-الكمومي البدئي بأدواتنا القياسية الكلاسيكية المألوفة لأنها هي الأخرى في حالة تقلب وتغير fluctuation والزمكان مشوه déformés وسوف يتحول الزمن من زمن عادي إلى زمن مركب temps complex بعد أن كان قبل الانفجار العظيم زمن خيالي. والطريقة الوحيدة لوصفه نظريًا تتم بواسطة الكوانتا وجبر هوبف les algèbres de Hopf ونظرية الـ KMS.

فما تحت العالم الكوانتي هناك كون آخر وربما أكوان أخرى أصغر من أصغر موجود مادي في الكون المرئي أي أصغر من الكوارك وحجمه معدوم من منظورنا المادي التقليدي taille nulle. وهذا العالم الآخر يقبع ما وراء العاصفة الكوانتية حيث يختفي كل شيء مألوف كالمادة والطاقة والقوى والقوانين الفيزيائية والمادية، وهناك فقط يمكن أن تكمن النقطة صفر للكون المرئي الذي نعرفه اليوم. وهي نقطة بلا أبعاد وخارجة عن الزمن المادين أي أنها مجرد معلومة صرفة information pure ولا يمكن وصفها إلا بلغة الرياضيات وتسمى بالـ"مؤشر التوبولوجي indice topologique" حيث أن الزمن المتعلق بتلك النقطة زمن متخيل وغير واقعي temps imaginaire والذي لا يمكن تحديد موعد فيه لأنه موجود إلى الأبد ومنذ الأزل ولا يتحرك أو يجري وسيستمر إلى آخر الدهر دون أن يتحرك، وحيث تتراكم وتتزاحم superposés الأحداث فيه كلها في آن واحد، أي ليس هناك ماض وحاضر ومستقبل بل صورة فنتازية شاملة image fantastique globale مذهلة تضم كل شيء واللاشيء في نفس الوقت. وأكثر رؤية مقنعة عن هذا العالم الكوانتي هو ما قاله العالم الفيزيائي الكبير ريشار فينمان Richard Feynman، الحائز على جائزة نوبل للسلام: "أنا أعتبر الميكانيك الكمومي أو الكوانتي كنموذج رياضي modèle mathématique يمتلك قوانينه الخاصة وقواعده وثوابته مهما كانت غريبة وغير مألوفة كازدواجية الطبيعة الجسيمية والموجية لأبسط مكونات المادة وهو نموذج ناجح وثبتت صحته وصلاحيته"، هذا إلى جانب وجود عالم خفي لا يمكن إدراكه حسيًا وهو العالم الذي وصفته لنا نظرية توبولوجيا الحقول أو المجالات théorie topologique des champs التي سنعرضها بالتفصيل لاحقًا في فصل قادم.

الكون الواعي والحي:

لم تنقطع البشرية عن التساؤل بشأن العالم الذي تعيش فيه، وتظل تبحث عن إجابات بخصوص الأسئلة الجوهرية والوجودية التي تؤرقها والتي تطرقنا إليها في دراسات سابقة، والحال أن معداتنا وأجهزتنا العلمية الحالية لا تتيح لنا أن نرى أبعد مما نستطيع حاليًا. وأمام هذا العجز التقني، نطلق العنان لعقولنا وأفكارنا ومخيلتنا أو تخيلاتنا لتجاوز المحسوس والمقاس أو القابل للقياس لنسبح في اللامجهول وعالم الماوراء. وبالتالي لا نملك، في بحثنا في عالم الميتافيزيقيا، سوى وسيلتين هما "الإيمان والعقل la foi et la pensée" البعض اختار أن ينظر إلى العالم بعيون الإيمان كالمتدينيين ورجال الدين والمؤسسات الدينية التقليدية، لهذا يعتقد هؤلاء أن النظام الطبيعي للأشياء L’ordre naturel des choses هو ثمرة لتدخل إلهي ما intervention divine. ونلاحظ أنهم يقاومون تحديات العلم وإنجازاته مع علمهم أن الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الرقمية التي يستخدمونها كل يوم هي نتيجة لدراسة الذرة من قبل العلم وفك أسرارها والبحث فيما دونها، أي في اللامتناهي في الصغر والمعروف بعالم الكموم أو الكوانتا monde quantique بيد أنهم لا يمنحون هذا العلم أية مصداقية بمجرد أن يتعاطى مع المسائل الكبرى كأصل الكون وأصل الحياة والحياة ما بعد الموت وغيرها. يمكن وصف هذه الفئة من الناس الذين يؤمنون بالغيبيات بـ"ما فوق أو ما وراء الطبيعيين surnaturalistes"، أو الروحانيين spiritualistes. في حين اختارت فئة أخرى من البشر أن تنظر إلى العالم بعيون العقل وحده، لذلك صاروا يعتقدون أن الظواهر الطبيعية phénomènes naturels تعود لأسباب متجذرة في قلب القوانين الطبيعية الثابتة immuable الدائمة والتي لا تتغير، وأن المنهجية العلمية هي المقاربة الوحيدة المقبولة والصالحة والقابلة للاستمرار viable للوصول إلى تلك القوانين وتأسيسًا عليها تشييد أساس عقلاني للطبيعة وعملها. ولا يلجأ هؤلاء إلى أية تفسيرات خارقة للطبيعة surnaturelles أو غيبية لمعرفة المجهول L’inconnu ويمكن وصف هؤلاء بـ"الطبيعيين naturalistes أو العقلانيين rationalists". يوجد قسم قليل من بين هؤلاء العقلانيين من يتعاطى بحذر مع الإيمان ويربطه بالعقل، كل ما في الأمر بالنسبة لهم هو أن يعرف الإيمان تعريفًا عقليًا باعتباره: "الاعتقاد croyance" غير المثبت بشيء ما، وإن الطبيعة الروحية أو الطبيعة المادية لشيء ما هي التي تميز بين الروحانيين والعقلانيين. ويعتقد كثير من المتابعين أن آينشتين Einstein يدرج من بين هؤلاء التوفيقيين حيث كان آينشتين يعتقد بأنه "لا الإيمان وحده ولا العقل وحده كافيان بذاتيهما لكشف الحقائق وأن أحدهما يغذي الآخر". واشتهر بعبارته التي تقول: "العلم بدون الدين أعرج والدين بدون العلم أعمى". بيد أن "إيمان" آينشتين لا يستند على علة فوق طبيعية أو خارقة للطبيعة surnaturelle غير قابلة للشرح والتفسير inexplicable بديلاً عن النظام الأفلاطوني système platonicien للطبيعة، المختفي في قلب الواقع، والتي كان من حظ النفس البشرية، وبفضل العلم، أن تكشف عن بعض جوانب ومكونات وشظايا fragments هذا الواقع. وبصفته من شيوخ دعاة التوحيد في الفيزياء النظرية الحديثة، اعتقد آينشتين أن النظام الذي وجدناه في الطبيعة، والقوانين الرياضية الدقيقة التي تصف الحركات والتفاعلات والتداخلات في الأجسام المادية، ليست سوى انعكاس لترتيب وتنظيم وتناسق ولقانون ordonnance أعمق، أي أن هناك قوة ماورائية غير منظورة تقود وتتحكم وتسير العالم المادي. لذلك صرح آينشتين يومًا ما قائلاً:

لم أحاول أن أتخيل إلهًا شخصيًا خالقًا بل أكتفي بهذه النشوة التي تنتابني إزاء هذا الكون المحكم في تنظيمه على قدر ما تسمح به حواسنا البشرية المحدودة لتقدير عظمته ولغز وجوده.

ثم أعلن آينشتين مدافعًا عن نفسه في معمعة الحملة الظالمة التي شنتها عليه الكنيسة الانجليكية البروتستانتية في أمريكا:

ما قرأتموه عن موضوع إيماني وتديني مشوه وكاذب ولقد كرره خصومي وأعدائي بذكاء وعلى نحو مدروس ومتعمد وأقول وأكرر أنني لا أؤمن بإله شخصي ولم أفكر في ذلك أبدًا، بل على العكس، وكل ما في الأمر أن ما في داخلي من يسميه المغرضون بالتدين إن هو إلا إعجاب غير محدود بهذا الكون المحكم والمنظم والمتسق حسب ما استطعنا كشفه بواسطة مستوانا العلمي إلى حد الآن.

وهذا بالطبع ليس إيمان غيبي وأضاف:

إن موقفي يفتقد للإيمان التقليدي الغيبي ومع ذلك لم أنسب مطلقًا للطبيعة أي هدف أو دور أو أي شيء يمكن فهمه على أنه إيحاء بسرمدية، وكل ما أراه في الطبيعة هو بنية مدهشة لكننا نفهمها بشكل ناقص في أفضل الأحوال ولا علاقة لذلك بالروحانيات الدينية والجن والعفاريت والملائكة الذين تزدحم بهم النصوص الدينية المقدسة.

وفي الختام نستطيع ترديد جملة آينشتين الشهيرة:

أنا أؤمن بإله سبينوزا الذي يتجلى ويكشف عن نفسه عبر هارمونية الطبيعة والكون، ومن خلال ذلك التآلف لكل الموجودات فيه، وليس بالإله الذي تسوقه الأديان والذي يشغل نفسه ويهتم بمصير البشر وأفعالهم وتصرفاتهم، فإلهي لا يلعب بالنرد.

فالعشوائية ليست من صميم الأشياء كما يعتقد آينشتين، وإن بداية الكون قد تكون مختلفة عما كانت عليه في عقول البشر. وهو يعبر عن إحساس دفين وغامض بأن خلف ما نعرفه ونحس به يوجد شيء ما لا نستطيع إدراكه في الوقت الحاضر وقد نسبر كنهه يومًا ما، وهذا الشيء يهزنا ويرهبنا بجماله وسموه وتألقه وإن كان بصورة غير مباشرة وقد تكاد تكون غير محسوسة بالنسبة لكثيرين. وقد أعرب عن أفكاره هذه في كتاب أفكار آينشتين الحميمة pensées intimes d’Einstein الصادر سنة 2000. وكما قال العالم الفذ كارل ساغان:

لو كنا نعني بمفردة إله القوانين الطبيعية التي تحكم الكون وتسيره فهو بالتأكيد موجود لكنه لا يشبع رغباتنا العاطفية لأنه من غير المجدي أن نصلي ونعبر ونطلب الغفران من قانون الجاذبية مثلاً.

فمفردة الله غالبًا ما تستخدم على لسان العلماء بمعناها المجازي أو الرمزي، لذلك نجد رجال الدين يغلفون فكرة الإيمان الغيبي بهالة من الاحترام والتقديس وتحريم الاقتراب منها أو انتقادها أو مناقشتها عقليًا.

لم يجد آينشتين أي مبرر للجوء إلى الدوغمائية الدينية التقليدية لتفسير الظواهر الطبيعية لاسيما الغامضة منها، فبالنسبة لمن يعتقد بقانون العلية والسببية لا يمكن أن يصدق فكرة الخالق الذي يتدخل في سياق ومجرى الأحداث لأن كائن علوي يحاسب ويعاقب، سرعان ما يتحول في نظر الإنسان الواعي والمفكر إلى كائن غير مقنع وغير ضروري، لأن الإنسان لم يخلق نفسه وبالتالي فالذي خلقه هو المسؤول عن أفعاله كإنسان لا يتصف بالكمال والعصمة أي أن على الله أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب مخلوقه الذي خلقه ناقصًا وليس كاملاً، على أفعال هو ليس مسؤولاً عنها لأنها ناجمة عن قصوره الذاتي وعدم كماله وعصمته، من هنا تبدو فكرة حرية الاختيار التي تركها الله للإنسان ليست سوى خدعة كبرى أو فخ. وقد اكتفى آينشتين بوضع حدس مذهل لافتتانه بالكون ومواجهته للمجهول الكوني، وفي مواجهة هذا الغموض حاول جاهدًا صياغة تعبير محدد في عقله للبناء الرائع للوجود برمته، وكان واثقًا بقدرة العقل الإنساني في حل الألغاز الكونية الصعبة إذا تمكن من التخلص من العادات والمسلمات الاستبدادية التي تفرضها الأيديولوجيات الدينية.

يقودنا ما سبق إلى القول إن البشر كائنات عاقلة ومفكرة تبحث عن معنى sens، أي أننا نسعى ونجهد بكل السبل لنفهم لماذا يوجد العالم على الهيئة التي يبدو فيها للناظر، أي كما هو عليه حاله الظاهر؟ ولماذا نبدو نحن على هذه الهيئة وبهذه الصورة؟ وإننا غالبًا ما نسند أو نعزي attribuerons أسبابًا وعللاً على الظواهر، تخدم هدفًا ما، لكي نستوعب كيف يمكن للطبيعة أن تكون مختلفة. وعندما ننظر إلى العالم نرى النظام في كل زواياه وفي كل مكان فيه، أو هكذا يبدو لنا ظاهريًا، على غرار ما نلاحظ تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول وكيف يؤثر ذلك على نمو وتكاثر النباتات وعلى سلوكيات الحيوانات، وننتبه إلى حركات الأجرام السماوية المنتظمة، وتشخيصنا لدقة وصرامة وقوة وكفاءة faculté قوانيننا الرياضية في وصفها لجزء من هذا العالم المحيط بنا. ولكن هل تخبرنا تلك القوانين بأن الطبيعة تعرف مسبقًا إلى أين تسير؟ أو يمكنها أن تعرف أن هناك هدفًا للكون وما هو هذا الهدف؟ وهل تستطيع أن تثبت لنا بأن هذا الكون حي وواعي لذاته وبأننا، على نحو ما، النتيجة الحتمية لهذا السيناريو الكوني scénario cosmique؟ كان العالم الفيزيائي الكبير جون ويلير John Wheeler يتساءل دومًا: "كيف ظهر الوجود؟" وتناول العالم الفيزيائي بول ديفيز Paul Davies في كتابه الممتع الجاكبوت الكوني Le jackpot cosmique – cosmic jackpot نفس المسائل التي تهم ويلير وحاول الاقتراب من أجوبة ممكنة توسلت بمفاهيم غريبة مثل الكون الحادث أو العرضي univers accidentel أي الذي انوجد بفعل حادث عرضي، أو الكون العبثي univers absurde أي الذي انوجد هكذا بلا هدف معين أو معروف، بتعبير آخر كان وجوده عبارة عن حالة عبثية. وعندما نقول إن الكون حادث عرضي فهذا ينسحب أو ينطبق على الحياة التي ظهرت فيه، أي لا يوجد أي هدف لهذه الحياة ولا لأي شيء في الوجود بالرغم من تمكن البشر من تطوير ملكة فكرية وعقلية ووعي وذكاء قادر على طرح تساؤلات فهي لا تخرج عن نطاق الحادث العرضي. إن دعاة التوحيد الفيزيائي أو المتدينين ورجال اللاهوت والكهنوت ورجال الدين في كل الأديان يعتبرون هذا الموقف، أي تبني مفهوم الكون الحادث أو العبثي، نوعًا من الاستسلام أو الاستعفاء والتنازل démission فالقبول بالطابع الحدثي أو العرضي caractère accidentel للصيرورات الفيزيائية الكيميائية الحاصلة في الطبيعة يعني التخلي عن نزعة البحث عن العلاقات الأعمق الموجودة بين الحياة والوعي والكون. وإن تعبير الكون العبثي يظهر لوحده التقييم والحكم السلبي لهذه النظرة أو الرؤية vision ويكشف صعوبة تخيل أن يكون الكون خاليًا من المعنى sans signification وأنه لا وجود لأي قانون سري أو خفي secrète سواء كان علمي أو إلهي لتبرير وجودنا. والحال أنه لا يمكن لكون يولد كائنات حية وعاقلة وواعية على إحدى كواكبه كالأرض وفي غيرها من الكواكب والأنظمة الشمسية المتشابهة أو المتباينة والمتنوعة التي تملأ مجراته التي تعد بمليارات المليارات، أن يكون بلا معنى وعبثي كما يعتقد التوحيديين في الفيزياء أو الخلقيين أو أتباع نظرية الخلق المباشر لأن ذلك سيعني أن وجودنا فيه عبثيًا وأننا جئنا إلى الحياة هكذا صدفة وبلا هدف وهذا ما لن يقبله هؤلاء على الإطلاق. وبالنسبة للعقلانيين فإن التفكير بأنه ليس للكون معنى أفضل بكثير على الاعتقاد بأنه، أي الكون وهم معه، موجودون بفعل خطة كونية مدبرة ومسبقة وغامضة أو لغزية plan cosmique mystérieux لأن ذلك يعني أن ظهور الحياة في كون عبثي يجعلها نادرة وفريدة من نوعها وحدثًا استثنائيًا بعيدًا عن النوايا الإلهية الميتافيزيقية ومآربها. فخلال آلاف السنين اعتقد البشر أنهم محميون من قبل الله أو من قبل عدد من الآلهة مختلفي الاختصاصات وإنهم تم اقتنائهم أو اختيارهم من بين عدد لانهائي من الكائنات وتمت حمايتهم من الانقراض والدمار النهائي وسيبقون كذلك إلى أن تحين الساعة الموعودة في يوم الميعاد والقيامة ليقفوا بين يدي خالقهم في المحاكمة النهائية ليحاسبوا عما فعلوه ويتعرضوا لعذاب أليم. وهذا السيناريو الكارثي يحرم البشرية من القدرة الذاتية على المقاومة والقدرة على البقاء على قيد الحياة والاستمرارية أو الديمومة بقوتها الذاتية والعقلية لبلوغ مرحلة الخلود. وعندما يشير العلم إلى أن الحياة ظهرت كنتيجة حتمية معدة سلفًا أو مقصودة aboutissement prémédité من تظافر ظواهر طبيعية داخل كون عازم على الوصول إلى هذه النتيجة المحددة déterminé فإن ذلك يعني أن العلم يضع البشرية في مصاف الآلهة ويقدم لها نفس النوع من الحماية الإلهية الغيبية. فإذا فشلت الحياة في الظهور والنمو والتطور على هذا الكوكب أو ذاك فبإمكانها أن تنشأ وتنجح على كوكب آخر من بين مليارات الكواكب المشابهة له. ويعتقد البعض أن حضارات متطورة جدًا تقوم باستمرار بتأهيل كواكب قاصرة أو شبه عاقرة وتزويدها بالخصائص والمستلزمات التي يتطلبها نشوء وارتقاء الحياة فيها لكي تكون قادرة على احتضان الحياة فيها. كما يعتقد أنصار التوحيد les unificateurs سواء للنظريات الفيزيائية أو أتباع الفكر التوحيدي الغيبي، بوجود خطة كونية كبرى grand plan cosmique أو بنية رياضية فائقة hyper structure mathématique تربط بين كل ما هو موجود، مرئي أو خفي، وتتضمن في طياتها تفسير الأصل لهذا الكون المرئي ولخصائص الجسيمات الأولية المكونة للمادة، وأن كل ما في الطبيعة نابع من، وخاضع ومستنتج se déduit، من هذه الصيغة formulation المعروفة باسم "نظرية كل شيء أو النظرية الجامعة والموحدة théorie du tout". إن وجهة النظر هذه شهدت صيغتين version، واحدة معتدلة modérée والأخرى متطرفة أو راديكالية radical. وحسب هذه الأخيرة فإن كافة خصائص الكون والمادة تنحدر أو تنجم découlent عن هذه الصيغة الوحيدة بدون أية حرية في اختيار المعايير parameters. فالنظرية بنيت انطلاقًا من علاقات رياضية جامدة relations mathématiques rigides تعكس حالة التجانس والتماثل la symétrie القصوى. أما الصيغة المعتدلة فتسمح بوجود عدة نظريات توحيدية، كل واحدة منها تصف واقعًا مستقلاً باعتباره أحد مكونات نظرية الأكوان المتعددة multivers، وإن أحد هذه الأكوان المتعددة يتوافق ويتلاءم مع الكون الذي نألفه ونعيش فيه. ولكن لا يوجد أي من هذه الصيغ من يعلمنا ويرشدنا instruit بشأن ظهور الحياة. إن عالم فيزياء الجسيمات physique des particules والحائز على جائزة نوبل دافيد غروس David Gross يعتقد بأن الحياة، بشكل عام، والحياة الذكية على نحو خاص، منتشرة في كوننا المرئي. وبناءً على ذلك تغدو الحياة نابعة من هذا الكون المبرمج univers planifié، ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أنفسنا ككائنات فريدة spécieux. وفي حالة توفرت نفس الظروف والشروط التي توفرت لنا من البديهي التفكير بإمكانية ظهور حيوات أخرى تشبه الحياة الموجودة على الأرض، والفرق بينها أنها إما أن تكون أقدم وأكثر تطورًا ورقيًا وتقدمًا علميًا وتكنولوجيًا منا ببضعة آلاف أو ملايين من السنين، أو أحدث زمنيًا وبالتالي ربما تكون أقل تطورًا وأكثر بدائية مثلما كانت عليه الحياة قبل بضعة عصور على الأرض سواء في مرحلة الخلية الأولى أو في مرحلة وجود الإنسان المتوحش أو الإنسان النياندرتال أو في مرحلة العصور التي سبقت اكتشاف النار وصنع الأدوات واكتشاف الزراعة أو بعدها بقليل أو بالمستوى الذي عاشه الإنسان في العصور الوسطى... إلخ.

إن هذا التشخيص الذي اتخذ هيئة القاعدة règle عرف في الأوساط العلمية بمبدأ القصور principe de médiocrité الذي لا يعتبر الأرض كوكبًا استثنائيًا نادرًا لا يوجد له مثيل في الكون ونحن البشر لسنا سوى جزء ضئيل لا يذكر ولا قيمة له من بين عدد لا يعد ولا يحصى من الحضارات والمخلوقات المنتشرة في أرجاء الكون المرئي الشاسعة كما جاء في كتاب آليكس فيلانكين Alex vilenkin الرائع وعنوانه عدة عوالم في عالم واحد: البحث عن أكوان أخرى Many Worlds in One the search for other universes الصادر سنة 2006.

إذا تبنينا أطروحة الأكوان المتعددة فإن هذا سيعني أن كوننا المرئي ليس سوى جزء لا يذكر من بين عدد لامتناه من الأكوان المتوازية أو المتداخلة أو المتواجدة جنبًا إلى جنب كما ورد في ثنايا نظريات الأوتار، وقمتها الأكثر أناقة هي نظرية الأوتار الفائقة les théories des cordes ou du super cordes حيث توجد عدة أبعاد في كوننا المرئي تصل إلى أحد عشر بعدًا، كما توجد عدة أكوان مختلفة ومتميزة بعضها عن بعض ولها خصائص مختلفة ومتميزة بعضها عن بعض أيضًا. في قسم منها قد يكون الإلكترون بلا شحنة كهربائية أو تكون له شحنة وكتلة مختلفة، وفي بعضها الآخر قد لا يوجد إلكترونات. والعديد من تلك الأكوان قد يكون عقيمًا stériles غير قابل لاحتضان أي نوع من أنواع الحياة أو على الأقل غير ملائم لنوع الحياة التي نعرفها. وربما يكون كوننا مضبوطًا وفق حسابات ومعايير وقياسات وثوابت وقوانين محددة بدقة لامتناهية تؤهله لكي يفرز في داخله كائنات واعية ومفكرة وعاقلة وذكية وتتكون فيه قوانين فيزيائية وشروط قسرية contraintes بيولوجية يفرضها أو يتطلبها علم الأحياء. وكل من يؤمن بوجود نظرية موحدة وتعدد أكوان يأمل بوجود نوع من الاصطفاء أو الانتخاب يقوم باختيار عدد من الـ cosmoides بما يلائم كوننا المرئي من بين عدد لانهائي من هذه الـ cosmoides ففي كل واحد من وديان vallée du paysage نظرية الأوتار يمكن أن يكون كوننا ممكنًا له مزاياه الخاصة إلا أن واحدًا منها فقط يمكن أن يشكل كوننا المرئي. المشكلة تكمن في أن فكرة تعدد الأكوان يصعب إثباتها أو اختبارها علميًا أو مختبريًا بالرغم من وجود عدد كبير من النماذج إلا أنها تبقى تجريدية abstraits كما أخرجتها لنا عمليات المحاكاة الحاسوبية في الكومبيوتر العملاق.

هناك فئة ثالثة من الناس تعتقد بأن وجود الحياة في الكون المرئي ليس وليد حادث عرضي وقع صدفة وليس نتيجة نظرية موحدة عن الطبيعة، بل يعتقدون بوجود نوع من "المبدأ الحيوي principe vitale" عام وشامل يعمل agirait في حيز يتعدى القوانين الفيزيائية التي نستخدمها اليوم لوصف عالم الطبيعة. ويمكننا في يوم ما نحن البشر اكتشاف هذا المبدأ بالرغم من أننا لا نعرف في الوقت الحاضر ما هي ماهيته وماذا يشبه. فالقوانين الفيزيائية الكيميائية كما نفهمها اليوم تبقى صامتة وعاجزة فيما يتعلق بظهور الحياة ولا تقدم لنا سوى فرضيات واحتمالات، وكما أشار العالم بول ديفز paul Davies في كتابه المذكور أعلاه الجاكبوت الكوني فإن هذا المبدأ الحيوي يعاني مفهوميًا conceptuellement من طبيعته الغائية التيلولوجية télélogique بوصفه الحياة كغاية نهائية بحد ذاتها But final وفق النظرية الغائية التي تقول إن كل شيء في الطبيعة موجه لغاية معينة، أو باعتبارها إستراتيجية كونية محتومة déterminée وإن الروح الإنسانية هي الجوهرة التي يصبو إليها هذا الاندفاع أو الانطلاقة الحيوية élan vital. بعبارة أخرى سنكون الكائنات المختارة أو المنتخبة élus على غرار شعب الله المختار لدى العبرانيين. وبغياب الدلائل والمبررات والبراهين والحجج arguments العلمية لدعمه، يبقى من الصعب تمييز المبدأ الحيوي عن مبدأ يعزو attribution وجودنا إلى فعل إلهي غير مفهوم أو قابل للشرح والتوضيح inexplicable، من جهة أخرى، وكما بيَّن لنا تاريخ العلوم، فإن ما كان يبدو فنتازيًا fantaisiste أو خارقًا للطبيعة أو إعجازيًا surnaturel اليوم يمكن شرحه وتفسيره بواسطة العلم غدًا مثلما كان الأمر بالنسبة للظواهر التي بدت خارقة للطبيعة وإعجازية أو فنتازية بالأمس لتصبح عادية ومألوفة ولها تفسيرها العلمي اليوم.

ومن أهم الموضوعات والدراسات العلمية البحث عن مبدأ يربط بين ظهور الحياة والأسباب الفيزيائية والكيميائية التي تقود إلى ظهورها، والأهم هو معرفة لماذا أو لأي غرض أو غاية تظهر الحياة، وهل الكون المرئي هو الذي أراد وقرر ظهور الحياة والروح أو النفس البشرية esprit ونشوء وتنمية الوعي والعقل، عند ذلك سيتغير السؤال من لماذا نحن هنا إلى لماذا الكون موجود؟ هل خلقنا أو أوجدنا الكون المرئي لكي يفهم ذاته se comprendre؟ مما يعني استبدال الروح الإلهية بالروح الكونية كعلة أولى، وهل من الضروري الاعتقاد بأن حياتنا مبرمجة programmée سلفًا لكي يكون لها معنى؟

في سبعينات القرن الماضي اقترح عالم الفيزياء الفلكية براندون كارتر Brandon Carter ما عرف بالمبدأ الأنثروبي principe anthropique المتعلق بالإنسان، وخلاصته أن الملاحظات الذكية تنجم عن خصائص فيزيائية idoines مسجلة ومدرجة كليًا داخل النسيج أو البنية الكونية structure cosmique. وفي الصيغة القصوى لهذا المبدأ فإن الكون هو الذي أولد أو افرز engendré المراقبين بل وحتى اللغز التليولوجي téléologie mystérieuse وفق المقولة الصوفية: "كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي يعرفوني"، أو كما قال بول د يفز إن الكون هو الذي صنع وعيه بنفسه. بعبارة أخرى فإن الكون نفسه حي وواع وإن الكائنات الموجود في داخله أو التي يخلقها قادرة على التأمل والتفكير بشأنه أي أن هناك "طبيعة إلهية للكون" تجعله قادرًا على الوجود خارج الزمان والمكان لأن هذين الأخيرين جزء منه.

وإذا عدنا إلى أطروحة الأكوان المتعددة لأنها تشكل العمود الفقري لنظرية الكون الحي الواعي والمطلق فإنه يمكننا القول على افتراضي spéculative أن الحياة والوعي جزء طبيعي في الكون المرئي فهذا الأخير هو بذاته ليس سوى جسيم لامتناه في الصغر أو بمثابة خلية حية أو جزيء حي من عدد لامتناه من الأكوان الحية وغير الحية التي تكون الكون المطلق اللانهائي الأبعاد الحي، الواعي الذي لا يحده زمان ولا مكان لأنهما جزء من مكوناته ويمكن تحول أحدهما إلى الآخر، ولا بداية له ولا نهاية؛ فهو أزلي وأبدي وسرمدي ذو قدرة كلية ويمكننا اعتباره بمثابة الله ذو الكمال المطلق، لكنه قطعًا ليس الله المشوه الذي تحدثت عنه الأديان السماوية أو التوحيدية والذي يتصرف كالبشر فهو يغضب ويمكر وينتقم ويعذب ويدمر ويعطف ويسامح ويتأثر نفسيًا والسادي بتعذيب عباده أو مخلوقاته لأنها عصت أو لم تصلي له أو تعبده، فهذا الكون الأعظم هو المطلق الوحيد في الوجود وكل شيء آخر نسبي وهو القيمة اللانهائية الوحيدة في معادلة الوجود لأنه هو الوجود المطلق ولا وجود غيره أو خارجه وهو أكبر بكثير بما لا يقاس من مجرد كون مرئي يخضع للرصد والمراقبة والقياس أو الحساب حيث يمكننا أن نحصي مجراته ونحسب عمره ونقيس قطره ونقدر عمره وندرس ونحلل مكوناته ومحتوياته مهما كبرت ومهما تعددت من مليارات المليارات من السدم والمجرات وأكداس أو حشود المجرات وما فيها من أجرام سماوية ونجوم وثقوب سوداء وغازات وطاقة مرئية ومعتمة ومادة مرئية وسوداء ومسافات هائلة يعجز العقل البشري عن تصورها أو استيعابها تقاس بمليارات المليارات من السنين الضوئية. ورغم هذه اللوحة الإعجازية للكون المرئي لكنه لا يتعدى كونه جسيم مجهري لامتناه في الصغر إلى جانب عدد لامتناه من أمثاله، فهو الكل وليس كمثله شيء، فهو الحي الوحيد والباقي خلايا حية هي جزء منه. وهذه صورة تبدو ميتافيزيقية اليوم لكنها تصور علمي وليس ثرثرة فلسفية وسوف نعثر على المعادلات الرياضية الخاصة بهذا التصور العلمي حيث سيكون المستقبل كفيل بإثبات صحتها كنظرية علمية في مجال الكوزمولوجيا وعلم الأكوان خاصة بعد تطور العلم والتكنولوجيا وقدرات البشر العقلية ومستواهم الإدراكي.

*** *** ***

إيلاف

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود